الحضارة الإنسانية تقاس بالكيف دون الكم
ليـس كل عمل فكري أو تصوري أوفني أو سلوكي يصدر من الإنسان يسهم في الحضارة الإنسانية وإنما ذلك العمل وحده الذي يصدر من الإنسان ممثلا لخصيصة من الخصائص الإنسانية ويتميز به الإنسان لأنه إنسان هو الذي يكون أو ينمي الحضارة البشرية.
فالعمل الفكري الدقيق، والتصور الرفيع، والفن في صورته العالية، والسلوك في رشده واستقامته، هو أساس الحضارة الإنسانية والعامل في نموها أوتقدمها، لأن في كل واحد منا يتجلى جهد الإنسان، وتتجلى إرادته، كما يبدو فيه أن الإنسان ذا فاعلية، خرج عن التأثر وأضحى مؤثرا : بفكره وبتصوره وبفنه وبسلوكه في التوجيه والتعبير معا، والتوجيه والتعبير عندئذ له صلاحية تتجاوز الدائرة التي وجد ونشأ فيها المفكر والفنان أو صاحب السلوك الإنساني.
وهنا يمكن أن يقال : أن الحضارة الإنسانية هي مجموعة من القيم الإنسانية وضعها الإنسان بخالقيته أو توصل إليها بالجانب الإنساني فيه وحده، ولها الصلاحية والاعتبار فيما وراء المجتمع أو البيئة التي وجد فيها صاحب الخالقية أو ذلك الذي بنى وأسهم فيها.
وكلما كان تفكير الإنسان، أو تصوره أو فنه، أو سلوكه أوسع شمولا في الاعتبار والصلاحية في التوجيه كلما كان أدخل في الإسهام في الحضارة البشرية أو في تقدمها ونموها.
وإنتاح إنسان –لهذا- يتميز أو يختلف عن إنتاح إنسان –لهذا- يتميز أو يختلف عن إنتاح إنسان آخر، سواء في الفلسفة أو الشعر أو الرسم والتصوير والنحت والتمثيل والموسيقى، أو في القانون، وأساس الاختلاف أو التمييز حينئذ ليس هو كم الإنتاح، بل نوعه وكيفه.
ويمكن أن يقال أيضا : أن الفلسفة التي توجه نحو العنصرية وتفضل جنسا من البشر على جنس آخر منه، وتلك الأخرى التي تدعو إلى الحيوانية والسخرية من القيم الإنسانية، لا تقوم عليها حضارة بشرية، أوهي أقل في الإسهام في هذه الحضارة من فلسفة أخرى تدعو في توجيهها إلى تقويم الخصائص الإنسانية أينما وجدت في أفراد أوفي شعوب. والشعر الذي يمجد أمة أو فردا أو أفرادا لأنها أمة بعينها أو فرد بذاته، أو أفراد في مجموعتهم. ليس لخصائص أو لقيم إنسانية تتمثل في تلك الأمة أو ذلك الفرد أو أولئكم الأفراد –قليل الحظ في بناء الحضارة الإنسانية، وربما كان من عوامل ضعفها أو فنائها، والفن في أنواعه العديدة الذي يثير الإنسان ويدفعه نحو تقويم الجانب الحيواني فيه، أو نحو تقويم الشعوبية هو فن بعيد عن مقياس الحضارة، وبالتالي بعيد عن الاتصال بها في قيامها أو استمرارها، والقانون الذي لا يؤسس على الحرية الفردية والعدل بين أفراد المجتمع، ورعاية السلوك الإنساني الرشيد فيه -وكلها قيم إنسانية- شأنه أن لا يتجاوز دائرة واضعه، وليست له الصلاحية في التوجيه الإنساني العام، ومن ثم ليس له الطابع الحضاري الإنساني.
وإذا انتقلنا من هذه المقومات إلى الإسلام –كمصدر في توجيه الإنسان- نجده يقدر الكيف والنوع، أكثر مما يقدر الكم، ونجد صلاحيته في التوجيه لا تقف عند قبيلة أو شعب أو جنس بعينه، وإنما للإنسان أينما وجد، وللشعوب مهما كان بينها من فوارق اللون، أو المكان، أو الزمان : نجده يقدر الكيف والنوع في قول الرسول عليه الصلاة والسلام : (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) وقوة المؤمن ليست في قوة عضلاته بقدر ما هي في قوة قلبه بالإيمان، وقوة عقله بالمعرفة، وقوة إرادته بالسلوك المستقيم، وهنا يمكن أن يكون قول الله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن تكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) موضحا لهذه القوة فالصبر الذي جعل إمارة على القوة حتى يكون العدد القليل المتحلي به أشد تفوقا على العدد الكثير الذي لم يكن له هذا الوصف هو قوة نفسية وليست قوة مادية.
ونجد الكيف أيضا واضحا في تقدير الرسول عليه الصلاة والسلام عندما يقول : (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا أمن قلة نحن يا رسول الله؟ قال لا، بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل). إذ لا شك أن الكم هنا قليل الاعتبار في مواجهة النوع.
وبعد ذلك نجد القرآن الكريم في قول الله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) يحدد أن الطبيعة البشرية هي الطبيعة البشرية في أي شعب أو مكان أو زمان، وليس بين طبيعة وأخرى فضل وتميز من حيث أنها طبيعة بشرية. وإنما التفاوت الذي يقع بين فرد وفرد وبين مجموعة من الأفراد ومجموعة أخرى منهم يقع وراء إمكانيات هذه الطبيعة، ويرجع إلى مدى ما تحقق من هذه الإمكانيات في دائرة الطبيعة البشرية نفسها، فكل طبيعة بشرية فردية لها القوى النفسية التي تتمثل في الإدراك والوجدان والإرادة، واختلاف طبيعة فردية عن طبيعة أخرى لا يعود إلى الزيادة أو النقص في هذه القوى، وإنما إلى الإفادة من هذه القوى في التوجيه، والتقوى التي جعلت في القرآن سبب المفاضلة من قوله : (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) هي حسن توجيه القوى النفسية بإدراك الله وحده، وبالمحبة والأخوة بين الناس، وبالعمل الصالح لخير الفرد والبشرية كلها، فإدراك الإنسان في أصله يمكن أن يتجه به إلى الإيمان بالله الواحد أو إلى إنكاره، ووجدانه يمكن أن يتجه إلى المحبة أو إلى ما يقابل المحبة من بغض وكراهية، وإرادته يمكن أن تحمله على كبت الهوى، أوعلى الاسترسال فيه، وهنا يتصور في الإنسان -من حيث أن طبيعته البشرية ذات قوى نفسية ثلاث- أن يكون ذا تقوى وأن يكون غير ذي تقوى.
ومما يروى عن الرسول ويذكر في القرآن –فيما سبق- نجد الإسلام بقدر ما هو توجيه للبشرية مصدرا لحضارة الإنسانية في الوقت نفسه، ودعوته هي دعوة لبناء الحضارة ولبقائها، وتعاليمه لا تتجه إلى تكتيل الأفراد لغزو أو اعتداء وإنما تتجه إلى "النوعية" في الإنسان، وهي إنسانيته، وأخص ما يمثل هذه النوعية في الإنسان صفتان : العدل والإحسان :
فالعدل هو موازنة الفرد بين ما يشتهي أن يحصل عليه وما يجب عليه أن يفعله ويؤديه، وفي أفراد المجتمع بين ما يؤدي من قبل كل فرد وما يؤخذ له، ليس هناك حرمان في دائرة الفرد ولكن هناك اعتدال، وليست هناك أنانية في دائرة الفرد ولكن هناك اعتدال، وليست هناك أنانية في دائرة المجتمع ولكن هناك اشتراك في الوجود وفي حق الحياة وتوازن فيهما، ومن ثم ليس هناك مجال للطبقات ولا سبب للاحتكاك، وإنما هناك حق للجميع، والعدل كما يكون في الفعل يكون في القول، وكما يكون بين مشتركين في هدف واحد ولكن تجمعهما خصائص الإنسانية، يقول الله تعالى : (أوفو الكيل ولا تكونوا من المخسرين، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في أرض مفسدين) ويقول : (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا) ويقول : (ولا يجر منكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا، أعدلوا، هو أقرب للتقوى).
والإحسان –بدوره- فوق العدل والموازنة، لأنه ليس الإعطاء المادي لمحتاج، وإنما هو التهذيب في أخص صورة، هو المنح بلا مقابل، والرد الكريم عند عدم الاستطاعة على الإعطاء، والمعاملة الإنسانية في العشرة والمفارقة على السواء، والقول الجميل في المحادثة، يقو الله تعالى : (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى) ويقول : (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) ويقول : (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) ويقول : (ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل رب إرحمهما كما ربياني صغيرا).
ولمنزلة العدل والإحسان في المستوى البشري وبين الخصائص النفسية طلبهما القرآن في صورة الأمر الجازم في قوله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) فإذا تحقق العدل الفردي والجماعي وأصبح التوازن ظاهرة في تصرفات الفرد والمجتمع على السواء –تحققت صورة من صورة "النوعية" الإنسانية، وإذا وجد الإحسان بالمعنى الذي قدمنا وجدت الصورة الأخيرة لهذه النوعية، وأضحى الفرد ذا إنسانية وأصبح المجتمع مجتمع الإنسان فيما تؤدي إليه كلمة الإنسان من معنى أصيل وخاص بها.
وما جاءت به دعوة الإسلام فيما وراء العدل والإحسان لا يعدو أن يكون دفعا لتحقيق العدل والإحسان أو خلقا لجو ييسر أمرهما على الإنسان كفرد وكعضو في مجتمع. فصنوف العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج قصد منها حمل الإنسان على أن يرى نفسه ووضعه في الحياة كما يرى غيره معه في الوجود ويشركه في أسباب الاستقرار. فتكرار الصلاة في الحياة اليومية عدة مرات والوقوف فيها بين يدي الله، والسيطرة على النفس بالصيام مدة شهر في السنة، وإخراج الزكاة عن إيمان قلبي بها كل عام، والالتقاء في بيت الله وفي مكان له حرماته مع تحمل المشقة في الوصول إليه أو البقاء فيه –كل ذلك سيخلى في حياة الإنسان مكانا للغير ويجعل لديه احتمالا قويا للتعاون مع الآخر، وربما يصل هذا التعاون للتآخي بعد ذلك.
وكذا ما جاء في دعوة الإسلام من تحديد في المعاملات المالية والتجارية وفي العلاقات الأسرية لا يخرج عن كونه دفعا غير مباشر للبقاء في دائرة العدل أو الارتقاء إلى دائرة الإحسان. أي إلى الصورة الأخيرة لنوعية الإنسان.
الإسلام مصدر للحضارة الإنسانية. وقد أسهم المسلمون –عندما حققوا مبادئ الإسلام- في بناء تلك الحضارة. ولعل ما أسهموا به كان أروع ما في هذه الحضارة. وقد انقطعوا عن الإسهام والمشاركة فيها يوم أن ابتعدوا عن القيم الإسلامية في حياتهم واكتفوا بانتسابهم إلى الأمة الإسلامية دون أن يصطنعوا صنيع المسلم المعبر في سلوكه عن الإسلام.
ويقظة المسلمين في حاضرنا حين تبتدئ من تقدير النوع دون الكم، ومن تقديم المبدأ دون الشخص ومن الإيمان دون الاحتراف به، أو الاكتفاء بالانتساب إليه، يومئذ تبتدئ في الإسهام في الحضارة البشرية بالنوع الرفيع منها.