التّحديث والتّجديد في الفكر العربيّ الإسلاميّ المُعاصر

د. سعيد بنسعيد العلوي

"التحديث"، "التجديد"، "الفكر العربي الإسلامي المعاصر": مفاهيم ثلاثة تستلزم جملة تدقيقاتٍ أو توضيحاتٍ نرى أنّها ضروريّة للتّوطئة لعرضنا هذا.

 1ـ"التّحديث"، من جهة الوصف العام له وليس من جهة التعريف الدقيق لموضوعه وأهدافه، مفهومٌ يتّصل بالوجود الاجتماعيّ وما يرتبط به من أنماط الوجود السياسيّ والقانونيّ والاقتصاديّ والفكريّ، مثلما يتعلّق بما يحصل من الوعي، في مختلف تلك الأنماط من الوجود، في صلتها بالأحداث المستجدّة والظاهـرة في مستويـات السياسـة والاقتصـاد والاجتماع، والأقلّ ظهوراً ـ في المعتاد، وفي الأغلب الأعمّ ـ في مستوى الفكر. يعني هذا القولَ: إنّ التّحديث يعني وجوب مراجعة كافة أنماط الوجود المختلفة مراجعةً شاملةً، من حيث إنّها تستهدف استصلاح وإنقاذ ما يُمكن إنقاذه منها، كما يعني ذلك القول إنّ المراجعة تكون، حيناً آخر، في معنى إزاحة تلك الأنماط من الوجود واستبدالها بأخرى مكانها، حتّى يتّخذ التّحديث معناه الكامل: فلا تحديث إلّا باعتبار الموجود، متجاوزاً وحائلاً دون التطور، وبالتالي عجزاً عن إدراك مغزى التّحول والتبدّل الملازمين لكلّ عمليّة تغيّرٍ اجتماعيٍّ وتحوّلٍ اقتصاديٍّ وتطوّرٍ سياسيٍّ ونقلةٍ نوعيّةٍ في مستوى الفكر.

يُمكن القول، إجمالاً، إنّ التحديث عمليّة تتعلّق بالمجتمع من جهةٍ أولى، وتتّصل بالتاريخ من جهةٍ ثانية، وترجع إلى الإيديولوجيا من جهةٍ ثالثةٍ. فالتحديث إذن سيرورة ثلاثيّة الحدود والأبعاد. التّحديث من وجهة نظر مؤرّخ الفكر السياسيّ والاجتماعيّ، هو مجموع الكيفيّات التي يسلكها الفكر والمجتمع في النّظر إلى التحوّل الاجتماعيّ الحادث وفي التغيّر السياسيّ، الضمنيّ أو الصريح، المواكب لذلك التحوّل أو الناتج عنه. والتّحديث، في تعبيرٍ آخر، هو مجموع الحلول المقترحة في الردّ على الإشكالات الحاصلة؛ فهو إذن حصيلة الإجابات النوعيّة، الدقيقة أو المضطربة، على الأسئلة الحرجة التي تُمثّل في صورة تحدٍّ يبتغي العصف بالبناء الاجتماعيّ القائم، ويتوخّى الإطاحة بالأنسجة الفكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة القائمة، أي تلك التي بها قوام ذلك البناء الاجتماعيّ، ومنها يكون وجوده.

 2ـ أما "التجديد"، على النّحو الذي نقصده في حديثنا هذا، فهو اصطلاحٌ محدّدٌ له مرجعيّته المعرفيّة، التي يستمدّ منها: إنّه التّجديد في المعنى، الذي يتحدّث عنه الدين الإسلاميّ والحديث النبويّ على وجه التّدقيق. ففي الإسلام يكون التّجديد أمراً لازماً لوجود الجماعة الإسلاميّة وضرورياً لاتصالها واستمرارها على حال الجماعة والاجتماع، ولذلك فهو مطلوب شرعاً، وعند المسلم إيمانٌ كاملٌ بأنّ الله هو ضامن ذلك التّجديد بموجب الحديث النبويّ الصّحيح: "إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلّ مائة سنة من يُجدّد لها أمر دينها". وعند فقهاء الإسلام أنّ الطريق إلى ذلك التّجديد يكون في ممارسة الاجتهاد على الحقيقة، والاجتهاد هو الأصل الرابع من أصول أدلة الأحكام الذي يأتي بعد الكتاب والسنّة والإجماع. يقول "الجوينيّ" في هذا الصدد: "نصوص الكتاب والسنة محصورة مقصورة، ومواقع الإجماع معدودة مأثورة. ونحن نعلم قطعاً أنّ الوقائع التي يتوقّع وقوعها لا نهاية لها". وما دام الأمر كذلك، فإنّ الفقيه العالم مطالب بالبحث عن الأجوبة الشرعيّة المناسبة لما يستجدّ من الحوادث في الوجود الإسلاميّ. ومتى نظرنا إلى عمل الفقيه المجتهد، فنحن نجده، من زاوية نظر البحث الإبستمولوجيّ، إعمالاً للعقل الفقهيّ قصد الحصول على الحكم الشرعيّ في "النازلة"، التي تحلّ بالجماعة الإسلاميّة في حياتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة. وإعمال العقل الفقهي متى توسّل بالأدوات التي يُتيحها أصول الفقه، يكون بذلاً للجهد، واستفراغاً للطاقة، وتكلفاً للمشقة، في توخّي الحكم الشرعيّ، واستخلاصه، حيث لا يكون ذلك الحكم صريحاً وواضحاً. إنّه نقلٌ له من عالم التّضمين والإمكان إلى مجال التّصريح والوجود العينيّ.

 واضح، في ما نأمل، أنّ التّجديد في الدين ينتمي إلى مجالٍ معرفيٍّ وحقلٍ دلاليٍّ مخالفٍ للمجال المعرفيّ وللحقل الدلاليّ الذي رأينا، أعلاه، أنّ التّحديث ينتمي إليه. هل يعني هذا أنّ التحديث والاجتهاد يتعارضان؟ هل في الإمكان تحصيل التّحديث في الاقتصاد والمجتمع والسياسة عن طريق التّجديد في الدين؟ تلك قضية أخرى وسؤالٌ آخر نُرجئ القول فيهما الآن.

 3ـ لماذا الحديث عن "الفكر العربي الإسلاميّ المُعاصر" وليس أحدهما فقط؟ أليس في الحديث عن الفكر العربي المُعاصر تضمينٌ للفكر الإسلامي المُعاصر واقتضاء ضروريٌّ له؟ فالمفكرون المُعاصرون العرب يصدرون عن القضايا والمشكلات التي يتناولها الفكر الإسلامي المعاصر، والحضارة الإسلامية مجالٌ طبيعيٌّ يتنفّس فيه المفكّرون العرب من غير أهل ملّة الإسلام (العرب الأقباط في مصر، والمسيحيّون العرب في الشام والعراق وفلسطين ولبنان). ثمّ هل يعني إلحاحنا على هذا التركيب المزجيّ (الفكر العربي الإسلاميّ) أنّ في الحديث عن الفكر الإسلاميّ المعاصر إقصاءً حتميّاً لجوانب من الفكر العربي المُعاصر؟

لا يخفى أنّ الفكر الإسلاميّ المُعاصر نتاج نظريٌّ عامٌّ يشمل المفكّرين العرب وغير العرب أيضاً. ولا يخفى، بالتالي، أنّه ليس للوقوف عند الفكر العربيّ المُعاصر (عصر النّهضة، فكر النّهضة، اليقظة العربية… وما شابه من النعوت والأوصاف) أن يصرفنا عن استحضار جملةٍ من المفكّرين المسلمين المُعاصرين في كلٍّ من تركيا وباكستان والهند وإيران، ممّن كتبوا بغير اللغة العربيّة، وكانت القضايا والإشكالات التي تطرحها كتاباتهم ترجع إلى شؤون المسلمين في البلاد المذكورة، وخاصّةً ما اتّصل بأحوال المسلمين في الهند، قبل ظهور دولة الباكستان، بُعيد منتصف الأربعينات. نعم، لقد تمّ نقل العديد من كتابات أولئك المسلمين إلى اللغة العربية، بل وكان لبعضها صدى وأثر قويّان في فكر المفكّرين العرب المسلمين، ولكن سمة الإسلام خارج بلاد العرب ظلّت ملازمةً لتلك الكتابات.

ولا يغرب عن البال كذلك أنّ جانباً من الإنتاج العربيّ المعاصر يتقلّص فيه حضور الإسلام بحسبانه شريعةً وسلوكاً، وكذلك هو الشّأن في كتابات المفكّرين المسيحيين من رجال اليقظة العربية، أمثال فرح أنطون، وشبلي الشميّل، وأديب إسحق، وسلامة موسى وغيرهم. صحيح أنّ الإسلام يحضر في تلك الكتابات بحسبانه مجمل الحضارة التي يرى هؤلاء المفكّرون أنّهم ينتمون إليها ويتنفّسون في مناخها. بيد أنّ مسألة "التّجديد الدينيّ" تغيب في كتابات أولئك المفكّرين كليّةً. وإنّ هذا الغياب هو ما حدا ببعض الدارسين إلى أن يروا في المفكّرين المسيحيين العرب روّاداً للفكر الليبراليّ في الفكر العربي المُعاصر، مثلما أنّهم يرون في كتابات العرب المسلمين المعاصر تعبيراً عن التيّار السلفيّ، وبالتالي فإنّ الفارق بين الفكرين الليبراليّ والسلفيّ يكون في حضور الفكر الدينيّ عند هؤلاء في غيابه عند أولئك.

ننفذ الآن إلى ما نرى أنّه لبّ المشكل (حضور مفهوميّ التّجديد والتّحديث في الفكر العربيّ الإسلاميّ المُعاصر)، فنقول: إذا كان مفهوم التّجديد (في الحمولة الدينيّة الإصلاحيّة التي رأينا أنّها له) وكان مفهوم التّحديث (في الحمولة الاجتماعيّة والاقتصادية والسياسيّة والفكريّة التي تعين مرجعيّته وتحكمها) ـ إذا كان الأمر على هذا النحو، أفلا يمكن الحديث عن التقاءٍ ممكنٍ بين برنامج "التّجديد" وبرنامج "التّحديث"، أم إنّ ذلك متعذّر؟ وبعبارةٍ أخرى، ما الصّلة التي تقوم بين مجال عمل كلٍّ من المفهومين المذكورين: أهي صلة خصومة وتناحر(بموجب الاختلاف والتنافر في الرؤية بين الحقلين الدلالين اللذين ينتسبان إليها)، أم إنّها صلة وئامٍ وانسجامٍ (يُعلّلها الالتقاء عند إرادة مجاوزة التأخّر والتخلّف عن ركب الإنسانيّة المتقدّمة)؟

الحقّ أنّنا إذ نتساءل على هذا النّحو، فنحن نكون بصدد اقتراح كيفيّةٍ مغايرةٍ في النّظر في الفكر العربيّ الإسلاميّ المُعاصر، ونحن نأمل توخّي سبيل الاختلاف عن الكيفيّة التي درج عليها عددٌ من دارسي ذلك الفكر. ومن أجل مزيد بيانٍ، نقول إنّ هنالك، بصفةٍ عامّةٍ، كيفيّتين اثنتين سار الدارسون على هدى إحداهما. الكيفيّة الأولى هي المنحى التأريخيّ، الذي يقوم على افتراضٍ ضمنيٍّ لحركيّةٍ باطنيّةٍ من التطوّر. والكيفيّة الثانية هي الأخذ (بعيداً عن التفسير التاريخيّ والمنحى التطوريّ) بمبدإ النمذجة (typologie ) أو التّصنيف في تيّارات ومدارس يجتهد الباحث في استخلاص السّمات والملامح العامة، التي تُميّز كلّ تيّارٍ أو مدرسةٍ عن غيره من المذاهب، دون أن يكون للتاريخ تأثيرٌ أو دخلٌ في ذلك التّصنيف. وحيث يكون الهمّ الأوّل للكيفيّة الأولى من النّظر هو الوقوع على جملة الأسباب التاريخيّة والشّروط الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، التي جعلت ظهور فكرٍ أو نظريّةٍ ما أمراً مُمكناً، نجد أنّ الهدف الأسمى عند دعاة الكيفيّة الثانية يغدو هو استخلاص الثوابت والعوامل المشتركة، التي توجد بين القائلين بفكرةٍ معيّنةٍ أو مذهبٍ معلومٍ، وإن كان التباعد التاريخيّ الهائل يقوم بينهم، وإن كانت الشّروط الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة وما إليها بين أشخاصٍ ينتمون للمذهب الواحد أو الفكرة الواحدة ـ وإن كانت تلك الشّروط متباينة، لا بل متناقضة. وفي أحاديثنا اليوم اعتدنا أن نطلق على الكيفيّة الأولى من النظر نعت المنهج الدياكروني أو المسيرة الدياكرونيّة، في حين أنّنا نصف المنهج الذي تأخذ به الكيفيّة الثانية من النّظر بالمنهج السانكرونيّ.

الحق أنّ للمقاربة السانكرونيّة مزايا جليّة وليست المنهجيّة العلميّة المُعاصرة، سوى إبراز وتدليل على أهمّية تلك المقاربة وبرهنة على ما تكتسيه من صفة الإقناع والملاءمة (pertinence ) معاً. غير أنّ التوسّل بالمنهج السانكرونيّ لا يكون مفيداً وناجعاً في تسليط الأضواء الكاشفة والضروريّة للفهم في كلّ أنواع الإنتاج الفكريّ؛ وأحسب أنّ الدارس، في حال الأخذ بذلك المنهج مفرداً، يظلّ في حالٍ من القصور عن إدراك بنية الفكر العربيّ الإسلاميّ المُعاصر. والحال أنّ إقصاء العوامل السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والإيديولوجيّة يجعل الفهم مشوّشاً مضطرباً والرؤية الواضحة متعذّرة.

لنحاول الآن النّظر في الفكر العربي الإسلاميّ المُعاصر في مجمله، في ضوء هذه المنهجيّة المقترحة، آخذين بعين الاعتبار قضية "التّحديث" من جانبٍ أوّلٍ، ومسألة "التّجديد" من جانبٍ ثانٍ. لنُحاول ذلك، ونحن نأخذ في القراءة بمصفوفتين (Matrices ) أو بشبكتين. نجدنا، إذ نحاول ذلك، أمام قسمةٍ ثلاثيّةٍ، وأمام أطوارٍ ثلاثةٍ حاسمةٍ من مراحل تطوّر الفكر العربيّ الإسلاميّ المُعاصر. وقد يَجْمُلُ بنا تقديم مزيد بيانٍ بصدد الشبكتين، أو المصفوفتين المذكورتين، فنضيف أنّنا قد توسّلنا في القراءة بجملةٍ من المؤشّرات (Paramètres) في تلك القراءة هي جملة القضايا، التي يبدو لنا، أنّها كانت الأكثر فعلاً في مسيرة الفكر العربيّ الإسلاميّ المُعاصر مع اختلافٍ في كيفيّة تنظيمها وتباين في مستوى أهمّيتها، بالنسبة للمرجعيّة التي يحيل إليها مفهوم التّحديث  من جهةٍ، ومفهوم التّجديد من جهةٍ أخرى. تلك القضايا هي: الإصلاح، العدل، الديمقراطيّة، المرأة، المجتمع، الوطن، الترقّي، التقدّم، المدنيّة أو التمدّن، الحريّة.

1ـ الطور الأول من الأطوار الثلاثة الحاسمة في سيرورة الفكر العربي الإسلاميّ المُعاصر هو ذلك الذي تواضع الباحثون على نعته بعصر النّهضة، أو اليقظة العربيّة أو الصّدمة الناتجة عن إعادة اكتشاف الذات، من خلال اكتشاف "الآخر"، أو إعادة اكتشافه بالأحرى. إنّه مرحلة وعي الانحطاط أو التأخّر عن ركب الإنسانيّة المتقدّمة، وهو الذي نعته مفكّرو النّهضة أو "دعاة الإصلاح" بالتأخر المزدوج: تأخّر المسلمين عموماً، والعرب خصوصاً، عمّا كانوا عليه في العصر الذهبيّ الإسلاميّ. وتأخّر عمّا بلغته الإنسانيّة المتقدّمة في الغرب الأوروبيّ. هذه المرحلة أو الطور من النّظر امتدّ، عمليّاً، من أربعينات القرن التاسع عشر إلى السنوات القليلة التي سبقت الحرب العالميّة الثانية (منتصف الثلاثينات من القرن العشرين). في هذا الطور كانت المفاهيم الأكثر بروزاً هي مفاهيم العدل/الظلم، الشورى (الحرية)/الاستبداد، التقدّم/ التأخّر، المدنيّة/ الانحطاط. وكان الجدل الفكريّ بين دعاة الإصلاح أو "النّهضة" ـ على اختلاف مشاربهم ـ جدلاً حول أسباب "تأخّر المسلمين وتقدّم غيرهم"، وجدلاً حول جدوى أو عدم جدوى أن نَقْتَبِسَ من أوروبا ما هو كفيلٌ بإفادتنا في مجاوزة واقع التأخّر والانحطاط، وجدلاً حول المرأة والصورة التي يلزم أن تكون عليها في الواقع العربيّ الإسلاميّ، وجدلاً حول موافقة الإسلام أو عدم  موافقته للمدنيّة والتقدّم، وجدلاً في معنى الاجتهاد الحقّ في الإسلام، ودعوة عند "زعماء الإصلاح" إلى العودة، بالإحياء والدرس، إلى نصوص عبد الرحمن ابن خلدون، والشاطبي، والماورديّ، وابن مسكويه، ودعاة العقل جميعهم.

2ـ الطور الثاني من أطوار الفكر العربي الإسلاميّ المُعاصر يمتدّ من مطلع الثلاثينات (بل ونهاية العشرينات في بعض الأحيان) إلى السنوات الأخيرة من العقد السادس من القرن العشرين ـ وهذا الطور أغنى الأطوار الثلاثة من حيث وفرة التيّارات الفكريّة والاختلافات المذهبيّة، واحتدام الصّراع بينها. إنّه طورٌ سمته الغزارة في الإنتاج واتّساع الإنتاج النظريّ، ليشمل مختلف أقطار الوطن العربي على وجه التقريب، بعد أن ظلّ، في الطور الأوّل، إنتاجاً أغلب وطنه مصر والشام إلّا ما كان من أصواتٍ قليلةٍ، متفرّقةٍ، في منطقة المغرب العربيّ. كما أنّ هذا الطور يواكب مرحلةً تاريخيّةً حاسمةً في التاريخ المُعاصر للوطن العربيّ: إذا كان الاستعمار الغربي (بأشكاله المختلفة من احتلالٍ مباشرٍ وحمايةٍ وانتدابٍ) قد امتدّ ليشمل مختلف ربوع العالم العربيّ، في النّصف الأوّل من القرن التاسع عشر والعقدين الأوّلين من القرن العشرين، فإنّ هذا الطور قد شهد بداية التّحرّر الوطنيّ واسترجاع الاستقلال. وحركة استعادة الحريّة المغتصبة، في الوطن العربي، ملأت العقود الثلاثة التي أعقبت نهاية العقد الثاني من القرن العشرين. ومن الطبيعي أنّ هذا الزخم في الأحداث، من جهةٍ أولى، وظهور أشكالٍ جديدةٍ من تمثّل الفكر الغربيّ، بمختلف تيّاراته السياسيّة والفلسفيّة والإيديولوجيّة، من جهةٍ ثانيةٍ، وما عرفته الإنسانيّة من رجّةٍ في صفوفها، بسبب الحرب العالمية الثانية، وما سبقها، وما مهّد لها، ثمّ ما أعقبها من نتائج؛ وكذلك تنامي المدّ الشيوعيّ في أوروبا الوسطى من جهةٍ ثالثةٍ، كلّ هذا كان له فعله في انبثاق أشكالٍ من الوعي الإيديولوجيّ وظهور تيّاراتٍ فكريّةٍ ـ سياسيّةٍ كان عنها حدوث تغيير في الخارطة الثقافيّة في الوطن العربيّ. وقد يجوز لنا، في معرض الإجمال والإشارات الكليّة هذه، أن نقول إنّ أهمّ تلك التيّارات في الوطن العربيّ (في هذا الطور الثاني الذي ينحصر بين الثلاثينات والستينات) هي في زعمنا  تيّارات أربعة أساسيّة نوجز الإشارة إليها على النّحو التالي:

أـ تيّارٌ وطنيٌّ ـ فكريٌّ، هو صدى وبلورة طبيعيّة لحركات التحرّر الوطني في العالم العربي، إنّه تيّارٌ له تجليّات فكريّة متنوّعة، في هذه البلاد أو تلك من الوطن العربي. بيد أنّ ثوابته ومكوّناته الأساسيّة تظلّ واحدةً؛ فهي محكومة بالمنطق نفسه، وخاضعة لأثر العناصر الواحدة المكوّنة.

ب ـ تيّارٌ قوميٌّ عربيٌّ أو عروبيٌّ: يضطرب بين التوجّه الإسلاميّ الواضح والمنحى العلمانيّ والتوجّه الاشتراكيّ الطوباويّ؛ كما أنّ في الإمكان أن نُميّز في داخله بين ما نقول عنه إنّه الموقف القوميّ العربيّ التقليديّ، وما نرى فيه تيّاراً عروبيّاً جديداً أو متطلّعاً إلى التّجديد ومجاوزة الطرح التقليديّ القائل بالوحدة العربية الاندماجيّة وإدانة "الدولة القطريّة" والأخذ بنظريّة "الإقليم ـ القاعدة"، إلخ.

ج ـ  تيّارٌ ليبراليٌّ خجولٌ متردّدٌ ومضطربٌ أمام خصومٍ من السّلفيّة حيناً، ومن النزعات العروبيّة (بصوره المختلفة) حيناً ثانياً، ومن تيّار الاشتراكيّة الطوباويّة حيناً ثالثاً، ومن الآخذين بوجهة نظر المدرسة السوفياتيّة حيناً رابعاً. تيّارٌ ضاع صوته في محاولاتٍ عنيدةٍ، فرديّةٍ في الأغلب الأعمّ، في الوقوف في وجه مختلف هذه التيّارات وامتزج صوته، في بعض المرّات كذلك، بصوت الدعوة الوطنية التحرريّة.

دـ تيّارٌ رابعٌ هو ما يصحّ منّا أن ننعته بالمنحى السلفيّ في دعوته إلى الانفتاح على الغرب الأوروبيّ، وإلى الأخذ بما كان عنده صالحاً مفيداً في تنظيم الحياة السياسيّة؛ ذاك ما يُمثّله عندنا القائلون بأهمّية المسألة الدستوريّة في الحياة الإسلاميّة ـ العربيّة المُعاصرة، والداعون إلى سلوك طريق الحياة البرلمانيّة.

 3 ـ أمّا الطور الثالث من أطوار الفكر العربيّ الإسلاميّ المُعاصر، فإنّني أجد له، أسوة بجمهرة دارسي الفكر العربيّ المُعاصر، بدايةً رمزيّةً في التاريخ الذي أعقب هزيمة يونيو 1967م. ذلك بأنّ تلك الهزيمة لم تكن إضاعةً لمناطق شاسعةٍ من الوطن العربيّ بقدر ما كانت إدانةً لاختياراتٍ سياسيّةٍ وتوجّهاتٍ إيديولوجيّةٍ وسمت الوجود السياسيّ والفكريّ في منطقةٍ من أشدّ مناطق العالم مدعاةً إلى الصّراع الإيديولوجيّ، وإلى التّسابق، من أجل بسط الهيمنة على مقدّرات عظيمةٍ من ثروات الإنسان العربيّ والفرد المسلم في العالم. وحيث إنّ لتاريخ الفكر منطقه الذاتيّ الخاصّ به، والذي يقضي باتخاذ بعض النصوص قيمة "رمزية" هائلة ويجعلها مؤشّراً على إحداث نقلات أو الإيذان بإحداث تحوّلاتٍ في مستوى الفكر والإدراك، حيث كان الأمر كذلك، فإنّ الفكر العربي الإسلاميّ ـ المُعاصر خاصّةً ـ لا يشذّ عن هذه القاعدة، ولا يبتعد عن هذا المنطق.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=5362

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك