محنة الحرية والآخر في المجال العربي؟
أضافه الحوار اليوم في
غريبي مراد
ننطلق من رحاب فقرة دقيقة وشاملة في أحد أهم مؤلفات المفكر الاسلامي الشيخ حسن الصفار "الأحادية الفكرية":(ليس من الخطأ أن يقتنع الانسان برأي، أو ينتمي لمدرسة، أو يؤمن بقيادة، أو يثق بمرجعية، كما أن من حقه أن يعبر عن رأيه، أو ينتصر لتوجهه، وأن يبشر لأفكاره، لكن الخطأ هو احتكار هذا الحق لنفسه وإنكاره ذلك على الآخرين.
إننا في ساحتنا الدينية بحاجة إلى الاعتراف بحق الاختلاف وتعزيز حرية الرأي، ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر ويجب أن نرفع الصوت عاليا ضد الارهاب و القمع الفكري، ومحاولات الهيمنة وفرض الوصاية على عقول الناس وأفكارهم بإسم العقيدة والدين)...
إنها محنة المسلمين في الزمن المعاصر، لا يزال حالهم أسوأ حال وهم من يملكون كل مقومات الحضارة والريادة في هذا العالم المتهافت بين الرأسمالية المتغطرسة والصهيونية المجرمة، ويبدو أن محنة المسلمين الرئيسية في جهلهم بحقائق شريعتهم واكتفائهم بثقافات الالتقاط والإنبهار والتقليد والتبعية التي تجذرت عبر التاريخ في أجيال المسلمين، ودليل ذلك أن واقع المجتمعات الاسلامية لايزال يجرم فئات منه على أساس الخصوصية المذهبية أو القومية ويفرض عليهم كل ألوان التهميش والاقصاء بلا جرم سوى أنهم متمايزين مذهبيا أو قوميا عن المذهب أو قومية، الحاكم أو الغالبية الشعبية، وعليه أصبحت مسألة الحرية من المسائل الغامضة في الاجتماع الاسلامي، ليس غموض جهل ولكن غموض ظلم، لأن الجهل بالحرية يمكن استدراكه وفق برنامج ثقافي معين، في حين الظلم هو تعطيل الحرية وتقييدها وطمس معالمها في الواقع تماما إذا أمكن، والدراسة الدقيقة لفلسفة الظلم وتحديد أبعاده ومعالمه وتبعاته وآفاقه، بإمكانه فك الطلاسم التي طالت حقيقة الحريات في واقعنا العربي والاسلامي، ولتقريب الفكرة أكثر، عانى المسلمون كافة بعد أحداث 11 أيلول 2001، وأصبح مفهوم الارهاب لصيقا بكل ما هو مسلم، مما دفع بالعديد من المفكرين والحقوقيين والسياسيين وعلماء الدين العاملين إلى دعوة العالم لتحديد مفهوم محدد وجامع لـ"الإرهاب"، حتى لا يظلم المسلمون في العالم بسبب فعل مشين ألصق بجماعة قيل أنها إسلامية، بينما الإسلام بريء من أعمال العنف ودليل ذلك أنه دين العفو والسلام والتسامح مع القريب والبعيد ويرفض العدوان بل حتى الجهاد فيه دفاعي وقائي بحسب العنوان الشرعي العام...
من هنا جاز لنا مساءلة القائمين على القانون في المجتمعات الاسلامية والساهرين على إلزام الجميع به:ما تعريفكم للحرية ضمن معادلة المواطنة؟
لا مناص أن الحريات في دساتير الدول العربية من طنجة إلى مسقط، مصونة بالورق وضمن مواد وملاحق ومقررات وما هنالك من مسميات في أدبيات القانون الدستوري، لكن مأزق المواطنة في عالمنا العربي أنها ولدت مشوهة تفتقر لمورثات الحرية والعدل، فبقيت مرسومة بحبر على ورق حتى أضحت آيلة للزوال، لا ينعم بها إلا حراس العقيدة والشرعية السياسية والحاكمية المطلقة!!
إذ اليوم في الجغرافية العربية، الإنسان إذا ثار وآثر الحرية بمفهومها الإسلامي الأصيل، يصبح متهما بالخروج عن القانون، ليس القانون المتمثل في الدستور المسجون بين دفتين في وريقات اصفرت من آهات الشعوب وتفسخت من رطوبة الاستبداد، إنما خروج عن قانون السجن العربي الكبير، ذلك الفضاء الجامع لكل المتناقضات ولجميع التجاوزات والانتهاكات والرائد في معدل المساوئ والمتخلف في سلم المحاسن...
تحت وطأة هذا الواقع العربي المثخن بجراحات الظلم بإسم الدين وبإسم الديمقراطية وبإسم الثورة وبإسم الوطن وما هنالك من شعارات مليئة بالزيف المبرمج والجهل المركب، يقع دور العلم الاسلامي الأصيل، لاستنهاض المحرومين نحو فتح العقول على الهواء الطلق الاسلامي "الحرية" المنطلقة في رحاب وعي ثقافة العدالة الاسلامية، لأن استفحال الظلم وتجذره في واقعنا العربي لم يكن بأساليب بسيطة ومناهج عادية ومؤسسات صغيرة، بالعكس من ذلك الحرية في واقعنا اضمحلت وخنقت، عندما لبس الظلم عباءة الفقه و نطق بلغة الضاد واستند على مناهج الشيطان واستقوى بسيطرته على مؤسسات الدين والثقافة والاعلام والتربية والسياسة والاقتصاد والاجتماع، لكن كيف استطاع أخطبوط الظلم أن يستحكم في مفاصل الحياة العربية؟ ألأن الاستدمار أعانه أم العرب أصلا يستأنسون بالظلم؟
الأكيد ضمن كل الاحتمالات الواردة و الراجح أن المجتمعات العربية أضحت مسرحا للظلم بشتى ألوانه البشعة، لأن المثقف الديني بكل تمظهراته الفكرية والفقهية والأكاديمية والاعلامية والسياسية والاجتماعية، سمح للمتعالمين من تجار المناصب وسماسرة الافتاء الشرعي وخطباء المال والجاه وشعراء البلاط، بالتوغل في عمق الواقع العربي، فانتشر الجهل كالظلام الدامس وعمّ الفساد والافساد وانقلبت المفاهيم الشرعية لأضدادها وطرحت العناوين الاسلامية بغير حقيقتها و بيعت القضايا في غفلة من الناس وتقاعس من عقلاء الأمة...
فأصبحنا لا نفرق بين الاختلاف والخلاف وبين الحرية والظلم، بوصلة الأمة أصبحت بيد عباد المادة وعبدة المال والسلاطين، وبالتالي أضحى واقعنا العربي لا يفهم المفاهيم الاسلامية الكبرى لأن المتعالمين استطاعوا أن يجعلوا الاسلام ضد الاسلام كما لمح الشهيد شريعتي لذلك في أحد مؤلفاته الدين ضد الدين، مما أفقد الأمة وعي حقائق الحوار والتسامح والتعارف والتعايش والحرية والكرامة والعدالة، لأن أمورها أوكلت للقاسطين الذين لبسوا الاسلام لبس الفرو مقلوبا، فابتدعوا للواقع العربي نظرية "نحن والآخر"...
هذه النظرية تنطلق من أنك تحصل على حقوقك الانسانية و في طليعتها الحرية بحسب فهم القاسطين، إذا ما تجردت من كل معالم التمايز عنهم خاصة في ما يخص "الدين والمذهب" لكونهما معاملين اختياريين، يعني أن تكونا قاسطا وإلا تصبح ذلك الآخر المتهم بالمروق عن دين القاسطين العرب... كانت هذه مقاربة الواقع العربي الراهن، والتي اصطبغ بها منذ قرون لكنها كانت كالذنب في قلب الانسان، نقطة سوداء اتسعت مع مرور الأزمان، إلى أن انفجرت مع توطين الغدة السرطانية في قلب الأمة الإسلامية...
هكذا أيها الآخر في عالم العرب القاسط، لا يُعترف لك بحق سوى أنك عميل وفق منطق الظلم ولو كنت ظالما لنفسك لمنحت جنسية العروبة الموهومة، أما أنك تبقى مخلصا لحريتك الإنسانية الأصيلة، فمصيرك السجن الطائفي إلى أن تبتكر براءتك أو تعدم في مقصلة التكفير أو التخوين....
عودا إلى ذي بدء مع العالم العامل الشيخ حسن الصفار، الأحادية الفكرية إذا ما تركزت في أي مجتمع إنساني، جاز لنا أن نجهز له شهادة الوفاة، لأن الانفراد بالرأي والتصور والانقلاب على سنة الاختلاف وأصالة العدل وحق الحرية، هو الجنون والشيطنة بعينها، والتاريخ أثبت ذلك في عدة فترات منه...
فإلى متى سيبقى الآخر في الواقع العربي يناضل من أجل تحصيل صك البراءة من جريمة الخيانة أو الكفر، واسترداد حق الحرية لتجديد حقيقة المواطنة...
الحوار الداخلي: