التجديد والإصلاح الدينيّ في غرب أفريقيا

د. الخضر عبد الباقي محمد

شهدت الساحة الأفريقيّة كغيرها من البلدان الإسلاميّة نماذج رائعة للحركة التجديديّة أو فكرة الإصلاح الدينيّ. وقد جسّدت تلك الفكرة محاولات عدّة خرجت من مختلف الأقطار الأفريقيّة، وفي مقدّمها الدّعوة الإصلاحيّة للشيخ عثمان بن فودي التي حرّكت فكرة انبعاث الحياة في الكيان الإسلاميّ واكتشاف قيمة الإسلام، بالعودة إلى منابعه الأصليّة ومحاولة تطبيقه على كلّ مناحي الحياة. وقد كانت تلك الدّعوة التجديديّة في منطقة بلاد الهوسا وغرب أفريقيا من أبرز العلامات المضيئة التي أرست دعائم أمبراطوريّة إسلاميّة كبرى في مطلع القرن التاسع عشر الميلاديّ، والتي حافظت على تراث الإسلام وحضارته حتّى أقامت دولة أو خلافة "صوكوتو" الإسلاميّة أو إمبراطوريّة الفولاني في الفترة ما بين 1804م -1904م على أرض صوكوتو (عاصمة ولاية صوكوتو النيجيريّة حاليّاً)...

الدعوة في عالم الوثنيّة

في وسط ظروف تسودها الأفكار والعادات والتقاليد الجاهليّة، بدأ الشيخ عثمان بن فودي عمله الشّاق والصّعب في الدّعوة إلى الله، حيث كان يحكم المجتمع مجموعة من الملوك والأمراء الذين يتطاحنون على حقّ السيادة ويتنازعون على الأرض والأرزاق واستعباد الناس، فقد عرفت أفريقيا جنوب الصّحراء عصراً من عصور الملكيّة المطلقة، وتطاحناً أودى بحياة الكثير من أبنائها، ومن سيادة الأفكار القبليّة التي لا مجال معها للوحدة بين القبائل دون غالب ومغلوب، بحيث تستمرّ حلقات التنافس القبلي دون توقف مع ما يرافق ذلك من سيادة للعقلية الحربية التي تضع شرائح كبيرة من المجتمع في دائرة الاستضعاف، إضافة إلى أن الوضع القبلي هذا لم يستطع أن يفرز حالة وحدوية تستطيع أن توحد منطقة بكاملها تحت راية واحدة ولغة واحدة وأهداف واحدة، وبالتالي إنتاج حالة أكثر تقدماً مما كان موجودا سابقاً، وكان هؤلاء الملوك على ديانات وثنية متخلفة ما زالت بقاياها قائمة حتى أيامنا هذه عبر ما يسمى بالديانات الأرواحية التقليدية...

في مثل هذه الظروف بدأ الشيخ ابن فودي عمله، حيث أخذ على عاتقه مهمة تحرير شعبه من سيادة الأفكار الجاهليّة المتخلّفة ومن سيطرة السلاطين الجبابرة، الأمر الذي أفضى إلى إقامة دولة إسلاميّة استمرّت أكثر من مئة سنة في تلك البلاد البعيدة عن مركز الدولة الإسلاميّة، ومن دون أيّ تدخّل خارجيّ.

وقد بدأ الشيخ مهمته في شكل دعوى، وهو ما أسماه في أدبيّاته "الجهاد القوليّ". وقد كانت مرحلة للدّعوة والإرشاد ورفع المستوى التعليميّ العام ومستوى الوعي الاجتماعيّ العام، حيث أرسل رسائل إلى كلّ فئات المجتمع يدعوها إلى الله، موضحاً أهميّة الإسلام في إحياء الأمّة وخلاصها من مشاكلها الواقعيّة التي تعيشها.

وقد ركّز عثمان بن فودي في أسلوبه من خلال هذه المرحلة على استخدام عنصرين مهمّين: أوّلهما التركيز على موضوع المرأة في النموذج الإسلاميّ، والفرق بينه وبين المرأة في النموذج الجاهليّ المتخلّف. وقد ساهم الكثير الكثير من السيّدات المسلمات في حركة النهوض التي قادها الشيخ عثمان، كما شكّلت هذه القضية تحدياً كبيراً للأفكار السّائدة، من خلال دعوة المرأة إلى التحرير من الاستعباد الحقيقيّ الذي تعيشه في ظلّ الوضع السائد.

كما اعتمد على استخدام الشعر والموشّحات الدينيّة بالطريقة الشعبية المعروفة في تلك البلاد، والمحبّبة إلى القلوب. وقد كان الشيخ مبدعاً في تأليف كميّة كبيرة من القصائد والموشّحات ذات المضمون الأخلاقيّ والعلميّ والإرشاديّ الراقي باللغات المحليّة. وقد كانت هذه القصائد تنتشر مثل النّار في الهشيم، تنتقل من ألسنة الدّعاة إلى ألسنة العامّة، وما زال الكثير منها محفوظاً حتّى الآن، خاصّة إذا علمنا أنّ الثقافة الأفريقيّة هي ثقافة حفظ وليست ثقافة تسجيل.

وقد استمرّت هذه المرحلة من عام 1774 حتّى 1803 أي حوالى 30 سنة من الدّعوة والبناء الدقيق لحركة الدّعاة والمبلغين والتحدّي الأخلاقيّ والفكريّ والاجتماعيّ للمجتمع القائم، ولكن من دون المواجهة المباشرة، بل عرف عنه في تلك المرحلة تشديده على الدعاة بعدم الدخول بأيّ صدام مع القوى المسيطرة.

وقد ألّف في هذه المرحلة الكثير من المؤلّفات الهادفة والدراسات القيّمة، وكان يتنقل بين المدن والقرى بنفسه يبثّ أفكاره، وانتهت هذه المرحلة بتأسيس المجموعة الأساسيّة من الحواريين والأتباع أو من سمّاهم بالطلبة، بهدف نشر الصّورة الجليّة للإسلام، وبهدف تقديم النموذج الأرقى للدّين القويم وفضح علماء السّوء الذين كانوا يرون الواقع المنكر، فلا يعملون على تغييره بأيّ شكل من أشكال التغيير المتاحة.

تكوين الدولة

وبالفعل جاء الرد قوياً على ممارسات الشيخ، حيث بدأ المواطنون يعلنون رفضهم للأوامر التي تتنافى مع تعاليم الإسلام، خاصّة في أوساط الشباب الذين يعتبرون القوّة الضاربة في أيّ قتال يدور بسبب السرقة والتعدّي ونهب المحاصيل أو الثروات الحيوانيّة. كذلك فالفتيات بدأن يرفضن ما يؤمنّ به إذا كان منافياً لأحكام الدين الحنيف، ممّا دفع ملك المنطقة للمطالبة بمغادرة الشيخ، خوفاً منه على سحب البساط من تحت قدميه، غير أنّ الشيخ كان قد اتّخذ بالفعل قراره بالهجرة مع كلّ مجموعته، وأصدر فتوى بذلك أذيعت في مختلف الأمصار. وما إن انتقلت الأخبار إلى المدن المجاورة حتى تجمّع المؤمنون من كافة أنحاء البلاد يبنون أوّل مجتمعاتهم القائمة على الحكم الإسلاميّ.

واستمرّت هذه المرحلة إلى عام 1808، وكانت ولا شكّ مرحلة توطيد دعائم الحكم الإسلاميّ، حيث وضع نظاماً إداريّاً متقدّماً يُراعي النظم الإسلامية، ووحّد البلاد تحت راية واحدة، وجعل اللغة العربيّة لغة الدولة الرسميّة، واستمرّت هذه الدولة حوالى مئة سنة حتى دخول الاستعمار البريطاني إلى تلك المنطقة، حين قرّر الملك الآنف الذكر أن يجهّز جيشاً لمقاتلة المجموعة المؤمنة، فالتقى الجيشان وانتهت المعركة بنصر جيش المسلمين، فكانت هذه المعركة جولة حاسمة انهار على أثرها الكثير من الجيوش والممالك الصغيرة، منها بالقتال، ومنها بالتهديد. وفي هذه المرحلة التي تعرف بمرحلة الجهاد المسلح، تمّت الخطوة الحاسمة التي لم يكن بالإمكان أن يستقيم الوضع بدونها ألا وهي مبايعة الشيخ قائداً وإماماً على سنة الله ورسوله...

وقد أعادت تلك الدّعوة الإصلاحية أجواء الأمن والاستقرار ولمّ الشّمل إلى المنطقة، حيث تجمّعت تحت رايتها عدّة ممالك وأوطان من بلاد الهوسا، وفرضت السّلام والسّكنية في ربوع المنطقة بعد صراعات دمويّة طويلة، وصبغت المنطقة بالطابع الإسلاميّ الذي لا زال يميّزها حتّى اليوم، مثل نيجيريا التي أصبحت أكبر دولة إسلاميّة في القارة الأفريقيّة على الإطلاق، بفضل جهود تلك الحركة الإصلاحية.

ويجب أن نسجّل هنا أنّ الحياة العلميّة داخل التجربة الأفريقيّة للدولة الإسلاميّة كانت حافلة وغنيّة وثريّة بمساحات واسعة، لاجتهادات فقهيّة وفكريّة متلاينة، حيث كانوا يختلفون في الآراء السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وفي بعض القضايا من فروع العقيدة، ويردّ كلٌّ منهم على الآخر بردود مباشرة تارة، وغير مباشرة في أحيان أخرى، كالخلاف بين الشيخ عثمان بن فودي وشيخه جبريل في كتابه "شفاء الغليل في ما جرى بيننا وبين شيخ شيوخنا جبريل"، ويدور حول ما يتعلق بمرتكب الكبيرة، ومثل الخلاف بين محمد بللو بن عثمان وعمّه الشيخ عبد بن فودي في مسألة الاستخلاف والإمامة، وكتب في ذلك كتابه "سبيل السّلامة إلى الإمامة". وقد ردّ عليه محمد بللو أيضاً، وقد كتب الشيخ عثمان بن فودي ما يربو على المئة كتاب، فيما فاقت مؤلّفات أخيه الشيخ عبد الله المائتين، ولمحمد بللو مئة وخمسين كتاباً.

وقد كانت تلك الدّعوة بحقّ دعوة تصحيح وإصلاح لمفاهيم الدين الحنيف وترسيخاً للأسس الإسلاميّة في منطقة غرب أفريقيا جميعاً.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=8244

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك