قيمة الحريّة في الفكر العربيّ

الحبيب الجنحاني

الحريّة هي الأصل في الإنسان. هكذا يراها الإسلام. ومن هنا كانت مقولة عمر بن الخطاب الشهيرة (متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً?).

التأريخ لأيّ مفهومٍ من المفاهيم الفكريّة أمرٌ عسيرٌ ومعقّدٌ في جميع الثّقافات, إذ إنّه يمرّ بمراحل مختلفة, متأثّرا بظروفٍ اقتصاديّةٍ، اجتماعيّةٍ، معيّنةٍ, وتُصبح المسألة أشدّ عسراً في العصور الكلاسيكيّة, كما هو الشّأن في التّاريخ العربيّ في مرحلة العصر الوسيط؛ ذلك أنّ المفهوم يتغيّر, متأثّراً برؤى دينيّةٍ وسياسيّةٍ متباينةٍ, بل قلْ متصارعةً في بعض الحالات, وسنلمس ذلك في إشارتنا لاحقاً لمسألة الجبر والاختيار.
 
 

تأثر مفهوم الحريّة في التاريخ العربيّ الإسلاميّ بأمرين أساسيين:

 

 

أ- بالمذاهب الدينيّة, فالنّصوص القديمة لم تتحدّث عن الحريّة بالمعنى السياسيّ للمفهوم, وإنّما أسهبت في الحديث عن الاختيار مقابل الجبر, وجاء الحديث عن الحريّة باعتبارها نقيضاً للعبوديّة. ولكن ذلك لا يعني في نظرنا غياب الشّعور بالحريّة في مقاومة مظاهر الظلم والاستبداد, كما عبّرت عن ذلك الانتفاضات الاجتماعيّة، التي تزعّمتها طبقة العامّة في تاريخ المدينة العربية الإسلاميّة مشرقاً ومغرباً, فهي انتفاضات ذات محتوى اقتصاديٍّ، اجتماعيٍّ, يُعبّر عن شكلٍ جنينيٍّ من أشكال الصّراع الطبقيّ, ولكنّه اصطبغ بالصبغة الدينيّة المذهبيّة, وهي صبغة ذلك العصر.

ب - بظاهرة العبوديّة, وهي ظاهرةٌ راسخةٌ في الحضارات القديمة, وفي المجتمع العربيّ قبل الإسلام؛ وقد سعت الدعوة الجديدة إلى أنْ تحدّ من الظّاهرة, ولكن لم يكن ممكناً تاريخيّاً منعها, والقضاء عليها, وبخاصّةٍ بعد التطوّر العمرانيّ، الذي عرفه المجتمع العربيّ الإسلاميّ في القرون الستة الأولى للهجرة (السابع- الثاني عشر ميلاديّاً), وظهور المدن العربيّة العملاقة, وما كمن وراء ذلك من ديناميّةٍ اقتصاديّةٍ اجتماعيّةٍ جعلت المجتمع العربيّ الإسلاميّ يُمثّل يومئذٍ قلب الدورة الاقتصاديّة العالميّة.

أصبح الرقيق يمثّلون عصرئذٍ قوّةً منتجةً هائلةً, وبضاعةً ثمينةً من بضائع العصر, وقد حال هذا العامل الاقتصاديّ، إلى جانب عوامل أخرى، دون قطع خطوةٍ جديدةٍ نحو تقليص ظاهرة العبوديّة والرّق.

إنّ المجال لا يسمح هنا بتناول المراحل التاريخيّة المختلفة التي مرّ بها مفهوم الحريّة في التاريخ العربيّ, لكنّنا سنُركّز على الجوانب التي لها علاقة بالسياسة, وشؤون الحكم, لنصل بعد ذلك إلى مرحلة النّهضة العربيّة الحديثة، عندما برز مفهوم الحريّة في تاريخ الفكر العربيّ المُعاصر بمعناه السياسيّ, ومقابلاً للحكم المطلق الاستبداديّ...

الأيديولوجيا الجبريّة

ظهرت في صدر الإسلام مفاهيم لها علاقة بمفهوم الحريّة, وإنْ لم تستعمل المصطلح, ونجدها أساساً في أدبيّات علم الكلام, وفي مؤلّفات الفلاسفة, والفقهاء, فهي مرتبطة أساساً بالدين وبالأخلاق, وبالنّظرة إلى الإنسان في علاقته مع خالقه من جهةٍ, ومع طبيعته البشريّة ومسؤوليّته في ما يصدر عنه من أعمالٍ من جهةٍ أخرى, وأبرز هذه المفاهيم ما يتّصل منها بمسألة الجبر والاختيار.

لمّا تحوّلت الخلافة الراشدة القائمة على الشورى إلى ملكٍ كسرويٍّ عضوضٍ مع الأمويين, دشّن معاوية بن أبي سفيان مقولة الأيديولوجيا الجبريّة الأمويّة, ونظّر لها أصحاب السلطة الجديدة, ومن أصبح يدور في فلكهم من العلماء, فقد زعم معاوية أنّ الماضي خيرٌ من الحاضر, والحاضر خيرٌ من المستقبل. خاطب سكّان المدينة قال: (فاقبلونا بما فينا, فإنّ ما وراءنا شرٌّ لكم, وإنّ معروف زماننا هذا منكر زمانٍ قد مضى, ومنكر زماننا معروف زمانٍ لم يأتِ)؛ ولمّا قدم زياد بن أبيه إلى البصرة عاملاً لمعاوية عليها، ألقى خطبته المعروفة (البتراء) وقال: (أيّها النّاس إنّا أصبحنا لكم ساسةً, وعنكم ذادةً, سنسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا, ونذود عنكم بفيء الله الذي خوّلنا....)؛ ولمّا ولّي يزيد بن معاوية الخلافة خطب، فقال: (الحمد الله الذي ما شاء صنع, مَن شاء أعطى, ومَن شاء منع, ومَن شاء خفض, ومَن شاء رفع...), وحاولت الأيديولوجيا الجبريّة الأمويّة توظيف النّص الدينيّ توظيفاً سياسيّاً مكشوفاً لتجريد الإنسان من قدرته على الاختيار, وعلى التمييز بين القبيح والحسن العقليين, وفرض الطاعة لأصحاب السّلطان, (فالله عزّ وجلّ علم أنّه لاقوام لشيءٍ ولا إصلاح له إلّا بالطاعة التي يحفظ الله بها حقّه, ويمضي بها أمره, وينكل بها عن معاصيه). ولم يقتصر التنظير للأيديولوجيا الجبريّة على أصحاب السّلطة, بل جنّد له خطباء المساجد, والشعراء, والقصاص, وبلغ الأمر إلى وضع أحاديث ونسبتها إلى أساطين رواة الحديث أمثال أبي هريرة, وعائشة, وابن عمر لفرض الطاعة, وإعفاء الخلفاء من العقاب يوم القيامة, فقد جاء في إحدى الروايات أنّ جبريل أتى إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا محمّد أقريء معاوية السّلام, واستوصِ به خيراً، فإنّه أمين الله على كتابه, ووصيّه, ونعم الأمين. وجاء في نصٍّ آخر أنّ النبيّ قال: الأمناء ثلاثة جبريل وأنا ومعاوية, كما روّجوا أحاديث تعفي الخلفاء من العقاب يوم الحساب، مثل: إنّ الله تعالى إذا استرعى عبداً رعيّةٍ كتب له الحسنات, ولم يكتب له السيّئات؛ ويقول نصٌّ آخر إنّ من قام بالخلافة ثلاثة أيّامٍ لم يدخل النار.

تتّضح العلاقة الوطيدة من هذه الأمثلة القليلة بين الأيديولوجيا الجبريّة وإشكاليّة الحريّة في التاريخ العربيّ؛ فقد سعى المنظّرون لها إلى سلب الإنسان من كلّ قدرةٍ على الاختيار, وأنّه بالتالي مسيّرٌ في كلّ شيءٍ, ولا بدّ أنْ يُطيع كلّ صاحب سلطان, ذلك أنّ مشيئته هي من مشيئة الله. طبعاً، لم يصدّق كثيرٌ من المسلمين مقولات أنصار الجبريّة وحججهم, وانبرت تيّاراتٌ مختلفةٌ للرّدّ عليهم, مؤكّدةً أنّ الإنسان مخيّرٌ, وليس مسيّراً, وأنّه بالتالي مسؤولٌ عن أفعاله, وتفطّنوا إلى أنّ الهدف الأساسيّ من التنظير للجبريّة إكساب الشّرعيّة سلطة غير شرعيّة. وهكذا اندلعت بين أنصار التيّارين حربٌ سياسيّةٌ وظّف فيها النّص الدينيّ إلى حدٍّ بعيدٍ؛ فقد نسبت أحاديث موضوعة إلى كبار الرواة تقول عكس ما لمحنا إليه قبل قليلٍ, فقد روي عن عبد الله بن مسعود أنّه قال: (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه, وفي روايةٍ أخرى إذا رأيتم معاوية يطلب الإمارة فاضربوه بالسّيف, وغيرها من الأحاديث التي وضعت من أجل أهدافٍ سياسيّةٍ, علاقتها واضحة بالمحتوى السياسيّ للحريّة. وفي خضمّ هذا الصّراع السياسيّ الدينيّ برزت مدرسةٌ جديدةٌ أسّسها الحسن البصريّ تقول: إنّ النّاس مخيّرون, وهم بالتالي مسؤولون عن أفعالهم, إنّ الله لا يرضى الظلم, فكيف يُجبر الإنسان على فعله, وكيف يأمر الله الناس بعبادته, ثمّ يُجبرهم على فعل المعاصي? واعتمد الحسن البصريّ في تأسيس خطابٍ تنويريٍّ جديدٍ على النّص القرآنيّ بالدرجة الأولى, كما ورد ذلك في جوابه على رسالة عبد الملك بن مروان (لمن شاء منكم أن يتقدّم أو يتأخّر. كلّ نفسٍ بما كسبت رهينة, إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً) .

وبرز هذا الموقف في المجال السياسي في ما أشارت إليه المصادر قائلةً: إنّ معبد بن خالد الجهنيّ, وعطاء بن يسار دخلا على الحسن البصريّ, وهو يحدّث النّاس في مسجد البصرة فسألاه: (ياأبا سعيد, إنّ هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين, ويأخذون الأموال, ويفعلون, ويقولون: إنّما تجري أعمالنا على قدر الله), فأجابهما الحسن قائلاً: (كذب أعداء الله)...

وفي نهاية هذه الفقرة أشير إلى مسألتين:

ا - إسهام التيار التنويري المعتزليّ في إعطاء بعدٍ سياسيٍّ لمفهوم الحريّة بنشره مقولة الاختيار بين الناس, وإقامة الحجّة من خلال النّص الدينيّ على أنّ الإنسان مخيّر, وليس مسيّراً, وهو بالتالي مسؤولٌ عن أفعاله, وفنّدوا بذلك مقولات الأيديولوجيا الجبريّة التي سعت منذ البداية, ومن خلال تأويل النّصوص الدينيّة إلى تأليه صاحب السلطان, ونفي الخطأ عنه, وأذهب إلى القول: إنّ هذا الإسهام يُعدّ أبرز إنجاز أنجزته مدرسة الاعتزال في تاريخ الفكر الدينيّ السياسيّ العربيّ.

ب - غاب الجدل حول مسألة الجبر, والاختيار, والتنظير لشرعية السلطة السياسية بعد بروز سلطة الجند, وأصبحت الفرق الانكشاريّة هي دعامة السّلطة, وقد استفحل أمر هذه الظاهرة مع مجيء السّلاجقة, واستمرّت مع العثمانيين, ورافقتها ظاهرتان جديدتان:

- طغيان ظاهرة الإقطاع العسكريّ في المجال الاقتصاديّ.

- التحام مدرسة النقل: الأشعريّة مع السلطة السياسيّة ذات الطابع العسكريّ.

الحريّة في العصر الحديث

ليس من المبالغة القول: إنّ مفهوم الحريّة بمعناه السياسيّ, والذي استعمل نقيضاً للحكم المطلق الاستبداديّ لم تتضح سماته, ولم يستعمله رواد حركات التنوير العربيّ نصلاً ناجعاً لمقاومة النّظم الاستبداديّة إلّا بداية من النّصف الأوّل للقرن التاسع عشر, ولم يتناول التنويريون العرب قضيّة الحريّة في بداية الأمر بصفةٍ مستقلّةٍ, وإنّما أسهبوا الحديث في وصفها, وكيف أسهمت في تقدّم البلدان الأوروبية في ما سجّلوه في رحلاتهم إلى أوروبا, محاولين في بعض الحالات أن يجدوا له مقابلاً في تراث الفكر السياسيّ العربيّ. ويلمس الدارس لأدبيات الفكر التنويري العربي الحديث في يسر تأثير قيم حداثة عصر الأنوار, ومبادئ الثورة الفرنسية في المفاهيم السياسية التي استعملها رواد النهضة العربية مثل الحرية, والحريات العامة, والعدل السياسي, والحقوق الطبيعية, والتمدن, والنظم الدستورية, والدولة المدنية, وغيرها من المفاهيم, وقد أدرك الكثير منهم أن حداثة عصر الأنوار قد أصبحت حداثة كونية.

فما هي يا ترى أبرز سمات هذه الحداثة التي حاول الرواد اقتفاء آثارها?

يمكن تلخيص ذلك في أربع مقولات:

- مقولة (لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه).

- المقولة الثانية تدمج العقل في ثالوثٍ يقوم على العقلانيّة, الحريّة, والعدل السياسيّ الاجتماعيّ.

- المقولة الثالثة: تحرير التاريخ والإنسان من أسطورة الحتميّة.

- المقولة الرابعة: تتعلّق بشرعيّة السّلطة, فلم تنشأ حركة الأنوار باعتبارها تيّاراً فلسفيّاً أو فكريّاً مجرّداً, بل ولدت, وشقّت طريقها في خضم صراعٍ مع الواقع المعقّد, وهو واقعٌ سيطرت عليه قوّتان رجعيّتان: قوّة الكهنوت الكنيسيّ وقوّة النظم السياسيّة الاستبداديّة. فليس من الصدفة إذن أن يكون أخطر سؤالٍ طرحه مفكّرو عصر الأنوار, وأبلغه أثراً في الأحداث التاريخيّة، التي عرفها القرنان الثامن عشر والتاسع عشر هو: من أين تستمدّ السّلطة السياسيّة شرعيّتها للتحكّم في رقاب النّاس, ومصالح المجتمع? وجاء الجواب فيما طرحه روسو من نظريّاتٍ في (العقد الاجتماعيّ), فليس من الصدفة أن يوليه أحد روّاد النّهضة العربية الحديثة رفاعة الطهطاوي عنايةً خاصّةً, فمن المعروف أنّ إيمانويل كانت (1724 - 1804) لم يقرّ أيّ تناقضٍ بين الإيمان والعقل في فلسفته, وفي حياته, ولكنّه يقول عن مؤسّسات الكهنوت الدينيّ, وعن السّلطة الاستبداديّة إنّها مؤسّسات (تدوس بأرجلها حقوق البشر المقدّسة)...

قد ألمحت قبل قليلٍ إلى أنّ بعض روّاد حركات التنوير العربيّ لم يتناولوا مفهوم الحرية في حد ذاته, وبصفةٍ مستقلّة, ولكنّهم وصفوا في رحلاتهم أهمّية الحريّة في ما شاهدوه من تقدّمٍ في المجتمعات الأوروبيّة؛ ونجد في طليعة هذه النّصوص رحلة الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) (تخليص الإبريز في تلخيص باريز), وقد ترجم فيها هادفاً الإشادة بالحريّة, الدستور الفرنسيّ, أو (الشرطة) كما يُسمّيه, وتحدّث عن الحقوق الطبيعيّة, وعن العدل, وعن مناخ الحريّات في باريس, وبخاصّةٍ حريّة الصّحافة والنّشر, وأكّد واعياً أنّه قرأ جان جاك روسو, ولاسيّما (العقد الاجتماعي), وكذلك روح الشرائع لمونتسكيو, وأولى عناية لمؤلفات جان جاك بورلماكي, وفولتير. وكان الطهطاوي حذراً في معالجة بعض المفاهيم في مؤلفاته, متحاشياً إثارة غضب (ولي النّعم) كما يطلق على سيّده محمّد علي, أو تأليب شيوخ الأزهر المحافظين ضد مشروعه التنويريّ، فحاول أن يجد لبعضها مقابلاً في التراث العربيّ الإسلاميّ, إذ أشار إلى أنّ ما يُسمى عندهم بالحريّة يُقابل ما يُسمّى عندنا بالعدل والإنصاف. ولكن بالرغم من هذا الحذر فيُمكن القول: إنّه قد قدّم في نصّ (تخليص الإبريز) فكر البورجوازيّة الفرنسيّة الديمقراطيّ في القرن التاسع عشر, وتعدّ الحريّة علامة بارزة في هذا الفكر.

العدل السياسيّ

أدرك الطهطاوي أهمية العدل السياسي لتحقيق التقدم, ولكنه لم يفصح عنه صراحة فاكتفى بالحديث عن العدل, مؤكدا (أنه أساس الجمعية التأنسية والعمران والتمدن, فهو أصل عمارة الممالك التي لا يتم حسن تدبيرها إلا به, وجميع ماعدا العدل من الفضائل متفرع عنه, وكالصفة من صفاته). أما معاصره خير الدين التونسي فقد قطع خطوة جديدة لما تحدث في كتابه (أقوم المسالك) عن العدل السياسي, واعتبر الحرية هي العامل الحاسم فيما عرفته الممالك الأوربية من تقدم, فقد أدرك صاحب (أقوم المسالك), ومعه زمرة من رجال الإصلاح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, أن الأوضاع لا يمكن أن تتغير, وأن يخطو المجتمع العربي الإسلامي خطوات ثابتة فوق درب الحداثة الحقيقية دون تغيير الأوضاع السياسية, وبعث مؤسسات دستورية قائمة على العدل السياسي والحرية, فليس من الصدفة أن يقف خير الدين وقفة طويلة عند مفهوم الحرية, ودورها فيما حققه المجتمع الأوربي من تقدم, ولا غرو في ذلك, وهو الذي لمس عن كثب ويلات الحكم المطلق الاستبدادي وآثاره الوخيمة, مؤكدا (أن الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأورباوية), فتحدث عن الحرية الشخصية, وعن الحرية السياسية وعن حرية النشر والتعبير, وعن علاقة الحرية بالاقتصاد, مستنجدا بابن خلدون في المقدمة في إبراز علاقة الحكم الاستبدادي بخراب العمران.

ووصف معاصر ثان للطهطاوي هو أحمد فارس الشدياق (1804-1887) مظاهر الحرية في رحلته (كشف المخبأ عن فنون أوربا) مظاهر الحرية التي عاشها في كل من المجتمعين البريطاني والفرنسي,وحلم فرنسيس فتح الله مراش(1836-1873) في روايته الرمزية (غابة الحق) بعالم جديد تتحقق فيه شعارات الحرية والعدالة والمساواة, متأثرا بشعارات الثورة الفرنسية, ودار الحوار في هذه الرواية أساسا عن كيفية إقامة (مملكة المدنية والحرية), ولخص شبلي الشميل (1850-1917) في كتيب بعث به إلى السلطان عبد الحميد عام 1896 بعنوان (شكوى وأمل) نظرته إلى ما كانت تفتقر إليه السلطنة العثمانية من علم وعدل وحرية.

وقد سخر جمال الدين الأفغاني (1838-1897) كل حياته مدافعا عن استقلال البلدان العربية الإسلامية, وذائدا عن مبادئ الحرية. كتب عنه المصلح المصري الشيخ مصطفى عبدالرازق قال : (حسب جمال الدين من عظمة ومجد, أنه في تاريخ الشرق الحديث أول داع إلى الحرية, وأول شهيد في سبيل الحرية).

وبلغ الأمر بشيخ زيتوني معمّم أن يعتبر أنّ الوطن الحقيقي ليس الوطن الجغرافيّ, بل الوطن الذي يستنشق فيه الإنسان نسائم الحريّة, فنقل لنا في رحلته إلى فرنسا ضمن كتابه (إتحاف أهل الزمان...) هذا الحوار الذي دار بينه وبين أحمد باي, وهما يتجوّلان عام 1846 في شارع الشانزلزيه بباريس: (فقال لي( يعني أحمد باي) :ما أشوقني للدخول من باب عليوة (أحد أبواب مدينة تونس) وأشتم رائحة الزيت من حانوت الفطايري داخله, فقلت له مداعباً, وأنا أتنفّس في هواء الحريّة, وأرد من مائها, وقدماي بأرضها: يحق لك ذلك إن دخلت من هذا الباب تفعل ما تشاء, أما الآن فأنت رجل من الناس, فقال لي: لا سامحك الله, لم لا تحملني على حب الوطن لذاته, وعلى أيّ حالاته? فقلت له: إنّ هذا البلد ينسي الوطن والأهل كما الشّاعر:

ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم يُعاب بنسيان الأحبّة والأهل

فقد تجاوز الشّعور بالحريّة, والأمان من الظلم لدى هذا الشيخ الزيتونيّ المستنير, وهو يتجوّل في باريس قبل ما يربو عن قرنٍ ونصف حدود الوطن, وما ارتبط به من هويّةٍ منغلقةٍ, متمنّياً أن تمتزج الأنا بهويّة الآخر ليتنفّس هواء الحريّة في وطنه.

الحريّة والتنوير

أصبح مفهوم الحريّة موضوعاً بارزاً في جلّ نصوص التنويريين العرب في الربع الأخير من القرن التاسع عشر, ومطلع القرن العشرين؛ نجد ذلك في كتابات الأمير مصطفى فاضل باشا أبو الأحرار, والشيخ محمد عبده (1848-1905), وفرح أنطون, وأديب اسحق, وولي الدين يكن (1873-1921), وسليم سركيس (1867-1926), وأحمد لطفي السيد, وسلامة موسى, وطه حسين.

ويُعدّ عبد الرحمن الكواكبي (1854-1902) في طليعة التنويريين العرب الذين أعطوا مفهوم الحريّة حيّزاً بارزاً في كتاباتهم, كتب يقول في (أمّ القرى) : (ولا شكّ أنّ الحريّة أعزّ شيءٍ على الإنسان بعد حياته, وأنّ بفقدانها تفقد الآمال, وتبطل الأعمال, وتموت النّفوس, وتتعطّل الشّرائع, وتختلّ القوانين).

المصدر: مجلة العربي الكويتيّة.

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك