الفكر حين يكون رجلاً !!

خالد الرفاعي

كنتُ أسمعُ عنه، وأقرأ له، فتشكلتْ له صورةٌ في ذهني، قوامُها الجدُّ والمثابرة، والبحثُ في الأشياء، وما وراءها...، تخصّص في (الكيمياء)، وسبح على الهامش في متن (الفلسفة)، و(الأدب)...، وأخذ يجمع ما يقرأ إلى ما يقرأ؛ ليستنتج منه فكراً لا يشفُّ إلا عنه.

ضاق ذرعاً بالمفكرين المزوَّرين، الذين يقولون ما لا يفعلون، ويكثرون الجعجعة في الحالات كلِّها؛ ففرّ منهم ومن الذوات إلى المعاني، واعتكف في مكتبته، يأتمّ بالعمالقة؛ ليؤمّنا بعد حين...

وجد في نفسه موجدة على ما يجري في الساحة الثقافية من حوارات، ظاهرها الخير وباطنها الجهل والضياع، فاعتزلها قبل أن يختلط بها، وأخذ يكتب لزمنٍ لم يحن بعد، ومتلقين لم يولدوا...

الشيخ راشد المبارك، الباحث طويلاً في الفلسفة...، والمنقِّب في محيطنا عن بقاياها...، وجدتُ فيه المثقفَ الذي نتطلعُ إليه، المتصالحَ مع نفسه، المتعالي على حظوظها ورغباتها، المتباعدَ عن الاصطفاف والانكفاف...

لقد حضرتُ له - قبلَ زمنٍ - محاضرةً في (أدبي الرياض) تحت عنوان (المسلمون والفكر)، فوجدتُ فيها إجابة عن السؤال الكبير الذي مات في فم هذا الجيل الجديد !!

في تلك المحاضرة تألقت شخصيةُ المبارك أكثرَ من شخصه، وانتشرت روحُهُ وغطّت أجسادَنا، وصرنا أمام شخوص في شخصية، وأرواح في جسد، وأوراق تتزاحم على ظهر ورقة..

كنتُ حريصاً على تقييد المعلومات المهمّة التي بنى عليها ورقته، لكنني اضطررتُ في منتصف المحاضرة إلى العدول عن ذلك، والتحرّف إلى تقييده (هو)، فهو الورقة الحقيقية التي يفتقر إليها دفترنا، وشخصيته تجلت لي كما لو كانت المعلومة التي ظلت غائبة عنا طويلاً.

لقد أسّس المبارك ورقته على لغة نقدية عميقة، وصلت إلى مستوى عالٍ من الضدية (أي: التموقف الرافض لكثير من السائد والنمطي)، لكنها لم تكن في أيّ من مفاصل الورقة لغة عداء أو استفزاز أو تحدٍ، وبهذا أفسِّر عجزَ الكثيرين عن تصنيفه؛ فهو ليس صدامياً مثل كثيرين منا، ولم يسعَ مثلما سعى بعضُنا إلى تصفية حسابات ملطخة بالشبهات، ولم يتحرف إلى الأخذ بالثأر الفكري على طريقة الجاهلية الأولى، وإنما سعى - كما الأنقياء - إلى التحويل، مؤمنا بأنّ التحويل الحقيقي كما المطر الربيعي، لا يكون إلا هادئاً وجميلاً.

لم تكن محاضرة الشيخ في (أدبي الرياض) وردية ولا جميلة، ولم يقل فيها ما نشتهي سماعَه، ولم يمارس على أذهاننا التزويرَ ولا التزويقَ ولا التلميعَ بحجج بائسة كالانتماء والولاء، وإنما نقدنا نقداً كبيراً كبيراً، وجلدنا جلداً قاسياً حتى دميت أطرافنا، ثم ضمّدنا باحتراف غريب غريب، ووضعنا أمام مرآة نظيفة، أبرزت كيف أنّ لنا وجوهاً كثيرة، وكيف أن أجسادنا مليئة بالندوب والتجاعيد...، ورغم مرورنا بهذا الفحص الصعب في مستشفاه، ورغم وقوفنا الطويل في طابور إجراءاته التفتيشية الصارمة، فإننا لم نجد في أجسادنا أثراً لمشارطه، ولا في قلوبنا غلاً عليه، وقد لا أكون مبالغا لو قلت: إننا عدنا من النادي نحبُّ من أنفسنا بقدر ما كرهنا منها، وننطوي عليها بمثل ما نتخفّف، وإن شئتم فقولوا حتى خطايانا ما عادت خطايانا، خرج الجميع على اختلاف توجهاتهم الفكرية يشعرون بأنّ لهم هماً واحداً، وأنّ لديهم قضيةً مشتركة، وأنّهم جميعاً جزء من المشكلة...

هذه اللغة الناقدة المتصالحة لم تأتِ من فراغ، وإنما أتت من وعي كبير يسكن هذا الرجل، جعله ينظر إلى نفسه على أنه فرد في جماعة، أو حرف في جملة مليئة بالأحرف والكلمات، وأنه مهما بلغ من العلم والمعرفة والوجاهة لن يملك (وهو فرد) أن يتصرّف في ملك الجماعة، ولا أن يعيد صياغة الحياة حتى وهو يملك مشروع الصياغة؛ لذلك بدا هادئاً يوم أن تجلى غيره مطلياً بالطيش والمغامرة...، لقد كان ينتقي كلماته بعناية، بحيث يعطي الآخرين حقوقهم ولا يصادرها، ويعترف لهم بالإنجاز إن أنجزوا، وبالريادة والاجتهاد إن حاولوا وأخطأوا، وفي كل خير (كما يقول).

«في كلّ خير»...

هذه الكلمة الجميلة انقرضت من أوراقنا ومقالاتنا، ومن منابرنا أيضاً، وصار الكلُّ يقسم من مكانه أنّ الخيرَ كلّه فيه، فصرنا ونحن أمة واحدة: إسلاميين، وعلمانيين، وليبراليين، وأصبحنا ونحن أبناء وطنٍ واحد: إرهابيين ملفعين بغبار تورا بورا، أو زواراً في الليل، نطرق أبواب السفارات !!

هكذا صرنا يوم أن تسلّل إلى الساحة من لم تعركه الحياة، ولم تحنّكه التجربة، وإلى مثل هذا آلت منابرنا ومحاريبنا يوم أن صار الإيمان يقاس بطول اللحية والثوب...، والثقافة تُكتسب بالسباحة الغبية ضدّ التيار...، لم يعد أكثرنا يشعر بالمسؤولية، ولا يستحي فيما يأخذ ويذر من الله والناس...

من جملة (الخير كلّه فيّ) إلى جملة (وفي كل خير) مسافة طويلة، توضح لنا الفرقَ الواسع بين العالم والمتعالم، والوطني والمدّعي...

لقد كان المبارك في تلك المحاضرة ينتقص ذاته قبل ذوات الآخرين، وحين جلسنا إليه لم نجد فيه ذلك الغرور الذي دثِّر صغارَ العقول والإرادة، فدفعهم إلى الخوض في القضايا كلها كما لو كانوا أنبياءنا المرسلين، ولم نجد لديه التقعرَ ولا التكلفَ الذَين يعرشان في محاضرات المنفيين خارج عوالم الواقع، ولم نسمع في صوته الاستهزاء ولا الأذى، الذَين يجريان - كما الريح - في مقالات الغوغائيين والمتشنّجين...، ولقد لامس في قلبي منطقة غائرة حين استمعتُ إلى ورقته كلِّها فلم أجد فيها مناً ولا أذى، ولا انكساراً ولا استكباراً، وزادني ذهولاً بتجنّبه النفي القاطع الذي يكثر في مقالاتنا - نحن المبتدئين -؛ إذ إنّ النفي عنده مرتبط بحالة خاصة، من مثل: «لا أعلم أن هناك كذا»، «لم يقدني بحثي إلى كذا»، ثم يذيّلها بقوله: «دلوني على شيء من هذا»، «صححوا لي هذه المعلومة»، «من لديه علم بهذا فليخبرنا»...، حتى حين انتقد الرأي النقدي التقليدي، الذي يرفع من شأن مطلع معلِّقة (امرئ القيس) قال «يا إخوتي لقد عجزت عن إدراك الجمال في هذا البيت» هو - إذن - يصف نفسه بالعجز من حيث يريد وصفَ النصّ بذلك، ومن هنا يمكن أنْ نستبين طرفاً من جلال هذا الشيخ وجماله، فهو لا يختص بلغته التصالحية الأحياءَ خوفاً من ردّ فعلهم، وإنما يصل بها إلى أبعد نقطة في تاريخنا الأدبي، إلى مئة سنة أو مئتين قبل الإسلام. ويكاد المبارك الرجل الوحيد الذي وجدت عنده احتراماً لماضينا يتساوى تماماً مع نقمته على ذلك الماضي، ورغم تعرضه في الورقة لفتاوى محلّ نظر قال بها (ابن تيمية) و(ابن القيّم)، ولآراء في السياسية والمجتمع قال بها (ابن خلدون)، فإنه لم يتخذ تموقفه الرافض منطلقاً لقدح أو لمز، وإنما كان يعذّر لمن يخطئ، ثمّ يختم حديثه عنه بالدعاء له والترحّم عليه، يفعل هذا حتى مع الشعراء، الذين نستكثر عليهم دعوة صغيرة بالرحمة والمغفرة...

حرصتُ - بعد تلك المحاضرة - على متابعة لقاءاته التلفزيونية رغم ندرتها؛ فوجدته امتدادا أوسع لشخصيته في النادي، ورأيت حبه وتواضعه يملآن المكان والكلام، وزادني إعجابا حرصه الشديد على الاستماع إلى الآخرين...، لقد كان يستمع إلى المذيع حتى يُخيّل إليّ أنه غير قادر على الإجابة عن سؤاله، فأتفاجأ به - بعد أن يفرغ - يتحدّر كما السيل، ينقض أركان السؤال ركناً ركناً، ليختم إجابته بقوله: «وفي قولك ما يدعو إلى مزيد بحث وتأمّل».

هو - إذن - راشد المبارك، الرجل الذي تُعقَد على قافيته آمال إصلاح الخطاب الثقافي لا على كائنات ورقية تعيش تحت الضوء، وإننا - جميعاً - بحاجة إلى رجل مثله، يعلّمنا كيف نصنع رؤانا، وكيف نديرها في ساحة مترعة بالرؤى...

حفظه الله، وزاده من فضله، وأعاننا على أنفسنا، وأهوائها...
 

المصدر: http://www.al-jazirah.com/culture/2011/01122011/fadaat26.htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك