يهود المغرب والتعايش اليهودي العربي

مصطفى الخلفي
يتّسم الوجود اليهودي بالمغرب بالقدم، ويرجّح عدد من الدراسات أنّ قدومهم جاء في أعقاب خراب الهيكل الأوّل في عام 586 ق.م. وتوالت بعد ذلك الهجرات، وكانت أقواها ما حصل بعد ظهور علامات النفي والترحيل والطرد لليهود والمسلمين من الأندلس في 1492 والبرتغال في 1497.

ويقرّ اليهود قاطبة بأنّ المغرب استقبلهم وآواهم بمنطق متسامح، وقد قدّر عدد اليهود الذين غادروا إسبانيا في 1492 بـ 200 ألف، منهم 100-120 ألف توجّهوا نحو البرتغال، حيث لاقوا مصيراً مأساوياً قبل أن يطردوا ويفرّ جزء منهم إلى البلاد الإسلامية في 1497، حيث كان يوجد أصلاً 50 ألفاً من اللاجئين.

ولم يكن الاستقرار اليهوديّ مسألة عابرة، بل إنّ ملاحقة القوى الأجنبيّة لهم جعلهم يعدّدون مواطن استقرارهم واختلطوا مع القبائل الأمازيغيّة بالمغرب في الجبال حتّى تهوّد أفراد من بعض القبائل.

وكان لقدم الاستقرار بالمغرب انعكاسات بالغة على طبيعة اليهوديّة المغربيّة، حيث أثرت خصوصيّة البيئة وتميّز الوجود الإسلاميّ بالمغرب، وما أفرزه من تبلور لسياق حضاريّ مغاير للسياق الحضاريّ الغربيّ الذي تبلورت من داخله الظاهرة اليهوديّة الصهيونيّة المعاصرة.

وفي دراسة عبد الوهّاب المسيريّ عن "مَن هو اليهودي؟" يبرز أنّ الجماعات اليهوديّة في العالم طوّرت هويّات يهوديّة خاصّة بها، والتي تحدّدت في غياب سلطة يهوديّة مركزيّة، دينيّة أو دنيويّة، وعبر الاحتكاك مع عشرات التشكيلات الحضاريّة ومن خلالها. وتتّسم هذه الهويّات باستقلال نسبيّ عن سياقها الحضاريّ، شأنها شأن هويّات الجماعات الإثنيّة والدينيّة، ولكنّها في الوقت نفسه لا تنتمي إلى هويّة يهوديّة واحدة عالميّة.

الهويّة اليهوديّة المغربيّة

واتّسمت الهويّة اليهوديّة المغربيّة بتديّنها، بل بتشدّدها في الالتزام الحرفيّ بالدين اليهوديّ ومعتقدات التوراة والتلمود؛ ويمكن هنا الإحالة على دراسات حاييم زعفراني (جاوزت السبعين دراسة عن مختلف أبعاد الهويّة اليهوديّة المغربيّة وإبراز الطابع الدينيّ لها)، أو دراسات بن عامي إسشار، والتي ركّزت على ظاهرة أولياء وقدّيسي اليهود المغاربة، حيث أحصت وجود 652 وليّاً، ضمنهم 126 مشترَكاً بين المسلمين واليهود، و15 وليّاً مسلماً يُقدّسه اليهود، و90 وليّاً يهوديّاً عند المسلمين، ويتنازعون في 36 وليّاً، كلٌّ ينسبه إليه.

وقد أصدر صامويل «يوسف بنعيم» في 1980 دراسة مفصّلة عن مراسيم ما يزيد عن خمسين هيلولة (احتفال دينيّ يهوديّ مغربيّ) مرتبطة بمواسم الأولياء اليهود بالمغرب، التي تبرز حالة السعي اليهودي بالمغرب للتماهي مع القديسين وتجديد هذا السّعي سنويّاً....

أهل الذمة والعلاقة مع المحيط المسلم

الأقليّة اليهوديّة بالمغرب استنجدت بوضعيّة الذميّ لمواجهة عزم الاستعمار الفرنسيّ في عهد الحكم النازيّ لفرنسا على تطبيق القوانين النازيّة ضدّ اليهود.

استقرّت وضعيّة اليهود بالمغرب منذ الفتح الإسلامي، وتزامن ذلك مع الاضطهاد الشديد الذي تعرّضوا له بإسبانيا، بعد اعتناق ملك القوط للكاثوليكيّة وصدور مرسوم في سنة 700م يقضي باستعبادهم، حتى أنّهم التحقوا بجيوش الفتح الإسلاميّ المتوجّهة إلى الأندلس، من أجل العودة إلى الأندلس، واستقرّت وضعيّتهم أكثر بعد قيام حكم الأدارسة بالمغرب، حيث سمح إدريس الثاني لليهود بالإقامة والعمل في مدينة فاس التي أسّسها الأدارسة في 788-789م، واتّخذوها عاصمة لهم، وكان للتسامح الذي لاقوه أبلغ الأثر في قصد المدينة من طرف يهود المغرب من مختلف الجهات.

اكتسب اليهود بالمغرب وضعيّة أهل الذّمة، وهي وضعيّة أطرت سلوك المسلمين إزاءهم، فكان موقفهم قوامه عدم الاعتداء والتعامل بالمعروف وعدم التدخّل في الشؤون الداخليّة لليهود مهما كانت.

والاختلالات التي كانت تطرأ على هذه الوضعيّة، كانت ترتبط إمّا بحصول اختلال عام في سير الدولة الإسلاميّة وحالات الفتن والاضطراب في انتقال السّلطة وتغيّر الدول، أو في حالة تحوّل اليهود إلى أهل شوكة وغلبة في حالات استفادة بعضهم من الحماية السلطانيّة أو الحماية القنصليّة الأجنبيّة، حيث تختلّ العلاقة، ويبرز عداء بعض اليهود للمسلمين بالمغرب.

واقتضت وضعيّة أهل الذمّة منح اليهود الأمان على حياتهم وأموالهم وعدم استرقاقهم وحمايتهم والدفاع عنهم من الاعتداء، وذلك مقابل الجزية التي تعدّ بمثابة معادل ماليّ للزكاة، ولا تؤخذ إلا من القادر على القتال من غير المسلمين.

ولهذا أقرّ بعض الباحثين اليهود بإيجابيّة وضع أهل الذمّة، حيث يقول حاييم زعفراني إنّ المجموعات اليهوديّة تمتّعت داخل هذا الإطار باستقلال ذاتيّ كامل إداريّ وثقافيّ، ووضعت لها نظامها الخاصّ، وكانت لها محاكمها وماليّتها، وكانت تضمن لتابعيها حقّهم في التديّن والرعاية والتعليم وتطبيق قانون الأحوال الشخصيّة، بل وحقوقهم المشروعة في ما بينهم. وكان للطائفة سلطة تنظيميّة تلزم أفرادها بكلّ ما يتعلّق بالجوانب الضرائبيّة والمصالح العامّة، كما اعتبره وضعاً قانونياً متسامحاً (استقلال قانونيّ وإداريّ كامل) إذا ما قورن بالذي عرفه يهود البلدان المسيحيّة الأشكناز.

وقد عمل اليهود بالمغرب على استغلال علاقاتهم بالسّلاطين لإسقاط الجزية، والالتفاف على ما تحظره وضعيّة أهل الذمة من الانخراط في مناصب الولاية العامّة ذات الأثر على الأغلبية المسلمة. وقد سجّل تاريخ المغرب عدّة محطّات، ظهر فيها تملّص اليهود من دفع الجزية أو عدم أدائها كاملة، كما ثبت أنّ انخراطهم في الوظائف العامّة كان يستغلّ للتمادي في إيذاء مشاعر المسلمين وإلحاق الضرر بهم، من خلال تلك الوظائف والأعمال.

والجدير بالذكر أنّ الأقليّة اليهوديّة بالمغرب استنجدت بوضعيّة الذميّ لمواجهة عزم الاستعمار الفرنسيّ في عهد الحكم النازيّ لفرنسا على تطبيق القوانين النازيّة ضدّ اليهود، وهذا النص للمخابرات العسكريّة الفرنسيّة واضح في إبراز هذا الموقف. يقول اليهود إنّ جلالة الملك سيخالف النصّ القرآنيّ إذا ما صادق على إجراءات متناقضة نصاً وروحاً مع مضمون القرآن، فإنّ للمسيحيين واليهود في نظرهم، الحقّ في العيش في أرض إسلاميّة، ولهم أن يقوموا فيها، وبجميع المهن التي لا مساس لها بالدين، على شرط أداء الضرائب واحترام التشريع الإسلاميّ.

وبرغم ذلك، فقد صدر ما عرف بقانون فيشي بعد تخفيفه، إثر مفاوضات عسيرة بين السّلطان محمّد الخامس والجنرال نوغيس المقيم العام الفرنسيّ في 29 رمضان 1359هـ 31 أكتوبر/ تشرين الأول 1940، واستطاع السلطان أن يحفظ لليهود أسس الحياة الدينيّة والمدنيّة ويقصر استعمال القانون على المجالات السياسيّة والاقتصاديّة.

وفي الواقع فإنّ التقاليد الإسلاميّة تميّزت دوماً بحماية اليهود، كما أنّ ملوك المغرب لم يتخلّوا عن هذا أبداً، وقد دلّ على هذا التعامل الانتهازيّ للأقليّة اليهوديّة بالمغرب مع وضعيّة أهل الذمّة.

علاقة المسلمين باليهود: تسامح أم نزاع

تطرح دراسة التجربة التاريخيّة لوضعيّة اليهود المغاربة ضرورة معالجة مقولة التعايش الإسلاميّ- اليهوديّ، والتي تقدم كتوصيف لعلاقة اليهود بالمسلمين في التاريخ المغربيّ، والحاصل أنّ هناك أطروحتين:

· أطروحة رفض التعايش:

وقد كانت سائدة في الدراسات والكتابات الصادرة منذ بداية هذا القرن إلى غاية أواخر الستينات، فضلاً عن الوثائق والمراسلات الدبلوماسيّة التي أزيح الستار عنها في أرشيفات الدول الغربيّة، خصوصاً بفرنسا، وإسبانيا، وبريطانيا، والولايات المتّحدة، وهولندا.

وكذلك الأرشيفات الصهيونيّة بالقدس، وأرشيفات الوكالة اليهوديّة والرابطة الإسرائيليّة العالميّة، والتي تطفح بسيل من التحاليل المرتكزة على أطروحة معاناة اليهود بالمغرب، وحالة الذلّ والهوان التي كانوا يرزحون في ظلّها والحاجة المستعجلة للمخلّص، والذي قدم في مرحلة أولى في شخص الاستعمار، ثمّ في مرحلة ثانية في شخص الكيان الصهيونيّ.

وكانت النتيجة في الأولى ولاؤهم وخدمتهم للاستعمار، وفي الثانية هجرتهم الشديدة والمكثفة إلى الكيان الصهيونيّ.

· أطروحة التعايش:

وفي مقابل هذه الكتابات السّابقة، كانت هناك كتابات محتشمة تتحدّث عن التعايش بغرض الحدّ من الهجرة إلى فلسطين، إلا أنّها بقيت دون صدى.

إلا أنّه منذ السبعينات نجد حركة البحث دائبة لتقزيم وتهميش المعطيات المضادّة لأطروحة التعايش والتسامح، وفي المقابل النفخ في الأحداث والمحطات ذات الخلفيّة التسامحيّة، وهو ما نلحظه في الدراسات الحديثة والتي تدفع في اتّجاه مراجعة تاريخيّة، تعيد فيها النظر في حصيلة الأبحاث السّابقة، والتي درست مشكل العلاقة بين اليهود والمسلمين بالمغرب باعتباره مشكلة أقليّة يهوديّة في مواجهة أغلبيّة مسلمة، وأنّ التدخّل الأجنبيّ أدّى إلى تسريع مسلسل نزع وضعيّة أهل الذمّة على الأقليّة اليهوديّة، ممّا أدّى إلى خلق مسارين منفصلين سياسيّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً لكلا الطائفتين في المرحلة الاستعماريّة.

ثم انضافت النزاعات العالميّة لتغذّي التوتر بين اليهود والمسلمين في المغرب، وتوصل العلاقة إلى حالة القطيعة والتهميش لليهود بالمغرب والتدمير الكليّ للعلاقات الموجودة.

· ما بين الأطروحتين

إنّ الأطروحة الأولى خضعت للتوظيف السياسيّ لصالح دمج اليهوديّة المغربيّة في المشروع الاستعماريّ للمغرب وبعده في المشروع الصهيونيّ.

أمّا الأطروحة الثانية فهي توظف سياسيّاً لصالح مشروع التسوية ليكون النموذج التاريخيّ المغربيّ خلفية لعمليّة التسوية؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى توظّف هذه الأطروحة لمصلحة تطبيع العلاقات المغربيّة الإسرائيليّة، حيث يقدم مفهوم التعايش كقاعدة فكريّة للتأصيل التاريخيّ والاجتماعيّ لبرامج التطبيع.

وبرغم أنّه يصعب الحسم بشكل قطعيّ لصالح هذه الأطروحة أو تلك، فإنّ التجربة التاريخيّة تفرض معالجة علاقة اليهود بمحيطهم الإسلاميّ من زاويتين، زاوية العلاقة مع الدولة/بلاط السلطان، وزاوية العلاقة مع المجتمع/عامّة المسلمين.

