منهج الإسقاط في الدراسات القرآنية عند المستشرقين
منهج الإسقاط
في الدراسات القرآنية
عند المستشرقين
دراسة تحليلية منهجية
إعداد :
د. محمد عامر عبد الحميد مظاهري
مقدمــة
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من أمة خير الأنام محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم السلام، وبعد:
فقد عدّ بعض المهتمّين بالدراسات الاستشراقية عملية الإسقاط منهجاً معتمداً لدى بعض الدارسين الغربيّين للعلوم الإسلامية( )، والحقيقة أنّ هذا المنهج منهجٌ نفسيّ لا يمكن التحرّر منه إلاّ بالتقيّد الجازم بالمنهج العلمي السليم والأمانة العلمية الحقة، ولهذا السبب فهو منهجٌ مذمومٌ من جهة، ولا يُحبّذ الواقع فيه - بقصد أو بغير قصد - الإعلان عن استعماله من جهةٍ أخرى، كما أنّه ليس منسوباً في بدايته إلى أحد بعَينه، ولعلّه يرجع عند جميع الأمم إلى عهود متقدّمة جداً لارتباطه بضعف الإرادة الموجود عند كثير من الأفراد في جميع المجتمعات والأمم، ولعلّ المثل العربي القديم القائل: ((رَمَتْني بِدائها وانسَلّتْ)) أقدم تعبيرٍ عن هذا المنهج في كلام المرء في التراث العربي( )، كما أنّ الأدب الإنجليزي يحتوي على مثَل يشير إلى هذا الأسلوب، وهو قولهم: ((Those who live in glass houses should not throw stones))، ويعني: ((ساكنو البيوت الزجاجية يجب أن لا يرشقوا أحداً بالحجارة))( ).
وهكذا فإنّ من المتوقع ألا يخلو تراث أي أمة من الأمثال التي تشير إلى هذا الأسلوب في الكلام والتعامل، كما يتوقع أيضاً أن تكون جميع هذه الأمثال تتضمّن مؤشرات الاستنكار وعدم الإعجاب بهذا الأسلوب، وأنّ جميع الأمم تعدّ مثل هذه التصرفات تصرفات لا أخلاقية غير مرغوب فيها كما هو واضحٌ من فحوى المثلَين المذكورَين في التراثَين العربي والإنجليزي( ).
غير أن المعنيين بدراسة الكتابات الاستشراقية من المسلمين قلّما أرجعوا ما وقع فيه المستشرقون من الأخطاء عند تصدّيهم لدراسة القرآن الكريم إلى هذا المنهج الاستشراقي، وربّما يرجع سبب ذلك إلى عدم تخصص هؤلاء المسلمين في مجال دراسة حركة الاستشراق، الأمر الذي لم يمكّنهم من التعرّف على مناهج المستشرقين الكثيرة والمتعدّدة في دراسة الإسلام وعلومه.
الدراسات السابقة:
ولهذا السبب فإنّ الباحث لم يجد دراسة حول استخدام المستشرقين للمنهج الإسقاطي في دراستهم للقرآن الكريم وعلومه، وكلّ ما وجده في هذا الصدد هو نقد بعض الباحثين المسلمين للأخطاء الاستشراقية في ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأوربية ويمكن من خلالها ملاحظة تأثر المترجم بالمفاهيم الموروثة لديه سواءً ما كان منها متعلقاً بجوانب عقدية أم ما كان متعلقاً بجوانب فكرية( )، بينما نجد أكثر من دراسة تاريخية عُنيت بالمنهج الإسقاطي منهجًا لمعالجة الأحداث التاريخية للمسلمين( ).
دوافع اختيار الموضوع:
بما أن المناهج المتبعة في أي كتابة علمية هي الأساس الذي به يحكم لها أو عليها، فإن دراسة المناهج الاستشراقية أمر لا بدّ منه في مجال نقد الاستشراق، ومن ناحية أخرى فإنّ منهج الإسقاط منهج هامٌّ وخطير( )، وقد استعمله كثيرٌ من المشتغلين بالدراسات القرآنية من المستشرقين، ولم يلقَ – بعدُ – من الدارسين المسلمين اهتماماً يُذكَر؛ فإنّه من الضروري الخوض فيه وكشف ملابساته، ولهذه الأسباب وقع اختيار الباحث لهذه النقطة المنهجية من المحور الثاني لمحاور ندوة القرآن الكريم في الدراسات الاستشراقية التي ينظمها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، كما أن خبرة الباحث في دراسة منهج الإسقاط من خلال أطروحة الدكتوراه ستعينه – بعد الله – على إحراز تقدم في هذا المجال.
منهج الدراسة:
ومنهج الباحث في هذه الدراسة هو الجمع بين عدد من المناهج العلمية، فهو هنا يستقصي عملية الإسقاط في دراسات المستشرقين عن القرآن الكريم سواءً ما كان منها متعلقاً بجوانب تاريخية أم ما كان متعلقاً بترجمة الكلمات أو التعليق على الأسلوب، على أن الباحث يخضع جميع هذه الجوانب للتحليل والنقد وفق معايير المنهج العلمي في البحث.
وقد تناول الباحث ما كتبه المستشرقون عن القرآن الكريم وعلومه مستخدمين في ذلك المنهج الإسقاطي على النحو التالي:
إسقاط المفاهيم الاستشراقية على التعريف بالقرآن الكريم.
إسقاط المفاهيم الاستشراقية على تاريخ القرآن الكريم.
إسقاط المفاهيم الاستشراقية على العقائد القرآنية.
إسقاط المفاهيم الاستشراقية على الشرائع القرآنية.
وقبل التفصيل في هذه الجوانب المذكورة يستحسن الوقوف على منهج الإسقاط من الناحية التأصيلية؛ لأنّ ذلك أدعى لفهم طبيعة الدراسة ونتائجها المستهدفة.
توطـئـــة
تعريف بعملية الإسقاط PROJECTION:
من خلال كتب علم النفس يُعرّف الإسقاط بتعريفات منها:
• طبقاً لعلم النفس الحديث هو: ((تفسير الأوضاع والمواقف والأحداث بتسليط خبراتنا ومشاعرنا عليها، والنظر إليها من خلال عملية انعكاسٍ لما يدور في داخل نفوسنا))( ).
• وطبقاً لمفهوم علماء التحليل النفسي( ) هو: ((حيلة نفسية، يلجأ إليها الشخص كوسيلة للدفاع عن نفسه ضدّ مشاعر غير سارّة في داخله، مثل الشعور بالذنب أو الشعور بالنقص، فيعمد - على غير وعي منه - إلى أن ينسب للآخرين أفكاراً ومشاعر وأفعالاً حياله، ثمّ يقوم من خلالها بتبرير نفسه أمام ناظريه))( ).
ومن خلال التعريفين السابقين لعملية الإسقاط يمكن ملاحظة الأمور التالية:
• أنّ الدافع إلى الإسقاط هو الشعور بالنقص والدونية لدى القائم به.
• أنّ الغـاية من عملية الإسقاط هي الدفـاع عن عيـوبٍ أو نقـصٍ في القائم بها.
• أنّ إجراء عملية الإسقاط يتمّ لا شعورياً.
• أنّ الهدف الذي يتمّ توقيع الإسقاط عليه - غالباً - يكون منَزّهاً عن ما يوجَّه إليه من خلال عملية الإسقاط.
فبالنسبة للدافع إلى عملية الإسقاط، فالمقصود به المثيرات النفسية التي تثير الرغبة في قرارة القائم بالإسقاط وتدفعه لممارسة هذا السلوك تجاه هدفٍ معيّنٍ، وهذه المثيرات يجب أن تكون - في نظر القائم بالإسقاط - أموراً لا يحبّها ولا يحبّ أن تكون فيه على الرغم من علمه بوجودها فيه - وعلى أقلّ تقدير - لا يحبّ أن يكتشف الآخرون وجودها فيه، إذن فليس من الضروري أن تكون هذه المثيرات أموراً سلبيةً دائماً، بل المهمّ أن تكون سلبيةً في نظر القائم بالإسقاط.
إذن فالإحساس بالنقص أو الدونية أو الذنب لا يعني تحقق ذلك في المرء دائماً، بل إنّ هذا الإحساس قد يكون وليد ظروف أخرى محيطة بالمرء، ولولا هذا الاحتمال لكان هذا الإحساس نفسه يعدّ أمراً إيجابياً في القائم بالإسقاط لتمتّعه بإحساس يدلّه على سيئاته، ولأصبح من النفس اللوّامة التي رفع الله تعالى من شأنها( )، ولكنّ القائم بالإسقاط ليس كذلك.
وبالنسبة للغاية من عملية الإسقاط، فالمقصود بها النتيجة التي ينشد إحرازها القائم بالإسقاط، وهذه النتيجة واحدةٌ في جميع الحالات وهي: صرف نظر الآخرين عن ذلك العيب الذي يعاني منه في نفسه ويكره أن يعلم به الآخرون أو يذكرونه أمامه، فيسلك القائم بالإسقاط من أجل صرف النظر طريقةً نفسيّةً هي المبادرة بالهجوم بقصد الدفاع متمثلاً المقولة القائلة: ((الهجوم خير وسيلة للدفاع))( ).
أمّا قولهم بأنّ الإسقاط عمليةٌ لاشعوريةٌ، فيقصدون به أنّ القائم بالإسقاط - وقد أحسّ بما فيه من نقصٍ أو ذنبٍ وأراد أن يصرف الأنظار عن وقوعها فيما علم في نفسه - يقدم على رمي غيره بما وجد في نفسه عن غير قصد الرمي وإلصاق التهمة، بل إنّ ذلك يتمّ على نحوٍ غير شعوري دون سابق تخطيط أو علمٍ أثناء القيام بالإسقاط.
ولكنّ الإطلاق بأنّ جميع عمليات الإسقاط هي عمليات لاشعورية أمرٌ لا يعتمده الباحث ولا يقرّره، فهو يرى أنّ هناك عمليات إسقاطٍ مقصودة، فقد أرشدنا القرآن الحكيم إلى أسلوبٍ إسقاطيٍ وذَمّه وتوعّد القائمَ به بالعقاب، وذلك في قوله تعالى: ﮋ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﮊ [النساء: ١١٢]، ولولا أنّ القائم به يقصد ويتعمّد الفعل لما توعّده اللهُ الرحيمُ بالعقاب وشنّع بعمله؛ لأنّ الشارع الحكيم تجاوز عن الأُمّة حالة الخطأ والنسيان( )، والمُقدِم على عملٍ مّا على نحو غير شعوري يُعدّ مخطئاً، فـ (اللاشعور) مصطلحٌ نفسيٌ يرادف كلمة (على غير وَعْي) - كما صُرّح به في التعريف الأخير -، ويقابل (التعمّد) أو (عن قصد)( ).
وأخيراً فبالنسبة لتنـزّه ضحية الإسقاط - غالباً - ممّا يوجَّه إليه، فذلك لأنه لو لم يكن الأمر كذلك لما كانت العملية إسقاطاً من أصلها، ولكانت وصفاً أو تشهيراً... إلخ( )، فالإسقاط يُشترط فيه براءة المُسقط عليه من الصفات أو السلوكيات التي أُسقطت عليه براءةً كُلّيةً أو جزئية - على أقل تقدير -، وقد استخدم الباحث كلمة (غالباً) لكي يستثني بعض حالات الإسقاط التي لا يكون فيها الهدف المُسقط عليه بريئاً ممّا تمّ إسقاطه عليه - حقيقةً - ولكنّه في حسب عِلم القائم بالإسقاط يكون بريئاً، فتكون العملية إسقاطاً بالنظر إلى ملابساتها، ولكنّ البحث يكشف الحقيقة فيما بعد.
منهج الإسقاط في الدراسات القرآنية
عند المستشرقين
عند دراسة القرآن الكريم وعلومه؛ مارس المستشرقون عملية الإسقاط متأثرين بخلفياتهم العقدية وموروثاتهم الفكرية ومندفعين بدافع نفسي يهدف إلى رَمي القرآن الكريم بما ثبت في حق كتبهم المقدّسة ودياناتهم المحرّفة، محاولين بذلك الانتقاص من قدر هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي - لا محالة – يشهد له في كل عصر شهودٌ جُددٌ بالإعجاز والعظمة.
وقد حاول الباحث تصنيف هذه العمليات الإسقاطية على القرآن الكريم وعلومه من قِبل أساتذة الغرب بالنظر إليها من زاويتَين:
أولاً: بالنظر إلى موضوعاتها.
ثانياً: بالنظر إلى منطلقاتها المذهبية.
فبالنظر إلى هذه العمليات الإسقاطية من حيث موضوعاتها، يمكن تصنيفها إلى الموضوعات التالية:
1- إسقاط المفاهيم الاستشراقية على التعريف بالقرآن الكريم.
2- إسقاط المفاهيم الاستشراقية على تاريخ القرآن الكريم.
3- إسقاط المفاهيم الاستشراقية على العقائد القرآنية.
4- إسقاط المفاهيم الاستشراقية على الشرائع القرآنية.
وأمّا بالنظر إلى هذه العمليات الإسقاطية من حيث منطلقاتها المذهبية، فيمكن تصنيفها إلى المنطلقات التالية:
1- المنطلقات الدينية: وتشمل المفاهيم اليهودية والمفاهيم النصرانية.
2- المنطلقات الفكرية: وتشمل المفاهيم المادية والمفاهيم الصوفية.
وسوف يتناول الباحث هذه العمليات الإسقاطية بالتفصيل بالنظر إلى موضوعاتها، على أن يقوم بتقسيم كل موضوع إلى قسمَين من حيث المنطلقات المذهبية لأصحاب الآراء الاستشراقية في الموضوع، وذلك حسب توفّر الآراء وتعدّدها.
وجديرٌ بالذكر أنّ عمليات الإسقاط في الجانب العقدي كان لها نصيب الأسد ممّا تمّ جمعه من المواد لإعداد هذه الدراسة، ولا عجب في ذلك، لأنّ العقيدة هي الموروث الأيدلوجي الراسخ الذي لا يمكن الانفلات منه لأي باحث أو دارس عند الإقدام على إنجاز عمل علمي، كما أنّ العقيدة الإسلامية كانت ولا تزال تمثّل مركز الهدف للذين يرمون الإسلام وأهله بنبال حيَلهم وسهام مكرهم، فلا عجب أن ينالها الأساتذة الغربيون بما لديهم من حِيَلٍ إسقاطيةٍ محاولين بذلك تشويهها أو تحريفها، وأنَّى لهم أن يحرزوا النجاح الباهر أو الانتصار الساحق في هذا المضمار وقد وعد الحق تبارك وتعالى بإتمام نوره ولو كره الكافرون، وحاولوا إطفاء سراجه الوهّاج.
إسقاط المفاهيم الاستشراقية على
التعريف بالقرآن الكريم
أولاً: إسقاط المفاهيم الدينية:
لقد عرّف بعض المستشرقين بالقرآن الكريم في ثنايا كتاباتهم التي صدّروا بها ترجماتهم لمعاني القرآن الكريم أو دراساتهم القرآنية الأخرى، وأتت بعض هذه التعريفات منطلقة من مؤثرات دينية يهودية أو نصرانية وكأن المستشرق يعرّف بكتاب من كتب اليهود أو النصارى.
ومن هذه التعريفات ما يلي:-
• صدّر المستشرق الشهير جولدزيهر Goldziher( ) كتابه (مذاهب التفسير الإسلامي) بتعريف للقرآن الكريم والذي قال فيه: ((فلا يوجد كتاب تشريعي - اعترفت به طائفة دينية اعترافاً عقدياً على أنه نصّ منـزل أو موحى به - يقدِّم نصُّه في أقدم عصور تداوله مثلَ هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات كما نجد في القرآن))( ).
• وفي كتابه (العقيدة والشريعة في الإسلام) يعرّف جولدزيهر القرآن بقولـه: ((القـرآن هو الأسـاس الأول للـدين الإسـلامي، وﻫو كتابه المقدّس ودستوره الموحى به، وهو في مجموعه مزيجٌ من الطوابع المختلفة اختلافـاً جوهرياً، والتي طَبَعت كُلاً من العصرَين الأولين من عهد طفولة الإسلام))( ).
• ويقول برنارد لويس Bernard Lewis( ) أثناء تعريفه بالقرآن: ((ويرى معظم المؤرخين أنه سجل أصيل لتعاليم محمد ونشاطاته))( ).
• وصف يوسف ريفلين J. Rivlin( ) القرآن الكريم بأنه ((مليء بالإيقاع الشعري الموسيقي لأقدم الأعمال الأدبية))( ).
مناقشة التعريفات السابقة:
قد يكون هؤلاء المستشرقين حاولوا – عمداً – تشويه صورة القرآن الكريم للقارئ الغربي المعني بكتاباتهم، ولكن هذا الهدف – إن صحّ – لا يستبعد مسألة استخدام هؤلاء المستشرقين لمنهج الإسقاط عند قيامهم بتقديم تعريف أو أكثر للقرآن الكريم.
فيلاحظ على التعريفَين اللذين ساقهما جولدزيهر أنّ المستشرق لم يستطع الانفلات من نفوذ المؤثرات العقدية التي نشأ وتربى عليها، فهو منحدر من أسرة يهودية مرموقة، ومتخصص في التاريخ اليهودي( )، ولذلك كان على دراية تامة بما احتوته الكتب المقدّسة اليهودية (العهد القديم: التوراة والأنبياء والمكتوبات) (والتلمود: مشنا وجمارا) من فروق بين النُسَخ وتناقضات في الأخبار عن واقعة واحدة واضطراب في الألفاظ والأساليب اللغوية( ).
وهكذا كانت هذه المعارف الدينية عند هذا المستشرق تمثل الدافع إلى إسقاط مفاهيمه عن الكتب الدينية اليهودية على تعريفه بالقرآن الكريم على الرغم من عدم اتصاف القرآن بما ادّعاه تجاهه.
وبالنسبة لتعريف برنارد لويس للقرآن الكريم؛ فهو أيضاً ينبئ عن استحواذ المعارف الدينية لدى المستشرق على جَرّة قَلَمه، فهو ذاك النصراني المتخصص في الدراسات السامية والمنشغل بالدراسات اليهودية من الناحية التاريخية( )، ولذلك كان من الطبيعي أن تنعكس كل هذه المعلومات الدينية التاريخية على كتابة الرجل عن الإسلام وتعريفه بالقرآن حتى يذهب بالقول إلى أنّ القرآن (سجل لنشاطات محمد) صلى الله عليه وسلم لأنّ الغالب على كتب العهد القديم هو هذا الاهتمام - الذي أسقطه المستشرق على محتوى القرآن - والمتمثل في تسجيل أنشطة رجال الدين من الأنبياء وغيرهم( )، بينما في حقيقة الأمر لا تمثل الآيات المعنية بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ جزءاً يسيراً من القرآن الكريم.
وأما وصف ريفلين القرآن الكريم بأنه مليء بالإيقاع الشعري الموسيقي لأقدم الأعمال الأدبية، ففي ذلك إسقاط صريح للمفاهيم الدينية التي ورثها ريفلين اليهودي عن الموسيقى الشعرية التي تتصف بها أشعار (التناخ)( )، والذي حاول ريفلين أن يحذو حذوه من حيث اللغة والأسلوب البلاغي في ترجمته لمعاني القرآن إلى العبرية، الأمر الذي أدى إلى عزوف العامة من اليهود اليوم عن الإفادة من ترجمته على الرغم من تلقّي القبول في الأوساط اليهودية المثقفة ثقافةً قديمة( )، بينما لا نجد في القرآن الكريم – في حقيقة الأمر – ذلك الإيقاع الشعري الموسيقي في آياته، فعلى الرغم من وجود تناسق سماعي في نهايات الآيات القرآنية في السورة الواحدة؛ فليست هذه الآيات موزونة على أوزان شعرية، وليست نهايات الآيات في السورة الواحدة ذات قافية أو روي واحد باطراد( ).
ثانياً: إسقاط المفاهيم الفكرية:
• يقول المستشرق مكسيم رودنسون M. Rodinson ( ) وهو يصف القرآن الكريم: ((إنّ ما يراه ويسمعه الرسول هو نتيجة وصوله إلى إحدى درجات التصوف التي لم تصل إلى الاتحاد بالله))( ).
مناقشة هذا التعريف:
إنّه بالنظر إلى خلفية هذا المستشرق الفكرية يتبيّن أنه رجل مادي
مُلحِد، وقد قال عن نفسه: ((كيف يستطيع مُلحد مثلي أن يدرس مؤسس الدين الإسلامي؟.. ولا سيما أنّ الملحدين لا يؤمنون بهذه الأفكار الدينية التي يقول عنها أصحابها إنها تأتي إليهم من العالم الآخر))( )، وقد اهتم حسب تخصصه الأكاديمي بالدراسات اللغوية والتاريخ والآثار، وبحكم إقامته في بيروت ودمشق مدة لا بأس بها بدأ يهتم بالدراسات الإسلامية، ولكن من غير تعمّق، وبحكم اعتناقه للفكر المادي الإلحادي؛ لم ينظر إلى الأديان نظرة عناية كبيرة، ولكنّه في الوقت نفسه لم يُكِنّ في نفسه عداوة للإسلام باعتباره ديناً منافساً للنصرانية( ).
وهكذا أسقط رودنسون مفاهيمه المادية على الوحي الإلهي، فرآه نتيجةً لوصول الإنسان إلى حالة من الرياضة الفكرية يشعر معها أنّ إفرازاته الأدبية الرفيعة ما هي إلاّ من إملاء قُوى خارقة من خارج نفسه، وهذه الحالة النفسية هي التي يعتقد رودنسون أنّ المتصوفة يبلُغونها من خلال ممارساتهم للرياضة الفكرية.
وقد أخطأ المستشرق في إسقاطه نظرته المادية هذه على ظاهرة الوحي الإلهي، وإذ ليس الباحث هنا لمناقشة هذه الظاهرة وأعراضها وبيان الفوارق الكبيرة بينها وبين ما يتوصّل إليه المتصوفة بممارسة رياضتهم الفكرية الروحية( )؛ يكتفي بالقول بأنّه ليس ثمة إنتاج بشري مهما تميّز وارتقى، ما يعجز عن مثله الآخرون، ولكن القرآن الكريم تحدى العباقرة قبل أكثر من ألف وأربعمئة عام، ولا يزال يتحدّى البشرية بأن يأتوا بمثل هذا القرآن ما هو معجز من نواحٍ لا تحصى.
إسقاط المفاهيم الاستشراقية
على تاريخ القرآن الكريم
لم يُكتب للتوراة ولا الإنجيل أن يلقيا الحرص والاهتمام المبكّرَين من أجل حفظ نصوصهما، فعلى حدّ الروايات اليهودية( ) قد حفظ موسى عليه السلام نسخة التوراة في تابوت وعهد إلى أبناء هارون عليه السلام بحفظها وتعليمها بني إسرائيل، فتساهل الأحبار من آل هارون في مسألة الرجوع إلى الأصول التوراتية المحفوظة في التابوت في فتاواهم الشرعية؛ ممّا عرّض أحكامها للضياع والتبديل، وبعد وفاة موسى عليه السلام بجيلَين أو ثلاث؛ نَهب الفلسطينيون الإسرائيليين واستولوا على تابوت التوراة( )، ومن ذلك الوقت لم تظهر التوراة حتى عودة أجزاء منها على يد الملك طالوت الذي أرسله الله لمقاتلة الفلسطينيين الوثنيين عام 1020ق.م( ).
وأما الإنجيل فإنّ النصارى يزعمون أنّه لم يكن سوى تعاليم ووصايا ألقاها المسيح عليه السلام شفوياً على حواريّيه , ولم يكن على نحو كتاب تشريعي، ويضيفون بأن الأناجيل الموجودة اليوم ما هي إلاّ من تأليفات الحواريين بعد وفاة المسيح عليه السلام( )، وهذه المزاعم النصرانية تناقضها بعض الروايات في ثنايا الأناجيل الموجودة اليوم، والتي نجد فيها ذكراً للإنجيل مع ذكر المسيح عليه السلام دليلاً على وجوده باسمه في حياته( )، وأكثر من ذلك ما جاء في القرآن الكريم من ذكر الإنجيل كتاباً أنزله الله تعالى على عبده ورسوله المسيح عيسى عليه السلام( ).
ولكنّ هذا الإنجيل قد أضاعه النصارى بعد رفع( ) عيسى عليه السلام،
ولم يبقَ منه بعد ذلك إلاّ ما حفظه الحواريون في كتبهم التي اشتهرت بعد ذلك بالأناجيل.
وهذه المعلومات لم تكن غائبة عن مدارك الأساتذة الغربيين الذين عُنوا بالدراسات القرآنية؛ لأنهم في معظم الحالات متخصّصون في العلوم الدينية لدياناتهم أو مطّلعون عليها وعلى الدراسات التاريخية التي أجريت على كتبهم المقدسة، ولهذا السبب، فقد طبعت هذه المعلوماتُ التاريخية عن كتبهم المقدّسة مداركَهم الفكرية وملكاتهم التأليفية إلى درجةٍ أصبحوا معها أداةً لإسقاط هذه المعارف والمفاهيم – بما احتوت عليه من إعفاء الزمان وعبث الرجال - على دراساتهم عن تاريخ القرآن الكريم، فاتهموه بالنقائص نفسها التي اعترت تاريخ كتبهم المقدّسة من قِبَل علماء الدين وورثة الأنبياء.
وفيما يلي من الأمثلة ومناقشتها تتضح هذه الصورة جليةً:
• قال المستشرق بوهل Buhl( ) في ثنايا مقاله عن القرآن الكريم في دائرة المعارف الإسلامية: ((إنّ عدداً من الباحثين المعاصرين سعَوا بطرقٍ مختلفة إلى إثبات وجود فقرات زائفة في القرآن، حيث يؤكّد دو ساسي
( المصادر الخارجية، 1832، ص/535) أنّ ارتياب عمر تجاه وفاة محمد يصبح أمراً مستحيلاً إذا كانت الآية التي ذكرها أبو بكر في تلك المناسبة غير زائفة؛ ولذا فلا بدّ من أن تكون من اختلاق أبي بكر....))( ).
• وقال بعد ذلك بقليل: ((والمشهورة جداً تسمّى آية الرجم، أي إمكان معاقبة المرأة المحصنة الفاجرة بالرمي بالحجارة، وهي تلائم من حيث الموضع سورة النور في حالة اعتبارها آيةً من القرآن، ولكننا نجد أنها تناقض في مفادها الآية الثانية من السورة المذكورة، كما لا يمكن أن تُدرج تحت الآيات المنسوخة، وبما أنّ الروايات تقول إنّ عمر هو الذي عاقب على هذه الجريمة بهذه الطريقة القاسية، فيبدو أنها آية متأخرة تمّ صياغتها لجعل العقوبة الشديدة جداً عقوبةً مشروعةً))( ).
مناقشة القولَين السابقَين:
في الفقرتين السابقتين نجد بحثَين عقليّين يحاولان إثبات بشرية القرآن الكريم عن غير جدوى، فبالنسبة للآية التي زعم المستشرق بوهل Buhl أنها من اختلاق أبي بكر رضي الله عنه فيقصد بها قوله تعالى: ﮋ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮊ [آل عمران: ١٤٤]، وقد بيّن عمر رضي الله عنه نفسه السبب الذي دفع به إلى اتخاذ موقفه من إنكار وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن كان الذي حملني على ذلك إلاّ أنّي كنتُ أقرأ هذه الآية ﮋ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﮊ [البقرة: ١٤٣]، فوالله إن كنتُ لأظنُّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى في أُمته حتى يشهد بآخر أعمالها))( ).
إذن لم يكن السبب هو عدم عِلم عُمر بآية ﮋ ﭳ ﭴ ﮊ [آل عمران: ١٤٤]، ولكنّ تأويلَه لآية شهادة الرسول على أمته جعله منكراً لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى جاء مَن هو أعلم منه - حتى في قرارة عمر - وذكّره بآيةٍ صريحة تذكُر موت الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه بين أصحابه الذين نزل فيهم القرآن، فما كان من عمر - حينئذٍ - إلاّ التسليم للواقع المرير( ).
وأمّا ما جاء في الرواية بلفظ ((فوالله لكأنّ الناس لم يعلموا أنّ هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ)) فلا يمكن لأيّ امرئ له إلمامٌ بسيطٌ باللغة العربية أن لا يفهم المراد من كلمة (كأنّ) التي هي للتشبيه( )، وليست للتحقيق، ولو كان الأمر كما زعم المستشرق لكان أحرى بأبي هريرة رضي الله عنه - راوي الحديث - أن يقول: ((فوالله إنّ الناس لم يعلموا...))، وهذا الأمر وأمثاله يكشف عن جهل كثير من المستشرقين بمبادئ اللغة العربية.
وفي الفقرة الثانية عند حديث المستشرق عن آية الرجم يشكّك في الآية الكريمة( ) ويقدّم ما يراه أدلةً عقليةً على وضع هذه الآية في القرآن بمقارنتها بآية الجلد في سورة النور( )، وبإنكار إمكانية إدراجها تحت الآيات المنسوخة من غير تقديم أيّ دليلٍ لعدم الإمكانية هذه، ويقرّر أخيراً أنّ الآية لا بدّ أن تكون مختلقةً من قِبل عمر رضي الله عنه؛ لأنّ عمر هو أول من عُرف عنه أنّه نفّذ حُكم الرجم( ).
هكذا يقع المستشرق في تجاوزين يتمثلان في الآتي:
• زعم التناقض بين آية الرجم وآية الجلد، وليس بينهما أيّ تعارض، إذ الأولى مختصّة بزانٍ محصَن( ) والثانية مختصّة بزانٍ بِكر( )، ويبدو أنّ المستشرق زعم التعارض بالنظر إلى ظاهر آية الجلد الذي لا يفيد الاختصاص بغير المحصَنين، ولكنّ التعارض الظاهري يزول بالنظر إلى تفسير الآية المجمع على اختصاصها بغير المحصَنين( ).
• زعم أنّ عمر رضي الله عنه أول من طبّق حُكم الرجم، ضارباً عرض الحائط بكلّ الروايات الصحيحة التي تروي تطبيق حُكم الرجم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم( ).
والذي يعنينا في هذا المقام هو ملاحظة تأثر المستشرق بخلفياته الدينية تأثراً بالغاً إلى درجةٍ أصبح ينظر إلى القرآن الكريم من خلال المنظار الذي تعوّد أن ينظر منه إلى الكتاب المقدّس The Bible وأصبح ينظر إلى شخصيتَي أبي بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما بما اعتاد في سِيَر أسلافه من أمثال القدّيس بولس Saint Paul وقسطنطين الأول Constantine I (274-337م)( ) اللذَين بلغت بهما الجُرأة في الدين أن بدّلا وحرّفا في النصرانية التي جاء بها عيسى عليه السلام بادّعاء الوحي والإلهام.
فاختلاق الوحي ونسبة التشريعات المتأخرة إلى رُسُل الله أو إلى الله تعالى نفسه أمورٌ عُرفَ بها بنو إسرائيل من اليهود والنصارى، فهُم لم يتورّعوا من الكذب على علاّم الغيوب سبحانه حتى أمام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يعرفونه ويعرفون صِدق نبوّته كما يعرفون أبناءهم؛ إذ حاول بعضهم إخفاء آية الرَّجم في حق اليهودي واليهودية اللذَين ارتكبا فاحشة الزنى على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا قد وضعوا حدّاً غير ما أمر الله به( ).
أمّا أسلاف هذه الأمة المرحومة فقد طهّرهم الله تعالى من هذه الجُرأة، فكانوا أحرص الأمم على إتباع نبيّهم وسُنّـته المطهّرة قولاً وعملاً، وبلغ من حِرص الصدّيق رضي الله عنه على الإتباع وخوفه من الابتداع مبلغاً أنّه أصرّ على إنفاذ جيش أسامة - الذي جهّزه الرسول صلى الله عليه وسلم قُبَيل وفاته - على الرغم من ظهور الرِّدّة في العرب وإمكان حدوث ما يُعرف الآن بالانشقاق الداخلي والحروب الأهلية( )، وتردّد رضي الله عنه مدّةً في أمر جمع القرآن لمّا حثّه الفاروق رضي الله عنه عليه حتى شرح الله صدره لذلك وتبيّن له أنّ الأمر ليس من البِدع المنهي عنها( )، وجديرٌ بالذكر أنّ المستشرق بوهل نفسه يذكر موقف الصدّيق هذا من جمع القرآن( )، ولكنّه يناقض هذا الذي ذكره من حرص الصدّيق على الإتباع باتهامه رضي الله عنه باختلاق آية في كتاب الله.
وقد أشار المستشرق تريتون Tritton( ) إلى اقتداء عمر رضي الله عنه بالنبي صلى الله عليه وسلم في أمر السواد( ) وغيره( )، كما ناقش كل من المستشرقَين مونتجمري واط Montgomery Watt( ) وريشارد بل R. Bell( ) قوله تعالى ﮋ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﮊ من حيث أسلوبها وتوافقها مع السياق من الناحية التاريخية وخرجا بنتيجة مفادها نفي كل الشكوك حول موثوقيتها( ).
إسقاط المفاهيم الاستشراقية
على العقائد القرآنية
أولاً: إسقاط المفاهيم الدينية:
1- إسقاط المفاهيم الدينية اليهودية والنصرانية على مفهوم (الله) سبحانه وتعالى في القرآن الكريم:
• وكان للمستشرق جولدزيهر قصب السبق في تحريف مدلولات القرآن الكريم عن الله تعالى بإسقاط المفاهيم اليهودية والنصرانية على هذه المدلولات والتي لا تتفق والعقيدة الإسلامية، ومن ذلك( ) إسقاطه لمفهوم التجسّد الإلهي عند اليهود والنصارى( ) على التمثيل القرآني لنور الله سبحانه وتعالى بنور المصباح في مشكاة( )، وهذا الإسقاط نابع من جهل المستشرق بالأساليب البلاغية في اللغة العربية والتي منها التشبيه( )، ونابع كذلك من تأثره بمسلك آبائه من اليهود الذين كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه؛ لأنّ العقائد القرآنية لا يمكن استنباطها من آية واحدة بدون جمع سائر الآيات القرآنية في العقيدة الواحدة، فالله تعالى وإن ضرب مثلاً لنوره في هذه الآية من سورة النور( )؛ فإنه قال في غير هذا الموضع: ﮋ ﭡ ﭢ ﭣﭤﮊ [الشورى: ١١]، وقال: ﮋﮣ ﮤ ﮥﮦﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮊ [العنكبوت: ٤٣].
• وفي معرِض إسقاط عقيدة تجسيد الإله في اليهودية والنصرانية على عقيدة القرآن في الله تعالى؛ ينتصر جولدزيهر Goldziher لمذهب المشبِّهة من الفرق الضالة في الإسلام عند وقوفه على آية ﮋ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﮊ [الشورى: ١١ ]، قائلاً: ((ويجب أن نُقِرّ أنه ليس ثمة انتقاص لله في هذا التأويل أو التفسير السُّنّي( )))( ).
• وقد خضع المستشرق جاك بيرك Jacques Berque( ) أيضاً لعقيدة التجسيد وأسقط مفهومها على قوله تعالى: ﮋ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮊ [البقرة: ٥٤] مفسِّراً إياها كالتالي: ((فالله هو الذي تاب بدلاً منكم لأنّه يميل إلى التوبة))( ).
• كما قام المستشرق كراتشكوفسكي Kratchkovski( ) بنهج المنهج نفسه في ترجمة سورة الناس: ﮋ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮅ ﮆ ﮈ ﮉﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮖ ﮗ ﮘﮊ [الناس: ١ - ٦ ] إذ ترجمها كالتالي: ((أعوذ بإله الناس الذي يختبئ من شرّ الوسواس الذي يوسوس صدورَ الناس))( ).
• وفي موضع آخر وأمام آيات قرآنية تتحدّث عن مرجعية الحكم لله وحده لا شريك له؛ نرى جولدزيهر يستشعر بأنّ القرآن قد بالغ في نسبة الحُكم لله حتى جعل منه – على حدّ تعبيره – ((حاكماً غير محدود الإرادة: (لا يُسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ) والناس جميعاً لا إرادة لهم بين يديه..))( )، ولا شك في أنّ المستشرق أمام هذه الآيات يستعيد بذاكرته موقف أجداده الذين دأبوا على الاعتراض على حُكم الله وقدرته المطلقة أمام أنبيائه الكرام، حتى أدّى بهم الأمر إلى قتل الأنبياء( ) وتحريف كتبهم المقدسة بما يتفق وتصوّرهم للإله وهو في ضعف كبير من الإرادة والعلم ولا يملك القدرة على الحُكم مستقلاً عن إرادة البشر( )، فكان من الطبيعي أن يعترض المستشرق على عقيدة قرآنية متأثراً بعقيدة توراتية، وفي ذلك إسقاط لمفهوم يهودي متأصّل يشرح القدرة والإرادة الإلهيتين بالاستبداد والجبروت المستخفّ بقدرة البشر وإرادتهم.
2- إسقاط المفاهيم الدينية اليهودية والنصرانية على ذِكر محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم:
• فمن ذلك إقدام عدد من المستشرقين الذين قاموا بترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغات أوربية على ترجمة كلمة (الأُمِّيّ) - التي وصف الله تعالى بها نبيّه محمداً عليه الصلاة والسلام - بـ (نبي الوثنية) أو (نبي الكفرة)، ومن أبرز هؤلاء المستشرقين كلٌ من: هيننج Henning( ) (في ترجمته المنشورة عام 1901)، ورودي بارت Rudi Paret( ) (في ترجمته المنشورة عام 1966) وبلاشير Blachere ( ) (في ترجمته المنشورة في باريس عام 1966)، وماسون Masson ( ) (في الطبعة الأولى لترجمتها المنشورة عام 1976)( ).
ومن المعلوم أن كلمة (الأُمِّيّ) تعني الشخص الذي لا يقرأ ولا يكتب( )، وهذا المعنى لم يكن خافياً على المستشرقين الذين لا بُدّ أنهم مرّوا على قوله تعالى: ﮋ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﮊ [البقرة: ٧٨ ]، كما أنّهم كانوا على علمٍ بأُمّية الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال قوله تعالى: ﮋ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮊ [العنكبوت: ٤٨ ]، غير أنهم تعمّدوا ترجمة كلمة (الأُمِّيّ) بنبي الوثنية أو نبي الكفرة( )، مع ما في هذه الترجمة من مخالفة لغوية بجعل الصفة مضافاً إليه( ).
ومهما كانت دوافع المستشرقين إلى هذه الترجمة؛ فإنّ الذي يعنينا في هذا المقام هو أنّ هؤلاء المستشرقين أسقطوا من خلال هذه الترجمة مفهوماً عقدياً يهودياً أو نصرانياً على كلمة (الأُمِّيّ)، حيث إنّ اليهود دأبوا على إطلاق كلمة (غويم) goim على غير اليهود من الأمم الأخرى، وهذه الكلمة هي التي كانوا يعبّرون عنها في الجزيرة العربية بكلمة (الأُمِّيين) وهي التي ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﮋ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﮊ [آل عمران: ٧٥ ]، وكان اليهود يقصدون بكلمة (غويم) الفاسدين أو المرتدين والوثنيين؛ لأنّ الكلمة في صيغة الجمع، ومفردها (غَوِيّ) وهي على معناها في نفس اللغة العربية( ).
وأمّا النصارى فإنهم قد سادت لدى الغربيين منهم عقيدة مفادها أنّ الإسلام ما هو إلاّ فرقة مارقة من النصرانية ومرتدة عنها إلى الوثنية، وهذه العقيدة هي التي روّج لها الراهب بطرس المبجَّل( ) أوّل مرة حين أشرف على أول ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية عام 1143م( )، وقد تأثر المترجمون لمعاني القرآن الكريم إلى اللغات الأوربية بهذه العقيدة وأسقطوها على ترجمتهم لكلمة (الأُمِّيّ).
• وانطلاقاً من العقيدة نفسها وإسقاطاً لمفهومها؛ ذهب بعض المستشرقين إلى ترجمة كلمتَي (النبي) و(الرسول) في القرآن الكريم بالكلمة الإنجليزية apostle، وهذه الكلمة تعني: أحد حواريي عيسى عليه السلام، أو: مبشِّر نصراني، أو: مُصلِح كنسيّ ( )، وجميع هذه المعاني مردّها النصرانية ولا تشير في الوقت نفسه إلى النبوّة ولا الرسالة، وبذلك تجعل النبيّ محمداً صلى الله عليه وسلم رجلاً من أمة عيسى عليه السلام، وهذا المفهوم وليد إسقاط عقيدة هرطقة الإسلام التي جاء بها الراهب بطرس.
3- إسقاط المفاهيم الدينية اليهودية والنصرانية على ذِكر الملائكة في القرآن الكريم:
• يعتقد المسلمون أنّ جبريل عليه السلام من الملائكة المقرَّبين عند الله تعالى، وهو الذي نزل بالوحي الإلهي إلى أنبيائه والصالحين من عباده، وهو الذي بشَّر مريم بنت عمران بعيسى عليهما السلام، وقد وصفه الله تعالى بلفظ (رُوح القُدس) في أربعة مواطن في القرآن الكريم( ) منها قوله:
ﮋﯰ ﯱﯲﯳﯴ ﯵ ﯶﮊ [النحل: ١٠٢ ]، والمقصود بهذا الوصف - الذي يعني: ملاك( ) الطهارة والبُعد عن النقائص( ) – أنّ جبريل عليه السلام ملَكٌ منزَّهٌ عن النقائص التي تطرأ على البشر من النسيان والخيانة والميول الفطرية البشرية( ).
أمّا النصارى، فإنّ لهم في جبريل عليه السلام عقيدة تتمثل في كونه واحداً من الأقانيم الثلاثة للألوهية، وهم يطلقون عليه مسمّى (الرُّوح القدس) – بإضافة (ال) إلى كلمة (روح)، ويقصدون بالروح المعرَّفة: حياة الله تعالى ولهذا يضيفونها إلى القدس( ).
وعندما قام المستشرق آربري Arberry( ) بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية؛ ترجم لفظ (روح القدس) بـ The Holy Spirit أي: الروح القدس، فجعل (القدس) صفةً بعد ما كانت في القرآن مضافاً إليه( )، ولم يكن ذلك من آربري Arberry إلاّ لإسقاطه مفهومه العقدي النصراني على جبريل عليه السلام على الرغم من اختلاف عقيدة القرآن واختلاف موقع كلمة (القدس) النحوي.
4- إسقاط المفاهيم الدينية اليهودية والنصرانية على ذِكر اليوم الآخر في القرآن الكريم:
• يقول المستشرق جولدزيهر عند حديثه عن اليوم الآخر في القرآن الكريم: ((فمحمد منذرٌ بنهاية العالَم وبيوم الغضب والحساب، ولهذا نراه في نظريته الخاصة بالدار الآخرة يميل إلى جانب التشاؤم، أما التفاؤل فهو من نصيب المصطفين للجنة دون غيرهم..))( ).
وإذا ما قارنا رؤية جولدزيهر عن ذِكر الآخرة في القرآن الكريم بما جاء على لسان بعض رسل النصرانية؛ نجد اتفاق التصورَين اتفاقاً كلياً، فلنقرأ ما جاء في بعض كتب النصارى:
يقول الرسول بولس مخاطباً الذين قست قلوبهم ورفضوا التوبة مستهينين بلطف الله وإمهاله قائلاً: ((من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة))، وفي سفر الرؤيا يقدّم لنا يوحنا الرائي مشهداً موجزاً عن الدينونة فيقول: ((ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام الله.... وطرح الموت والهاوية في بحيرة النار، هذا هو الموت الثاني (أي الانفصال الأبدي عن الله)، وكل من لم يوجد مكتوباً في سفر الحياة طُرح في بحيرة النار))( ).
لعلّنا نلاحِظ وصف القيامة بـ (يوم الغضب)، والنظرة التشاؤمية التامّة للعصاة بحيث لا وزن للأعمال، بل العبرة كل العبرة بما هو مكتوب في سِفر الحياة، وهذا ما عبّر عنه المستشرق بقوله ((المصطفين للجنة))، نلاحِظ هذا التطابق عند المستشرق وعند رسل النصرانية، أمّا القرآن الكريم فهو لم يسمِّ يوم القيامة بيوم الغضب أبداً، ولم تأت هذه التسمية في أي حديث صحيح من الأحاديث النبوية الشريفة( )، وبالنسبة لمصير الكافرين؛ فهو حقاً مصير مشؤوم في نظر القرآن( )، إلاّ أنّ العبرة يوم القيامة بالأعمال وليس بما هو مكتوب في الكتاب( ).
إذن فليس تصوّر المستشرق إلاّ ضربًا من إسقاط المفاهيم الدينية لأهل الكتاب على العقائد القرآنية.
5- إسقاط المفاهيم الدينية اليهودية والنصرانية على كلمات عقدية أخرى في القرآن الكريم:
• ترجم المستشرق آربري كلمة (الفرقان) حيثما وردت في القرآن الكريم بكلمة salvation وتعني: (النجاة أو الخلاص)( )، والفرقان في اللغة العربية تعني: كلّ ما فُرّق به بين الحق والباطل أو بين شيئين( )، وهو أيضاً اسم للقرآن( )، وأمّا كلمة (الخلاص) فهي ذات مدلولات عقدية نصرانية( )، وقد تطلق على الإنجيل؛ لأنّ فيها الدعوة إلى الإيمان بالخلاص، وقد أسقط آربري هذا المفهوم العقدي النصراني على كلمة (الفرقان) الواردة في القرآن الكريم.
• ترجم المستشرق جاك بيرك كلمة (المسجد) حيثما وردت في القرآن الكريم بكلمتي (Sanctuaire) و(Oratoire)، وتعني الكلمة الأولى: المعبد الكنسي، وأما الثانية فتعني: المصلى في كنيسة صغيرة( )، وفي ذلك إسقاط لمفهوم نصراني لمكان العبادة على مفهوم إسلامي عن كلمة (المسجد)، ويختلفان من عدة وجوه معلومة، والأمر الذي يزيدنا يقيناً من معرفة المستشرق للفروق بين المسجد والكنيسة هو أنّه عندما يأتي لقوله تعالى: ﮋ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﮊ [الحج: ٤٠]، فإنه يترجم كلمة (المساجد) بـ (Mosques) وهي الكلمة المعروفة لدى الفرنسيين عن المسجد، وكان ينبغي استعمالها في كل مكان، ولكن المستشرق لم يستعملها إلاّ في هذا الموضع عندما خشي التباس المساجد بالصوامع والبيع( ).
ثانياً: إسقاط المفاهيم الفكرية:
1- إسقاط المفاهيم المادية على مفهوم (الله) تعالى في القرآن الكريم:
من المعلوم أن المذهب المادي الإلحادي المنكر للديانات والروحانيات كان سائداً في الاتحاد السوفييتي مدة سبعين سنة تقريباً، ولذلك فإنّ عدداً من المستشرقين الروس قد تأثروا بهذا المذهب الفكري عند قيامهم بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الروسية، ومن هؤلاء المستشرقين مَن أسقطوا مفاهيمهم المادية على كلمة (ربّنا) في القرآن الكريم حيثما وردت وترجموه بكلمة (سلطاننا)( ).
2- إسقاط المفاهيم المادية على ذِكر الملائكة في القرآن الكريم:
• لقد أسقطت المستشرقة الروسية بروخوفا( ) ذلك المفهوم المادي السائد في بلادها على مفهوم (الملائكة)( ) في بعض المواطن في القرآن الكريم، حيث نجدها تقول عند تفسيرها لقوله تعالى: ﮋ ﮆ ﮇ ﮈ ﮊ [المدثر: ٣٠]: ((هم الملائكة الذين يمثّلون الحواس التي بواسطتها يشعر الإنسان بالعالم))( ).
• كما نجد المستشرقة نفسها تفسّر قوله تعالى: ﮋ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﮊ [البقرة: ١٠٢]: ((تسمية هاروت وماروت بالملكَين من المجاز، وفي الحقيقة فإنهما كانا من أناس عاديين في بابل وقد تفوّقا في علوم حضارتهم المختلفة))( ).
3- إسقاط المفاهيم المادية على ذِكر اليوم الآخر في القرآن الكريم:
• علّقت بروخوفا على كلمة (سوء الدار) من قوله تعالى:
ﮋ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﮊ [الرعد: ٢٥]، بقولها: ((إذا كان الإنسان يسعى إلى النعم الروحانية فهو يصعد إلى دار النور، وإذا كان لا يعترف إلاّ بالنعم المادية فسوف ينحلّ.. ويُعدم في آخر الأمر.. ويشطَب اسمه من كتاب الحياة، وهذا أخوف شيء على الإنسان))، وقالت في تفسيرها لقوله تعالى: ﮋﮥﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﮊ [الحجر: ٨٥]: ((الكافر المربوط إلى الماديـة سوف ينحل ويعدم إلى الأبد))، وقالت في الموضع نفسه: ((إن يوم القيامة هو ساعة الانحلال))( ).
ولا شك أنّ بروخوفا تسقط مفاهيمها المادية على تصورات يوم القيامة والجزاء والحساب، ولهذا نراها تؤوّل المعاني الغيبية بالمحسوسات على الرغم من دعوتها إلى الالتزام بالروحانيات.
• ويُقدم مستشرق روسي آخر يسمّى سابلوكوف Sabloukov( ) على ترجمة معاني القرآن إلى اللغة الروسية، فنجده قد ترجم كلمة القبور في قوله تعالى: ﮋ ﭝ ﭞ ﭟ ﮊ [الانفطار: ٤ ] بقوله: ((وإذا التوابيت فتحت))، ويقول عند قوله تعالى: ﮋ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﮊ [المعارج: ٤٣]: ((يوم يخرجون من التوابيت سراعاً))، وتقول بروخوفا في قوله تعالى: ﮋ ﮎ ﮏ ﮐ ﮊ [التكاثر: ٢]: ((حتى تلاقوا خشبة التابوت))( ).
وهكذا يسقط المستشرقان نظريتهما المادية المنكرة للغيبيات على تفسيرهما لليوم الآخر وما يصاحبه من البعث والنشور بتأويل كل ذلك بالمحسوسات من التوابيت التي اعتاد الروس على دفن موتاهم فيها.
إسقاط المفاهيم الاستشراقية
على الشرائع القرآنية
لقد بذل الباحث وُسعه بالرجوع إلى دراسات المستشرقين عن كثير من الأحكام الشرعية المذكورة في القرآن الكريم وإلى ترجماتهم لكثير من المصطلحات الشرعية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم مثل: الصلاة والزكاة والصيام والحج والنذر والطلاق والخلع والنكاح والمتعة.. إلخ؛ ولكنّه وجد أنّ هذه الأحكام الشرعية لم تتعرّض من قِبَل المستشرقين إلى إسقاط المفاهيم الاستشراقية على مفاهيمها الإسلامية عند ترجمة معانيها إلى اللغات الغربية أو إجراء الدراسة حولها.
ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى اعتبار معظم المستشرقين هذه الشعائر والأحكام مأخوذةً من اليهودية أو النصرانية أو العادات والطقوس العربية الجاهلية، وقد صرّحوا بذلك في دراساتهم القرآنية وترجماتهم لمعاني القرآن الكريم إلى لغاتهم( )، وهذه الشبهة من الشبهات الاستشراقية الكبرى التي تحاول بذلك إثبات بشرية القرآن، وهي وإن كانت جديرةً بالردّ والتفنيد؛ إلاّ أنها لا تندرج تحت منهج الإسقاط الذي يبحث عن علاقة بين تفسير المستشرق لظاهرة مّا وبين خلفيته المذهبية والفكرية التي قادته لهذا التفسير، بينما نجد أن دعوى المستشرقين بأخذ القرآن شرائعَه من أصول يهودية ونصرانية خاضعةٌ لمنهج المقارنة ومنهج الأثر والتأثر، وكلاهما من المناهج الاستشراقية المعروفة( ).
وفيما يلي عرضٌ لنموذجين أمكن التوصّل إليهما بصدد استعمال المستشرقين لمنهج الإسقاط في تفسيرهم لبعض التشريعات القرآنية، علما بأنّ كِلا النموذجين يأتي ضمن إسقاط المفاهيم الدينية على التشريعات القرآنية:
• ترجم بعض المستشرقين كلمة (صِبْغَة الله) في القرآن الكريم( ) بـ(تعميد الله) أو (تعميد الإله)( )، والصبغة في القرآن يُقصَد بها: الدِّين( )، والدِّين يشتمل على العقائد والشرائع كما قال تعالى: ﮋﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮊ [الشورى: ١٣]، ومن هذه الشرائع اغتسال الكـافر عند إسلامه، وقد فسّر بعض المفسِّرين كلمة (صبغة الله) بهذه الشعيرة، وفسّرها آخرون بشعيرة الخِتان( )، وأما (التعميد)( ) فهي شعيرة عند النصارى ذات مدلولات مختلفة عن الاغتسال أو الختان عند المسلمين، وقد أسقط المستشرقون مفهومهم الشرعي النصراني على كلمة (الصبغة) في القرآن، على الرغم من اختلافات كبيرة بين المفهومَين( ).
• في بعض الترجمات الروسية لمعاني القرآن الكريم كثيراً ما نجد ألفاظ (العِبادة) المذكورة في القرآن يترجِمها أصحاب الترجمات بجملة (الجُثوّ على الرُّكَب أمام الرَّب)( )، وقصر معنى كلمة العبادة على هذا المفهوم فيه إسقاط للمفهوم السائد عند نصارى اليوم عن عبادة الله، والمتمثّل في الجُثوّ أمام الصليب أو تمثال العذراء أو صورة اليسوع عليهما السلام للدعاء، وذلك من الأمور الملاحَظة في كنائس النصارى ولا سيما في محافل عقد النكاح أو احتفالات يوم الميلاد، ومن المعلوم أنّ العبادة عند المسلمين لها صورٌ كثيرةٌ لا تُحصَى، ومنها الدعاء والأذكار وقراءة القرآن التي يمكن فِعلها في أي حال وفي أي مكان.
وبهذا يصل البحث إلى تمامه، وفيما يلي عرض موجز لأهم نتائج الدراسة.
النتائج والتوصيات
• إنّ أهمّ نتيجة معتبَرة لهذه الدراسة تتمثّل في إقرار استعمال المستشرقين لمنهج الإسقاط في دراساتهم القرآنية، وقد أثبتت الدراسة ذلك.
• إنّ إسقاط المستشرقين مفاهيمَهم على الدراسات القرآنية تأثّر بمؤثّرَين كبيرَين هما: المؤثِّر الديني، والمؤثر الفكري المادي.
• إنّ مجال العقيدة الإسلامية هو أكثر المجالات تعرّضاً لعمليات الإسقاط الدينية والمادية على سواء، وذلك في الدراسات القرآنية عند المستشرقين.
• إنّ ترجمات المستشرقين لمعاني القرآن الكريم – في القديم والحديث – لهي مَظنّة وجود أكثر المناهج الاستشراقية خطورة وانتشاراً، ومن بينها منهج الإسقاط، ولذلك وجب الحذر منها كافةً.
• ولذا.. يوصي الباحث المتمكّنين من اللغات الأوربية مع التمكّن باللغة العربية أن يتصدّوا لدراسة – ما استطاعوا – من الترجمات الاستشراقية لمعاني القرآن الكريم لبيان شُبهاتها واستخلاص المناهج الاستشراقية في إثارتها؛ لأنّ بعض الشبهات لا يمكن ملاحظتها إلاّ إذا عرف الناقد مناهج المستشرقين ومسالكهم في بثّ الشبهات.
• كما يوصي الباحث مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف وغيره من المجامع الإسلامية بالاستمرار في القيام بترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغات العالَم، وذلك لتقديم البديل الإسلامي للترجمات غير الإسلامية.
هذا وصلى الله على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
فهرس المصادر والمراجع
• الكتاب المقدس، العهد العتيق، بيروت: مطبعة الآباء المرسلين اليسوعيين، ط3: 1890.
• ابن الأثير – العلامة عز الدين علي، الكامل في التاريخ، بيروت: دار الفكر، 1398ﻫ.
• البخاري – الإمام إسماعيل الجعفي، الجامع الصحيح، القاهرة: المكتبة السلفية: 1380ﻫ.
• برادة – د. محمد عبد القادر، دراسة ترجمات القرآن الكريم إلى اللغة الإسبانية (بحث مشارك في ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم بالمدينة المنورة)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1423ﻫ.
• برانايتس – الأب آي. بي.، فضح التلمود، ترجمة: زهدي الفاتح، بيروت: دار النفائس، ط2: 1405ﻫ.
• برلين - إيسيا، كارل ماركس، ترجمة: عبد الكريم أحمد ومحمد عاشور، القاهرة: دار القلم.
• البعلبكي - منير، مصابيح التجربة، ملحق بالمورد، بيروت: دار العلم للملايين، ط31: 1997.
• البلاذري – العلامة أحمد بن يحيى، فتوح البلدان، بيروت: مؤسسة المعارف، 1407ﻫ.
• توتل – الأب فردينان، المنجد في الأدب والعلوم، بيروت: المطبعة الكاثوليكية، ط17: 1960.
• ابن تيمية – شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم الحراني، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، مطابع المجد.
• جولدزيهر – د. أجنس، العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة: محمد موسى وآخرين، القاهرة: دار الكتب الحديثة، ط2.
• جولدزيهر – د. أجنس، مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة: عبد الحليم النجار، بيروت: دار اقرأ، ط2: 1403ﻫ.
• الحاج – د. ساسي سالم، الظاهرة الاستشراقية وأثرها على الدراسات الإسلامية، مالطا: مركز دراسات العالم الإسلامية، ط1: 1991.
• حسن – د. محمد خليفة، تاريخ الترجمات العبرية الحديثة لمعاني القرآن الكريم (بحث مقدم لندوة ترجمة معاني القرآن الكريم بالمدينة المنورة)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1423ﻫ.
• ابن حنبل – الإمام أحمد الشيباني، المسند، القاهرة: مؤسسة قرطبة.
• حنفي - حسن، دراسات إسلامية، دار التنوير العربي، 1982م.
• خان - ظفر الإسلام، التلمود – تاريخه وتعاليمه، بيروت: دار النفائس، ط6: 1405ﻫ.
• الخطيب القزويني – العلامة محمد بن سعد الدين، الإيضاح في علوم البلاغة، بيروت: دار الجيل.
• الديب – د. عبد العظيم، المنهج عند المستشرقين، حوليات كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، عدد 7: 1409ﻫ، الدوحة.
• رزق - أسعد، موسوعة علم النفس، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط:3، 1987م.
• الزرقاني – الشيخ محمد عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1: 1409ﻫ.
• الزفزاف - د. محمد، التعريف بالقرآن والحديث، (غير مذكور الناشر).
• سالم - محمد عزيز، الإسلام في مواجهة المذاهب الغربية، الاسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة.
• ابن سلاّم - أبو عبيد القاسم، كتاب الأمثال، تحقيق: عبد المجيد قطامش، دمشق: دار المأمون، 1980م.
• الشهرستاني – محمد بن عبد الكريم، الملل والنحل، بيروت: دار المعرفة.
• الشوكاني – الشيخ محمد بن علي، فتح القدير، بيروت: محفوظ العلي، ط2: 1383ﻫ.
• طويلة - عبد الوهاب، الكتب المقدسة في ميزان التوثيق، القاهرة: دار السلام، ط2: 1423ﻫ.
• عبد الرحمن – د. وجيه حمد، ترجمات إنجليزية لمعاني القرآن الكريم في ميزان الإسلام، (بحث مشارك في ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم بالمدينة المنورة)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1423ﻫ.
• عبد المحسن – د. عبد الراضي محمد، مناهج المستشرقين في ترجمات معاني القرآن الكريم – دراسة تاريخية نقدية، (بحث مقدم لندوة ترجمة معاني القرآن الكريم بالمدينة المنورة)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1423ﻫ.
• عزب – د. محمود عبد السلام، إشكالية ترجمة معاني القرآن الكريم - ماذا يراعى في لغة الترجمة؟ (بحث مشارك في ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم بالمدينة المنورة)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1423ﻫ.
• عزوزي – د. حسن إدريس، ملاحظات على ترجمة معاني القرآن الكريم للمستشرق الفرنسي جاك بيرك (بحث مشارك في ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم بالمدينة المنورة)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1423ﻫ.
• العسكري - الحسن بن عبد الله، جمهرة الأمثال، تحقيق: أحمد عبد السلام، تخريج الأحاديث: محمد زغلول، بيروت: دار الكتب العلمية، ط: 1، 1988م.
• العقيقي – نجيب، المستشرقون، القاهرة: دار المعارف، ط4: 1980.
• علي – د. محمد مهر، ترجمة معاني القرآن الكريم والمستشرقون - لمحة تاريخية وتحليلية، (بحث مقدم لندوة ترجمة معاني القرآن الكريم بالمدينة المنورة) مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1423ﻫ.
• عيطة – د. عبد الرحمن السيد، حول ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الروسية (بحث مشارك في ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم بالمدينة المنورة)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1423ﻫ.
• غربال - محمد شفيق، الموسوعة العربية الميسرة، القاهرة: دار الشعب، 1965م.
• فائق - أحمد، مدخل إلى علم النفس، القاهرة: مكتبة الأنجلومصرية، 1966م.
• ابن قدامة – العلامة عبد الله المقدسي، المغني، الرياض: مكتبة الرياض الحديثة، 1401ﻫ.
• القرطبي – الإمام محمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن، بيروت: مؤسسة مناهل العرفان.
• ابن كثير – الحافظ أبو الفداء الدمشقي، البداية والنهاية، بيروت: مكتبة المعارف، ط2: 1974، 1/321.
• كولييف - إلمير روفائيل، الأخطاء العقدية في بعض الترجمات لمعاني القرآن الكريم إلى اللغات الروسية (بحث مشارك في ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم بالمدينة المنورة عام 1423ﻫ).
• مؤسسة العالم الإسلامي للسمعيات والمرئيات www.islamicworld.ru.
• مسلم – الإمام مسلم بن حجاج القشيري، الجامع الصحيح، القاهرة: المطبعة المصرية.
• المسيري – د. عبد الوهاب، موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية، دار الشروق، القاهرة 1999.
• مطبقاني – د. مازن صلاح، الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي، الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1416ﻫ.
• مظاهري – د. محمد عامر، مناهج المستشرقين في كتاباتهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في دائرة المعارف الإسلامية (أطروحة الدكتوراه)، المدينة المنورة: قسم الاستشراق بجامعة الإمام محمد بن سعود، 1422ﻫ.
• ابن منظور – العلامة جمال الدين الإفريقي، لسان العرب، بيروت: دار صادر.
• المودودي – العلامة أبو الأعلى، تفهيم القرآن، لاهور: ترجمان القرآن، ط11: 1398ﻫ.
• موقع (الكتاب المقدس العربي) www.arabicbible.com.
• الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، الرياض: الندوة العالمية، ط2: 1409ﻫ.
• نقرة – د. التهامي، القرآن والمستشرقون، مجلة (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية)، الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1405ﻫ.
• ابن هشام – الإمام محمد الحميري، سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، مراجعة: خليل هراس، القاهرة: مكتبة الجمهورية.
• ابن هشام – العلامة عبد الله جمال الدين، أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، تحقيق: محمد محي الدين، بيروت: دار الجيل، ط5: 1979.
• الهندي - رحمة الله كيرانوي، إظهار الحق، كراتشي: مكتبة دار العلوم، ط1: 1359ﻫ.
• ويكيبيديا (الموسوعة الحرة) www.wikipedia.org
• أبو يوسف – الإمام القاضي يعقوب، كتاب الخراج، القاهرة: المطبعة السلفية، ط5: 1396ﻫ.
• E. J.BRILL, The Encyclopedia of Islam (First edition), Leiden,
• Rodinson, Mahomet, ed. Du Seuil, .