اتجاهات الكتابة الغربية عن تاريخ الإسلام
فلنبدأ بالبداية وهي الكتابات الغربية التي صدرت عن الاتصالات الأولى بين الأوروبيين والمسلمين والزوار الغربيين إلى الأماكن المقدّسة المسيحية واليهودية. أي القدس في أوّل الأمر ثم في بلاد الشام عاماً خلال الحروب الصليبية. وهذه الكتابات التي نبتت في بيئة تنافس ديني واحتكاك سياسي لم تكن كتابات علمية بل كانت من حيث المبدأ دعاية ضدّ الإسلام. وهذا الأدب الدَعَاوي تطور وكَثُرَ على مرّ القرون، وتنوع أيضاً، وبعض هذه الكتابات كان مجادلة دينية عقائدية خالصة بينما البعض الآخر محتوياً على نبذةٍ من تاريخ الإسلام والمؤمنين. وكان التركيز التاريخي في مثل هذه الكتب الجدلية بطبيعة الحال على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى تاريخ عصره، لأنّ هدف هذه الكتابات كان محاربة الإسلام على المستوى الفكري وقد رأى مؤلفوها أنّ أسهلَ طريقة لنزع الثقة عن الإسلام هو الافتراء على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى حقيقة الوحي. فلا عجب إذن إذا اكتشفنا أنّ الصورة الموجودة في هذه الكتابات عن الرسول وأعماله وأعمال أصحابه في الأمة الأصلية صورة مشوّهة محرفة إلى حدٍ كبير.
ولكن في هذه الفترة المظلمة ظهرت ترجمة القرآن الأولى إلى اللغة اللاتينية بقلم الراهب "روبرت كتون" (Robert Ketton) في سنة 1149م (أي في منتصف القرن السادس الهجري). وانتشرت هذه الترجمة، أو ترجمات أخرى مشتقة عنها بسرعة في كلّ أوروبا. وعلى الرغم من وجود عدَّة عيوبٍ في ترجمة "كتون"، كان ظهورها خطوةً إيجابية أولى لأنها أعطت الأوروبيين للمرَّة الأولى وسيلة لاكتشاف شيءٍ من حقائق القرآن والإسلام بشكلٍ أوَّلي مباشر، وكان هذا تحسناً معنوياً مقارنةً بالاعتماد السابقة على الدعاية الخالصة والقيل والقال. ولكن يجبُ علينا أن نعترف بأنَّ الموقف العقلي الأوروبي السائد من الإسلام كان موقفاً عدائياً لقرون طويلة، وأنّه كان جزءًا من الصراع العنيف بين الدول الأوروبية والدول الإسلامية في الأندلس مثلاً وفي البلقان، وكما سنرى بعد قليل، ظهر في الغرب في القرن الثامن عشر تيار جديد علمي من الكتابات عن الإسلام وتاريخه، ولكن من المهّم أن نتذكر أنَّ الموقف العدائي القديم ظلّ يشكلُ الخلفية التاريخية لهذه الكتابات الجديدة. وفي الواقع استمرت المجادلة الدينية ضد الإسلام في أوروبا، وبعضها لا يزال موجوداً حتى اليوم من بعض النواحي في الغرب، وعلى ذلك فهذه المجادلة ما هي إلا استمرارٌ لتقليد قديم في الأدب الغربي عن الإسلام وتاريخه. ولذلك فإنّه من المنتظر أن يظل أثر بعض الآراء السلبية عن الإسلام التي تأصلت في الغرب في العصور الوسطى قائماً بشكل جزئي على الأقل، حتى في بعض الكتابات المعاصرة التي نعتبرها دراسات علمية بشكلٍ عام. موقف بعض المؤلفين الغربيين من بعض النواحي الخلقية القانونية في الإسلام (مثل مسألتي عدد الزوجات وأحوال الطلاق) أو النواحي السياسية، مثل "الإسلام والعنف" التي ظهرت مؤخراً بشكلٍ حادّ ولا سيما في الجرائد- مثل هذه المسائل ترجع جذوره إلى المجادلة الدينية في العصور الوسطى.
ولتقليد المجادلة الدينية على الإسلام تأثيرٌ آخر على الكتابات والدراسات الغربية المعاصرة عن الإسلام، وهو التوازن – أو بالأحرى عدم التوازن- في معالجة الفترات المختلفة من التاريخ الإسلامي. فالكتابات الغربية عن تاريخ الإسلام المنتجة في النصف الأول من القرن العشرين ركزت غالباً على فترتين تاريخيتين: الفترة الحديثة المعاصرة لها، وفترة أصول الإسلام، وخصوصاً سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم. بينما أهملتْ الدراسات العلمية والكتابات الشعبية الغربية أغلبية تاريخ الألف والمائتي سنة بين عصر أصول الإسلام من جهة، وأواخر القرن التاسع عشر من جهة أخرى. فكيف نفسر هذا التوازن الغريب؟ إنّ التركيز على التاريخ الإسلامي الحديث وحوادث الماضي القريب شيءٌ طبيعي، والنقص التدريجي في العناية بالماضي الأبعد قرناً بعد قرنٍ منتظر أيضاً، ولكن الاهتمام التاريخي القوي بفترة أصول الإسلام قد يكون ناتجاً في رأيي عن عناية المجادلين الدينيين بهذا الموضوع، إذ هم اهتموا، كما سبق لنا القول، بمناقشة الأمور المتعلقة بالرسول، لأهدافهم الدعائية. وعلى الرغم من أنّ هذه المناقشة لم تكن علمية فإنها حدَّدت مسائل معينة عدَّة تحديداً باقياً بشأن تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم وتاريخ أوائل الإسلام. وجود هذا الحوار أثار محاولة الاستجابة إلى بعض هذه المسائل والتعمق فيها من قبل بعض المؤرخين. ونتيجة لذلك ازدادت وتفرَّعت كثيراً المؤلفات التاريخية عن الأصول الإسلامية، بينما أُهملتْ أبوابٌ أخرى ضخمة من تاريخ الإسلام- مثل تاريخ العباسيين، أو البوَيهيين، أو الفاطميين، أو حتى تاريخ الصفويين والعثمانيين. وقد كان هذا الوضع شائع حتى الستينات من القرن العشرين تقريباً، عندما أخذ الدارسون أخيرا يهتمون بما يمكن أن نسميه "القرون الإسلامية المهملة" اهتماماً متزايداً وبصورة مكبّرة.
هكذا، فإن تقليد الدعاية الدينية ضدّ الإسلام في الغرب -وهو كما رأينا تقليد عريق- يكوّن إذن الخلفية العقلية لكلّ الكتابات الغربية عن الإسلام وتاريخه في الماضي والحاضر معاً. على أننا نلاحظ أيضاً في القرن الثالث عشر ظهور عصرٍ جديدٍ في الكتابات الغربية، وظهور موقف أكثر عقلانية من الإسلام وأشدّ تقبلاً وإنصافاً له. ويعتبر هذا الموقف المتطوّر جزءاً من الحركة الفكرية والسياسية والثقافية العريضة التي تُسمى بحركة (التنوير الأوروبي)، وتعود مبادئ التنوير الفكرية إلى حدٍ بعيدٍ إلى الاكتشافات الكبيرة في العلوم الطبيعية في أثناء القرنين السادس عشر والسابع عشر مثل اكتشافات كوبرنيكـوس (COPERNICUS) وكبلر (KEPLER) وجاليليو (GALILEU) في ميدان علم الفلك، واكتشاف هارفي (HARVEY) للدورة الدموية، أو اكتشافات بويل (BOYLE) ونيوتون (NEWTON) في الكيمياء والفيزياء. وهذا الترقي العلمي نتج عن تطبيق المراقبة الدقيقة والتحليل العقلي (وأحياناً التجربة)، وشجّعت الاكتشافات مفكرّي التنوير على معالجة القضايا الإنسانية والاجتماعية أيضاً حسب المذهب العقلي؛ لأنّ هذا المذهب وجد نجاحاً كبيراً في العلوم الطبيعية. فمبادئ التنوير إذن فرضت الاعتماد على العقل المجرّد في كل نواحي الحياة والفكر؛ وأدَّى ذلك إلى رفض بعض عقائد الكنيسة التي لم تتَّسق مع الاكتشافات العلمية الجديدة، كما أدَّى إلى قيام حركة نقدية ضد الكنيسة والمؤسسات الدينية في أوروبا وضد رجال الكنيسة ونفوذهم في التعليم والسياسة. في هذا السياق ظهرت الكتابات الغربية الأولى عن الإسلام وتاريخه، يمكن أن نقول إنها كتابات علمية وليست دعائية، ومن أعظم نماذجها الكتاب المشهور (انحطاط الإمبراطورية الرومانية وسقوطها) بقلم المؤرخ غيبون (GIBBON)، وهو كتاب يحتوي على عرض مطوّل لتاريخ فجر الإسلام كجزء من قصة تدهور البيزنطيين في المشرق. والمهِمّ هنا أنّ مثل هذا الكتاب حاول أن يُمثل مجرى التاريخ بشكل عامّ دون تحيُّز وعلى أساس مصادر تاريخية مناسبة. ومهَّد ذلك الميل العام في كتابة التاريخ إلى ما نستطيع أن نسمّيه "الاقتراب الوصفي" من كتابة التاريخ الإسلامي في الغرب- وهي المرحلة التي اعتمد فيها المؤرخون الغربيون لأول مرّة على المصادر الإسلامية (العربية أو غيرها) ذاتها من أجل تفسير حوادث التاريخ الإسلامي، بلْ إنّ هذا الوضع – الذي أحدث ردّ فعل من جانب مفكّري التنوير ضد الكنيسة المسيحية وعقائدها- قاد بعض هؤلاء المفكرين إلى تأليف كتابات متعاطفة إلى الإسلام والرسول، كما نرى مثلاً في كتاب (الأبطال والبطولة) بقلم كارلايل (CARLYLE) حيث صورة الرسول هنالك إيجابية جداً.
ولكن وجهة نظر الدراسات الإسلامية الغربية وتطوّرها كانت مبادئ التنوير الأوروبي بمثابة سيف ذو حدَّين، فمن جهة – كما رأينا- كان اعتماد المؤرخين الغربيين لهذه المبادئ –العقلية الإنسانية، الدعاية إلى حرية التفكير، وما إلى ذلك- سبّب تحسُّن ملموس في إنصاف التاريخ الإسلامي وكتابته بشكل دقيق، مبني على توفر المعلومات الوافرة للمؤرخين من أصناف متعددة من المصادر الجديدة، ومن بينها الوثائق الرسمية (من زمن العثمانيين مثلاً). ولكن من جهةٍ أخرى غير اعتناق هذه المبادئ النقدية طبيعة التحليل التاريخي في الغرب (وبشكل خاص معالجة النصوص) وحوّل كتابة التاريخ إلى صعيد آخر. فأخذ بعض مفكّري التنوير يطبّقون المنهج العقلي على الكتاب المقدّس – أيْ التوراة والإنجيل. وفي القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر تطوّرت تقنيَّات فيلولوجية وأدبية وتاريخية جديدة نسمّيها بـ"النقد الأعلى"، ألقى ضوءاً جديداً- وشكوكاً جديدة- على زعْم الكنيسة بأنّ الكتاب المقدّس هو نصّ مقدّس وحتَّى مباشر من الله تعالى. فأشاروا مثلاً إلى صفات كثيرة في النصّ تدلُّ على أنّه نتيجة "وكالة" إنسانية- أي أنّه عمل البشر. ومع أنّ هذا النشاط النقدي كان يتوافق مع هجوم بعض مفكّري التنوير على الكنيسة وعلى تجّمد عقائدها. ولكن في رأيي لم تحُثّ الإرادة إلى الهجوم على الكنيسة أغلبية المتخصصين إلى نَقد الكتاب المقدّس، بل أثارتهم رغبتهم في العلم وفي الإدراك العقلي للأمور جميعاً. وولّد "النقد الأعلى" بطبيعة الحال اعتراضاً شديداً (وأحياناً عنيفاً) من جهة الكنيسة لمدّة طويلة، وهناك حتّى اليوم بعض الكنائس وبعض المسيحيين المحافظين الذين لا يقبلون "النقد الأعلى" ولا مناهج المذهب العقلي قط، وبينها منهج التحليل التاريخي. وبالنسبة إلى كتابة تاريخ صدر الإسلام، كان لتكرير هذه المناهج وانتشارها أثر كبير، وبذلك مُهدت الطريق لظهور اتجاه ثانٍ لتاريخ الإسلام (وخاصّةً لتاريخ صدر الإسلام) وهو اتجاه نقد المصادر.
فنشاط المؤرخين الغربيين في المرحلة الوصفية، وظهور نصوص عربية كثيرة تحت إشرافهم حققها الفيلولوجيون الغربيون، ولّد بين كثير من المؤرّخين وعياً نامياً بأنّ كتابة تاريخ الإسلام عن طريق وصف محتويات النصوص العربية وحسب لا تكفي. وذلك لأنّ المؤرّخين لاحظوا في أثناء دراسة هذه النصوص والمقارنة بينها اختلافات بين المصادر ومعلوماتها عن موضوع واحد وحتى تناقضات أساسية بينها. ولذلك حاول بعض المؤرخين، ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، أنْ يصنفوا المصادر وأنْ يميزوا بين مصادر "قوية" أيْ مصادر تستحقّ ثقة المؤرخ، وبين مصادر "ضعيفة"، أيْ ناقصة لا تستحق ثقته. فالمؤرخ الهولندي دي غويه (DE GOEJE) مثلاً ألَّف في منتصف القرن التاسع عشر دراسة عن الفتوحات الإسلامية المبكرة نبّه فيها على التناقضات الخطيرة الموجودة في المصادر. وإمام هذا النوع من الدراسات كان المؤرخ الألماني فلهاوزن (WELLHAUSEN) في نهاية القرن التاسع عشر. أوضح "فلهاوزن" أنّ المؤلّفات العربية لتاريخ صدر الإسلام – كتاريخ الطبري وغيره- مؤلفات مركبة من مصادر أقدم هي الآن مفقودة، وقد كتب كلاً منها مؤلف معين. فحسب تحليل "فلهاوزن" كانت كتب سيف بن عمر عن الفتوحات "ضعيفة" ومليئة بالتناقضات في ترتيب الحوادث زمنيا... الخ، بينما في رأيه كانت كتب علماء المدينة مثل محمد بن عمر الواقدي "قوية". والجدير بالذكر أنّ "فلهاوزن" سلك في هذا العمل نفس النهج الذي كان قد ابتدعه في دراساته المشهورة عن الكتاب المقدّس. فالافتراض الأساسي المشترك في عَمَلَيْ "فلهاوزن" هو أنّ المصادر القديمة التي تعتمد المؤلفات المتبقية على مختارات منها، كانت مصادر مكتوبة ثابتة يمكن اعتبارها بمثابة وثائق. (ولذلك سمي اتجـاه "فلهاوزن" في حقل دراسات الكتاب المقدّس "بالنظرية الوثائقية" (DOCUMENTARY HYPOTHESIS). وافتراض "فلهاوزن" الثاني هو أنّ لكلّ هذه المصادر المفقودة شخصية أو سمة مميزة، التي يعكس اهتمامات كاتب المصدر الأصلي وميوله. وقد شكلت هذه المفاهيم الأساس لاتجاه نقد المصادر منذ أيام "فلهاوزن" وظلت سائدة حتى منتصف القرن العشرين تقريباً.
ولكن حينما درس المؤرخون بعناية المصادر العربية لصدر الإسلام خلال نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لاحظ بعضهم أنّ الأخبار المتفرقة مليئة باختلافات في المتن بعضها طفيف وبعضها خطير، ووجود هذه الاختلافات وطبيعتها ألقى شكوكاً على فرضية "فلهاوزن" أنّ المصادر القديمة المفقودة كانت ثابتة "وثائقية"، بل إنّ هذه الواقعة أدّتْ إلى طرح الإمكانية أنَّ ما لدينا هو مجرّد روايات منقولة من راوٍ إلى آخر على مدى زمن طويل، وربمّا أدخل الرواة تغييراً في المتون أو عدّلوها حسب اهتماماتهم واهتمامات مجتمعهـم. ولقد كان مبتدع هذه الرؤية العلامة المجري "غولد زيهـر" (Goldziher) وكانت نظريته تفترض أنّ الروايات نقلت شفهية أحياناً وتتغيّر وتتطوّر على مرّ الزمن وتنتشر في فروع مختلفة على أيدي رواة مختلفين. فدراسة الأخبار إذنْ لا يقتضي تعيين مصادر ثابتة بل يقتضي تحليل مجموعة الروايات المتعلّقة بالموضوع الذي يدرس، فهذه هي الطريقة التي تمكننا من أن نفهم كيف تطورت هذه "العائلة" من الأخبار أو تلك، وما هي مراحل نموّها وخصالها المميزة وسماتها في المراحل المبكرة والمتأخرة... الخ. وقد نسمّي هذا المنهج "اتجاه نقد الروايات" وهو كما ترون يعترف تعقيد الروايات ويَفرِض على المؤرّخ أنْ يجمع أكبر عددٍ ممكن من الروايات الباقية عن أيّ موضوع ثم يُخضعها معاً للتحليل الدقيق.
وصفت حتى الآن عدّة اتجاهات غربية في دراسة التاريخ الإسلامي- الخلفية في الكتابات الدعاوية، وثلاثة اتجاهات علمية سمّيناها "بالاتجاه الوصفي، واتجاه نقد المصادر، واتجاه نقد الروايات". فلنتذكر هنا أنّ هذه اتجاهات العلمية الثلاثة متعلقة غالباً بدراسة فترة أصول الإسلام لسببين: لأنّ المؤرّخين الغربيين ركّزوا على هذه الفترة تركيزاً ملموساً كما رأينا، ولأن المصادر لهذه الفترة غير وثائقية ولذلك فهي مليئة بالإشكالات وخاضعة للتحليل الأدبي (أي تحليل مصادرتها المفقودة المفترضة، أو تحليل الروايات المنقولة فيها). وكما سبق لنا القول، فإنّ دراسات القرون الواقعة بين صدر الإسلام والعصر الحديث كانت –إلى منتصف القرن العشرين على الأقلّ- عامةً قليلة العدد وغير متعّمقة، وهذا في رأيي يعود لعدم وجود عدد كاف من الدارسين الغربيين قد يحثُّ بعضهم البعض الآخر على التعمّق في المادّة. وهناك ظاهرة مدهشة عن الدراسات الغربية عن تاريخ الإسلام التي عملت بين 1880 و 1950، وهي أنّ كثيراً من المواضع المهمّة في تاريخ الإسلام لم يدرسها إلا عالمٌ واحدٌ فقط، وهذا يعني أنّه لم يوجد تنافس بين الدارسين الغربيين. فمثلاً: حتّى السنوات الأخيرة (التسعينات) لم يكن هناك سوى كتاب واحد باللغة الإنجليزية عن تاريخ الدولة الفاطمية- وهي دولة مهمّة في التاريخ الإسلامي حكمت قطراً من أهم الأقطار الإسلامية، مصر، لمدة تزيد عن القرنين! وهكذا الحال بالنسبة لتاريخ الدولة البويهية في إيران والعراق، وتاريخ اليمن الإسلامي عاماً، وتاريخ السلاجقة في الشرق الأوسط، وغير ذلك كثير. حتى في أيام أول دراساتي في الجامعة في الستينات من القرن الماضي لم يكن هناك في الولايات المتحدة سوى عالم واحد متخصّص في دراسات الشريعة الإسلامية هو جوزف شاخت (JOSEPH SCHACHT)، ولم يكن هناك في كل العالم الغربي حينئذ سوى خبير واحد في تاريخ الدولة المملوكية- أعني بذلك المؤرخ الإسرائيلي أيالون (AYALON). إنّني أقدّم لكم هذه الأمثلة لأوضح نقطة هامة، وهي قلّه المؤرخين المتخصصة في تاريخ الإسلام في هذه الفترة في الغرب، وهذا النقص في عدد الخبراء عرقل في رأيي عرقلة كبيرة تطوّر هذه الدراسات في الغرب في السنوات السابقة على منتصف القرن الماضي. وحقيقة الأمر أنّ التطوّر الصحيح لأي ميدان علمي يحتاج إلى متخصصين يمارسون المنافسة والنقاش وبعدد كاف لتوليد شيء من اختلاف الآراء والتنافس العقلي والمناقشة المستمرة. ولكن حتى وقت قصير كما رأينا كان عدد المؤرخين الغربيين المتخصصين في تاريخ الإسلام قليلاً جداً، ولذلك كان التقدم في هذه الدراسات بطيئاً ضئيلاً. فمن الغريب مثلاً أن ظهر بين مؤرخي تاريخ صدر الإسلام، فيما بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين ثلاثة اتجاهات إلى المصادر، كما رأينا سابقاً، ولكن على الرغم من أنّ افتراضات كل هذه اتجاهات متناقضة فيما بينها إلى حدّ كبير، لم يزل كلّ هذه اتجاهات قائماً، أيْ أن بعض المؤرخين يؤلفون كتاباتهم على أساس المنهج الوصفي، بينما يشتغل غيرهم من المؤرخين في إطار اتجاه نقد المصادر، ويتخذ البعض الآخر افتراضات اتجاه نقد الروايات طريقة لهم في العمل أي لم تجر في مدة مائة سنة تقريباً المناقشات العلمية الضرورية لأنّ كلّ عالم أو مؤرخ كان يعمل بشكل منعزل في ميدانه الخاص.
إلا أنّ الأحوال تغيرت كثيراً منذ ستينات القرن الماضي، فمنذ ذلك الوقت دخلنا في الغرب إلى مرحلة جديدة في دراسة التاريخ الإسلامي. أودّ أن ألفت انتباهكم إلى أربعة تطوّرات هي كلها في رأيي تطورات إيجابية.
أولاً: كثرت في السنوات الأربعين الأخيرة أعداد الباحثين في تاريخ الإسلام، وفي الوقت نفسه توزع الباحثون على أكثرية زوايا التاريخ الإسلامي وفتراته. وفي كثير من هذه الميادين في التاريخ الإسلامي – الدراسات المملوكية مثلاً- هناك نشاط علمي كثيف ومناقشات كثيرة وأحياناً حادّة، وإنتاج كميات كبيرة من المقالات والكتب العلمية لم تكن متخيلة حتى في الماضي القريب.
ثانياً: برز منذ الخمسينات نظام علمي جديد بالنسبة للدراسات الإسلامية، وهو دراسة الإسلام في إطار علم تاريخ الأديان أو علم الأديان المقارن. ومع أنّ هذا لا يتطابق دراسة تاريخ الإسلام تطابقاً تاماً، إلاّ أنه متعلق به وإن كان يختلف عنه في تركيزه المنهجي المتأثر بعلم الأنثروبولوجيا (ANTHROPOLGY) كما أنه يعطي دوراً أكبر إلى النظريات في تأويل المواد. وهدف تاريخ الأديان ليست إثبات الحوادث التاريخية، بل هدفه تفهم معنى دين الإسلام لممارسيه، عن طريق دراسة عقائدهم وطقوسهم الدينية.
ثالثاً: الكثيرون من الباحثين الجدد في التاريخ الإسلامي اليوم يتقنون اللغات الشرقية اللازمة كلغات حية، أيْ أنّ تدريب الطلبة في اللغات اليوم أقوى بصورة عامة عما كان عليه في الماضي. وهناك اليوم أيضاً عناية بالمناهج من جانب الجديد من المؤرخين أحدّ مما كان عليه الحال قبل نصف قرنٍ أو حتى قبل ربع قرن.
رابعاً: إننا نرى من جديد – في السنوات العشرين الأخيرة فقط- عودة للعناية بين بعض الباحثين بالدراسات القرآنية، ومن كلّ اتجاه: أصل النص ونقله، تطوّر تقليد القراءة وعلم التفسير..الخ. ومع أنّ هذا الميدان يعتبر حساساً من بعض النواحي، فإنّ استئناف الدراسات القرآنية الجدية من جانب الباحثين الغربيين هو تطور مهم ودليل على نشاط الدراسات الإسلامية حالياً؛ لأنّ دراسة القرآن الكريم من جانب الغربيين كانت لمدة طويلة راكدة، وإحياؤها إشارة إلى نموّ الدراسات الإسلامية في الغرب بصورة عامة.
لذلك أعتقد أننا حالياً على مشارف حقبة ازدهار عجيب في دراسات الإسلام وتاريخه، أو ربما تخطينا هذه العتبة. ولسوء الحظ ما يزال الموقف العدائي من الإسلام موجوداً بين بعض الناس في الغرب لأسباب دينية أو عن جهل وخوف، ولكنّي متأكّد من أنّ الازدهار في الدراسات العلمية عن التاريخ الإسلامي سيتغلب في النهاية على الخوف والجهل وقد يقودنا – مسلمي الشرق وغير مسلمي الغرب- إلى مستقبلٍ خَيّرٍ مشترك.
المصدر: التفاهم.