الإصلاح السياسيّ الإسلاميّ.. قراءات منهجيّة اجتماعيّة

محمد عبد الباسط

 

عمل أ. د. عبد الحميد أبو سلميان في هذا الكتاب على تشخيص بعض من الأمراض التي تواجه النهوض الحضاريّ والشهوديّة الرساليّة للرسالة الخاتمة في كتابه القيّم الذي أفاض به علينا بخواطره، والتي تهدف إلى تأسيس خطوات عمليّة جادّة للوصول إلى الإصلاح الإسلاميّ الإنسانيّ، والتي تستعيد بها مكانة العقل والتفكير المنهجيّ في تحقيق مقاصد الشريعة، كما تعيد بناء مناهج التربية والتعليم لتحقيق الأصالة الإسلاميّة المعاصرة، وتقدّم أيضاً إعادة نموذجيّة لقراءة الأنظمة الإسلاميّة قراءة منهجيّة، تُزيل ما أصابها من تشوّه، وتجسّد بذلك أنموذجاً جيّداً للأصالة المُعاصرة، كما يعرض أسساً للحوار والتواصل؛ بما يُحقّق الغايات الإنسانيّة الراشدة لعالم تسوده روح الإخاء والعدل والسّلام.

ومن خلال هذه القراءة المنهجيّة الاجتماعية عالج د. أبو سليمان في مؤلفه خمس قضايا هامّة ومحوريّة في البناء الحضاريّ الإنسانيّ والتي تسعى سعياً حثيثاً نحو تطوير الخطاب الإسلاميّ المعاصر.

التصديق: توثيق الصلة بالأصول

يهدف فيها د. أبو سليمان إلى إرساء الأساس اليقينيّ المتين لكليّات الوجود، التي تدلّ على صدق ما جاء به النبي محمّد صلى الله عليه وسلّم، وأنّ العقل هو أقرب الطرق لترسيخ تلك الحقيقة في النفوس، كما وضّح أنّ هناك شرطان لهذا التصديق:

الأول ـــــ التوثيق المتمثّل بحفظ هذا الكتاب ـــــ القرآن ـــــ من دون تدخّل وعبث الأيدي البشريّة في توجيه هداياته؛ ويشهد بذلك التواتر المبنيّ على الثبوت واليقين بما لا يدع مجالاً للشّك في تدخل بأيّ شكل من الأشكال.

الثاني ــــــ الخيريّة المتمثّلة في ما يدعو إليه هذا الكتاب من مبادئ تحمل في طيّاتها الأطر العامّة للخير والرشد والنماء والأخلاق ممّا يرسّخ في النفس أيضا الشّعور بقداسة هذه المبادئ ونسبتها إلى الذات العليا ولبعدها عن مصارف الشّهوات وتوجهاتها.

وقد استلهم في رؤيته هذه ما قد لفت نظره من آراء سبقوه من العلماء الأفذاذ أمثال (ابن حزم الظاهريّ) الذي وجّه إليه نقداً؛ ذلك أنّه بالرّغم من علميّة منهج (ابن حزم) إلا أنّه يرى أنّه حاد عن منهجه العقليّ العلميّ في مواجهته لهذه القضيّة بالذات، جاعلاً اتّجاهه فيها قبول حجيّة الوحي ثمّ الخوارق والمعجزات على أهميّتها.

وقد ركّز د. أبو سليمان على قضية الإيمان والتصديق الجازم بصدق الرسالة المحمديّة وبنائها بالدليل القاطع على براهين العقل والفطرة لا مظنّات الخوارق، بل يرى أنّ العقل أولى من الخوارق، وهي قضيّة من الأهميّة بمكان، خصوصاً في فترة غابت فيها الأمّة المحمديّة عن حضورها الحضاريّ، وأصابتها تشوّهات فكريّة وانشغلت بالمشعوذات والخرافات وتركت ما في هذه الرسالة العالميّة من هدايات.

نظام العقوبات في الشريعة.. كيف ندركه؟

أمّا القضية الثانية فهي قضيّة نظام العقوبات الإسلاميّ باعتباره من ثوابت الشريعة ويعلو جلّ الخطاب التقليديّ بشأنه على جانب التشدّد والتهديد والوعيد لمن يقع تحت طائلته لأشدّ عقوباته، ممّا يفتح الباب واسعاً لأصحاب الأغراض للنيل من الشّريعة وثوابتها. ويرى د. أبو سليمان أنّ هذا النظام وثوابته لا مجال فيه للتشدّد والتهديد والوعيد، بل إنّه نظام متكامل مدنيّ، يزن كلّ أمر بميزان العدل والرحمة، ويقصد تحقيق أمن المجتمع. وكيف يفرق الإسلام بين جرائم أخطاء الطبع ونزوات النفوس وبين الدماء والأموال بما يحقّق الأمن الاجتماعي بأدنى قدر مناسب من العقوبة. وكيف أنّ ما يدعى بالحدود هو في الحقيقة سقف العقوبة، حيث الصّفح والعفو مرغوب ومطلوب. وكيف أنّ نظام العقوبات الإسلاميّ ـــــ قرآنيّاً ـــــ يجعل أيّ عقوبة يرى المجتمع أنّها تكافح الجريمة ما دامت دون الحدّ، عقوبة مناسبة إلى حدّ العفو، فلا مانع منها.

يوضح أيضاً أنّنا لا بدّ أن ندرك أنّ مقاومة الجريمة أيّاً كان نوعها لا تقف عند العقوبات، بل إنّ الوقاية والعلاج بتطهير التربة النفسيّة والاجتماعيّة من الأسباب ودواعي السلوك الإجراميّ في التربية وفي البناء الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، من الأمور المهمّة؛ حتى يسود المجتمع روحُ العمل والتكافل والبذل، ويسود العدل، ويقمع الفساد، فتحسن تربية الناشئة، ويُغرس فيهم حبّ الإتقان والعمل، وتوفّر لهم مجالاته وفرصه وإمكاناته الشّريفة المجزية الميسّرة، وكلّ هذه الأمور هي شروط ومتطلّبات سابقة ولازمة لنجاح أيّ نظام للعقوبات.

والحكمة والقصد من العقوبات في النظام الإسلاميّ بنظر د. أبو سليمان، هو إشاعة الأمن في المجتمع المسلم، وحماية أعضائه من عدوان المعتدين، سواء في أمر النـزوات والغرائز، أو في أمر الأموال والدماء. فإنّ هذا يعني أيضاً أنّه ليس من مقاصد الشّريعة قصد العقاب لذاته؛ لأنّ العقاب في مقاصد الشّريعة ليس غاية في حَدِّ ذاته.

ويُبيّن كاتبنا الكريم أنّ من أهمّ أسباب تشوّه صورة قانون العقوبات الإسلاميّ هو قصورِ الخطاب الإسلاميّ المعاصر في إدراك حقيقة هذا القانون، ودلالات نصوصه؛ التي ما تزال تقدّم نظاماً يتجاوب مع طبائع الإنسان وحاجته إلى الأمن الاجتماعيّ، بكلّ الرأفـة والرحمـة والرعايـة لضعفـه الإنسانيّ.

القضيّة الثالثة.. مدنيّة الدولة

وفيها ألقى الضوء على قضيّة الدولة المدنيّة الإسلاميّة وحلّ لغز إشكاليّة الاستبداد والفساد، والفساد في الفكر والتاريخ السياسيّ والإسلاميّ، وقد أفرغ لها كتاباً كاملاً بهذا العنوان لأهميّة هذه الإشكاليّة وأثرها على مسيرة الحضارة الإسلاميّة بشكل عام. إنّها قضيّة إصلاح النظام السياسيّ الإسلاميّ وبناء مؤسّسات الدولة الإسلاميّة المعاصرة، ولذلك هي قضيّة يجب إعطاؤها أكبر قدر من الاهتمام، لأنّه من الواضح في تاريخ الأمّة الإسلاميّة، أنّ النظام السياسيّ كان من أهمّ عوامل تدهور الحضارة الإسلاميّة، وتحويل مسارها من العدل والإخاء والنماء والسّلام إلى مهاوي الاستبداد والفساد والقهر والقمع، لتمكين الصّفوة السياسيّة وأعوانها من احتكار السّلطة والثروة.

ومن هنا، كان لا بدّ من الإجابة على التساؤل: ما هو النظام الإسلاميّ في الحكم وإدارة شؤون الدولة البديل، الذي يُحقّق مبادئ الإسلام وقيمه ومفاهيمه الاستخلافيّة في إقامة نظام العدل والإخاء والنماء والسّلام؟ ما هي مؤسّسات هذا النظام وكيف تُبنى مؤسّساته؟

وغاية هذا البحث هو تقديم رؤية إسلاميّة إصلاحيّة لبناء مؤسّسة الدولة الإسلاميّة المدنيّة بإمكانات العصر، ومواجهة تحدّياته والإجابة العمليّة المؤسّسة لحلّ لغز (إشكاليّة الاستبداد والفساد في الفكر والتاريخ السياسيّ الإسلاميّ)، وتمكين الأمّة من استعادة رؤيتها وهويّتها الإنسانيّة والحضاريّة الراشدة.

فالحلّ لتلك الإشكالية عنده تتركّز في إدراك مرامي القرآن الكريم، وأمر إدراك دروس التاريخ، وتعليـم الديـن والعقائــد والأخـلاق، بـرؤى وخطابــات وأساليب ومناهج منزَّهة ـــــ بكلّ الإخلاص وقدر الإمكان ـــــ من الشوائب والمآرب، ويعتبرها أفضل السبل لخدمة الدين والعقائد والقيم في المجتمع والدولة، ولخدمة سياسات الدولة والمجتمع.

كما يرى أنّ هذه المراجعة للفكر الإسلاميّ السياسيّ الاجتماعيّ المعاصر، وإعادة بناء المؤسّسات، بما في ذلك مؤسّسات الدّعوة والتربية والتعليم والثقافة والإعلام المستقلّة، هي ولا شكّ خطوة مهمّة جداً لبناء قاعدة الوعي السياسيّ والاجتماعيّ الإسلاميّ السّليم؛ لأنّ هذه التربية، وهذا الوعي، هما السبيل والضّمان اللذان يرشدان خيارات المواطنين بشأن التشريعات والبرامج السياسيّة، ويوعّيهم بشكل توافقيّ إلى تحقيق مقاصد الدين، كلّ الدين، وإعلاء شأن القيم والأخلاق في المجتمع، والالتزام إيماناً واقتناعاً بها. ويشدّد على أنّ هذه الرؤية المنهجيّة، والترتيبات الإصلاحيّة، تعني أنّ نظام الأمّة والشّعوب الإسلاميّة يصبح ــــ على هذا الأساس ـــ معبّراً عن مفاهيم الأمّة ومقاصدها الإسلامية، ويجعلها أمّة حيَّةً إسلامية في دولة مدنية إسلاميّة، ولها حكومة مدنيّة ونظام مدنيّ إسلاميّ.

القضية الرابعة.. الإنسان المسلم

يوقن د. أبو سليمان بأن بأهمية قيام مشروع استنهاضي إصلاحي مشروط بأن تكون ركيزته الأساسية هي الإنسان، من خلال شخصيته وإصلاح ما تعانيه تلك الشخصية من جوانب سلبيّة؛ لأنّه إذا استقامت رؤية الإنسان الكونيّة الحضاريّة وابتعدت عن آفات الخرافة والدجل والشّعوذة وسوء الفهم، عندها فقط تكون الأمّة على جادة الصّلاح والإصلاح.

إنّ القضيّة الأمّ التي يجب أن يهتمّ بها المسلمون هي إصلاح التعليم العالي في نظام التعليم في العالم الإسلاميّ حتّى يستعيد التعليم وحدته المعرفيّة في الغاية والمقصد والمنطلقات الحضاريّة وفي معرفة الفطرة والواقع والطاقات والإمكانات وما تواجهه الأمّة من تحدّيات. ومن خلال التعليم يمكن أن يتلافى قصور الأداء الواضح في كيان الأمة العريضة صاحبة الموارد والمقوّمات، لكنّها لا تملك ما يدلّ على ذلك في جانب الإنتاج والعمل الحضاريّ التقدميّ المبنيّ على الأسس العلميّة الحديثة والمتطوّرة.

لقد عانت الأمّة ـــ ولقرون عديدة ـــــ من انفصام الرؤية الكونيّة والمثال الإسلاميّ عن الواقع والأنظمة والممارسات الاجتماعيّة، لينتهي الأمر بالقيميّ منذ قفل باب الاجتهاد على أقلّ تقدير إلى استظهار التاريخ من جانب، ولينته الأمر بالمدنيّ والفلسفيّ والاجتماعيّ على استظهار الإغريقيّ في ما مضى، ولاستظهار الغربيّ في الوقت الحاضر، لتتشوهّ رؤية الأمّة الكونيّة وفكرها وتتشوّه ثقافتها ولينهار عمرانها وتخمد جذوة عطائها وحضارتها...

القضية الخامسة.. الحوار الحضاري الإسلامي المسيحي

تطرّق د. أبو سليمان في هذه القضية إلى موضوع غاية في الأهميّة وهو حاجة البشريّة في عصرنا الحالي إلى حوار حضاريّ بنّاء بين الإسلام والمسيحيّة، وخصوصاً بعدما وصلت العلاقة بينها إلى طريق مسدود، نتيجة استغلال قوى الهيمنة الاستعماريّة العالميّة والتي تعتمد في علاقتها مع الآخر على قانون الغاب (البقاء للأقوى)و الرواسب التاريخية في العقل الأوروبيّ... وما ترسّب في نفوسهم من شبهات وافتراءات حول الإسلام ونبيّ الإسلام...

ويرى د. أبو سليمان أنّ أول خطوة لتصحيح قواعد الحوار في تلك القضيّة الحسّاسة هو أن يكون جوهر الحوار فيها مبنيّاً على أساس العرض القرآنيّ بشكل شامل متكامل متمشّياً في ذلك مع الظرف الزمانيّ والمكانيّ الذي وجّه فيه الخطاب القرآنيّ لتلك العقيدة عند النصارى.

وأول ما يلفت النظر في القرآن الكريم الذي يتصدّى بالإنكار والتفنيد لعقيدة الصلب أنّ ذلك لا يصدر عن روح عداء لصاحب النصرانيّة، بل إنّه يقف منه موقف المجلّ المكرّم الذي لا يتوانى عن الدفاع عنه وعن أمّه أمام كلّ أنواع محاولات الحطّ من قدره وتشويه مقامه.

ويؤكد أيضاً أنّ كلا الطرفين من أهل الإسلام وأهل النصرانيّة على اتفاق في الغايات والمعاني، وإذا كان من خلاف، فإنّما ينتج عن أخطاء تتعلّق بأسلوب الخطاب.

المصدر:onislam

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك