الإصلاحات والتنظيمات في الدولة العثمانية والدور الأوروبيّ

عمر كوش

عرفت الدولة العثمانيّة أحداثاً مهمّةً كثيرةً، خصوصاً في الفترة التي امتدّت من النّصف الثاني من القرن الثامن عشر وصولاً إلى نهاية القرن التاسع عشر، إذ اضطرّت للقيام بسلسلةٍ من الخطوات التغييريّة، عُرفت باسم «الإصلاحات والتنظيمات»، التي حظيت باهتمامٍ كبيرٍ من جانب الدارسين لمآل الإمبراطورية العثمانية.

وفي هذا السياق يُقدّم «أنكه لهارد»، في كتابه «تاريخ الإصلاحات والتنظيمات في الدولة العثمانية»(ترجمة محمود علي عامر، دمشق، 2009)، دراسةً تاريخيّةً لهذه الفترة الحرجة من عمر الدولة العثمانيّة، مركّزاً على جوانب الضّعف التي آلت إليها الأمور في مراحلها الأخيرة، وموضحاً من خلالها ضرورات الإصلاحات والتنظيمات.
ويكتسي الكتاب أهمّيته، ليس فقط من اعتماده على كثيرٍ من الشّواهد والوثائق والقوانين، بل من كون مؤلّفه أحد الأشخاص الذين عايشوا الأحداث، خلال فترة عشرين سنة، حيث كان سفير فرنسا في الفترة الممتدة ما بين سلطنة محمود الثاني وعام 1882م، وهي من أصعب فترات الإمبراطوريّة العثمانيّة على الصعيدين الداخليّ والخارجيّ.
ويبدأ المؤلّف من الجانب العسكريّ، حيث طاولت الإصلاحات الجيش الإنكشاريّ الذي كان يُعتبر العامل الأساس في تأسيس الإمبراطوريّة العثمانيّة وقوّتها، وأدّى في الوقت نفسه دوراً مهمّاً في ضعف الإمبراطوريّة، خصوصاً بعد تفشي الفساد بين صفوف قادته، والابتعاد عن انضباط الحياة العسكريّة، ليدخل في أتون الحياة المدنيّة، ومغرياتها الماديّة، وملذّاتها، واللهاث وراء تكديس الثروات، حيث يُشير المؤلف إلى أنّ الرشوة والفساد انتشرا بين القادة بمختلف وظائفهم القياديّة، فيما طاول الفقر والعوز سائر عناصر الجيش وأفراده، فتراجعت تقاليد التفكير العسكريّ ومتطلّباته، وابتعد من مقتضيات التجديد والتطوير، بل ورفض قادة الجيش الإنكشاريّ محاولات التّحديث والإصلاح، على رغم تلقّيه ضرباتٍ قاسيةً في المعارك التي اضطر إلى خوضها في بعض الولايات الأوروبيّة الشرقيّة، وفي مواجهات التمرّد على سلطة الدولة في بعض الولايات الأخرى، الأمر الذي فرض على الدولة العثمانية ضرورة البدء بإصلاح الجيش، خصوصاً أمام تصاعد التهديدات الخارجيّة، وثورات الجيش الإنكشاريّ بحدّ ذاته في الداخل، ما دفع السّلطان محمود الثاني إلى الموافقة على قرار حلّ الجيش الإنكشاريّ وتسريح أفراده.
على رغم خطورة هذه الخطوة، لكنّه كان يرى ضرورة إعادة تشكيل جيشٍ قويٍّ بغية المحافظة على سلطة الإمبراطوريّة وإعادة النظام الى مختلف أرجائها.

غير أنّ المؤلّف يتساءل عن كيفيّة إقدام إمبراطوريّة، أُسّست على الفتوحات المتميّزة ولها تاريخٌ مشرّف، على عملٍ متسرّع، ذهب ضحيّته الكثير من النّاس، وذلك من أجل الرقيّ والتقدّم والازدهار. ثمّ ينتقل إلى جانبٍ آخر من الإصلاحات، يخصّ إعادة بناء الدولة في المجال الإداريّ على مختلف المجالات، الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة، والتي لم تجنِ منها الدولة العثمانيّة، في ذلك الوقت، أيّة نتائج تُذكر، نظراً إلى التردّي العام في أوضاع الدولة، وعدم إمكان إنجاز مهمّات الإصلاح وفق ما يجب أن تكون، ولو في حدودها الدنيا. وعليه لم تتمكّن النّخبة الحاكمة من تحسين الأوضاع، سوى ضبط واردات الخزينة وميزاتها بقدرٍ بسيطٍ ومحدّدٍ، وفي حالاتٍ نادرةٍ قضى بعض الوزراء على العناصر الفاسدة والمرتشية، وألغوا بعض الضرائب، وبخاصّةٍ تلك التي كانت مترتّبة على الأوروبيين.

وكانت الدولة العثمانية تسعى إلى إصلاح جميع القوانين الإداريّة والمؤسّسات التشريعيّة والماليّة والأمور الخدميّة، داخل كلّ الولايات، العربية والأجنبية. غير أنّها لم تتمكّن من تحقيق المرجو من الإصلاح، وبما يُحافظ على سلطتها وحكمها، فبدأت الولايات المسيحيّة تستقلّ، واحدةٌ تلو الأخرى، وبدعمٍ واضحٍ من إنكلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا.

ويدرس المؤلّف العامل الأيديولوجيّ والروحانيّ من الإصلاحات، الذي كان له الأثر الكبير في تركيب البنية الثقافيّة للمجتمع في الإمبراطوريّة العثمانيّة، وتجسّد هذا العامل في الدين الإسلاميّ، بوصفه من أهمّ عوامل توسّع المجال الإمبراطوريّ، بخاصّةٍ في مرحلة التأسيس، حيث شمل ذلك التوسّع كلّ البلدان العربيّة. وكان للقائمين على إدارة المؤسّسات الدينيّة مثل دور الفتوى والأوقاف وسواهما دورٌ كبيرٌ في تخلّف تلك المؤسّسات وإفسادها، وفي عدم قدرتها على اللحاق بجوانب النهوض الثقافي الذي تأثرت به الدولة العثمانيّة بعد وصول الأفكار التحرريّة الأوروبيّة النهضويّة، من خلال التدخل الأوروبيّ المباشر وغير المباشر في جوانب الحياة عامّةً، لا سيّما الامتيازات الأوروبيّة والبعثات التبشيريّة والمدارس الأجنبيّة الخاصّة وغيرها.
وأدّت مسألة المساواة بين مختلف الطوائف، الإسلاميّة والمسيحيّة، دوراً مهمّاً في الإصلاح. لكن المؤلّف يرى أنّ هدف الدول الأوروبيّة، التي سعت إلى طرح موضوع المساواة بين المسلمين والمسيحيين على القادة العثمانيين القائمين على عملية الإصلاح، لم يكن حينها إلّا إثارة الفتن بين الشّعب من جهةٍ وبين الشعب والسلطان من جهةٍ ثانيةٍ لمزيدٍ من إضعاف السّلطنة. ففسح المجال للمسيحيين للتطوّع في الجيش والاشتراك في إدارة الدولة وفي جميع الرتب حتّى نائب اللواء، كذلك إشراكهم في الخدمات الملكيّة والوظائف من الدرجة الأولى، والسّماح أيضاً بتجديد الكنائس، وعدم التعرّض لمن يُريد أن يبدّل دينه أو مذهبه وعدم إيذائه.
وعلى رغم المساواة التي سعى إليها العثمانيون بين الطوائف، إلّا أنّ مسألة التمييز كانت دائماً حاضرةً مع تدخّل الأجانب الذين نصّبوا أنفسهم حماةً لتلك الطوائف، خصوصاً المسيحيّة؛ وعليه فإنّ الإصلاحات الدينية أفضت إلى مزيدٍ من الأمراض الاجتماعيّة، وأسّست لمزيدٍ من إشكاليّات الخلاف والتمزّق بين أبناء المجتمع الواحد، وبالتالي كان لا بدّ للدولة العثمانيّة من الوقوف عند ذلك التعارض بين واقع الولايات العثمانية وواقع الدول الأوروبيّة، التي كان همّها ينحصر في التغلغل في مختلف مرافق الدولة العثمانيّة، خصوصاً بعد أن حصلت على نظام الامتيازات الذي منحته الدولة العثمانية لها، بدءاً من العام 1534م، وشكلّ ذلك عاملاً قويّاً، أسهم في تراجع الدولة العثمانيّة وضعفها، وأرغم الحكّام العثمانيين على السير في ركب الطريق الجديد في الإصلاح والتغيير والتنظيم.

ولا شكّ في أنّ سياسة الإصلاحات والتنظيمات العثمانيّة، التي فرضتها ظروف التغيير التي اجتاحت العالم، عكست مدى التدخّل الأوروبيّ في كيان الدولة ومفاصلها الإداريّة والسياسيّة والاقتصاديّة، فباتت تتحيّن الفرصة للانقضاض عليها واقتسام تركتها الإمبراطوريّة.

ويعتبر المؤلّف أنّ الإصلاحات التي رمى السّلاطين العثمانيون إلى تحقيقها، كانت من علٍ، ولم تصدر لمعالجة أمور الرعيّة، وإنّما جاءت لإرضاء الدول الأوروبيّة، التي أرادت أن تنتقم لأمرائها وملوكها، يوم كانوا يتسابقون لتقبيل العتبة الهمايونيّة، وما ادعاءاتها حماية المسيحيين من رعايا الدولة العثمانية، إلّا حجةً لتمزيق أواصر الإمبراطوريّة العثمانيّة، التي ظلّت كابوساً ثقيلاً ومخيفاً عليهم لقرونٍ عدّةٍ.

المصدر:  http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=5509

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك