الإنسان..وحدة الكائن والشخص
أن بعض الفلاسفة يعطون الأسبقية للكائن (مثل هيدجر)، أما آخرون، فيهتمون، قبل كل شيء، بالشخص (من هؤلاء رونوفيي من جهة، ومونيي ولاكروا، من جهة أخرى). سنعمل هنا على دراسة الإنسان، من حيث هو تأليف من الكائن والشخص، وعلى البحث في مستويات الانسجام الذي يحصل داخل هذا التأليف. وهكذا سنضع الخطط الرئيسية لفلسفة الواقع الإنساني.
لقد حاولنا، سابقا، أن نبرز الدور الرئيسي الذي يقوم به الكائن، فاستخلصنا أن الكائن هو الأساس الحتمي للشخص. أنه ما يصير شخصا، وما يخول الشخص من الاندفاع في الصيرورة. فظهور الكائن هو نقطة البداية لتكوين الشخصية الأولى. وبتقدم السن، تتحول هذه الشخصية إلى شخصيات أخرى، من مجموعها يتكون الشخص. والشخص، بدوره، يصبو إلى الإنسان، وقد يحقق أحيانا هذا النزوع.
أن النشاط الذي يقوم به المرء، في الإبداع الفني لا حسن مظهر لانضمام الكائن والشخص، في تأليف عميق، ينزع إلى تجاوز وضعه الحالي، بغية تحقيق الإنسان. ذلك أن مجموع الـ «أنا» يعمل في الخلق الفني: أن الذات تتركب من فعاليات بيولوجية وأخرى شعورية، تحملها في كينونتها، وكل هذه الفعاليات تتفتح وتنمو، داخل وسط مجتمعي، إزاء مواقف حيث تظهر الذات، باعتبارها هذه الشخصية أو تلك. ولهذا، يجند الأنا كل فعالياته، في استقلالها –المترابط، ويتحقق، بكامله، في الفعل الخالق. فالأثر الفني نموذج الروابط بين مختلف الفعاليات التي تصدر عن الذات، وبين المظهر المحسوس لنتيجة تداخل الكائن –و- الشخص. يعبر الفن، في أحوال خاصة، من فترة تاريخية، عن الأوضاع العامة للإنسانية. فأساس الشخص، ليس إلا الكائن، أي المعطي الأول الذي لا يتغير، أبدا، بالنسبة للنوع البشري. إذا كانت العناصر التي تدخل في التركيب الإنساني، هي هي، في كل الكائنات البشرية، وجب أن يكون الشخص نمو تلك العناصر الإنسانية وكثرتها، ونسبية امتزاج بعضها ببعض، تختلف من كائن لآخر، تبعا لمؤثرات الوسط الخارجي لكل فرد: هنا تفسير الاختلافات العديدة، بين أنواع السلوك والكفاءات الفنية. فبما أن النماذج والقيم تختلف من بيئة لأخرى، يتغير كذلك مفهوم الفن، وتقنياته، وبكيفية موازية.
في العالم الإسلامي، مثلا، حيث أن هناك أوامر تحرم النحت والتصوير الفني للكائن البشري، نجد أن هذه التعابير الفنية لا تلعب أي دور في المجتمع، إلى حد أن تقاليد الفرس والبيزنطيين، في هذا الميدان، قد غمرها النسيان (1). ولكنه، حسب القانون المعروف، عند أصحاب السيكولوجيا، بقانون التعويض، برز ونما، في الإسلام، فن جديد. عرف الشرق الإسلام، خصوصا في فارس، ضروبا جديدة من الفن (النميقة Miniature مثلا)، كما تكون، بالمغرب والأندلس، نوع آخر في الميدان المعماري في الصناعات (النقش بالخط الكوفي و « التخريم » على الجبس، ونقش الخشب والرخام، وتذهيب الجلد وصناعة الزليج والأواني..). إن هذه المظاهر الفنية أثرت على الذهنية الإسلامية، فجعلت المثقفين المسلمين يميلون إلى الفنون التي تعتمد على التخطيط الهندسي، وإلى الاعتناء بالأشكال والوصف، أكثر من الاعتناء التحليل النفساني وفنون الخيال.
في الفن انعكاس للشخص- الكل، في تشعبات تكوينه وبما أن الشخص يخضع لتناقضات باطنية تترابط، وتتطور، وتتوالد، وتتعقد، فإنه ينبثق من كل حالة من حالاته أثر فني يجانسها.
أن الأنا يتمركز في الكائن، ولذا كثيرا ما يفاجئ الكائن الشخص بنواحي من السلوك، ووجوه من الاختراع لم يكن يتوقعها الشخص، ولم يسبق له بها أية معرفة. فالفن يظهر كإبداع، أو ينبثق كقوة ثورية.
أن الفن (بصفته تعبيرا عن عصر من العصور، وعن جميع القوى المتضاربة التي يستمد منها المجتمع حيويته) يساهم في تكوين هذا العصر. والفنان يصارع دائما، الحتميات، فآثاره تعبير عن قساوة هذا العراك من أجل الحياة، لكنها تعبر كذلك عن آمالنا، وحماسنا، وتعشقنا للحياة. فالفعاليات الفنية، إذن، رابطة أساسية بين الكائنات الإنسانية، هذا بالإضافة إلى أنها جواب فعال للاستدعاء الذي توجهه الموضوعات لشعورنا، واتصال متين، بين عالم الفكر وعالم المحسوسات. أنها تعبير للوسط وللزمن، والقالب الضخم الذي تفرغ فيه مجموع معارف عصر ما، وعنه تنعكس درجة ثقافة هذا العصر. من هنا كان الفن أعمالا جماعية، فهو يضع طابعه على كل الفعاليات الفكرية، وكل أنواع نشاط الحياة، بصفة عامة (2). فالاستيتيك، حسب العرض الذي تقدم، تصير طريقة تربوية مهمة للمواقف التي نتخذها في مواجهتنا للحياة، وسلاحا للكفاح، ووسيلة لاجتياز الكائن نحو الشخص، وتعاليا من الشخص إلى الإنسان. الاستيتيك لا تنحصر في قضايا الذوق الشخصي، بل هي أكثر أتساعا من ذلك. إنها قضية ثقافية لبيئة ما، في عصر ما، تشترك فيها المعرفة (العملية والنظرية) مع الضروب الخاصة لتفهم الأشياء، وللإحساس، والتأثر. كان القصصي الفرنسي بالزاك يطلب من الفنان الرسام أن يصور له في اللوحة الزيتية، أشخاصا بآلامهم وأحزانهم وهمومهم، بحيث يضطر المشاهد لهذا الأثر الفني أن يتأمل في حياتهم. أليس لغز الفن في القوة السرية التي تخول الفنان من أن يعطي للمادة الجامدة، حياة ونبلا، ويجعل منها شاهدا أمينا، يقارع الزمن، معبرا عن جبروت إرادة الكائن البشري وعقله، وإحساسه؟.
أن التغيرات التي تعتري الفن، ترجع إلى كونه يسير مع الصيرورة التاريخية، في تشخصنها، ويتطور مع التاريخ على الشكل الذي يتبعه الشخص، في نزوعه إلى تحقيق الإنسان. فالفن يماشي سير حياة البيئات التي يتكون فيها، وتطور المادة التي بها يتجسم. من هنا كان أعظم انتصار يحرزه الكائن البشري على الأقنعة التي تتركب منها شخصياته، وعلى المادة التي تخلد بها آثاره، وعلى الحتميات التي يتحرر من قيودها.
إن الأنا نتيجة لأوضاع تاريخية وللشعور الشخصي العام. من ذلك تتركب الشخصيات الخاصة، كما أنه، من جهة أخرى، نتيجة التركيب الفردي المعقد للكائن، فذات الفنان تندمج برمتها، كذات كل، في الإنتاج الفني، وتتعالى بتحقيقها للشخص في ميدان طاقته الخلاقة. فالإبداع الفني يعكس عظمة طموح الشخص، وفضائله، وضعفه، وعجزه، وتضارباته، ومشاقاته، كما يعبر عن تناقضات، وصراع المصير الإنساني، بصفة عامة، وعن الأحوال الخاصة لبيئة الفنان وزمنه. فالخلق الفني سلوك يكون، تارة بخضوع، وأخرى بحماس، أو سخرية، أو انفعال وثورة. وأمام هذه الأنواع المختلفة للسلوك، يجسم الفن مواقف عصر ما، وسلوكا لانا أو لجماعة. ومن خلال هذا السلوك، تبرز صورة عن طائفة أو طبقة من المجتمع.
كثيرا ما يتجاهل العقل الانفعالات الحقيقية لأشخاص عصر ما، أو على الأقل، يحاول إخفاءها، بتأويلات انحيازية أة ناقصة للنصوص المكتوبة، وعلى العكس من ذلك، فالإبداع الفني يدعو إلى مشاركة وجدانية مباشرة (تقع، أحيانا في الشعور الغامض) فيوحي بأنواع من السلوك، ويحييها من جديد، رغم تعقيدها. هذا امتياز خاص بالفن، فمثلا: لو تساءلنا عن التمثال الشهير، «العبد» الذي نحته ميكيل – أنجو، أو عن الآخر المسمى ب «الليلة» لكان جوابنا: رجل في الأغلال، وامرأة نائمة. لكن هذا الجواب لا يفي بالحقيقة، بل يقف عند مظهر سطحي. هناك المعنى الذي يرمز إليه الخلق الفني، بغية أثارة تجاوب بين الذوات والموضوعات. ألا نفهم، مثلا، من العبد المكبل أنه رمز ايطاليا المعذبة، تحت نير الاستبداد، بل رمز الإنسانية جمعاء، في عصر ميكل – أنجو؟ نجد نفس الواقعية، في التعبير، عند الفنان غويا. ففي آثاره الفنية، نشعر بالأمة الاسبانية تزار غضبا وتتأجج ثائرة، ومن وراء اسبانيا نحس بغضب وثورة مجموع الإنسانية.
إن «جمهورية» أفلاطون، أو «آراء أهل المدينة الفاضلة» للفارابي، مثلا، تتعلقان بالعقل، على الأخص، نعني أنهما إنتاج صدر عن الجانب الذي هو الشخص من الأنا، لا عن الكائن. أما آثار الفنان، كفان غوغ الهولندي، فهي تعبير، في آن واحد، عن كينونة الفنان وشخصه : فإنتاج فان- غوغ، هو الرجل فان غوغ. أنستطيع أن نطبق هذا على إنتاج ك «حديث المنهج»، رغم أنه من عيون ما ألفته الإنسانية، فنقول أن ديكارت هو «حديث المنهج» و «حديث المنهج» هو ديكارت؟ أن هذا التأليف لم يكن ديكارت – الكل، فديكارت لم يكتب إلا ما أمكنه أن يكتبه، لا كل ما أراد أن يكتب. فالفرق كبير، بين ما كان يود أن يكتبه، وبين ما كتبه بالفعل (نجد معلومات حول هذا في مراسلاته، وكذلك في القسم الأول من «حديث المنهج»). وهذا ما يفسر الاحتياطات التي اتخذها، في بعض مؤلفاته، بعد أن شاهد محنة غليلي، ومما دعاه أيضا، إلى تأليف «أخلاقية مؤقتة»، وإلى تجنب بعض المسائل التي تتصل بالدين. يفسر هذا السلوك، عند ديكارت، بمراعاته للرقابة المجتمعية، وتغلب ناحية الشخص على ناحية الكينونة في الإنتاج الفكري. أما مع الفن، فغالبا ما تطغى اندفاعات الكينونة على تدخلات الشخص.
نلمس، من خلال العرض السابق، أن الخلق الفني يكون أبلغ نموذج حي للوحدة التأليفية « كائن- شخص». بما أن مفهوم «إنسان» قد صار، الآن، واضحا لدينا، يسهل تعريفه، ولو بكيفية تقريبية.
الإنسان هو الكائن الذي قد بلغ تشخصنه درجة من النمو تجعله، حينما يقوم بنشاط ما، يحقق نوايا ترمي إلى أبعد من الأشياء الفردية. أنه يضع معادلة بين أفعاله ونواياه، وملائمة نتيجة النشاط مع النية، تستلزم، من الذات، تفهما للأوضاع، وللوسائل التي يقتضيها الفعل الرامي إلى هدف معين. فالربط، بين الأجزاء والمجموع، عمل يصدر عن وعي يظهر فيه الكائن، ثم يتفتح وينمو مع الشخص، في سيره نحو الإنسان.
كل نشاط (في مستوى الإنسان) يتجه نحو قصد يرمي إليه الوعي، وبهذا يمتاز عن الأفعال الآلية والحيوية. وكل نية ترمي إلى تحقيق قيمة (إيجابية أو وسيلة). لكن، هناك دوافع وأسباب هي التي تحدد اختيار القيمة، والغاية المقصودة. وليست الدوافع والأسباب، دائما، خاضعة للتعقل أو قابلة للتفسير. أني، حينما التزم بعمل في المستقبل، لا أقتصر فقط على الناحية المتزامنة والمجتمعية من الأنا (التي هي وحدها القادرة على الخروج من الآونة الحالية والتوقان إلى المستقبل، أي أنها تقدر على أن تتصور ما لم يكن بعد، وأن تدخل الممكنات في حيز المفاهيم، بل اعتمد على المجموع المؤلف من شخصي وكينونتي، أي أنني أقوم وأفي بكل التزام بأنا ي- الكل.
أنني أرادة، وامتحان لبواعث ما أريد، وتقدير، وذكرى، وبيئة.. أنني كل هذا، من حيث أنا شخص، وفي نفس الوقت، أني فعاليات بيولوجية، وتنفيذ.. من حيث أنا كائن. وزيادة على الشخص والكائن، وابتداء من اتصالهما الوثيق، يمكنني أن أكون أنسانا، أي قيمة يستطيع أي يحققها كل أولئك الذين يصلون إلى نوع «الأقنعة»، نعني شخصيات كل واحد منا. وعلى العكس من ذلك، فالذين يختارون الحياة الغير الصحية وخداع النفس (La mauvaise foi) يجهلون، إلى الأبد، هذه القيمة، أنهم لن يجدوا، مطلقا، من تيار الصدق، وحرارته ما يكفيهم لاجتياز الشخصيات التي يلعبون دورها (في المجتمع وللمجتمع) قصد الوصول إلى الإنسان الذي يجب أن يحققوه. وبين هاته الدرجتين المتطرفتين (درجة المقنعين، ودرجة الذين نزعوا الأقنعة) توجد درجات وسطى ثانوية.
فقولنا أن مصدر الالتزام هو الشخص، معناه أن المواقف والمشاكل التي تتولد عن تاريخنا هي التي تملي كل التزام. فلا معنى للالتزام إلا إذا راعينا فيه، أولا، الواقع المجتمعي الذي يجعل الشخص هو ما هو، إننا نتحدث عن الالتزام، أما حقيقته، فالتاريخ مصدرها. فبتشخصن كينونتنا نندمج في التاريخ، قبل أن نتحمله، بل أن الفعل الذي تقوم به الكينونة، للاندماج في التاريخ، ينقلها من الكائن –في حالة- الظهور إلى كائن يزداد، شيئا فشيئا، التزامه واندماجه في حركة العالم. فالكائن في التاريخ، قد صار الكائن –مع- الآخرين، أنه شخصية. والشخص هو الكائن الذي له تاريخ. في هذا المستوى، تصير الـ «مليكة» والكينونة مرتبطتين. أما في مستوى الإنسان، فهناك تجاوز لهذه الرابطة، الإنسان «كينونة» و «ملكية» في تأليف كيفي، لا تكتمل أبدا حقيقته بكيفية مطلقة.
أن الميت هو الكائن الذي يصير هذا التأليف غير ممكن، بالنسبة إليه. أفكر الآن في ميت كنت أعرفه. فالمسألة هي أن نفهم كيف يصوغ لي أن أفكر في اللاموجود. ففكرة الموت تتكون وتتدخل في حيز التفكير، بصفتها تأليفا يضم حالة وجود واقعي إلى إثبات غياب تام، نهائي (غياب أصبح نعتا لما لم يبق). أن الموت يتجلى لي كواقع، في حين أن سنده قد فقد الحياة، فالموت هو القطب السلبي للتشخصن. كلما فكرت في الميت رجعت بي الذكرى إليه، أي وضعت بيني وبينه أداة وصل («مع» أو «و»)، أي دخلت معه في علاقة. ولكني موجود، و «هو» لم يعد! لقد كان (أو كما يقال، أصبح في خبر كان).
أما إذا كان من أفكر فيه حيا، ولكنه متغيب فحسب، فتفكيري فيه يكون عملية من نوع آخر، إنها تفرض علي جهدا لا نفي المكان، أعني أن أنكر الكثافة المادية التي تبعدني عن هذا الكائن الغائب الذي أفكر فيه. وفي الحد الأقصى، لهذه العملية، يمكن أن تبلغ الكثافة، التي تحجزني عن المفكر فيه، من الضخامة ما يجعلها ككثافة الموت. الميت هو الكائن الذي لم يعد في أي إطار مكاني، ليس «هنا» ولا «في حيز آخر»، ليس «كائنا» في أي مكان، ومع ذلك، مازال أتكلم عنه كما هو لو.. وأتذكره، وأخيله وأتصوره.
وفي الواقع، ماذا أتصور؟ أتصور شخصية، أي مجموعة من الروابط، ولا أتصور كائنا، أتصور ذاتا، كانت لي معها علاقات، كانت تسكن معي، في المكان الفلاني، أو سافرت بصحبتي.. فأنا، حينما أتذكر هذه الشخصية، إنما أبعث، من منطقة النسيان، روابط جمعتني وإياها في مكان وزمن، أي تواجدات مجتمعية. أن ما يبقى من الشخصية، فيما بعد الحياة، هي جوانب التدخلات المجتمعية (لآثار الفنية والصناعية، والمنجزات المختلفة، وما نترك بعدنا من ذكريات حية، ما أنجبنا من بنين، وما نترك من حرة في قلوب ذوينا وأصدقائنا، والفراغ الذي نخلفه داخل الجماعات التي كنا نشارك فيها..). فالصورة الفوتوغرافية للفقيد تعكس شخصيته. أن السقط، بعد إجهاض مثلا، لا يترك أثرا، لأنه ينعدم، قبل أن يتصوره المجتمع، «ويشخصه»، أي قبل أن يتبناه و «يشخصنه». أنه مليص، وكفى: ليست له ورقة هوية، ولا صورة فوتوغرافية، وبالتالي لا يترك سمات (ولو ضئيلة) لذاكرتنا ولتصوراتنا. ليس المليص كائنا بشريا، إنما هو نتيجة مؤلمة لعملية تحملتها امرأة، أنه «شيء ما» بقي في مستوى الأشياء.
ولنضرب مثلا آخر:
أني، حينما أفكر في ممثل كيوسف وهبي، لا أفكر في أسم معين فقط، ولكني أتصور مواهب فنان (من خلال نظرتي إلى الفن المسرحي) وأتصور، كذلك، مختلف الظروف والمقومات المجتمعية التي بدونها يستحيل ليوسف وهبي أن يتصل بأفقي الخاص، بوجه من الوجوه.
فلنفرض أن يوسف وهبي ليس بفنان مشهور، هذا لا يمنعني من أن أعرفه، كما أعرف كثيرا من الناس، ليسوا بفنانين. لكن، هل يتأتى، في حالة هذا الفرض، أن أفكر في يوسف وهبي داخل مجموعة من المفاهيم والذكريات الفنية؟ وهل يجوز لاسمه أن يستدعي ويثير هذا التفكير؟
لقد ضربت المثال بيوسف وهبي، لا لأنه شخص «من» الأشخاص، بل لأنه «ذات» الشخص الذي يثير أسمه، في نفسي (كلما تذكرته) التجديد في المسرح العربي المعاصر، وأتصور من جديد رواية «أبناء الشوارع»، و «راسبوتين»، وبعض الأفلام.. ومعنى هذا، أنني حينما أفكر في يوسف وهبي، أفكر في بعض الفترات من ماضي، في اتصاله بظروف جمعتني، بكيفية ما، بيوسف وهبي – الفنان: قد أصبح وهبي وفنه جزءا من أجزاء أفقي الثقافي. فتصوراتي الحالية تلح في أن تتوفر هذه المجموعة من العوامل لكي تكون تصورا ليوسف، أني أتذكر من يوسف وهبي «شخصه»، أي الناحية المجتمعية من هذا الرجل، لا كينونته الخام.
لا يفهم الفكر الأشياء إلا ضمن علاقات بعضها ببعض، وحتى فيما هو من أعماقنا، كالتفكير، والذكريات، والعواطف. لابد من روابط: فالتفكير لا يكون إلا تفكيرا في. والذكرى لا تكون إلا تذكرا لـ...، والتعاطف لا يفهم إلا بين أثنين، على الأقل (ذاتيين، أو ذات وموضوع)، والحب يربط محبا بمحبوب... فنحن حينما نفكر، نفكر «مع» أو «ضد» (وفي غالب الأحوال «مع» و «ضد»، في آن واحد).
ف «المحاورات» الأفلاطونية تفكير أفلاطون مع سقراط، وضد السفسطائيين.
وهكذا، نشاهد أن كل تفكير هو تفكير لعصر، وفي هذا العصر، ومدين له. ولو عارض المفكر كل نظريات معاصريه. فسيبنوزا ومالبرانش، وأن كانا فيلسوفين أصيلين، يعدان، في نفس الوقت، من المنتسبين للمدرسة الكارتيزيائية، في اتجاهات مختلفة. فمثلا، يقتبس سبينوزا من الدين فكرة خلود الحياة ويصوغها في قالب عقلي مقتبس من ديكارت. أما مالبرانش، فإنه، وأن قبل الكوجيطو (من بين ما أخذ من ديكارت) يهتم بالمعاني التي يفكر فيها، أكثر من الطريقة المتبعة في التفكير، لو أن الدائرة، التي أشاهدها، لم تكن أي شيء، فإني حينما أفكر فيها، أكون لا أفكر في شيء. أن الذين يكتفون بعرض المبادئ والاتجاه لمذهب فلسفي، أو لمدرسة أدبية أو فنية، لا يعرفونها إلا تعريفا ناقصا. فالتحديد الكفيل بأن يعرفنا، معرفة تامة بذلك المذهب أو تلك المدرسة، هو كل تحديد يبرز ما يحيط بهما من مذاهب ومدارس مضادة وموازية، أي أن كل تعريف، لنشاط ثقافي يجب أن يحتوي على عنصرين أساسين: ضد ومع.
إن الكائن يلج هذا العالم، مجهولا، لا أسم له، ولا ورقة هوية. ولكنه، بمجرد ما يندمج في الصيرورة وفي اللحظة التي يبدأ فيها تشخصنه، ينقلب «ذاك الشيء» الذي دخل العالم، إلى كائن تاريخي. والموت هو الحد الأخير للتشخصن، وتصدعه، وتفكك عناصر الشخصية. وما السهو، وما الغفلة، إلا درجة في هذا التصدع، كما أن الأمراض، المسماة ب «أمراض الشخصية»، درجات أخرى. ف «إنسان» مفهوم يفرض، مسبقا، تأليفا من الكائن والشخص، فلا يوجد إنسان، ولا يمكن أن يوجد أبدا، خارج هذا التأليف. وعلى العكس من ذلك، فالعنصران الأساسيان لهذا التأليف (الكائن والشخص) يمكن وجود أحدهما مستقبلا عن الآخر: هناك الكائن بلا شخصية، ولا شعور، ولا نزوع (مثال ذلك: المليص والجنين)، وهناك الشخص بلا كائن، يحيا في آثاره فحسب، أي في الذكريات التي نحتفظ بها، كالصور الفوتوغرافية الباقية رغم فناء صاحبها (مثلا، حينما أقول أنني أحب أبن زيدون، فمعناه أنني أحب آثار الشاعر الذي حمل هذا الاسم، أحب
« أبن زيدون – الشاعر» مع جهلي المطلق بكينونته). بعد الموت، أي الانفصام البالغ حده الأخير، ينعدم الإنسان، كليا، وجزئيا، بشخصه. نقول أن الميت يضمحل جزئيا بشخصه، لأنه يبقى، في ذاكرة الآخرين، في الآثار الفنية، في الأعمال التي قام بها، وفيما ترك من ممتلكات. فالانفصام لا يحصل بين الكائن والشخص فحسب، بل بين «الملك» و «الكينونة» كذلك، لان الكائن البشري تأليف من كينونة وملك.
فالتشخصن، إذن، هو الكائن البشري – الكل، فالحاجة الأساسي هو أن يكون له حقل لنشاطه: المجتمع. والبيئة المجتمعية لا تقدم للكائن المجالات والشروط اللازمة للتشخصن فحسب، بل إنها توجهه، كذلك، التوجيه الرامي إلى تحقيق الإنسان. حقا، إن البيئة لا تعمل فينا، بعصا سحرية، أو عن طريق نداء نخبة من معاصرينا (كالأولياء والأبطال والمتصوفة، كما أدعاه برجسون في كتابه «منبعا الأخلاق والدين»)، ولكنها تتخذ طرقا متغيرة إلى اللانهاية، تدفعنا بها دفعا إلى النشاط، وإلى متابعة الجهود. فبقدر ما يشارك أحدنا، عمليا، في سير المجتمع، بقدر ما يصنعه الوسط ويكيفه. فهناك حركتان تكون المجتمع، منا ولنا، فكلما حصل تخلف، بين خضوعنا وتحملنا الحياة، من جهة وبين نشاطنا من جهة أخرى، وقف التشخصن عن سيره الطبيعي، كما أن كل اصطدام يقع بين قابليتنا لتأثير المجتمع، وبين قدرتنا على التكيف معه، يحدث مشاقة في شخصيتنا ويفتت الأنا، وهذه أكبر مأساة تعرفها الشخصية، وإنها لمأساة، أيضا، أن يعيش شعب من الشعوب محنة انفصام، بين مستواه الثقافي الحاضر، وبين الفترة الحالية التي وصل إليها تاريخ المدنية الإنسانية. فلكل عصر بدائيون، وهم جميع الأفراد الذين لا ينسجمون (أو لم يبقوا قابلين لانسجام) مع وسطهم. أنها بدائية نسبية، تتغير من بيئة لأخرى بيد أن لكل بيئة بدائييها. أنهم دائما عرضة لشعور خاص.
(1) أن هذه النظرية، المعادية للنحث والتصوير الفني بلغت حد الافراط في القرن السابع الهجري، (13م) عقب حملة شعواء، قام بها النووي، وبعض أتباعه، ولم تخف وطأتها إلا أوائل القرن الرابع عشر (القرن العشرون م.).
(2) أنظر كتابنا أحرية أم تحرر؟، الفصل المتعلق بعلم الجمال (الاستيتيك).