ملاحظات على مساهمات المستشرقين في الدراسات القرآنية
ملاحظات على مساهمات المستشرقين في الدراسات القرآنية
الأستاذ الدكتور شتيفان فيلد
أصبح الاستشراق يتعرض لوصفه بأنه إشكالي، كما يتعرض المستشرقون أيضاً لذلك؛ ففي العالم العربي كثيراً ما عُدَّ كل من يتسمى بالمستشرق جاسوسا، أو قائما بالتبشير أو كليهما معا. كما أن إدوارد سعيد في كتابه:
"الاستشراق" الذي نشره في نيويورك عام 1978، يرى أن الاستشراق تابع من توابع الاستعمار الأوروبي. بيد أن ذلك كله لا يمثل السبب الوحيد في قلة من يتسمَّون اليوم في أوروبا بالمستشرقين، إذ حتى قبل ظهور كتاب إدوارد سعيد، كان من الواضح أنه لا يمكن أن يكون "الشرق" مجالاً لتخصص أحد من الباحثين، كما أني شخصياً أرى أن محاولة الدكتور حسن حنفي بكتابه"مقدمة في علم الاستغراب" الذي نشره في القاهرة عام 1991، إنشاء نوع من الاستشراق المضاد لم تُكلّل بالنجاح؛ فكل من "الشرق" و"الغرب" من الاتسـاع بحيث لا يمكن أحداً الادعاء بأن أياًّ منهما يُعَدُّ مجال تخصصه. ويوجد اليوم من الجغرافيين، والمؤرخين، والمتخصصين في الأدب، والعلوم السياسية، وعلوم اللغات، وعلم الاجتماع، ومقارنة الأديان، والخبراء في الفنون، ووسائل الإعلام من يشتغلون بنواح مختلفة لمناطق وثقافات مختلفة في العالم، ولكل من هذه العلوم مناهجه الخاصة، وفي العلوم الإنسانية بالذات يسود الخلاف الحاد حول المسائل المنهجية.
إن اشتغال الباحثين الأوروبيين غير المسلمين بالقرآن الكريم له تاريخه الطويل، وأودُّ الاقتصار في هذا المقام على مساهمة الناطقين منهم باللغة الألمانية في الأبحاث المتعلقة بالقرآن، وليسمح لي الحضور بعرضٍ موجز لبعض الملاحظات الهامة حول ذلك:
في القرنين السابع عشر والثامن عشر للميلاد كانت الأبحاث التي كُتبت عن القرآن تتَّسم بأنها أولاً صادرة عن جهل، وبقصد الطعن الحاد ثانياً، وثالثاً بأنها صادرة عن خوف عميق؛ ذلك الخوف الذي أثارته الكنائس المسيحية؛ فكثيراً ما كان القرآن يُوصف بأنه "القرآن التركي" بوصفه الكتاب المقدس للعثمانيين الذين حاصروا فيينا عام 1683م. واعتباراً من القرن الثامن عشر، أي في عصر التنوير، سادت بالتدريج، وبسبب النـزاع الدائم بين المثقفين والكنائس، مواقف متسامحة تجاه القرآن؛ فلقد حاول يوهان فولفجانج جوته
(-17491832) في مؤلفه الشهير "الديوان الغربي- الشرقي"، عقد مصالحة بين الأدب والشعر في أوروبا ونظيريهما في الشرق على أساس التكافؤ، منطلقاً في ذلك من مبدأ تكافؤ الثقافات. لقد كان يرى أنه لا معنى للتساؤل حول "أي الثقافات أفضل". وقادت روح التنوير هذه إلى أن الإجابة عن السؤال المتمثل في أي الأديان هو الدين الصحيح، كانت إجابـة شخصيـة، ولم يكن من الممكن عدُّها إجابة عمومية. وطبقا لهذا الرأي عُدَّت الديانات كلها متكافئة إلى حد ما. صحيح أن جوته نفسه كان مسيحياًّ أصلاً، غير أن مُعتقداته كانت بعيدة عن اليهودية والمسيحية بُعْدَها عن الإسلام، ولعل من الممكن القول بأنه كان من أتباع مذهب وحدة الوجود أو ممن يؤمنون بالطبيعة.
في التربة التي أصلحتها حركة التنوير نمت الدراسات المتعلقة بالإسلام والقرآن باللغة الألمانية منذ القرن التاسع عشر، وكان القائمون بتلك الدراسات أساتذة جامعات أو مثقفين أو أمنـاء مكتبات، ولكنهم لم يكونوا بالطبع مسلمين أو عرباً، كما أن معظمهم لم يكونوا مسيحيين أو يهوداً بالمعنى العَقَدي، وإنما كانوا كذلك بمعنى أن خلفيتهم الثقافية كانت يهودية أو مسيحية. كان عددهم قليلاً جداً، كما أن قراءهم في أوروبا في القرن التاسع عشر لم يكونوا بالطبع مسلمين أو عربا. لقد كان قراء تلك الكتب والأبحاث يمثلون فئة قليلة من أصحاب الاهتمام العام من الألمان والنمساويين والسويسريين، أي من الناطقين بالألمانية. وكان اهتمام هؤلاء جميعاً بالأديان غير المسيحية ليس مُنصَبَّاً على الإسلام فحسب، وإنما شمل أيضـاً الهندوسية، والبوذية، وكذلك عقائد الإسكيمو والهنود الحمر. وضمَّت الجامعات الأوروبية آنذاك أساتذة متخصصين في اللغات العربية، والفارسية، والتركية، وكذلك في السنسكريتية، والصينية، واليابانية. كما أن الاشتغال بالدراسات القرآنية كانت له علاقته القوية بعلم اللاهوت المسيحي؛ ففي القرن التاسع عشر ظهرت الدراسات النقدية حول الكتاب المقدس. وفي هذا المجال ضم معظمها جدالا حاداً مع الكنيسة الكاثوليكية، والبروتستانتية، فإلى أيّ مدى كان من الواجب معرفة المحيط التاريخي للعهد القديم، حتى يمكن فهمه الفهم الصحيح؟ وهل يجب فَهْمُ كل نصوص العهد الجديد على ظاهرها، أي حرفياًّ؟ وهل ماورد في الأناجيل من معجزات المسيح حقائق تاريخية؟.
مثل هذه الأسئلة أثيرت في سياق فهم جديد للصراع بين الإيمان والعلم؛ بين الدين والعلوم. وفيما يتعلق بالقرآن طُرحت أيضاً أسئلة مشابهة، بيد أنه قَلَّ أن كان الاهتمام بالدراسات القرآنية نابعاً من خلفية استعمارية؛ فمن المعروف أن ألمانيا لم تكن لها إلا مستعمرات قليلة، ولفترة قصيرة فقط.
لقد كان فضول الباحثين الألمان مُنصَبَّاً على اللغات، والآداب، والثقافات، والأديان الأخرى، وكان بالطبع مرتبطاً بوجه عام بالشعور والاقتناع بأن كلاًّ من ثقافتهم ودينهم أفضل من نواح كثيرة، وشاركهم في ذلك الاقتناع أناس كانوا يرتابون في ديانتهم، يهودية كانت أو مسيحية. إن ذلك الشعور بالتفوق الذاتي كان مخالفا لمبدأ التنوير بشكل واضح، أعني بشكل واضح بالنسبة لنا اليوم، ولم يكن واضحاً لأصحاب تلك الآراء آنذاك. لقد كان له تأثيره في أبحاثهم؛ ففي كثير من القضايا انطلق الباحثون الأوروبيون، ومن بينهم الألمان، من أحكام سابقة عديدة، وحيثما كان من الأفضل محاولة الوصول إلى فهم أكثر عمقا، كانوا كثيرا ما ينتقدون على نحوٍ سطحي. وإضافة إلى ذلك لم تكن معرفتهم باللغة العربية معرفة كافية دائما. وكما ذكرتُ آنفا كان الباحثون الألمان يكتبون لجانب غير مسلم من القراء. وعندما انتهى تيودور نولدكه (1930- 1836) من أول صياغة لمؤلفه:
"تاريخ النص القرآني" عام 1856، كان في العشرين من عمره، وكان عنوانه باللاتينية:
(De origine et compositione Surarum
quranicarum ipsiusque Qorani)
أي: "نشأة النص القرآني، وتكوين السور القرآنية"، إذ كانت اللاتينية لا تزال آنذاك اللغة العلمية السائدة في أوروبا، و كان من النادر في ذلك الوقت أن يتمكن أحد من المسلمين من قراءة هذا الكتاب، كما لم يكن هناك في أوروبا من يشتغل بالدراسات القرآنية، وبالإسلام، ونصوصه المقدسة، وتاريخه، بهدف الدخول في الإسلام؛ الأمر الذي يُعد دليلا آخر على أن القارئ المقصود بتلك الدراسات كان المثقف الأوروبي.
يتضح من هذه الملاحظات القصيرة أن مناهج أبحاث غير المسلمين ونتائجهم، المتعلقة بالقرآن، قوبلت بارتياب شديد، ورفض عريض من قِبل المسلمين، وعلى الأخص من قِبل العرب منهم، عندما بلغَتْهم أخبار تلك الدراسات. وأحد الأدلة على ذلك، الذي يُعد أيضا من عواقب هذه العوامل التاريخية، أنه لا يوجد إلى اليوم إلا بدايات متواضعة للتعاون بين المسلمين وغير المسلمين في مجال الدراسات العلمية حول القرآن.
لقد بدأ التعاون في هذا المجال بالفعل، ولكن بقدر محدود، وأود اليوم أن أعرض على حضراتكم مشروعين يعتمدان أساساً على التعاون بين بعض الباحثين من الألمان والعرب؛ بين مسلمين وغير مسلمين:
أولا- استُبدل بالطبعة التي أخرجها جوستاف فلوجل للنص القرآني طبعة المصحف الشريف التي اعتمدها الأزهر.
ثانيا- مشروع الألمانيين؛ الأستاذ الدكتور ألبريخت نوث، والأستاذ الدكتور جيرد-روديجار بوين لترميم مخطوطات القرآن في صنعاء.
1- طبعة جوستاف فلوجل للنص القرآني وما فيها من أخطاء:
إن النص القرآني الذي انتشر على نطاق واسع بين غير المسلمين في أوروبا في القرن التاسع عشر ضمه المصحف الذي قام بطبعه ونشره جوستاف فلوجل في لايبزج عام 1834 (وفيما تلا ذلك من طبعات كثيرة له، نقّح آخرها جوستاف م. ريدسلوب في لايبزج عام 1924) .
كان جوستاف فلوجل (1802- 1870) عالماً فاضلاً؛ فقد كتب فهرساً للمخطوطات العربية والفارسية والتركية في فيينا، كما نشر نصوصاً عربية هامة، مثل كتاب "الفهرست" لابن النديم، الذي حققه ونشره لأول مرة، كما حقق ونشرلأول مرة أيضاً، اعتماداً على أفضل المخطوطات المعروفة في أوروبا، وفي الفترة من عام 1833 إلى عام 1858 كتاب "كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون" (سبعة أجزاء) للعالم العثماني كاتب شلبي، المعروف باسم حاجي خليفة (1609 – 1657 / 1017 – 1067).
ظهرت طبعة فلوجل للمصحــف في لايبزج عام 1834 بعنوان
"القرآن- الهدى والفرقان" وإلى جانب هذا العنوان العربي كانت الطبعة تحمل عنواناً باللاتينية:
Corani Textus Arabicus ad fidem librorum manuscriptorum et impressorum et ad praecipuorum interpretum lectiones et auctoritatem recensuit indicesque triginta sectionum et suratarum addidit Gustavus Fluegel
أي: النص العربي للقرآن طبقاً لبعض المخطوطات والمراجع المطبوعة، وحسب قراءات وقواعد مشاهير القراء، مزوداً بفهرس لأجزاء القرآن الثلاثين ولسوره، إعداد جوستاف فلوجل.
بدأت تلك الطبعة بمقدمة كتبها فلوجل باللاتينية، وذكر فيها السبب في عدم الوثوق التام بطبعتي النص القرآني اللتين أصدرهما أبراهام هينكيلمان في هامبورج عام 1694، ولودوفيكو مارَاتشي في بادوا عام 1698. وإضافة إلى ذلك كانت هاتان الطبعتان مزودتين بتعليقات مُشكلة ومعادية للإسلام، كتبها علماء لاهوت مسيحيون. واعتبارا من عام 1787 أمرت القيصرة كاتارينا الثانية بأن يتم في بطرسبورج طبع مصاحف للمسلمين من سكان روسيا.
بيد أن أول طبعة للنص القرآني قام بها مسلمون كانت، حسب علمي، تلك التي ظهرت فيما بين عامي 1801 و 1803 في مدينة قازان العاصمة الحالية لمنطقة تاتارستان، التابعة للفيدرالية الروسية حالياً. وبعد ذلك قام بعض المسلمين بإصدار طبعات أخرى للمصحف الشريف، كانت أولاها الطبعة التي ظهرت في مدينة لكنو بالهند عام 1850، كما صدرت أول طبعة للمصحف في عهد العثمانيين في إسطنبول عام 1872. ويذكر فلوجل ظهورطبعة للنص القرآني في الهند، ولا ندري ما إذا كان قصد طبعة كلكوتا، أو طبعة لكنو، أو طبعة نيودلهي. وقال فلوجل شاكياً: إن هذه الطبعات كانت صعبة التوفر في وسط أوروبا، ولذلك لم يتمكن من الاعتماد عليها.
لقد كان فلوجل يقصد إلى إصدار طبعة للنص القرآني، كما قرأه مشاهير القراء، واعتمده علماء التفسير المسلمون، وقرأ به عامة المسلمين، وبخاصة الأتراك، وكثير من العرب. وفي ذلك اعتمد فلوجل على ما كان متوفراً في برلين، و دريسـدن، و باريس من مخطوطات لكتاب
"أنوار التنـزيل وأسرار التأويل" للبيضاوي. وكان هاينريخ ليبيريخت فلايشر (الذي عاش في الفترة من عام 1801 إلى عام 1888) نشر أول طبعة لتفسير القرآن هذا في الفترة من عام 1846 إلى عام 1849 في مدينة لايبزج، وذلك في جزأين طُبعا في نفس المطبعة التي طُبعت فيها طبعة فلوجل للنص القرآني.
ويُعرب فلوجل في صراحة عن أسفه لعدم حصوله على
"الكشاف عن حقائق غوامض التنـزيل و عيون الأقاويل في وجوه التأويل" للزمخشري. بيد أن فلوجل اعتمد في المقابل وبوجه خاص على ما توفر له من مخطوط لتفسير للقرآن كان مُتداولاً بكثرة في عهد العثمانيين، ويُسمى
"إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم في تفسير القرآن على مذهب النعمان"* ألَّفه العالم العثماني، الذي كان يعمل في ديوان السلطان سليمان القانوني؛ أبو السعود محمد بن محمود بن مصطفى العمادي، الذي عاش في الفترة من عام 898/ 1492 إلى عام 982/ 1574. ويضيف فلوجل أنه اعتمد أيضاً على مصاحف كانت تُعدّ أفضل المصاحف، وجدها في مكتبات فيينا ودريسدن، وبرلين، في محاولة للوصول إلى نص صحيح للقرآن الكريم.
وقبل أن أتطرق إلى ما اشتملت عليه طبعة فلوجل للنص القرآني من أخطاء وقصور، أقول: إن هذه الطبعة لا تمتاز عن طبعتي مارَاتشي وهينكيلمان بأنها أقل أخطاءً فحسب، وإنما أيضاً بأن فلوجل قصد بها أن يقدم النص القرآني فقط لقرائه، دون إضافة أي تعليقات، أو ممارسة أي انتقادات للمسلمين أو للإسلام. لقد أراد ألاّ يتأثر القارئ للنص القرآني برأي ناشره؛ ومن هنا فإن فلوجل حقق بطبعته للنص القرآني نوعاً من التقدم.
أما بالنسبة إلى ما فيها من أخطاء؛ فقد كانت حروف الطباعة سيئة، وغير صالحة لإظهار جمال الرسم القرآني، وإضافة إلى ذلك تسببت أخطاء أخرى أسوأ من ذلك في تشويه تلك الطبعة، على سبيل المثال:
- رسم الكتابة فيها لا يطابق الرسم العثماني، ولا أي كتابة مأثورة أخرى.
- فواصل الآيات عشـوائية غالبا، وترقيم الآيات مخالف لكل ما هـو
مأثور في هذا الشأن.
- أخطاء مطبعية أخرى كثيرة.
كان أبرز عالم ألماني اكتشف هذه الأخطاء، وعارض استخدام طبعة فلوجل للنص القرآني في بدايات القرن العشرين هو الأستاذ الدكتور جوتهيلف برجشترسر، الذي عاش في الفترة من الخامس من أبريل عام 1886 إلى السادس عشر من أغسطس عام 1933. عمل أستاذاً بجامعة ميونيخ، كما عمل أستاذاً زائراً بالجامعة المصرية لإلقاء محاضرات في اللغات السامية في الفترة من نوفمبر عام 1929 إلى يناير عام 1930. واغتنم برجشترسر فترة إقامته في مصر لخدمة أبحاثه، التي تركزت بشكل خاص حول القرآن الكريم.
عندما كان طالباً استخدم برجشترسر طبعة فلوجل للنص القرآني، أما بالنسبة إلى ما كان إلى جانبها من طبعة راجعَتْها واعتمدتها لجنة من الأزهر في ربيع الأول سنة 1342 هجرية، وظهرت في مصر سنة 1342 هجرية/ 1924 ميلادية، فقد سمع عنها برجشترسر أول مرة عام 1927 أو عام 1928. بيد أنه عندما سافر إلى مصر عام 1929 حمل معه نسخة من طبعة فلوجل للنص القرآني، وعندما وصل إلى الإسكندرية في خريف عام 1929 صادرت هيئة الجمارك هناك تلك النسخة، إذ كان يُشترط صدور تصريح بدخول أي طبعة للمصحف إلى مصر. وبعد محاولات غير مجدية من برجشترسر لاستعادة تلك النسخة، توجه إلى شيخ المقارئ في القاهرة آنذاك، الشيخ محمد بن علي بن خلف الحسيني. وعندما زاره في مكتبه فوجئ بأن نسخته من المصحف على مكتبه، وكان الشيخ قد طلب من مُراجع المصاحف آنذاك، الشيخ علي بن محمد بن الحسن بن إبراهيم الضباع، كما ذكر برجشترسر، أن يكتب تقريراً عن طبعة فلوجل؛ فكثيراً ما كان يظهر أن نسخاً مطبوعة للمصحف تشتمل على أخطاء. وذكر برجشترسر أنه رأى على مكتب شيخ المقارئ ملفاً خاصاً بمصادرات المصاحف المغلوطة. وكان من أسباب إصدارالأزهر لطبعة مُراجعة للمصحف أن الكثير من المصاحف التي طُبعت في بعض الدول الإسلامية قبل عام 1924 لم تكن خالية من الأخطاء.
أعاد شيخ المقارئ إلى برجشترسر نسخته، على أن يتعهد برجشترسر بإدخال تصحيحات وملاحظات مُراجع المصاحف عليها، وألا تعاد طباعة ونشر أي نسخة غير مُصححة من طبعة فلوجل. ووقع برجشترسر على هذا التعهد بكل ارتياح، لأنه كما قال،كان قد اقتنع بأفضلية الطبعة الرسمية للمصحف الشريف التي أصدرتها مصر إزاء طبعة فلوجل. وكان برجشترسر يُكثر من زيارة الشيخ الحسيني في جامع السلطان حسن، وفي منـزله أيضاً. ولم تقتصر شهرة الشيخ الحسيني على كونه شيخ المقارئ؛ فقد اشتهر أيضاً من خلال كتابه "السيوف الساحقة" في نقض آراء الدكتور طه حسين في كتابه "الشعر الجاهلي". كما نشأت صداقة قوية بين برجشترسر والمتخصص في أحكام التجويد، مُراجع المصاحف، الشيخ علي بن محمد بن الحسن بن إبراهيم الضباع.
في مقال له بعنوان "قراءة القرآن في القاهرة"، نُشر في مجلة Der Islam في السادس عشر من أغسطس عام 1933، وقبل وفاته بقليل، سرد برجشترسر ما عايشه في تلك المرحلة من حياته، كما نجد في هذا المقال التعليق التالي الذي يُعد أول تعليق لعالم غير مسلم على الطبعة المصرية للمصحف الشريف. لقد أثنى برجشترسر على طبعة المصحف التي رآها في مصر فقال: "إنها إنجاز جد ممتاز، نُهدي من أجله التهنئة الصادقة إلى العلماء المصريين، وبخاصة إلى شيخ المقارئ حاليا (يقصد الشيخ محمد بن علي بن خلف المالكي الحسيني المعروف بالحداد). إن هذه الطبعة الرسمية للمصحف الشريف إنجاز لم يكن بإمكان الاستشراق الأوروبي تقديم ما هو أفضل منه أو ما يوازيه. إنها خالية تماما من التأثير الأوروبي، ومن خلالها تطل علينا علوم إسلامية قديمة متينة ومثمرة. إنها برهان على المستوى الرفيع الذي بلغته حاليا دراسات علوم القرآن في مصر".
ويستطرد برجشترسر قائلا: "إن هذه الطبعة للمصحف الشريف ليست إلا وليدة منهج علم القراءات وحده، ولم يكن لكل الدقة والعناية الفلسفية في أوروبا أن تصل إلى هذه الدقة الفائقة".
هذه الطبعة المصرية للمصحف بقراءة حفص عن عاصم، التي وصفها برجشترسر بأنها الطبعة الرسمية للمصحف هي الطبعة السائدة في أيامنا هذه. إنها، وحسب علمي، تمثل الأساس لطبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة* المزودة بترجمات متعددة لمعاني القرآن الكريم.
في مقابل ذلك كانت اعتراضات برجشترسر على طبعة فلوجل للمصحف اعتراضات واضحة أدت إلى تعطيلها. لقد قال في ذلك: "بالنسبة لكثير من الكتب العربية المطبوعة في أوروبا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، قد يُقال إنها - حسب المعايير السائدة آنذاك - كانت على مستوى مقبول. ولكن فيما يتعلق بطبعة فلوجل للنص القرآني، فإنها لم تكن، على الأقل في عصره، إنجازاً رائعاً، جديراً بالتقدير؛ فعندما ظهرت هذه الطبعة لأول مرة عام 1834 كانت مليئة بالأخطاء، وذلك ليس من ناحية المعايير الخاصة بالنصوص العربية المُحققة في الغرب فحسب، وإنما أيضا بالنسبة للمعايير الخاصة بالمعارف الشرقية ووسائلها. و ليس من المشرّف للاستشراق في أوروبا كلها وفي ألمانيا بوجه خاص أن يرى طوال قرن من الزمان أنه ليس من الضروري التوصل إلى بديل لهذه الطبعة التي ينقصها أهم النصوص الشرقية".
ويتابع برجشترسر قائلا: "إن الطبعة المصرية الرسمية للقرآن تُعدّ من الآن فصاعداً مرجعا للباحث الأوروبي، ومنذ ظهورها لم يعد هناك ما يبرر استخدام طبعة فلوجل للنص القرآني".
ورغم ذلك كان لطبعة فلوجل تأثيراتها إلى أواسط القرن العشرين؛ فعلى امتداد حوالي قرن من الزمان كان الباحثون الأوروبيون يعتمدون في اقتباسهم لآيات القرآن على ترقيمها في هذه الطبعة. بيد أنه لتجنب تجاوز هذه الدراسات الأوروبية عن القرآن ظل الكثيرون من الباحثين الأوروبيين فترة طويلة يقتبسون الآيات طبقاً لترقيمها في الطبعتين، أي حسب الترقيم الكوفي للآيات في طبعة الأزهر، إضافة إلى الترقيم العشوائي في طبعة فلوجل، ولهذا كثيراً ما نجد في الأبحاث الأوروبية القديمة ترقيماً مزدوجاً للآية؛ فمثلا نجد مكتوباً: السورة 2 الآية 200، ثم بين قوسين رقم 196 مما يعني أنها الآية ذات الرقم 200 من سورة البقرة حسب الترقيم الكوفي، وذات الرقم 196 حسب ترقيم فلوجل، الأمر الذي يثير حيرة بالغة لدى كل من لا يعرف خلفيات هذا الترقيم المزدوج. ونجد في كثير من الكتب الأوروبية جداول مقارنة، تتضمن ترقيم الآيات طبقاً لترقيم فلوجل، والترقيم المقابل له في الطبعة المصرية. وعلى كل فإن الباحثين الأوروبيين يتبعون اليوم الترقيم الكوفي للآيات فقط.
إلى جانب طبعته للمصحف ألَّف فلوجل عام 1842م معجماً مفهرساً لألفاظ القرآن بعنوان "نجوم الفرقان في أطراف القرآن".
بادئ ذي بدء تأثر هذا المعجم بكل الأخطاء التي اشتملت عليها طبعة فلوجل للنص القرآني، وكهذه الطبعة أصبح المعجم متقادماً، ولم يعد يُستخدم. ومع ذلك فقد كان السلفَ للمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، الذي وضعه الباحث المصري محمد فؤاد عبد الباقي، الذي فاجأنا بالإشادة في مقدمة معجمه بمعجم فلوجل فقال: "وإذ كان خير ما أُلف وأكثرها استيعابا في هذا الفن دون منازع ولا معارض هو كتاب فلوجل الألماني الذي طُبع أول مرة عام 1842، فقد اعتضدت به وجعلته أساساً لمعجمي".
بيد أنه مع المستوى الذي بلغته تقنية الكومبيوتر اليوم أصبح معجم
عبد الباقي أيضاً متقادماً إلى حد كبير. وفي عام 1924 ظهر معجم آخر لألفاظ القرآن في مدينة بطرسبورج باللغة الفرنسية، وضعه ميرزا أ.كاظم بك. أما أول معجم وضعه أحد المسلمين فقد نُشر عام 1812 في كلكوتا، ولكن لم يتسن لي معرفة شيء عن مؤلف هذا المعجم.
ونعود إلى برجشترسر الذي كتب أيضا:
- مشروع حواشٍ على القرآن. نشره في ميونيخ عام 1930، وهو من
ممتلكات أكاديمية العلوم في بافاريا.
- قراءة الحسن البصري للقرآن، نُشر في مجلة Islamica، العـدد الثاني
عام 1926م
- تاريخ القرآن؛ الجزء الثالث: تاريخ النص القرآني، بالاشتراك مع أوتو
بريتزل، الطبعة الأولى، لايبزج عام 1938م.
لقد كان مشروع برجشترسر الخاص به هو وضع حواشٍ للقرآن، وقصد بذلك تقديم عرض واف للقراءات المأثورة، اعتماداً على المراجع العربية. وفي ذلك لم يكن برجشترسر يريد الاقتصار على القراءات السبع أو العشر أو الأربع عشرة، وإنما أراد أيضاً وبقدر الإمكان عَرْض كل ما يُسمى بشواذ القراءات التي قرأ بها بعض القراء والعلماء، ولم تعدّ من القراءات السائدة.
بدأ برجشترسر في هذا العمل بالاعتماد على ابن خالويه، وبتعبير أدق على
"مُختصر شواذ القرآن من كتاب البديع لابن خالويه" (الذي نُشر في القاهرة عام 1934)، وكذلك بالاعتماد على جزء من كتاب المُحتسب لابن جني، اعتمد فيه ابن جني على كتاب الشواذ لابن مجاهد.، وذلك في دراسته المسمـاة:
Nichtkanonische Koranlesarten des Ibn Ginni" "
أي "شواذ القراءات لابن جني"، نُشرت في ميونيخ عام 1933، وهي من ممتلكات أكاديمية العلوم في بافاريا. إلى جانب ذلك أراد برجشترسر أن تشتمل الحواشي على دراسات لمخطوطات عربية للقرآن، وعلى الأخص للمصاحف القديمة المكتوبة بالخط الكوفي. ولهذا الغرض شرع برجشترسر في وضع أرشيف مصور لمخطوطات تشتمل على النص القرآني بالخط الكوفي؛ ففي القاهرة وإسطنبول قام برجشترسر بتصوير العشرات من المخطوطات العربية، وعديد من المخطوطات المتعلقة بالقراءات. بيد أن وفاة برجشترسر المفاجئة، ونشوب الحرب العالمية الثانية حالا دون إتمام هذه الجهود.
وبالنسبة لأفلام هذه المخطوطات فيوجد منها الآن عدد قليل في جامعة برلين تحت رعاية الأستاذة الدكتورة أنجيليكا نويفيرت.
ولعلكم تسمحون لي، بالقول بأني حفيدٌ روحي لبرجشترسر؛ فأستاذي في جامعة ميونيخ، حيث درست، كان الأستاذ الدكتور أنطون شبيتالر، الذي عاش في الفترة من عام 1911م إلى عام 2003م، والذي درس عند برجشترسر، وعمل في مشروعه الخاص بالقرآن، كما كتب أول دراسة بلغة أجنبية عن ترقيم الآيات في القرآن:
"Die Verszählung des Koran nach islamischer Überlieferung"
أي "ترقيم آيات القرآن طبقا للمأثورات الإسلامية"، نُشرت في ميونيخ عام 1935م.
2 – ترميم مخطوطات القرآن في صنعاء:
قبل أكثر من ثلاثين عاما، وبالتحديد في عام 1972 تم العثور في سراديب المتحف الوطني في صنعاء على أكياس كبيرة، كانت من مقتنيات الجامع الكبير في صنعاء، تحتوي على كنـز فريد من نوعه. كانت تحتوي على خمسة عشر ألف قطعة مخطوطة على الرق، تعود إلى حوالي ألف مصحف، وتُعدّ من أوائل المخطوطات التي ثبت إلى الآن أنها تعود إلى النصف الثاني من القرن الأول أو إلى النصف الأول من القرن الثاني للهجرة. وتختلف هذه الرقائق من حيث الحجم، كما أن بعضها عبارة عن صحائف كاملة، ولكن أغلبها عبارة عن أجزاء من صحائف تشتمل على بعض الألفاظ. ولم تشتمل هذه الرقائق على مصحف متكامل. كان معظمها في حالة سيئة، إذ كانت ممزقة أو متلاصقة، وفيها آثار الرطوبة، وقرض الحشرات، الأمر الذي قد يكون السبب في عدم استخدامها. كما أنه نظراً إلى قدسيتها لم يجز التخلص منها، غير أن وضعها في أكياس كبيرة، ولمدة طويلة، لم يُحسن من حالتها. وفي عام 1980 أبرمت الحكومتان الألمانية واليمنية اتفاقية ثنائية بينهما بشأن مشروع لترميم المخطوطات الإسلامية القديمة وأرشفتها. وفي عام 1981 بدأ العمل في هذا المشروع، بعد أن أُنشئت لهذا الغرض ورشة تعتمد على التقنيات الحديثة لترميم المخطوطات، وذلك في دار المخطوطات بصنعاء.
يرجع الفضل في ذلك كله إلى القاضي إسماعيل الأكوع، الذي كان يرأس آنذاك الهيئة العامة للآثار ودور الكتب في اليمن، وفي الجانب الألماني إلى الأستاذ الدكتور ألبريشت نوث الذي كان يعمل آنذاك أستاذاً في جامعة بون، ثم عميداً لمعهد الدراسات الإسلامية بجامعة هامبورغ إلى وفاته عام 1999م.
ولكن لماذا أضحت هذه الرقائق بالغة القيمة؟
إن أهم الأسباب في ذلك يتمثل في أن بعض هذه الرقائق كُتبت على الأرجح في القرن الأول الهجري، وتُعد بذلك من أقدم الشواهد حقاً على التدوين باللغة العربية. وفي إحدى هذه الصحائف الرقية نجد على وجهها رسومات معمارية إسلامية، وعلى ظهرها سورة الفاتحة. ويعتقد المتخصصون أن المصحف الرائع الذي تُعد هذه الرقائق القرآنية جزءاً منه، قد كُتب في دمشق بأمر من الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (الذي تولى الخلافة من عام 705 إلى عام 715) . ومن المعروف أن هذا الخليفة لم يأمر ببناء المسجد الأموي الكبير في دمشق فحسب، وإنما أمر أيضاً بتجديد (ترميم) الجامع الكبير في صنعاء، مما يدل على الاهتمام الكبير الذي كانت الخلافة الأموية توليه لليمن.
إن الرقائق القرآنية التي تم العثورعليها في العاصمة اليمنية صنعاء تقدم لنا أيضاً معلومات جديدة عن تطور الخط العربي في إحدى مراحله المبكرة جداً؛ إذ نجد بين هذه الرقائق بقايا من مصاحف كُتبت بالخط الجليل، وبالخط المكي والمدني، أي بالخط الحجازي. ولكن معظم هذه الرقائق كُتبت بالخط الكوفي. وفضلاً عن ذلك فهي تُطلعنا على جوانب هامة أخرى؛ إنها توضح تطور تنقيط النص القرآني، وكيف كانت الأشكال المبكرة لما حدث لاحقا من تشكيل لألفاظ القرآن الكريم، أي الحركات والتشديد والسكون، وكيفية كتابة الهمزة؛ على حرف، أم مفردة، وكيف تطورت العلامات الخاصة بالفواصل بين الآيات، وكيف تمت كتابة عناوين السور، ونوع ما استُخدم من رقائق ومداد، وكيفية تجليد المصاحف، ولماذا كانت المصاحف تُكتب بالطريقة الرأسية، ثم كُتبت بالطريقة الأفقية، وأخيراً بالرأسية؟
في قليل من هذه المخطوطات المُكتشفة في اليمن يختلف الرسم نوعاً ما عن الرسم العثماني؛ فمثلا نجد ألف المد القصير في ثنايا اللفظ مكتوبة ياء بدون نقطتين. ولا يقتصر ذلك على لفظ "مجراها"، وإنما نجد ذلك في لفظ "رجال" في الآية السادسة من سورة الجن (السورة ذات الرقم 76)، ولفظ "إله" في الآية التاسعة عشرة من سورة الأنعام (السورة ذات الرقم 6).
إن الدراسة الدقيقة لمخطوطات صنعاء ستزيد بشكل جوهري من معرفتنا بنشأة أقدم أنواع الكتابة العربية. وخلافا لما جاء في بعض التقارير الصحفية المتسرعة فإن مخطوطات صنعاء لم تتضمن أي مغايرة للنص القرآني المتواتر؛ إذ إن الاختلافات بينهما تتعلق فقط بنوع الخط، وترتيب السور، وعلامات الفواصل بين الآيات، والفواصل بين الأحزاب، والأجزاء، والمنازل.
ينتمي حوالي ثلثي هذه المخطوطات إلى اليمن، بينما تعود بقيتها إلى مناطق أخرى من العالم العربي. وقد تم في الأثناء ترميم الجزء الأكبر منها، وترقيمها، وفهرستها، والتعرف على ما تضمه من نص قرآني. كما جرى إحاطة كل رقيقة منها بغلاف بلاستيكي شفاف ومُغلق بشكل لا يحجب الهواء تماما عنها، وذلك لحمايتها، وتيسير إتاحتها للدارسين دون الإضرار بها. وتوجد هذه المخطوطات اليوم في دار المخطوطات المواجهة للجامع الكبير في صنعاء. إن أعمال الترميم لم تصل بعد للأسف إلى نهايتها، كما أن الدراسات التي نُشرت عن هذه المخطوطات تتعلق بالقليل منها. ومن الواجب مواصلة هذه الأعمال.
لقد عرضت على حضراتكم نموذجين أرى أنهما مثالان لنجاح التعاون العلمي بين المسلمين وغير المسلمين من أجل القرآن الكريم، بيد أن هذا التعاون لا يعدّ أمرا عاماً اليوم؛ فالصعوبات التي يواجهها التعاون بين البعض من المسلمين وغير المسلمين، وبين بعض من الباحثين العرب والألمان في الدراسات حول القرآن، أكبر بكثير من الصعوبات التي يواجهها مثل هذا التعاون في أي مجال علمي آخر؛ إذ يرى عدد غير قليل من الباحثين أنه لا يمكن، بل لا يجوز أن يوجد مثل هذا التعاون في الدراسات المتعلقة بالقرآن الكريم. ولكني أعتقد أن عولمة الدراسات المتعلقة بالثقافات والعلوم الإنسانية ستجعل من الضروري على مدى الأيام القيام على الأقل ببعض الجهود المشتركة في مجال الدراسات المتعلقة بالقرآن الكريم. وآمل أن تكون هذه الندوة خطوة جديدة في هذه الاتجاه.