الزاوية الأولى كان يحكمها منطق التوظيف المتبادل، أمّا الثانية فقد كانت تتأرجح بين ثلاث حالات:

أوّلاً: حالة التعايش والتسامح الذي وصل إلى حدّ تبادل الهدايا في الأعياد، لاسيّما وأنّ اليهود كانوا يختصّون بوظائف ومهن حيويّة في المجتمع.

ثانياً: حالة المهادنة المحكومة بالتوجّس، وقد كشف حاييم زعفراني في دراسته المعنونة بـ"ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب" وجود عدد هائل من الأحكام القضائيّة في القضاء العبريّ بالمغرب في القرون الأربعة الأخيرة، كلّها تتعلّق بجريمة الوشاية، حيث تتمّ الإدانة بقسوة للذي يوشي بأخيه اليهوديّ أو يسلّمه إلى أيادي الأغيار، ويلزم الواشي بتعويض الضرر الذي تسبّب فيه للضحية، وعليه بالخصوص أن يؤدّي له أيّ مقدار من مال أو رشوة أدّاها الضحيّة لإطلاق سراحه، وهو ما دلّ على حرص قضاء الأقليّة اليهوديّة بالمغرب على صيانة عزلة الطائفة وتواطئها في مواجهة المسلمين، من أجل حماية أعضائها من ملاحقة القضاء المسلم لهم، بسبب تجاوزاتهم.

ثالثاً: حالة المنازعة التي تصل إلى حدّ التصفية الدمويّة الشاملة، كما حصل في عهد الموحّدين أو في عهد السلطان المولى يزيد، أو في حالات الصّدام بين عموم المسلمين واليهود، بسبب سلوكيات بعض اليهود المستفزّة، كما حصل في 1276، عندما انتهك يهوديّ حرمة امرأة مسلمة.

وينبغي هنا التأكيد على ضرورة التمييز بين الزاويتين، خصوصاً وأنّ تطوّر علاقة التوظيف المتبادل مع السلطان من لدن اليهود المغاربة أدّى إلى خلق امتيازات للطائفة اليهوديّة، وهي امتيازات كانت تؤثر على نظرة عامّة المسلمين لليهود.

من الدراسات الحديثة التي عملت على تحليل الزاوية الأولى، أي ظاهرة يهود البلاط وإبراز تجذّرها التاريخيّ، ولجوء عموم السلاطين إليهم منذ القرن الثالث عشر، نجد أطروحة نيكول سرفاتي، والتي قدّمت حالات محدّدة ليهود البلاط ودورهم في مجال تدبير علاقات المغرب مع الدول الأوروبيّة، وإلى جانب ذلك دورهم في حماية الطائفة وجلب بعض الامتيازات لها.

من هذه الحالات حالة جوزيف ميمران، الذي كان مستشاراً للسلطان المولى إسماعيل، طيلة الفترة الممتدة من 1683-1672؛ وفي نفس الوقت كان رئيس الطائفة اليهوديّة بالمغرب (شيخ اليهود)، ونفس الشيء بالنسبة لابنه إبراهام ميمران الذي كان هو الآخر دبلوماسيّاً ومستشاراً ومديراً للأعمال التجاريّة (1722-1683)، وأدّى أدواراً في علاقات المغرب مع فرنسا والبرتغال وهولندا، وهو ما انعكس على الطائفة اليهوديّة، والملاحظ أنّ كلاهما مات في ظروف مريبة.

وقد خلص سرفاتي في تفسيره للظاهرة إلى أنّها ترتبط بإرادة سلطانيّة للتحكّم في الطائفة واستثمار إمكاناتها الماليّة وتوظيف علاقاتها الداخلية والخارجيّة، وفي المقابل سعى اليهود إلى اختراق البلاط لتعزيز نفوذهم وتنمية ثرواتهم وصيانتها وحماية طائفتهم وقضاء مصالحها، وهو سلوك ما زال قائماً لغاية اليوم. وفي إطار نفس الزاوية الأولى، تنبغي الإشارة إلى فئة تجّار السلطان، والتي تنامت في القرن التاسع عشر وشكّلت نخبة اقتصاديّة لها وزنها في المغرب.

وعموماً، فإنّ هذه الزاوية لم تحل دون إدانة السلاطين لهم، بسبب سلوكيّاتهم، بحيث أنّ بعضهم تعرّض للتصفية، كما حصل لجوزيف ميمران مع السّلطان مولاي إسماعيل.

نزعات يهود المغرب

التحول الكبير الذي طرأ على وضعيّة الأقليّة اليهوديّة بالمغرب وجعلها عرضة للاندراس، ارتبط باندماجهم الكثيف في المشروع الصهيونيّ إلا من استثناءات جدّ قليلة.

وبرغم هذه الوضعيّة، فإنّ اليهود ما انفكّوا يكشفون عن نزعتين تجاه المحيط الإسلاميّ، دولة ومجتمعاً، تضرب في الصميم السّماحة الإسلاميّة معهم، وهي:

1- نزعة الانفصال عن الدولة:

مثل حالة يهود فاس، والتي عرض محمد كنبيب هذه الواقعة في رسالته الجامعيّة عن المحميين، معتبراً إيّاها إحدى المحاولات الأكثر جرأة ووقاحة لتأكيد استقلاليّة "الإسرائيليين"، وأوردها العلامة محمد المنوني في كتابه عن المصادر العربيّة لتاريخ المغرب، تحت عنوان "تجاوز يهود فاس لتبعيّتهم المغربية".

2- نزعة الطغيان:

واتّسم بها سلوك المستفيدين من اليهود من نظام الحماية القنصلية، وهو نظام يُتيح للمستفيد منه عدم الخضوع لقوانين دولته الأصليّة. وقد شكّل الخطوة الأولى للتغلغل الاستعماريّ في المغرب، مع الإشارة إلى أنّ بعض المسلمين أيضاً استفادوا من هذا النظام، إلا أنّ اليهود شكّلوا الفئة الأكثر استفادة منه.

وانعكس ذلك بحدّة وسلبيّة على علاقتهم بالمحيط المسلم، وأدّى إلى إضعاف هيبة الدولة المغربيّة التي أصبحت عاجزة عن محاسبة المخالفين للقانون، ممّن يتوفرون على نظام الحماية.

وازدادت حدّة ذلك بعد خضوع المغرب للاستعمار، وهو ما شهد به المقيم العام الفرنسيّ "الجنرال ليوطي"، حيث اشتكى من سلوكيّات السكّان اليهود تجاه المسلمين، ممّا كان يخلق مشاكل للسلطات الاستعماريّة، وهذه الشّهادة مؤرخة في 28 مايو/ أيار 1925، وهي في أصلها مرسلة إلى وزارة الخارجيّة الفرنسيّة ومحفوظة بأرشيفاتها. وورد فيها:

"فالجالية اليهوديّة التي هي اليوم مدينة للحماية الفرنسيّة بتحرّرها من وضعيّة العبوديّة التي عاشت فيها منذ قرون، تعقّد مهمّة السلطات لأنّها جالية لا تعامل رجال المراقبة باللياقة اللازمة، وتتصرّف بوقاحة تجاه المسلمين الذين لم تعد تخاف تحدّيهم محتمية في ذلك بوجودنا".

وقد تكالبت الدول الأجنبية على استغلال نظام الحماية القنصليّة لبسط نفوذها متوسّلة في ذلك بالعنصر اليهوديّ في المجتمع المغربيّ"...

الخلاصة

الخلاصة هي أنّ العلاقة عرفت سلسلة انهيارات متتالية بعد مجيء الاستعمار، إلا أنّه في المقابل تبرز معطيات ميدانيّة معيشة حول أشكال متعدّدة من التعايش، أملتها الحاجة الاقتصاديّة المتبادلة، أو تبلورت ضمن سياقات اجتماعيّة معيّنة، خصوصاً في المجالات الصحراويّة والجبليّة، حيث كانت تقلّ حوادث الصدام بين اليهود ومحيطهم، وذلك على خلاف المجال البحريّ (الموانئ) أو المجال الحضريّ في المدن، حيث كانت العلاقة تنزع في عمومها إلى التوتر والصدام.

إلا أنّ التحوّل الكبير الذي طرأ على وضعيّة الأقليّة اليهوديّة بالمغرب وجعلها عرضة للاندراس، ارتبط باندماجهم الكثيف في المشروع الصهيوني إلا من استثناءات جدّ قليلة، حيث انخرطوا في العمل لصالح المشروع الصهيونيّ، بدءاً من توفير التّغذية البشريّة له عبر عمليّات الهجرة، وتقديم الدّعم الماليّ، وتشكيل قناة سياسيّة له، تربط بين المغرب والكيان الصهيونيّ، وتوظّف فيها دعوى الولاء المزدوج، ثمّ الانخراط في خدمة مشروع إسرائيل العظمى اقتصاديّاً، تحت دعوى المنفعة المتبادلة والعمل لأجل السّلام.

المصدر: الجزيرة نت.

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك