النّظام الأبويّ وحقوق الإنسان في الفكر العربيّ الحديث

عبد الرزاق عيد

لعلّ ثقل موروث النظام الأبويّ الذي يطال حياة الفرد والمجتمع العربيّ هو الذي يفسّر قول هيغل: "إنّ الدولة في الشرق تتميّز بحريّة مطلقة لفردٍ واحدٍ، وعبوديّة مطلقة لمن سواه، هذا الفرد الذي عرضنا لأشكال استحالاته الأبويّة، من ربّ الأسرة، إلى ربّ العمل، إلى الحاكم ....وقد وجدنا أنّه في كلّ استحالاته يُمارس سيادة مطلقة على جسد المرأة، حيث هو القاسم المشترك الذي يوحّد النّظام الأبويّ حول هويّته في تعدّد تجليّاته، وتحديد ذاته عبر تنوّع صفاته".

هذا الثقل الضاغط، وهو الذي يفسّر أيضاً هذا الحضور الطاغي لكلمة الحريّة (عبد الله العروي)، في حقل التداول الثقافيّ الدّلالي العربيّ، ثقل يُعطيها أبعاداً مجازيّةً لا تقلّ عن تعدّد تجليّات وتنوّع صفات أشكال حضور إعاقة النّظام البطركيّ لتفتّح وازدهار شتّى أشكال الحريّات؛ وهو حضورٌ مجازيٌّ يكشف عن درجة الفاقة والعوز في درجة الحاجة إليها. لهذا، فهي طالما تحوّلت إلى شعارٍ في كلّ المراحل السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، لكنّه الشّعار الذي طالما كان يفقد معناه التدريجيّ، لأنّ صلابة الواقع التقليديّ الأبويّ القائم يقضمها، حيثما تجلّت في الاقتصاد والمجتمع والثقافة والسياسة، حيث لا يوجد حزبٌ سياسيٌّ عربيٌّ لا تكون الحريّة مرادفاً أساسيّاً لكلّ أطروحاته وشعاراته.

ويسود ميل نظري اليوم إلى إعادة الاعتبار لفكر عصر النّهضة العربيّة الذي طالما اتّهم بالتّغريب وطرح إشكالات أوروبيّة على واقعٍ عربيٍّ مختلف، من قبل الخطاب الأبويّ السلفيّ التقليديّ، والأبويّ التراثويّ المحدثن.

ولهذا فإنّ عبدالله العروي، الذي كان من البادئين في ملاحقة مفكّري عصر النّهضة العربيّة للكشف عن التّهمة التي ظلّ الفكر القوميّ يطارهم بها، وهي المتمثلة بصكّهم بالتّغرّب عن زمنهم الثقافيّ المحلّيّ الوطنيّ والقوميّ، من خلال مرجعيّاتهم الفكريّة الغربيّة، يعود اليوم ليؤكّد تراجعه عن هذه الأطروحة، وليرفض الفكرة القائلة أنّ الدّعوة إلى الحريّة في العالم العربيّ الإسلاميّ ترجمة صرف للدّعوة الأوروبيّة، وأنّ الليبراليّة العربيّة متولّدة آليّاً عن الليبراليّة الغربيّة، بل يذهب اليوم إلى "أنّ الدّعوة إلى الحريّة ناتجة قبل كلّ شيءٍ عن حاجةٍ متولّدة في المجتمع …".

الطهطاوي في كتابه الشهير "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" هو أوّل من يقدّم نصّاً عربيّاً يحيل إلى "بيان حقوق الإنسان"، إذ ينطوي كتابه الرياديّ على الكثير من مضامين بنود بيان حقوق الإنسان؛ ولهذا فهو عندما يتناول حقوق الفرنسيين بالشّرح والعرض والتّحليل، فهو يُعدّد المواد التي ينطوي عليها الدّستور الفرنسيّ في زمن لويس الثامن عشر، والذي ينطوي بدوره على كثيرٍ ممّا ورد في بيان حقوق الإنسان.

كالمادة الأولى: "سائر الفرنساويّة متساوون قدام الشريعة"

والمادة الثانية: تتحدّث عن الضّريبة "كل إنسان حسب ثروته"

والمادة الثالثة: "كل واحد منهم متأهّل لأخذ أيّ منصبٍ كان وأيّة رتبةٍ كانت"

والمادة الرابعة: الحقوق الشخصية مصونة فـ"ذات كلّ واحد منهم يستقلّ بها لها حرّيتها فلا يتعرّض لها إنسانٌ إلّا ببعض حقوق مذكورة في الشّريعة، وبالصّورة المعنيّة التي يطبق بها الحاكم".

ريادة الطهطاوي في تقديم وعرض بعض الأفكار في بيان حقوق الإنسان، يوازيها دورٌ رياديٌّ يظهر مدى الترابط بين ضياع حقوق الإنسان وواقع تخلّف وجهل المرأة في المجتمع الأبويّ؛ ولهذا فقد كان أوّل من تصدّى للدّفاع عن تعليم المرأة، وقد تمكّن في عهد الخديويّ إسماعيل من إنشاء أوّل مدرسة للبنات في البلاد.

وبيان حقوق الإنسان ستكون له أكثر من ترجمة، تستدعيها منعطفات سياسيّة تفترض التذكير به وطرح مبادئه، بوصفها أفكاراً مطابقةً لحاجات اللحظة التاريخيّة المعطاة. فبعد ثورة 1908، والعودة إلى دستور سنة 1876 في الدولة العثمانيّة، سارع جميل معلوف إلى ترجمة "إعلان حقوق الإنسان والمواطن"، وذلك بعد أن ظهر له الجوهر الشوفينيّ للنظام الجديد، موجّهاً نقده للملكيّة الدستوريّة التي قامت في الإمبراطورية العثمانية بعد الثورة، إذ كان يرى أنّ الملكيّة تحتفظ بطابعها الاستبداديّ ما دام الدستور يتضمّن موادّ تُتيح للسّلطان حقوق الحاكم المطلق، كما سيترجمه لاحقاً أنطون ثابت في ظروف تحدّي نهوض النازيّة والفاشيّة التي جعلت من الثورة الفرنسيّة وإعلان حقوق الإنسان هدفاً أيديولوجيّاً رئيسيّاً للتنديديّة، واعتباره مع الثورة غلطة في التّاريخ. ولاشكّ أنّ ترجمة الدكتور ثابت، أتت في سياق نشاط لجنة الدفاع عن السلم ومكافحة الفاشيّة، حيث يشير رئيف خوري الذي ينشر البيان في مقدّمة كتابه عن الفكر العربي الحديث، وأثر الثورة الفرنسية في توجّهه السياسيّ والاجتماعيّ، إلى أنّ هذه الترجمة هي خير تعريبٍ حرفيٍّ لهذا النّصّ التّاريخيّ.

ورئيف خوري يقوم في كتابه هذا – الذي لم يُتخطّ حتى الآن – بعمليّة حفرٍ ثقافيّةٍ ومعرفيّةٍ في نصّ الكتابة النّهضويّة للكشف عن المضامين التحرريّة الديموقراطيّة والتنويريّة والعقلانيّة بوصفها العمق التاريخيّ للفكر التحرريّ الوطنيّ الديموقراطيّ العربيّ، وليظهر أنّ موضوعة حقوق الإنسان، ليست فكرة طارئة تتحمّس لها جماعة سياسيّة أو حزبيّة، أو رهط من الكتاب والمثقفين، بل هي موضوعة ثاوية في بنية الفكر العربيّ الحديث، وقارّة في هيكليّة توجّه همومه وإشكالاته؛ ولهذا فهو لا يكتفي بتقصّي أثر بيان حقوق الإنسان في الفكر العربيّ الحديث، بل يقوم بنشر منتخبات ومختارات لطلائع المفكّرين النّهضويين بتعدّد تيّاراتهم ومشاربهم الفكريّة، ليظهر أنّ فكرة الحريّة والديموقراطيّة وحقوق الإنسان تُشكّل الجذر المشترك الذي يؤطّر ويوجّه الإشكاليّة التي واجهها فكر عصر النّهضة، بدءاً من الشّدياق والطهطاويّ والأفغانيّ والكواكبيّ والشّميل وإسحاق وفرح انطون، مروراً بالريحانيّ والمنفلوطيّ وجبران والشيخ رشيد رضا ومحمد كرد علي ومصطفى الغلاييني، وصولاً إلى معروف الرّصافي وبشارة الخوري وإلياس أبو شبكة، ممّا يُقدّم تغطيةً شاملةً لما نطمح أنْ ننبّه له في هذا السّياق، ممّا يعفينا من الإطالة التي لا يسمح بها بحثنا هذا عن درجة حضور مبادئ حقوق الإنسان في الفكر العربيّ الحديث.

لكن لا بدّ من التنويه بأنّ موضوعة حقوق الانسان في تناقضها الصّارخ مع النظام الأبويّ كانت تتجلّى بشكلٍ رئيسيٍّ في مجال النّضال التحرريّ الوطنيّ والسياسيّ، ولم يكن يتكشف المضمون الاجتماعي إلا من خلال الموقف من مشكلة المرأة، التي بدت في عيون الجيل النهضويّ الليبراليّ الأوّل، مشكلة ثانوية أمام التحدّيات الكبرى التي أنتجها التفوّق الغربيّ الاستعماريّ من جهة...

غير أن النص الانقلابي، الجذري، الذي أنتجه الفكر العربي الحديث، الذي يعدّ بحقّ بيان حقوق الإنسان العربي، فإنّه كتاب "طبائع الاستبداد" للكواكبي، فهو ليس نصّ إدانة للاستبداد فحسب، بل هو نصّ مناهض لبنية النظام الأبويّ، ومنطوقها، ومنظومتها العقلية والثقافية والروحيّة.

فهو بالإضافة إلى كونه كتاباً ينتج تناصّه مع النّصوص الأرقى في زمنه كونيّاً ككتاب الإيطالي فيكتور ألفييري (victor-alfieri 1749-1803 -وهو كاتبٌ تنويريٌّ إيطاليٌّ، وعنوان الكتاب الذي يشار إلى تأثر الكواكبي به هو كتاب الفييري : ( "الطغيان" وبيان حقوق الإنسان)، وأفكار فلاسفة الثورة الفرنسية كمونتسكيو وروسو وهولباخ، بل والفلسفة التنويرية للقرن الثامن عشر، نقول، رغم أنّه يحقق هذا التنوّع في التناص والانفتاح على ثقافات عصره، فإنّه يصوغ إشكاليّته التي توجّهها أسئلة الاستبداد الشرقيّ الأبويّ، الذي تتوحّد في سلطته القاهرة سلطة العائلة والسياسة والدّين...

يعبر الكواكبي عن معنى ذلك في سياق حديثه عن استعارة الشّعوب الجاهلة فكرتها عن المستبد من الفكرة التي كونتها عن الله "ومن هنا كان التباس الإله المعبود والجبّار عليهم، واختلاطهم في مضايق أذهانهم من حيث التّشابه في استحقاق التّعظيم والرّفعة عن السؤال والمؤاخذة على الأفعال، ومن هنا كان تعظيمهم للجبابرة مستمداً من تعظيمهم الله. من داخل هذه المنظومة المغلقة في بنيتها الذهنيّة والعقليّة التي ينتجها نظام الخطاب الأبويّ، يقوم الكواكبي في تقديم بنود بيان حقوق الإنسان، عبر إعادة إنتاجها داخل البيئة العقليّة للمجتمع الأبويّ التقليديّ، ولهذا فهو ينتج المعادل المحليّ الجوانيّ للبند الأوّل القائل "إنّ النّاس يولدون أحراراً ومتساوين في الحقوق" .

يُعيد الكواكبيّ إنتاج هذا القول في صياغته الراديكاليّة البركانيّة التي توغل عمقاً في بنية المخزون الثقافيّ الأبويّ، فيخاطب قومه: "ما هذا التفاوت بين أفرادكم وقد خلقكم ربّكم أكفاء في القوّة، أكفاء في الطبيعة، أكفاء في الحاجات لا يفضل بعضكم بعضاً إلّا بالفضيلة لا ربوبيّة بينكم ولا عبوديّة، والله ليس بين صغيركم وكبيركم غير برزخٍ من الوهم".

ولهذا بقي كتاب "طبائع الاستبداد" حتّى اليوم مبعث قلقٍ للنّظام الأبويّ العربيّ المحدث، ويحضر بوصفه نصّاً متجدّداً في إنتاج حقوق الإنسان العربيّ، الذي تتدعّم كلّ يومٍ أوتاد نظامه الأبويّ في وجه نبوءة الكواكبيّ "كلمات حقٍّ وصيحة في وادٍ، إنْ ذهبت اليوم مع الرّيح قد تذهب غداً بالأوتاد".

إذا كانت هذه النبوءة تحققت بعد ستّ سنوات بذهاب أوتاد عرش عبد الحميد مع الرّيح، فإنّ ريح طبائع الاستبداد لا تزال تبعث الرّعب في أوصال أوتاد النّظام الأبويّ العربيّ العضوض كحاكمٍ لشعبه المذلّ المُهان، وغير العضوض الفاقد الأسنان أمام النّظام الأبويّ العولميّ الجديد.

المصدر: موقع صالح العلي.

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك