الدعوة الإسلامية علم وفن

إن الإنسان حينما يعالج المادة لا يطلب منه عادة إلا إتقان المتعلقات الخاصة بتركيب وتأليف هذه المادة، كالميكانيكي حينما يصلح عطبا في جهاز المحرك، أو المحلل الكيماوي وهو يؤلف بين العناصر لإخراج محلول جديد وهكذا في كل شؤون الميادين الصناعية والإلية لا ترى الخبرة تتعدى المظهر الخارجي لها.
وهذه المعرفة تتعقد قليل حينما ننتقل من دائرة الماديات إلى مجال النفس والإنسان لأن المعرفة هنا تتطلب العلم ثم الاستبصار، إي ذلك الإدراك الخفي الذي يدفعنا من الأعماق إلى استكناه خفي الأحاسيس، وأغوار الشعور وصميم العقل، فالمعرفة لم تعد مرتبطة بالمعرفة الآنية بل وجب ربط التجربة نستخرج النفس من حصنها المنيع، والمحلل النفساني يدرك هذه الصعوبات الجمة وهو يعالج الاضطرابات العقلية والنفوس العليلة.
غير أن المعرفة السابقة تصل إلى منتهى التعقيد حينما يصبح الأمر يتعلق بالمجتمع – وهو حاصل جميع الأفراد- ومعرفة الناس تتطلب استعدادا خاصا وتكوينا علميا عميقا لا سبيل إلى التقصير فيهما حتى يكون اتصال العالم الاجتماعي بمجتمعه وبجمهوره اتصالا مجديا عميقا، مؤثرا، والاتصال بالناس يتطلب التدريب النفسي الخاص حتى تنقاد الجماهير وتنفعل لما يقال، وتنصاع للأوامر والنواهي، والدعوة الإسلامية تتسم بهذا الطابع الاجتماعي لأنها اتصال دائم بالناس وسعي مستمر لصرف الأفراد والجماعات نحو المسلك الخلقي القويم، ولذلك أمكن اعتبارها من أصعب المهن وأبعدها طواعية للداعي الغافل عن سنن المجتمع.
كانت الدعوة الإسلامية في عصورها الذهبية ذات مفعول وأثر باق ولعل السبب يعود إلى بساطة الحياة في ذلك الحين، وعيش الناس في كنف الدولة القوية المشرفة على سلامة الأجهزة الثقافية وتماثل الطابع العام للبلاد والعقول، حيث أن الاتصال بالشعوب الأخرى كان محدودا لا كما هو اليوم في عصر السرعة والمواصلات البرية والجوية والبحرية التي تنقل مع السيارة والغسالة والتليفزيون المذاهب التحررية في الأدب والفن والأخلاق، ثم أن الحياة الديمقراطية المعاصرة جعلت شريعة التنافس الفكري الحر على أشدها، وهذا الصراع قوى الوسائل وهذب أجهزة الدعاية وأصبحت المجلة والكتاب والفيلم وغيرها تخدم جميعا فلسفة خاصة هي التحرر والتمرد والأنانية المذهبية، ونحن معشر المسلمين ماذا فعلنا لنقابل هذا التيار الجارف، وهل تفهمنا منطق العصر؟ أن الخطب التي تقال عندنا والكلام، الذي يردد في كل حين ليعكس البعد الشديد عن المنهج السليم.
ولذلك أصبح من المحتوم البناء من جديد والتدريب الجذري، وتأهيل الرجال الأكفاء الذين يحملون الرسالة عالية مشرقة.
وباختصار نحن في حاجة إلى ركائز أساسية لابد منها إذا أردنا البقاء الفعال للدعوة الإسلامية سالمة من الشوائب والعراقيل التي تصد انطلاق الفكر الإسلامي الحي وتجعله بدور في حلقة جامدة مفرغة.
وأريد هنا الإشارة إلى جانبين أساسيين في تدريب الداعي المنشود وهما جانب علمي وآخر فني.

الجانب العلمي للدعوة:
لا سبيل من جعل القاعدة الأولى في هذا الاعتبار تعود إلى الثقافة الإسلامية المحض، وقد دخل العقيدة كثير من الشوائب والخرافات والأساطير جاءتنا من الجهل والإفساد المقصود والتحريف السافر خدمة لأغراض حزبية أو شخصية أو طائفية، وهذه العوامل فعلت فعلتها منذ أقدم العصور حتى أصبحت لنا تركة ضخمة مما حرف وبدل من خالص العقيدة، ولذلك وجب الرجوع إلى المعين الصافي والمصدر الأول وهو القرءان ثم ما صح من حديث الرسول كنقطة انطلاق لا نحيد عنهما ولا نبتغي تعليلا وتوضيحا آخر يكون البرهان الفصل والحجة القاطعة دونهما، وما نلتمسه من سبل أخرى يكون سديدا ما دام يتماشى مع القرءان والمسطرة الأولى كالتمعن في سير «الصالحين المصلحين» وكإنتاج سبيل المفكرين الذين اقتبسوا من روح القرءان والرسول سديد الرأي ومصفى العقيدة، والتاريخ الإسلامي زاخر بالأسماء واللامعة التي تركت أثرا خالدا في دنيا العلم والفكر، فالنماذج الحية لا تنقصنا وهي باقية ما بقي هذا الدين الحنيف، غير أن الثقافة الإسلامية لم تعد كافية في مجتمعنا المعقد المختلط الذي أتصف بطابع العلم المادي والتسابق في العلوم الكونية، وأصبحنا لا نغفر للداعي المسلم جهل حقائق مكتشفات العصر، ويجب أن نعلم أن العلوم هي نتائج الاجتهاد المستمر، وبما أن الإسلام يدعو للتعلم والتنور العقلي فمن الواجب الديني أن تكون على بينة من بيئتنا القريبة والبعيدة.
والعلم حيادي بطبيعته لا يتصف بالصلاح أو الفساد ما لم ندخل فيه أرادتنا الفاعلة وسلطتنا البشرية، وطبيعة الإسلام الخيرة توجهه بعد ذلك نحو مسالك السلام ومنافع الناس، وقد أهتم الجامع الأزهر بتدريس تدريبا خاصا يؤهلهم لهذا الدعوة تجاه المشاكل التي يعيشها الناس في المجتمع الإسلامي وغيره.
 أن أعداد الداعي الإسلامي للتعريف بالإسلام وحقائقه الخالدة لا ينبغي أن يكون قاصرا على مجتمعنا المؤمن فقط، بل أن الهدف الرئيسي هو حمل هذه الرسالة من جديد إلى الأفاق البعيدة والأمم المخالفة لعقيدتنا الجاهلة لمضمون الإسلام، والعالم مذاهبه التي أفلست حقا، ولم تقدم للإنسان إلا الويل والدمار، أن الناس هنالك في تطلع دائم إلى ما يسد الحيوانية الغريزية منهم إلى المستوى الإنساني الرفيع، وهم على قدر انتصاراتهم في دنيا الماديات على قدر ما أسفوا في الفلسفات الإنسانية، وأصبحوا أقرب إلى الجنون والاضطرابات العقلية المدمنة والحسرة القاضية والقلق الشديد، وهذه الحقائق يعرفها جيدا خبراء النفوس والمحللون النفسانيون
يستقبلون في عياداتهم مئات الحالات المرضية كل يوم، ولذلك يؤكد العلماء المسلمون الذين طافوا بهذه البلاد الغربية واتصلوا بأفرادها أن هذه الظروف القلقة هي أحسن جو ملائم لاستقبال نظام عقائدي جديد، ولذلك يتدخل اعتبار آخر في هذا المجال بالإضافة إلى التزود بالثقافة الإسلامية وبالعلوم وهو إتقان اللغات والتدرب على تعلم الألسن الحية التي بها نغزو العقول النائية التي لم يصلها شيء يذكر من حقائق الدعوة الإسلامية، فاللغات وسائل لابد منها في الإفهام والتفهيم والداعي الحقيقي هو الذي يخدم الإسلام في الميادين البكر التي لم تؤمن بعد ولم يصلها البلاغ.

الجانب الفني للدعوة:
وبهذا التكوين العلمي التام يخرج الداعي الإسلامي إلى عمله الحقيقي وهنا يدخل الاعتبار الفني في حسن معالجة مشاكل الناس اعتمادا على هذا التدريب وحسن التوفيق بين الثقافة الإسلامية ومعضلات الحياة الاجتماعية، وهذا التأهيل يتطلب الاستعداد الخاص والقدرة الحكيمة على تقديم الحل الإسلامي الموفق للازمات الحالية الدائمة في كل الميادين.
أن المجتمع الإسلامي الحديث لا يعرف رأي الإسلام في مشاكله اليومية، والداعي الإسلامي هو الصوت الحي الذي يقدم الحلول والأجوبة الشافية، مثلا، ما موقف الإسلام من أزمة برلين ومن حرب الكونغو ومن خطب كيندي وديغول ومن الجامعة العربية، وما رأي الإسلام في حل الاضطرابات المتكررة والأزمات الاقتصادية والمشاريع الحاضرة في التعليم والفلاحة والصناعة، أن فن الدعوة هو الربط الحكيم بين هذه النواحي التي نعيشها كل يوم دون أن نعرف موقف الإسلام الحقيقي منها، فنحن نرى أن كل اتجاه حزبي أو سياسي أو طائفي إلا وله صحيفة يومية أو أسبوعية أو شهرية تصدع برأيها الخاص في الأحداث الدولية والمحلية، وكل جريدة إلا ولها ميل معين يميني أو يساري أو معتدل والمفروض في خطبة الجمعة على الأقل وفي الداعي الإسلامي أن يكون لسان الإسلام والصحيفة الناطقة المدوية لمجربات الحياة والأحداث.
فالطريق القويم للدعوة كامن إذن في حسن الربط بين الإسلام كدين وبين مشاكل الناس المتنوعة.
وهذا الربط يأخذ اعتباره إذا انتبهنا إلى الأهمية الكبرى التي أصبحت طريقة كافة المربين الذين أدركوا أن الجانب التطبيقي هو حياة النظريات، فقد كانت التربية القديمة تعتني بالشؤون النظرية وتقدم المعلومات والأساليب اللفظية البعيدة عن الحياة وعن الواقع الذي نعيشه كل يوم، وكانت النتيجة أن المدرسة بعدت عن المجتمع وأصبح التثقيف فارغ المضمون، أما التربية الحديثة – كما يقول زعيمها الأمريكي «ديوي» فهي الأعداد للحياة، فالمتخرج من المدرسة الحديثة يجب إلا يشعر بالغرابة عندما يصطدم بالوقائع اليومية في بيئته، بل يجب أن يشعر أن ليس هنالك انقطاع بين المدرسة ومجتمعه، وهكذا نرى أن الدين أيضا أن بقي مقبورا في المساجد والزوايا فسوف يفقد معناه الحي، وعلى المصلح الاجتماعي المسلم أن يخرج الدين من دائرته المحدودة إلى العالم الفسيح فلا يكون كالرجل المريض الذي لا يرى الشمس، أن الجانب الفني في الدعوة الإسلامية يحتل المكانة القصوى في ترسيخ الدين وتثبيت أركانه، وعلى المصلح أن يدعو الناس بما يفهمون وفي المشاكل التي يعيشونها.
أن الدعوة الإسلامية لم تعد في عصر النور أدعية وتراتيل وإنما أسلوبا حيا يسلك الأضواء الكاشفة على أمراضنا وآلامنا فيقدم العلاج المستمد من قبس القرآن، ويضع اللبنات الأولى للمجتمع الإسلامي المنتظر.

المصدر: http://www.habous.net/daouat-alhaq/item/1036

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك