الطاعة السياسية: دراسة لتطور وإشكاليات المفهوم في الفكر السياسي الإسلامي

أ.هاني عبادي محمد سيف المغلس

 

عادة ما تكون المفاهيم بما فيها تلك المفاهيم ذات الأصل القرآنيّ عرضةً للعديد من التطوّرات؛ فالممارسة البشريّة المُحاطة بجملةٍ من العناصر المتداخلة، والظروف والملابسات المعقّدة، تُضفي على المفاهيم ظلال التّجربة البشريّة وتخضعها لمقتضياتها في الكثير من الأحيان، وقد يصل الأمر إلى حدوث بعض التغييرات في المحتوى المعرفيّ لتلك المفاهيم كتعبيرٍ عن الاستجابة الإراديّة لمتغيّرات الواقع.

والتحدّي الذي تواجهه المفاهيم ذات الأصل الشّرعيّ – لا سيّما السياسيّة منها- تتمثّل في مدى قدرتها على استيعاب متغيّرات الواقع مع الاحتفاظ في ذات الوقت بهويّتها وقوامها النظريّ، ولعلّ حركة التطور التاريخيّ لمفهوم الطاعة السياسيّة كانت محكومة بذلك التحدّي، ففي الوقت الذي حرص فيه المسلمون على الاحتفاظ بجوهر مفهوم الطاعة السياسيّة وممارسته وفق تحديداته القرآنيّة في عهد الخلافة الراشدة، ظهرت تطوّراتٌ جوهريّةٌ في منظومة الحكم السياسيّ منذ العهد الأمويّ، دفعت بالمفهوم إلى إنتاج "صيغٍ تاريخيّةٍ" لربط المفهوم بحركة الواقع، كي لا يبدو متخلّفاً عنها؛ وأهمّ تلك الصِيَغ التي شاركت في إنتاجها الدوائر العلميّة المختلفة خارج إطار المحتوى القرآنيّ والدلالات الأصليّة للمفهوم، هي طاعة المتغلّب، وطاعة الفاسق، وطاعة الجائر.

لقد ظهرت منذ ما بعد منتصف القرن الأوّل الهجريّ أنماطٌ جديدةٌ من الحكم السياسيّ، استدعت تطوير بدائل فقهيّة واقعيّة كان غرضها إحكام الربط بين الشّريعة والسياسة، كي لا تتّجه الممارسة السياسيّة بعيداً عن الشّريعة. ومن هنا، كان الفكر الإسلامي أكثر استعداداً لإعادة تأويل وقراءة النّصوص الشّرعية لتنسجم مع الحالة السياسيّة الجديدة، وبدا أن تلك الخطوة كاملة الشرعيّة لما تحقّقه من مكاسب اجتماعيّة وشرعيّة، على رأسها "حفظ الدين". وقد تعزّز ذلك الاتّجاه التأويليّ ابتداءً من القرن الثالث الهجريّ، حيث أعاد علماء الحديث ترسيم المفهوم على أساس الأحاديث التي دونت في المسانيد، ثمّ في كتب الصّحاح، وكثيرٌ منها لم يكن معروفاً لدى فقهاء العصر الأوّل، بمن فيهم أئمّة المذاهب الأربعة، باستثناء الإمام أحمد بن حنبل، الّذي مثّل نقطة تحوّلٍ، تمّ عبرها الانتقال من ثقافة الخروج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه الواسع إلى ثقافة الطاعة السياسيّة ذات الصبغة التأويليّة.

ووفقا لمعطيات النّسق الحديثيّ الذي تواكب مع دخول الفقه مرحلة التقليد منذ القرن الرابع الهجريّ، أصبحت طاعة الفاسق والجائر والمتغلّب جزءاً من الشّريعة، حيث جرى إحكام ربط تلك المدركات بها، وترسّخت قاعدة حرمة الخروج على الحاكم الجائر، وهي القاعدة التي تبين من خلال الدراسة أنّها مجرّد دعوى تاريخيّة، ظهرت بفعل تراكماتٍ سلبيّة تشكّلت بموجبها ثقافة الطاعة الكاملة منذ منتصف القرن الثاني الهجريّ تقريباً.

لقد فرض استقرار أنظمة الجور السياسي في بعض المراحل ونمو تقاليد سياسيّة لا علاقة لها بأسس التصوّر الإسلاميّ للمسألة السياسيّة - كـ"ولاية العهد" و"إمارة الاستيلاء"- مجموعة هائلة من التحوّلات، بحيث ابتعدت الممارسة السياسية الإسلاميّة عن الشورى في الحكم، وعن مفهوم البيعة الصحيحة القائمة على الرضا والاختيار، كما تم إسقاط العدل كشرط أساس لمن يتولّى الحكم بسبب غياب "الحكّام العدول"، وهذا ما عبّر عنه العزّ بن عبد السّلام في إشارته إلى القبول بحكم "الأقلّ فسوقاً" لغلبة الفسوق على الحكّام، وعلى ذلك أعيد إنتاج تصوّرٍ واقعيٍّ للحكم لا يقوم على العدل وإنّما على "الأقلّ فسوقاً".

وقد وجدنا هذا التصور واضحاً عند مفكّري وفقهاء "الآداب السلطانيّة"، كابن المقفع والطرطوشي وابن الطقطقى وغيرهم، فيما أطلقنا عليه وصف "تثبيت الطاعة وتحريك العدل"؛ فالطاعة – بحسب هؤلاء- قيمة ثابتة لا علاقة لها بعدل السّلطة أو جورها، كما أنّ انحراف السّلطة يغدو مبرّراً إضافيّاً للمزيد من سلوكيّات الطّاعة – كالدعاء لها مثلاً- وفق مقولة أساسيّة فحواها "السّلطان لا تُصلحه إلّا الطّاعة"، وهذا الاختلال في منظومة القيم الإسلاميّة دفع بشكلٍ مطّرد باتّجاه تفريغ مفهوم الطّاعة السياسيّة من مضامينه القرآنيّة، وتكريس مفهوم "طاعة الضرورة" الذي راح يكتسب مع الوقت شرعيّة فقهيّة واجتماعيّة.

ذات التحولات طرأت أيضاً على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالتحليل التاريخيّ يظهر أنّ الممارسة السياسيّة الإسلامية قامت – في الصدر الأوّل- على شمول هذا المبدأ الذي كان يتضمّن إنكار المنكر السياسيّ باليد، واستمرّ ذلك حتّى منتصف القرن الثاني الهجري تقريباً. فقد شهد التاريخ الإسلامي العديد من حركات إنكار المنكر السياسيّ كثورة الحسين بن علي (ر) (61هـ)، وثورة أهل المدينة على يزيد بن معاوية (63هـ)، وثورة عبد الله بن الزبير (ر) في مكة (64هـ)، وثورة الفقهاء على الحجّاج بن يوسف الثقفي وعبد الملك بن مروان (81- 84 هـ)، وثورة زيد بن علي على هشام بن عبد الملك (121هـ)، ثمّ ثورة محمد النّفس الزكيّة وأخوه إبراهيم على أبي جعفر المنصور (سنة 145هـ).

غير أنّ عوامل تاريخيّة ظهرت منذ منتصف القرن الثاني الهجريّ كان لها الأثر الكبير في التحول من "ثقافة الخروج" بغرض تغيير المنكر السياسيّ، إلى "ثقافة الطاعة السياسية الكاملة". وقد أظهر التحليل التاريخي أنّ أهمّ تلك العوامل تمثلت في ظهور عصر التدوين الذي أعيد فيه تنظيم العلوم والمعارف الإسلاميّة ومن ضمنها المعرفة السياسيّة – التي لم تكن قد تبلورت بصورةٍ مستقلّةٍ حتّى ذلك الوقت- ضمن مشروعٍ ثقافيٍّ كبيرٍ تبنّته السّلطة العبّاسية، كما كان لقيام الدولة العباسيّة على أنقاض الحكم الأمويّ والمضمون الاجتماعيّ الذي جسدته قبل أن تنحرف عنه لاحقاً أثر في ذلك التحوّل؛ غير أنّ إخفاق حركات تغيير المنكر السياسيّ، وما صاحبها من سفكٍ للدّماء، وانتهاك للحرمات، من قبل أنظمة الجور، كان له الأثر الأكبر في ذلك التحول، الذي لم يتوقّف عند حدود دائرة الفقه السنيّ، بل شمل المعتزلة والزيدية. فقد شهد منتصف القرن الثاني الهجريّ آخر الثورات التي شارك فيها المعتزلة، ولاحقاً قام القاضي عبد الجبّار بإعادة صياغة مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يُعدّ أحد أصول المعتزلة، ولحمه بالنّظرية السنّيّة التي كانت قد استقرّت آنذاك.

في ذات الوقت لاحظنا ميلاً أقلّ للثورة عند الزيديّة. وتظهر الكتابات المتأخّرة لعلماء الزيديّة خفوتاً واضحاً لمبدأ الخروج على الحاكم الظالم، واقتراباً من فقه السياسة الشّرعية، مع الاحتفاظ بجوهر التصوّر الزيديّ حول أحقيّة أهل البيت بالخلافة؛ أمّا الشيعة فإنّهم من حيث الأصل لا يرون الثورة، وإن تعاطفوا مع ثورات أهل البيت بصورةٍ أو بأخرى، ويتّضح من ذلك أنّ الفكر الإسلاميّ اتّجه بتيّاراته المختلفة وبدرجاتٍ متفاوتةٍ إلى إفساح المجال – إنْ لم يكن – تعضيد ثقافة الطّاعة السياسيّة الكاملة.

وهكذا تمكّنت الدراسة من إثبات صحّة المقولة الأولى حول الأثر التاريخيّ في تطور مفهوم الطاعة السياسية وانعكاس ذلك على التحديدات القرآنية للمفهوم، والخصائص التي اكتسبها في عهد النبوة، ولكن مع ملاحظة تفاوت حضور ذلك الأثر بالنسبة لمجمل تيّارات الفكر السياسي الإسلاميّ، فالمعتزلة والشيعة والزيدية، وإن اتّجهوا إلى التعامل مع الواقع السياسيّ إلّا أنّهم أحجموا عن التنظير له على أساسٍ دينيٍّ، أو تحويل معطياته إلى ما يُشبه القواعد الشرعية الإجماعيّة، إذ لم نجد أثراً لدى هؤلاء لمقولات وجوب طاعة الجائر، أو الاعتراف الشرعي بحكم المتغلّب، أو الإقرار بولاية الفاسق ولاية عامة، كما هو الحال بالنسبة للفكر السياسي السنّي، وربّما كان السبب في ذلك احتفاظ تلك التيّارات بمواقعها خارج السّلطة السياسيّة (سلطة الخلافة)، بوصفها قوى معارضة من الوجهة التاريخيّة، وإن تقاطعت في بعض المراحل مع نظم الحكم القائمة بصورة أو بأخرى، أو وصلت إلى الحكم في بعض الأطراف.

أنتج المفهوم خلال حركته في التاريخ العديد من الإشكاليّات المرتبطة بالعلاقة بين السلطة والأمّة، فلقد كان واضحاً أنّ مفهوم الطّاعة السياسيّة في الدائرة السنيّة يتّجه بفعل القراءات التأويليّة المتواصلة للنّصوص تحت ضغط الواقع السياسيّ إلى الابتعاد عن محتواه القرآني وأهمّ مظاهر ذلك تمثلت في الآتي:

1- إسقاط المواصفات القرآنيّة لمفهوم أولي الأمر، وإلغاء الصّفة الجماعيّة لهذا المفهوم، بحيث بات يطلق على كلّ متغلّب وصف "ولي الأمر" بما يحمله من دلالات شرعيّة مغتصبة، أمّا من حيث الأصل فإنّ مفهوم أولي الأمر - كما توصلت الدراسة- هو مفهوم جماعيّ لا يتّجه إلى أي نوعٍ من التحديدات الفئويّة (علماء/حكّام)، وإنّما يستوعب ضمن بنيته الشّرعيّة الجانب الرسميّ من الظاهرة السياسيّة، دون أن يستغرق القوّة الاجتماعيّة للأمّة المسلمة، بحيث يظلّ المفهوم المقابل "أهل الحلّ والعقد" مفهوماً فاعلاً وموازناً، أمّا مواصفات أولي الأمر القرآنيّة، فهي: الحكم بالعدل، أداء الأمانة، الاختيار الاجتماعيّ، الرّد إلى الله والرّسول عند التنازع، وعلى هذا الأساس قامت الدراسة بالتفريق بين نوعين من النّظم السياسيّة الأول: هو سلطة أولي الأمر، والثاني هي نظم الضّرورة بصورها المختلفة في التاريخ الإسلاميّ.

2- اعتبار طاعة أولي الأمر في القرآن الكريم مطلقة، وقد ترتب على النظر إلى مفهوم الطاعة السياسية في القرآن الكريم بوصفه مفهوماً غير مقيّد، إسقاط القيود القرآنيّة عن المفهوم، فلم يعتبر العدل قيداً، ولا الشّورى، ولا الرّد التشريعيّ إلى الله والرسول (الحكم بالشريعة)، وانحصرت حدود المفهوم – وفقاً للفهم الحرفيّ لأحاديث الطاعة- في قيدي المعصية والمنكر، واللذين يأخذان – في الكثير من الأحيان- معنى واحداً، ويفقدان قدرتهما على الضبط والتقييد في المجال السياسيّ.

3- الخلط بين الطاعة الدينيّة والطاعة السياسيّة، عبر القول بأنّ طاعة أولي الأمر في غير المعصية هي طاعة لله والرّسول. وقد قامت الدراسة بمراجعة ذلك الفهم، عبر إثبات الطبيعة الاستخلافيّة لمفهوم الطاعة السياسيّة، فالمفهوم ليس مفهوماً تعبّديّاً (طاعة الله)، ولا تصديقيّاً (طاعة الرسول). ومن هنا، يتّضح الفرق بين الطّاعة الدينيّة التي هي مطلقة وكاملة وثابتة وترتبط بعقيدة المؤمن، وبين الطّاعة السياسيّة بوصفها نسبيّة، ومتغيّرة، ومحدّدة، ومقيّدة ، وخاضعة لشروط الواقع، وترتبط بدرجةٍ أساسيّةٍ بسلوك المؤمن، إذ لا يترتّب عليها كفرٌ أو إيمانٌ.

كما أنّ أفعال وتصرّفات أولي الأمر السياسيّة قد لا توافق مقصود الله ورسوله – حتى مع افتراض تحريها ذلك- وبالتالي فهي ليست عين طاعة الله ورسوله، لذلك فإن التداخل بين الطاعة الدينية والطاعة السياسية، وعدم تحديد مجال الطاعة السياسية والتمييز بينه وبين مجال العقيدة، سمح بإضفاء صبغة دينية على السلطة السياسية، ومنحها صلاحية التدخل في شئون العقيدة والعبادة، وإهمال وظائفها التنموية والسياسية والحضارية.

4- القول بحرمة الخروج ساعد على وجود ألوان عديدة من الخروج التكفيريّ، بسبب أن تكفير السلطة مثل شرطاً تاريخيّاً للخروج عليها، وهكذا صبغت الصّراعات السياسيّة بصبغة دينية بسبب عدم التفريق بين الخروج السياسيّ بغرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي هو حقّ للأمّة، وبين الخروج لأسباب عقديّةٍ، كما منح السلطة السياسيّة حصانة من العزل السياسيّ، باستثناء اقترافها للكفر البواح وعند القدرة على ذلك.

5- الخوف من الفتنة حال دون تطوير آليّات مؤثرة للتّعامل مع السّلطة السياسيّة، وتسبّب في إقصاء قواعد الشّورى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعارضة وغيرها، وهو الأمر الذي أسهم من الوجهة التاريخيّة في إنتاج المزيد من الفتن التي أضعفت الدولة والمجتمع في آن.

6- ظهرت مشكلة الاستبداد السياسي كنتيجة للميل المتزايد إلى مسايرة السّلطة السياسيّة وما تنتجه من مركّبات إيديولوجيّة تخدم حاجياتها في البقاء والاستمرار، وقد ظهر ذلك الميل من خلال تعقيد شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإطلاق الصبر، واستحضار الخوف من الفتنة، وتعطيل الشورى، والتخلي المسبق عن التفكير في تطوير الممارسة السياسية والاكتفاء منها بالحد الأخلاقي الأدنى، وحدث نتيجة لذلك تضخم في فقه الطاعة السياسة في مقابل ضمور شديد في المنظومة القيمية، ساعد على إيجاد بيئة ملائمة للاستبداد السياسي.

لقد وجدت تلك المشكلات بصور وكيفيات مختلفة عبر مسار تطور المفهوم، ومع وجود ما يؤشر إلى أن بعض العلماء سعوا إلى الحدّ من تضخم فقه الطاعة السياسية فإنّ الاتجاه الغالب في الفكر السياسي السني كان يصب في دائرة الطاعة السياسية الكاملة بوصفها مطلبا شرعيّاً، لهذا السبب فإن المحاولات الإصلاحية التي ظهرت في التاريخ الإسلامي إما أنها تجنبت المساس بـ"عقيدة الطاعة السياسية" كما هو الحال بالنسبة للفقه المقاصدي لدى العز بن عبد السلام، والشاطبي وغيرهما، لتوقف خطابها الفقهي عند حدود ما استقر العمل به، أو أنها تولت إنجاز الصياغة النهائية لفقه الطاعة السياسية وتكريسه كما هو الحال بالنسبة لفقه السياسة الشرعية الذي ظهر كحركة إصلاحية وانتهى إلى ترسيخ سلطة ولي الأمر في المجالين السياسي والشرعي.

لذلك فإن استقرار فقه الطاعة السياسية وتراكمه غير الحميد حدّ من تأثير حركات الإصلاح في العالم الإسلاميّ، بما فيها تلك التي ظهرت في مطلع القرن التاسع عشر على أيدي مفكّري النّهضة؛ فرغم الإسهامات النظريّة لمفكّري النّهضة في ما يتّصل بتحريك ثقافة الطاعة السياسيّة وربطها بالشورى والمحاسبة ومسؤوليّة الحاكم، ورغم توسيع المرجعيّة التطبيقيّة عبر الاستعانة بآليّات الفكر الديمقراطيّ الحديث، فإنّ الدراسة لاحظت أنّ الأثر النهضويّ في ما يتّصل بفقه الطاعة السياسيّة كان محدوداً للغاية.

تلك النتيجة قادت إلى المقولة الرئيسيّة الثالثة للدراسة حيث تبيّن استمرار الحضور التاريخيّ لإشكاليّات فقه الطاعة السياسيّة في الفكر الإسلاميّ المعاصر، بما في ذلك بنية الفقه الدستوري الحديث، وقد عمدنا إلى تنظيم إشكاليات الطاعة في الفكر الإسلامي المعاصر في ثلاث مجموعات ترتبط الأولى بتبديد مفهوم أولي الأمر وتوظيفه سياسيا فتتبعنا مظاهر ذلك في الخطاب الإسلامي المعاصر محاولين الكشف عن مساحة الوعي بالعلاقة الكامنة بين الحالة الاستبدادية الراهنة وبين "الأحادية السلطوية" المتمثلة بما يسمى "ولي الأمر"، أما الأخرى فتتعلق بالاختلال المفاهيمي الذي أحدثه فقه الطاعة السياسية ومظاهره في الفكر الإسلامي المعاصر، وارتبط المجموعة الثالثة بإشكالية الخروج ومقارباته التنظيرية في الخطاب الإسلامي المعاصر.

وعموماً أمكن القول من خلال التحليل النقديّ لبعض أدبيات الفكر السياسيّ الإسلاميّ المعاصر أن هناك نزوعا مستمرا للانعتاق من فقه الطاعة السياسية التقليدي عبر محاولات جزئية للتجديد في النسق المفاهيمي الذي ينتمي إليه مفهوم الطاعة السياسية، ولكن مع ملاحظة بقاء بعض مركبات فقه الطاعة السياسية حاضرة بشكل واضح وفاعلة في النقاش الفكري حول حدود الطاعة السياسية، والسقف السياسي أم العقدي لمفهوم الخروج، والقيود السياسية على الطاعة، وتوصيف الحاكم الدستوري وصلاحياته وعلاقة ذلك بمفهوم أولي الأمر.

وقد خلصت الدراسة بناء على ملاحظة منحنيات التطور في مفهوم الطاعة السياسية وطبيعة إشكالياته، وتعيين مساحات تلك الإشكاليات ووجودها الفعلي في خارطة الفكر السياسي الإسلامي إلى اقتراح نموذجٍ تشغيليٍّ لمفهوم الطاعة السياسيّة، يُراعي العلاقة التكاملية بين هذا المفهوم وبين غيره من المفاهيم المشكلة لمنظومة القيم الإسلامية، كما يراعي أيضا الحاجات التنموية والضرورات الحضارية للأمة، وفكرة النموذج التشغيلي وإن لم تكن كافية لتقويم المفهوم في الممارسة العملية فإنها تطرح أمام الفكر الإسلامي مجموعة من الأفكار التي يمكن أن تساعد في تقويم المفهوم من الناحية النظرية عبر كسر "الحتميّة التراثية" المتمثلة بفقه الطاعة السياسيّة التقليديّ.

المصدر: المركز الوطني للمعلومات.

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك