الإسلام وحرية الفكر
إذا دققنا في البحث فيما كانت عليه حياة الفرد في مختلف العصور المتأخرة والمجتمعات القديمة وما كان يسودها من شرائع وأنظمة.. لما وجدنا فيها أية ضمانات للحريات الشخصية.. وأهمها وأخطرها .. حرية الفكر..
لقد كان الناس خلال تلك العصور المظلمة يعيشون في مجتمعات بدائية أو قبلية، نهبا لطغيان الطغاة وأباطيلهم.. وعبيدا لأسيادهم المستبدين وأهوائهم من زعماء وأمراء وملوك.. ممن جعلوا الخصومة متصلة بينهم وبين حريات شعوبهم جميعا قرونا متوالية..
وقلما كان يستطيع احد أتباعهم أن يرفع رأسه بحركة.. أو أن يفتح فمه بكلمة.. فضلا عن إبداء رأي والدعوة لفكرة..
وكثيرا ما كان جزاء من يجسر منهم على ذلك.. أن يحرق حيا.. أو يقتل صلبا.. أو يلقى إلى السباع الجائعة المفترسة.. وإنا لنرى أمثلة كثيرة على ذلك تملأ تاريخ الأقدمين.. وصحف التوراة.. وكتب المسيحية..
ورغم ذلك كله.. فإن من أعظم ما ورثته الحضارة الحديثة من ماضي الإنسانية المجيد.. ومن أسمى ما خلفه العقل البشري في انطلاقه وتطوره من تراث.. للأجيال المتعاقبة.. هو ما جاء به الإسلام.. للناس من تحرير الروح والعقل والفكر..
وتعتبر حرية الفكر في حد ذاتها.. من أهم المقومات الحيوية التي بنيت عليها حضارة الإسلام.. هذه الحضارة العظيمة التي أشرقت مع بزوغ فجر الإسلام وظهور دعوة الحق.. وامتد نورها في مشارق الأرض ومغاربها منذ اللحظة الأولى.. عبر الأجيال.. حتى شمل الحضارة الحديثة في عصرنا هذا..
إسلام على بن أبي طالب
كان سيدنا علي أمير المؤمنين أول صبي دخل الإسلام في أيامه الأولى.. وذلك عندما فاجأ الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يصلي بالسيدة خديجة سرا في داره ورآهما يركعان ويسجدان ويتلوان ما تيسر مما أوحاه الله تعالى يومئذ من قرآن.. فلما سأل الصبي ابن عمه العظيم دهشا لمن يسجدان؟ أجابه: ((إنما نسجد لله الذي بعثني نبيا وأمرني أن أدعو الناس إليه..)) ودعاه إلى عبادة الواحد الأحد والدخول في الدين الجديد.. ونبذ عبادة الأصنام.
فاستمهله سيدنا علي حتى يشاور أباه.. وأمضى علي الليل ساهرا يفكر فيما سمعه من آيات بينات وانشرح لها صدره وتفتحت عليها أفكاره.. وفي الصباح أسرع الصبي الناشئ إلى ابن عمه الرسول الكريم.. وأعلن إسلامه قائلا ببساطة : ((لقد خلقني الله من قبل أن يشاور أبا طالب، فما حاجتي أنا إلى مشاورته لأعبد الله؟..))
وهكذا اختار علي الإسلام ودخل في الدين الجديد بحرية وإمعان فكر.. متأثرا بروح الدعوة المحمدية التي جاء بها القرآن.. وبشر بها محمد صلى الله عليه وسلم..
وقصة كل مسلم
هذه قصة إسلام سيدنا علي.. وهناك قصة أخرى لمسلم آخر.. هي قصة كل مسلم.. وهي تجري في مسجد المدينة حينما وقف عمر بن الخطاب يخطب على منبر رسول الله في المسلمين حتى جاء إلى قوله المشهور : (يا أيها الناس.. من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه..) ..فوقف رجل من المسلمين وشهر سيفه وأجاب عمر صائحا: والله..لو رأينا فيك اعوجاجا.. لقومناه بسيوفنا..
هذا الرجل ما كان ليقول هذا الكلام.. إلا تشبعا منه بروح الدعوة المحمدية التي يؤمن بها هو عمر وسائر المسلمين في كل زمان ومكان.. ودعوة الحق والحرية والقوة.. قوة العقيدة.. وحرية الفكر..
عمالقة الفكر الإسلامي
هذه القصص المضيئة تصور لنا تصويرا دقيقا مقدار عظمة القرآن.. والدعوة الإسلامية.. وأثرهما البالغ في تحرير الروح والعقل والفكر الإنساني..
وفي هذه الصور الصغيرة نفسها.. نقطة الانطلاق العظيم للفكر المتحرر الذي شيد مع الزمن صرح الحضارة الإسلامية عاليا..
من هنا بدأ مجد الإسلام الفكري والعلمي.. ومن هنا كانت انطلاقة أعلام الفكر الإسلامي من أمثال الغزالي والفرابي وأبي العلاء المعري وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمان الكواكبي وغيرهم وغيرهم..
ولولا ما في الإسلام ودعوته من حرية الفكر.. لما كانت هناك انطلاقة علماء الإسلام الإعلام من أمثال أبن خلدون في بحوثه العلمية التي جعلته أول رائد في العالم لعلم الاجتماع وفلسفته..
وفي ظل هذه الحرية الفكرية المشعة عاش عمالقة الفكر الإسلامي على مر الأيام وكر العصور أئمة يهدون العالم كله إلى نور العلم.. ونذكر منهم أبن سيناء وحسن بن الهيثم من الخالدين الذين اعترف العالم في عصرنا هذا بفضلهم على الإنسانية.. والحضارة الحديثة..
وحسب المسلمين فخرا.. أن الإسلام يحمي العلم والعلماء.. والفكر.. والمفكرين.. في نفس الوقت الذي كانت تشهد أوروبا مصرع علمائها ومفكريها بتهمة الزندقة والكفر والإلحاد..
الإسلام بين الجمود والانطلاق
إن حرية الفكر.. هي أمل كل مسلم..والإسلام الذي أحاط هذه الحرية الغالية بكافة الضمانات حماية للحضارة.. واحتراما للكرامة الإنسانية نفسها.. يحث معتنقيه على توفير هذه الحرية للناس جميعا لأنه بدون حرية الفكر.. لا تكون كرامة لإنسان.. ولاتكن حضارة زاهية بنعم فيها الناس بأمنهم وحقوقهم وأمالهم..
ويشاء الحظ العاثر أن يجعل من المسلمين أو قل بتعبير أدق يجعل من بعضهم حجر عثرة في طريق التطور والانطلاق.. وعامل هدم في كيان الإسلام.. وذلك بدعوة هؤلاء المتزمتين إلى الجمود وتقييد الحريات.. وخاصة حرية الفكر.. الآمر الذي أدى بالحضارة الإسلامية إلى التوقف عن النمو والذبول.. والتعرض للانهيار..
فإذا عرفنا هذا.. عرفنا بيت الداء.. وسر تخلفنا عن ركب الحياة.. بعد أن سرنا طويلا في الطليعة وما علينا اليوم إلا أن نحارب هذا الجمود فينا حربا لا هوادة فيها.. وأن نقف لدعاة الجمود والتخلف.. بالمرصاد.. وأن نغير موقفنا من جمود وتردد.. إلى تحرر وانطلاق بإيمان وقوة.. استجابة لدعوة القرآن.. الذي جعل الإسلام.. الحصن الحصين للحريات جميعا.. وفي مقدمتها حرية الفكر..
إن الله لا يغير ما بقوم.. حتى يغيروا ما بأنفسهم..