الخطاب الاستشراقي والقرآن الكريم
الخطاب الاستشراقي والقرآن الكريم
التشريعات المالية في القرآن نموذجاً
د. عبد الرزاق عبد المجيد ألارو
مقدّمة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، والصلاة والسلام على مَن أُرسل كافةً للناس بشيرًا ونذيراً، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
((إنّ أنجعَ طريقٍ لتحقيق الأهداف التنصيرية ليس بالهجوم المباشر على الإسلام، ولكن بالسماح لأفكار جديدةٍ كَيْ تُفني أصولَه))
مقولة غربيّة قديمة( )، حاول المستشرقون تطبيقها على أكثر من صعيد، منها ما يتّصل بالأصل الأصيل لهذا الدين، ألا وهو القرآن الكريم. فراحوا يُنقّبون عن مصدرٍ له بعيداً عن الوحي الإلهي، وذهبوا في ذلك مذاهب شتّى. فمن قائلٍ إنَّه مقتبَسٌ رأساً من أسفار اليهود والنصارى، وآخر يزعم أنّه قد تُلُقّي شفهياً من أفرادٍ من هؤلاء، وفريق ثالث يدّعي أنّه ليس إلاّ تدويناً للأعراف والتقاليد السائدة لدى العرب الجاهليّين!
لقد تناول هذا البحثُ جميعَ هذه الركائز، التي منها ينطلق المستشرقون للطعن في القرآن الكريم عموماً، وفي تشريعاته على وجه خاصٍ. وتناول بالنقد والمناقشة أيضاً نماذج من أقوال بعض أشهر المستشرقين بهذا الخصوص، وبالتحديد فيما يتّصل بالتشريعات الماليّة في القرآن الكريم. وقبل هذا وذاك، سلّط البحثُ الضوءَ على طبيعة الخطاب الاستشراقي ومناهجه، مبيّناً الهدف الحقيقي وراء ما يقوله المستشرقون غير المنصفين عن القرآن الكريم، بل وعن الإسلام بوجهٍ عامٍ.
ومما يؤسف له ويندى له الجبينُ أنّ كثيرا من أبناء العالم الإسلامي الذين تتلمذوا على هؤلاء المستشرقين أو درسوا في جامعاتهم قد تأثّروا بادّعاءاتهم الكاذبة، واغترّوا بتمسّكهم الظاهر بالمنهج العلمي المحايد، كما يقولون. لذا، فإنَّ مما يهدف إليه هذا العمل المتواضع تنبيه هؤلاء بخطورة مسلكهم، وخطئه في الوقت نفسه. ورحم الله الإمام محمد بن سيرين، فقد قال: ((إنَّ هذا العلم دينٌ؛ فانظروا عمَّن تأخذون دينكم)) ( ).
وأخيراً، لـمّا كان البحث يتمحور حول مواقف أناسٍ لا يؤمنون بالوحي إلاّ ما ندر، فقد حرصتُ على مناقشتهم وفق مقرّراتهم العقلية، وعدم الاكتفاء بترجمة نصوص كلامهم - بل أثبتُّ جلّها بلغتها الأصلية- ليكون ذلك أبلغَ في الإقناع أو الإفحام، إن شاء الله. ومع ذلك، لم أغفل جانب الاحتجاج بالنصوص الشرعية، حسب ما يقتضيه كل مقام.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أقدّم شكري وتقديري –بعد شكر الله تعالى- للقائمين على هذه الندوة، على ما أتاحوا لي من فرصةٍ للمشاركة، سائلاً الله تعالى أن يتقبل من الجميع صالح الأعمال.
والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه.
عبد الرزاق بن عبد المجيد ألارو
في طيبة الطيبة بتاريخ 7/11/1426ﻫ
المبحث الأول
الخطاب الاستشراقي – منهج علميّ أم مخطَّط تنصيريّ؟
الاستشراق ظاهرة من أهم الظواهر التي أشغلت بال الكثيرين في الأوساط العلميَّة، لا سيما في القرنين الأخيرين.
لم يأت الاهتمام بالاستشراق من فراغ، بل يرجع إلى ما انطوت عليه الظاهرة نفسها من عجائب، وإن شئتَ فسمّها تناقضات؛ عالِمٌ غربيٌّ أعجمي لا يدين بالإسلام، يتفرّغ لدراسة كل ما له صلة بالإسلام والمسلمين! وليت الأمر توقف عند هذا الحدّ، لكنّه تجاوزه. فإذا بالمستشرق يتصوّر نفسه علاَّمة في علوم المسلمين، يجب عليهم أن يأخذوا عنه الطريقة الصحيحة لتفسير كلام ربّهم، والفهم الصائب لأحاديث نبيّهم، والمنهج القويم في استنباط أحكامهم، بل وتحليل ما جرى من وقائع وأحداث في عهود أسلافهم. كل ذلك تحت ستار ما أسموه بالمنهج العلمي لدراسة النصوص الدينية، أو تحليل الوقائع التاريخية.
فكان مما انتهى إليه سلوك هذا المنهج الغربي المستحدَث: محاولة تقويض أسس دين المسلمين، بالطعن في كتابهم تارةً، وبالقدح في نبيّهم تارةً أخرى، وبالتشكيك في كل ما هو منصف في حق الإسلام و أتباعه تارةً ثالثة. حتى قال أحدُهم وهو يأخذ على مستشرقٍ آخر تطرُّفَه في هذا الاتجاه: ((لقد استخدم لامانس( ) معيارين: أيّ شيءٍ معاد للإسلام أو للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] يجب أن يكون صحيحاً، وأيّ شيء في صالحهما، يجب فحصه بنظرة دقيقة))( ).
هذا ما قاله المستشرق برنارد لويس (Bernard Lewis) –وهو مَن هُو في عدائه للإسلام وانتمائه الصريح للصهيونية- في أحد بني جلدته. لكن السؤال هو: هل ما قاله لويس خاص بالمستشرق لامانس، أو هو دَيْدَن الأكثرية الساحقة من المستشرقين ودَنْدَنتهم؟
لنأخذ بعض الأمثلة برهاناً على أنّ موقف لامانس من الإسلام وكتابه ونبيّه صلى الله عليه وسلم، لم يكن قط حالة شاذة في القاموس الاستشراقي، بل قاعدة مطّردة في كل العصور والعهود.
زَعَم حاملُ لواء الاستشراق في زمانه: المجريُّ جولدزيهر (Goldziher)( ) أنّ الإمام أبا حنيفة –رحمه الله- لم يكن يعرف هل كانت معركة بدر قبل أُحُد، أم كانت أُحُد قبلها! وليس هذا فحسب، بل جعل من هذا الكلام سنداً لرأيه الخطير في السنة النبوية الشريفة، حيث ادّعى أنّ الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلها من صُنع المسلمين في القرون الأولى للهجرة، بعد وفاته صلى الله عليه وسلم( ).
لكن يا تُرى ما مستنَد جولدزيهر فيما نسبه إلى الإمام أبي حنيفة ومن ورائه باقي أئمة المسلمين من جهل فظيع، وما رتّب على ذلك من محاولة خطيرة لنسف جزء كبير من عقيدة المسلمين وشريعتهم، المتمثل في الأحاديث النبوية الشريفة؟
لقد استند جولدزيهر في ادِّعاء هذه الأمور العِظَام إلى رواية ساقطة متهافتة نقلها من كتاب حياة الحيوان للدميريّ! وهو كتاب لم يكن صاحبه مؤرّخاً، ولا كان الكتاب نفسه كتاب تاريخ، وإنما قصد مؤلِّفه أن يحشر فيه كل ما يرى إيراده من حكايات ونوادر تتصل بموضوع الكتاب، من غير أن يكلّف نفسه عناء التحقق ولا البحث عن صحتها.
يقول حاجي خليفة: ((حياة الحيوان للشيخ كمال الدين محمد بن عيسى الدميري الشافعي، المتوفى سنةَ ثمان وثمانمائة. وهو كتاب مشهور في هذا الفن، جامع بين الغث والسمين))( ). وهكذا يعرض جولدزيهر عن كلّ ما دُوّن من تاريخ أبي حنيفة تدويناً علمياً ثابتاً، ويعتمد رواية مكذوبة لا قيمة لها في ميزان البحث العلمي.
فأبو حنيفة من أشهر أئمة المسلمين الذين تحدثوا عن أحكام الحرب في الإسلام حديثاً مستفيضاً، وآثاره الفقهية مما تناقله أصحابه وأتباع مذهبه خير شاهدٍ على هذا. وكان الأجدر بجولدزيهر لو كان يبحث عن الحقيقة ويتحرّاها، الرجوع إلى المصادر الموثوقة في السير والمغازي، ولا سيما ما سطّره تلاميذ الإمام أبي حنيفة وأصحابه الذين أخذوا عنه مباشرةً( )، ليعرف إن كان الإمام جاهلاً بأحداث السيرة أم عالماً بها.
أما الحكايات الملفقة والموضوعة للمسامرة والتندّر، سواءٌ مِنْ قِبَل محبي أبي حنيفة أو من قِبَل خصومه، فلا نعلم في الدنيا أي منهج علمي يقبل الاستناد إليها، فضلاً عن استنباط أمرٍ كلّي ذي خطورة بالغة منها، كما فعل هذا المستشرق( ).
وفي المقابل نجد عالماً غربياً آخر يعدّ من أشهر المستشرقين الهولنديين، بل في العالم قاطبةً. أعني بذلك: المستشرق ونسنك، الذي وضع –مشكوراً- مع آخرين المعجمَ المفهرس لألفاظ الحديث الشريف، نجده يقدح في حديث متّفق على صحته، قد تلقَّتْهُ الأمة بالقبول، ورد بالأسانيد الصحاح الجياد؛ وهو حديث عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- المرفوع: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحجّ، وصوم رمضان))( ).
ففي مخيلة الأستاذ ونسنك ((العلميّة))، يجب ألا يصح هكذا حديث، لا لشيءٍ سوى أنّه قد اشتمل على لفظ الشهادتين، وهما في تصورّه لم تُوجدا إلاّ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقرون عدّة، حين شعر المسلمون بالحاجة إلى إيجاد صيغة مَّا لعقيدتهم( ).
ولسنا نَعْلم بالتحديد، التوقيتَ الذي سيقترحه ونسنك لدخول لفظ ((الشهادتين)) في الإسلام، ولا يهمنا ذلك في الحقيقة. ما يعنينا فقط ههنا أن نذكّره ومن اغترّ برأيه هذا بالحقائق العلمية والتاريخية الآتية:
أولاً: أنّ الشهادتين جزء من التشهّد الذي يقرأه المصلّي في صلاته فريضةً كانت أم نافلة، ومما لا يتطرق إليه أدنى شكٍّ أنَّ الصلاة قد فُرضت في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، الذي علّمهم بالطرق النظرية والتطبيقية معاً كيف يصلّون، ثم أمرهم أمراً صريحاً بأن يصلّوا كما رأوه يصلّي( ). ولا نتصور أنّ كل هذه غابت عن المستشرق ونسنك، إلاّ أن يكون قد صَنَع ما صنع لحاجةٍ في النفس.
ثانياً: أنَّ لفظ الشهادتين نفسه جزء من الأذان والإقامة لكل صلاة، ولم نسمع قط بأحدٍ مستشرقاً كان أو غيره ينكر مشروعية ذلك منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم( ). وكيف يمكنه ذلك وفي القرآن الكريم إشارة واضحة إلى الأذان( )، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذنون كانوا يؤذّنون بأمره، ومنه تعلّموا الأذان، وأذانهم متواتر عند العامة والخاصة. فلم يخل أذان أحدهم من اللفظ الذي زعم مستشرق عاش بعدهم بعدة قرون أنّه إضافة متأخرة؛ لا أذان أبي محذورة( ) في الحرم المكّي، ولا أذان بلال أو ابن أم مكتوم في الحرم المدني، ولا أذان سعد القَرظ( ) في مسجد قباء، رضي الله تعالى عنهم جميعاً وأرضاهم.
ومن أمثلة مخالفة المستشرقين لأبسط أسس البحث العلمي حين يتعلق الأمر بالإسلام والمسلمين على وجهٍ عامٍ، وبالقرآن الكريم على وجهٍ خاص، ما صنعه مستشرق آخر في دراسة له حول هذا الكتاب الكريم. فقد عمد المستشرق ج. أ. بيلاّمي (J.A. Bellamy) إلى الطعن في عدد من الكلمات القرآنية، والتشكيك في أصالتها وصحتها، بل واقتراح تعديلها وتبديلها، واضعاً في سبيل ذلك قواعد غريبة، أفضت إلى نتائج مبكية مضحكة في آن واحدٍ. حيث لم يفلح في الإتيان بأيّ مبرّر علمي مقنع، سوى ما جمعه من أوهام وتخمينات، ونشرها في أعداد مختلفة من مجلة الجمعية الاستشراقية الأمريكية تحت عنوان: ((تصويبات مقترحة لنصوص القرآن)) (Proposed Emendations to the Text of the Koran).
فمثالاً لا حصراً، يذهب بيلاّمي إلى أنَّ قول الله عز وجل: ﮋ ﯺ ﮊ في الآية الكريمة: ﮋ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﮊ [الزخرف: ٨٨ ] خطأ، وأنّ الصواب: ((وَقَبْلَه))!
أما كيف توصّل بيلاّمي إلى هذا الاكتشاف العجيب، فخلاصته: أنَّه يرى أنَّ الآية التي قبل هذه، وهي قوله تعالى: ﮋ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﮊ [الزخرف: ٨٧ ] حقُّها التأخير، فتكون هي الآية رقم 88، بينما قوله تعالى: ﮋ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﮊ [الزخرف: ٨٨] هي الآية رقم 87 – هكذا وبكل بساطة ينصب بيلاّمي نفسه حكماً على كتاب الله عزّ وجلّ، يقدّم فيه ويؤخّر حسب هواه، والله المستعان.
ويتمادى بيلاّمي في تحليلاته التحكّمية هذه، فزعم أنَّ الناسخ بعد أن اكتشف خطأَه في تقديم آية على أخرى، اضطرّ للتنبيه على ذلك بكتابة عبارة ((وَقَبْلَه)) في أول قوله تعالى: ﮋ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﮊ ليبيّن أنّه يسبق في الترتيب قوله عزّ وجلّ: ﮋ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸﮊ( ).
وإن كنتُ لا أود الانشغال بالاستطراد في الرد على هذه الادّعاءات البيلاّمية لوضوح بطلانها، إلاّ أنّي أجدني مضطراً لتذكيره كما فعلتُ مع سلفه وينسنك بالحقائق العلمية الآتية:
1- أنّ بيلاّمي لم يذكر لنا متى وقع هذا الخطأ المزعوم في النسخ، ولا أين، ولا مَنْ هو هذا الناسخ الذي وصل به الإهمال إلى حدّ أنّه يضيف ما أضاف –على حدّ زعم بيلاّمي- ويجهل ما لا يغيب حتى عن النساخ المبتدئين من ضرورة تمييز التعليقات بعلامة بارزة عن النص المنسوخ!
2- وعلى فرض التسليم الجدلي بهذا الزعم، فهل كل النُّسَخ القرآنية في الدنيا قد أخطأ نساخها في الموضع نفسه وابتكر كلٌّ منهم – بلا استثناء - هذه الطريقة العجيبة ذاتها للتنبيه؟ فهذا غير ممكن، طبعاً وعقلاً وتصوّراً.
3- أنّ من فضل الله تعالى على المسلمين أن يسَّر على أيدي أسلافهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم جمعَ القرآن الكريم في وقتٍ مبكّر جداً من التاريخ، ولم يتركوا مجالاً لمثل هذه الأوهام.
فقد كان زيد بن ثابت حين أُسندت إليه مهمة جمع القرآن الكريم في عهد الصدّيق – رضي الله عنهما – لا يكتفي بمجرد وجود شيء منه مكتوباً حتى يشهد به من تلقّاه سماعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، مبالغةً في الاحتياط، مع كونه هو نفسه حافظاً للقرآن وكاتباً للوحي لرسول الله في حياته صلى الله عليه وسلم( ). وهكذا حُفظ القرآن الكريم في الصدور وفي السطور معاً، وقد استمر كذلك إلى يومنا هذا، ولله الفضل والمنّة.
وإذا كان من غير المعقول اتفاق جميع النُّساخ والنُّسَخ على مثل هذا الخطأ المزعوم، كان أبعد من ذلك تصوّر انقلاب ((وقيله)) إلى ((وقبله)) أو العكس في صدور جميع حفظة القرآن على اختلافِ اللغات، وتباعدِ الأقطار، و امتداد الأزمنة والعصورِ.
4- أنَّه من الأمور المجمع عليها، كون ترتيب الآيات القرآنية في سُوَرِها أمر توقيفي، وقع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بتوقيفه وأمره. قال الإمام السيوطي –رحمه الله-: ((الإجماع والنصوص المترادفة على أنّ ترتيب الآيات توقيفي، لا شبهة في ذلك))( ) ( ).
ولهذا لما جُمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه، لم يؤثر عنهم أنهم تردّدوا في ترتيب آيات من إحدى السور، ولا أُثر عنهم إنكار أو اختلاف فيما جُمع من القرآن، فكان موافقًا لما حفظته حوافظهم، كما يقول الإمام مالك –رحمه الله تعالى-: ((إنّما أُلف( ) القرآن على ما كانوا يسمعون من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم))( ).
5- أنّ أيّ أحدٍ ملمٍّ بأسلوب القرآن الكريم يُدرك تماماً أنّ قوله تعالى: ﮋﯺﮊ جزءٌ لا يتجزأ من بقية الآية، أعني قوله عز وجل: ﮋ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﮊ، وقريب منها قوله سبحانه وتعالى في سورة أخرى:
ﮋ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﮊ [الفرقان: ٣٠]. بل إن عبارة ((يا ربِّ)) أو ((ربِّ)) (بحذف حرف النداء، والمعنى واحد) وَرَدَت مقرونةً بلفظ ((قال)) أو ما تصرّف منه في ثلاثةٍ وخمسين موضعاً من القرآن الكريم( )!
وإنْ كانت مشكلة المستشرق بيلاّمي أنّه لم يُدرك كون ألفاظ ((قال)) و((القيل)) و((القول)) من أصلٍ واحدٍ، فنقول: إنّ من يجهل شيئاً فعليه السؤال عنه، لا أَنْ يحوّل جهلَه علماً، وعلمَ غيره جهلاً. فقد قال الراغب الأصفهاني في المفردات( ): ((القولُ والقيلُ واحدٌ))( )، وقال الفيومي في المصباح المنير( ): ((قال، يقول، قولاً، ومَقالاً، ومقالةً. والقالُ والقِيلُ اسمان منه)).
6- ومما يؤكّد أنّ بيلاّمي إنما أُتي من حيث ضعفه في اللغة العربية، أنّ ما اقترحه بديلاً للفظ ((قيله))، وهو قوله ((قبله)) لا يتناسب إطلاقاً مع ادّعاءاته هذه. فإنّا لو سلّمنا جدلاً بدعواه – مع أننا على يقين لا يتزعزع من بطلانها - فإنّ المناسب أن يقال ((قبلها)) وليس ((قبله))، لأنَّ الآية -وهي التي يعود إليها الضمير- مؤنثة وليست مذكّرة( ).
هذا ما فعله المستشرق بيلاّمي وغيره ممن نصبوا أنفسهم حكَّاماً على القرآن الكريم( )، معتمدين في ذلك –كما قد رأينا- إما على فهم سقيمٍ، أو تأويل تعسفي ليس له ما يبرره علمياً. ضاربين عرضَ الحائط بجميعِ الطُّرق والروايات المتواترة الصحيحة التي نُقل بها القرآن الكريم حرفاً حرفاً عبر الأجيال والعصور.
فأي ميزان وأي منطق يجيز لنا أن نثق بأوهام هذا المستشرق أو ذاك (لعل كذا .. ربما كذا .. ويحتمل أنّ الناسخ الفلاني أو العلاني … الخ)، ونُعْرض عن الروايات التي ثبت رسوخها أمام قواعد النقد الصارمة، وما تناقله القرّاء والحُفّاظ خلال ما يزيد عن أربعة عشر قرناً بالإجازات المسندة!
وهل يقبل بيلاّمي أو غيره أنّه كلما استعصى فهمُ كلمة إنجليزية على باحث ألماني أو العكس، ادّعى أنّ الكلمة المستعصية لا محلَ لها من تلك اللغة، وأنّه يجب تغييرها لكونها خطأً ؟ هذا بالضبط ما يريده بعض المستشرقين حيال القرآن الكريم، وقد اغترّوا ببضاعتهم المزجاة في اللغة العربية ومفرداتها فتصوّروا أنهم فيها موسوعة متنقلة.
ففي ضوء ما تقدّم، وبناءً على ما عُرف عن بعض هؤلاء المستشرقين من سعة الاطّلاع، يأتي سؤال مُلحٌّ ومحوريّ، ألا وهو: هل ثمة ما يبّرر علميًّا كل ما تقدّم من تخبطات استشراقية، وأخرى لم تُذكر خشية الإطالة؟ أم أنّ للمستشرقين هدفًا غير علميّ، سعوا ويسعون من وراء الستار لتحقيقه؟ ولماذا يقعون في أخطاء إخالها لا تخفى على باحث في المراحل الأولى من التعليم؟
الإجابة عن هذه التساؤلات تتطلب أن نتكلّم – ولو بإيجاز - عن بداية الاستشراق، والدوافع الحقيقية التي أدّت إلى انطلاقه.
مما لا شكّ فيه أنّ اهتمام غير المسلمين من يهود ونصارى بدراسة الإسلام قديمٌ، يعود به بعضهم إلى السنوات الأولى من بزوغ فجر الإسلام، حيث تواجدُ عدد لا بأس به من أهل الكتاب في الجزيرة العربية. لكن الانطلاقة الرسمية للاستشراق بدأت من مجمع فينا الكنسي سنةَ 712ﻫ/1312م، الذي أوصى بإنشاء عدة كراسي للغات – ومنها العربية - في الجامعات الأوروبية الرئيسة( ).
فهكذا انطلقت الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا، بدافع ديني، الهدف منه ليس خدمة الإسلام، بل البحث عن أساليب جديدة لمحاربة دين منافسٍ قد يحد من سلطة الكنيسة وسيطرتها( ). وإليكم ما شهد به المستشرق رودي باريت( ) حيث قال:
((حقيقةً، إنّ العلماء ورجال اللاهوت في العصر الوسيط كانوا يتّصلون بالمصادر الأولى في تعرّفهم على الإسلام، وكانوا يتّصلون بها على نطاق واسع. ولكن كل محاولة لتقييم هذه المصادر على نحو موضوعي نوعاً ما كانت تصطدم بحكم سابق، يتمثّل في أنّ هذا الدّين المعادي للنصرانية لا يمكن أن يكون فيه خير))( ).
وتذّكرني هذه الشهادة الاستشراقية بقول الطبيب الفرنسي موريس بوكاي في كتابه الشهير: ((The Bible, the Quran and Science))( ): ((إن التصريحات الخاطئة تماماً التي تصدر عن الإسلام في الغرب، سببها أحياناً الجهل، وأحياناً أخرى تكون نتيجة تشويه منهجي))( ). فدراسة الإسلام لدى المستشرقين كان الهدف الأول منها تشويه صورته، وتنفير الناس عن اعتناقه. وإلاّ، فما الذي يجعل عَلَماً استشراقياً مثل وليام مويير (William Muir)( ) يصف القرآن الكريم بأنّه ((من ألّد أعداء الحضارة والحريّة والحق الذين عَرَفَهم العالم حتى الآن))( )؟!
أضف إلى ذلك كلّه أنَّ عددًا لا يستهان به من المستشرقين المعاصرين هم منصِّرون أولاً قبل أن يكونوا مستشرقين. ولا غرو، فإنَّ طلائع المستشرقين من النصارى لم يكونوا ذوي مناصب دينية فحسب، بل إنهم قد انطلقوا فعلاً من الكنائس والأديرة( ). ومن أبرز هؤلاء وأولئك:
1- همفري بريدوHumprey Prideaux (1862-1937م) إنجليزي، كان مديرا لسانت كليمنت في أكسفورد، ومحاضراً للغة العبرية في كلية كنيسة السيد المسيح. له كتاب في السيرة عَنْوَن له بقوله: ((الطبيعة الحقيقية للخداع كما يتجلى كاملاً في حياة محمد)). ((The True Nature of Imposture Fully Displayed in the Life of Mahomet))
2- الأب هنري لامانس Henri Lammens (1862-1937م) بلجيكي، فرنسي الجنسية، من الرهبان اليسوعيين، تخرج في جامعة القديس يوسف في بيروت، ودرّس اللاهوت في إنجلترا. كان شديد التعصب ضد الإسلام، ويُعدّ نموذجاً سيئاً للباحثين في الإسلام من بين المستشرقين، كما تقدّم ذلك في تصريح المستشرق الإنجليزي ثم الأمريكي برنارد لويس.
3- د. ب. ماكدونالد D.B. Macdonald (1863-1943م) أمريكي، أنشأ في هارتفورد مدرسة كينيدي للبعثات التنصيرية، وأشرف على القسم الإسلامي فيها. وأنشأ بالتعاون مع زويمر: مجلة ((العالم الإسلامي)). من مؤلّفاته: التصوف الإسلامي والنصراني، و عرض النصرانية للمسلمين.
4- صمويل زويمر Samuel Zwemer (1867-1952م) أمريكي، رئيس المنصِّرين في المنطقة العربية من الشرق، له مؤلَّفات عدّة في العلاقة بين الإسلام والنصرانية، تميّزت بالتعصب والتضليل الشديدَيْن، ما أفقدها – في نظر المحلِّلين والباحثين- قيمتها العلمية. تولَّى رئاسة تحرير مجلة ((العالم الإسلامي)) التنصيرية التي أنشأها هو و د.ب. ماكدونالد.
5- ج.ﻫ. كرايمير J.H. Kramers (1888-1966م) هولندي، بدأ نشاطه بخدمة الإرسالية البروتستانتية بجاوة في إندونيسيا، وعمل أستاذاً لتاريخ الأديان في جامعة ليدن. وله كتب عن الإسلام منها: إسرائيل والإسلام. شارك في إعداد وتحرير دائرة المعارف الإسلامية.
6- كينيث كراج Kenneth Cragg إنجليزي معاصر. منصّر صريح، خلف زويمر في أنشطته التنصيرية، بما فيها رئاسة تحرير مجلة ((العالم الإسلامي)). وهو أستاذ الدراسات الاستشراقية في أكثر من جامعة، منها الجامعة الأمريكية في بيروت. من أبرز مصنّفاته: نداء المئذنة، و قراءات في القرآن (Readings in the Qur'an) الصادر عامَ 1988م( ).
وإذْ نقرر هنا التلاقي بين أهداف المنصّرين ومآرب المستشرقين، ينبغي ألا يتصور أحدٌ أنَّ الباحث يجهل أو يتجاهل أن ثمة مستشرقين غير نصارى، فضلاً عن أن يكونوا منصّرين، أمثال اليهوديين: إجناز جولدزيهر، ويوسف شاخت، وغيرهما. كما أنّ هنالك مستشرقين علمانيين أو ملحدين، هدفهم خدمة الإلحاد ولا علاقة لهم بالدّين، حتى وإن انتموا إلى النصرانية ظاهرًا( ). ولكن ما توصّل إليه كاتبُ هذه الأسطر، ومِن قبله باحثون آخرون: أنَّه حتى هذه الفئة من المستشرقين، نجدها قد خَدَمت – سواء بقصدٍ أو بغيره - جزءاً مما رسمه المنصّرون من الخطط، وذلك الذي يتعلق بهدف تشكيك المسلم في دينه وهز ثقته في كتابه ونبيّه، دون الحاجة إلى إدخاله في النصرانية( ).
يقول المنصّر والمستشرق صمويل زويمر: ((مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد الإسلامية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية فإنَّ في هذا هداية لهم وتكريماً، وإنما مهمتكم أن تُخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله))( ).
وجاء في خطابٍ لأحد المتحدّثين في المؤتمر التنصيري الذي انعقد عام 1346ﻫ/1927م بجبل الزيتون في فلسطين: ((أتظنون أنّ غرض التنصير وسياسته إزاء الإسلام هو إخراج المسلمين من دينهم ليكونوا نصارى؟ إن كنتم تظنون ذلك فقد جهلتم التنصير ومراميه … ولكن الغاية التي نرمي إليها هي إخراج المسلم من الإسلام فقط ليكون مضطرباً في دينه، وعندها لا تكون له عقيدة يدين بها ويسترشد بهديها. وعندها يكون المسلم ليس له من الإسلام إلا اسم: أحمد أو مصطفى. أما الهداية فينبغي البحث عنها في مكان آخر))( )!
ومن جهةٍ أخرى فإنّ العلمانيين من المستشرقين، وإن أعلنوا رسمياً، وفي أكثر من محفلٍ، رفضَهم التقيّد بدين معيّن، إلا أنّ الملاحظ أنّ كلامهم هذا إنما ينطبق على ممارساتهم في حياتهم الخاصة، بينما يصعب عليهم عمليًّا التخلي عن ميولهم الكنسية في إنتاجهم الفكري أو العلمي المتعلِّق بالإسلام أو المسلمين، والشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى.
إذاً، هنالك قاسم مشترك بين ظاهرتي الاستشراق والتنصير، يتمثّل في محاولة تشكيك المسلمين في دينهم، وقد كان ذلك – بلا شك - مقصدا أساسياً لدى أوائل المستشرقين، يهودا كانوا أم نصارى. ولا غرابة في ذلك، إذْ نعلم أنَّ العلاقة بين الشرق والغرب قد قامت – عبر التاريخ - على العداء الديني ورفض الإسلام بديلاً للنصرانية. إلاَّ أنَّ العلاقة بين الظاهرتين بدأت تنجلي أكثر فأكثر حين اختار رؤساء الكنيسة النُّزول بأنفسهم إلى ميدان الاستشراق؛ حيث لاحظوا أن نجاح حملاتهم التنصيرية في بلاد المسلمين يتوقف إلى حدٍّ كبير على مدى إلمام مبعوثيهم بعلوم هؤلاء المدعوين وثقافتهم، فعمدوا إلى إقحام تعليم اللغة العربية في بعض معاهدهم الدينية والجامعات كما أسلفتُ، وأُنشئت مطابع عربية، وجُمع عدد كبير جدًّا من تراثنا الإسلامي؛ مخطوطه ومطبوعه( ).
وحتى بعد ما ظهر في الحِقبة الأخيرة جيل من المستشرقين دعوا إلى تحرير الاستشراق من الأهداف التنصيرية، والاتجاه به نحو بحث علمي مستقلّ يستهدف المعرفة وحدَها، فافتُتحت في أكثر من بلد غربي أقسامٌ للدراسات الشرقية أو العربية أو الإسلامية في الجامعات( )، إلا أنَّ المتتبع لكتابات هؤلاء المستشرقين الجُدد أو مناهج تلكم الأقسام وآثارها المدمِّرة، المتمثلة في خريجيها وطلابها من أبناء المسلمين خاصةً وما يحملون من أفكار، يجد أنَّ الاستشراق ما زال مادة مناسبة للتنصير وسنداً قوياً له، لا سيما في مجال التشكيك في الإسلام وحجب محاسنه وتشويه صورته. فمنذ زمن ليس ببعيدٍ دعت واحدة من خريجات هذه المناهج وتلكم الأقسام إلى إقصاء علماء المسلمين عن القيام بأي بحث علمي يتعلَّق بالقرآن الكريم؛ لأنهم –في نظرها- ليسوا مؤهَّلِين لإجراء بحث كهذا بسبب إيمانهم( ). وهكذا جَعَلتْ الإيمانَ بالله وبرسوله وبكتابه نقيصةً، أما الكفر بهم فمؤهِّلٌ علمي بحثيٌّ رفيع يمتاز به المستشرقون وحدهم إذا تعلّق الأمر بالقرآن الكريم!
ومع هذا، والتزاماً بما علَّمنا ديننا الإسلاميّ من الإنصاف والعدل حتى مع من لا يدين به( )، فإني أقول -وبكل وضوحٍ-: إنَّ الاستشراق ليس كله تنصيرا، والتنصير ليس كله استشراقًا. فهنالك مستشرقون –وإن قلّوا- هدفهم علميّ بحت، ودافعُهم حبُّ الاطّلاع على حضارات الأمم وأديانها وثقافاتها ولغاتها، من غير تعمّد الدس والتحريف، وأبحاث هؤلاء غالباً ما تكون أقربَ إلى الحقيقة، وألصقَ بالمنهج العلمي الأصيل. بل وُجد منهم من قادته الحقائق التي اكتشفها عن الإسلام إلى اعتناقه، وأحد هؤلاء هو المستشرق الفرنسي الطبيب موريس بوكاي (Maurice Bucaille) الذي قال بالحرف:
((وبعد أن قمتُ بدراسة النص العربي للقرآن عن كثبٍ، استطعتُ أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم الحديث. وبنفس الموضوعية قمت بالفحص نفسه عن العهد القديم والأناجيل؛ أما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول أي سفر التكوين، فقد وجدت فيه مقولات لا يمكن على الإطلاق التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم الحديث رسوخاً)).
It was only when I examined the text very closely in Arabic that I kept a list of them, at the end of which I had to acknowledge the evidence in front of me: the Qur’an did not contain a single statement that was assailable from a modern scientific point of view. I repeated the same test for the Old Testament and the Gospels, always preserving the same objective outlook. In the former, I did not even have to go beyond the first book, Genesis, to find statements totally out of keeping with the cast-iron facts of modern science. ( )
وهاهنا ملحوظات:
الملحوظة الأولى: أنّ مَنْ أصاب الحقَّ من هؤلاء المستشرقين غير المتعصّبين فأنصف المسلمين في مسألة معيّنة، سرعان ما تتهمه الأكثرية من المستشرقين من بني جلدته بأنه قد انحرف عن المنهج العلمي، أو أنّه تعاطف مع المسلمين، وغير ذلك من العبارات. ولعل هذا يدخل فيما وصف به برنارد لويس بعضَهم من ازدواجية المنهج: ((فكل ما هو معادٍ للإسلام يجب أن يكون صحيحًا، وأي شيء في صالحه يجب فحصه بنظرة دقيقة))( ). فأين العلمُ من هذا المنهج المنحاز، وأين هو من العلم؟!
الملحوظة الثانية: أنّ وجود هؤلاء المستشرقين المنصفين أو الحياديين نادرٌ. والسبب أنَّ أبحاثهم المجرّدة عن الهوى وحب الانتقام من الإسلام لا تلقى رواجاً في الغرب؛ لا عند رجال الدّين، ولا عند رجال السياسة، ولا حتى عند عامة الباحثين منهم. فلا تدرّ عليهم هذه الكتابات المنصفة مالاً ولا ربحاً، ويجدون صعوبة في قبول أبحاثهم للنشر في الدوريات الاستشراقية، وقلّما ينادون للمشاركة في المؤتمرات والندوات( ). ولذلك يلاحظ أنّ وجودهم واستمرارهم على النهج نفسه غالباً ما يكونان مرهونَيْن بتوافر موارد مالية خاصة لهم، تعينهم على الانصراف إلى الاستشراق بأمانة وإنصاف، لا من أجل مكسب ديني أو مادي؛ سياسياً كان أو اقتصادياً أو اجتماعياً( ).
الملحوظة الثالثة: صحيحٌ أنَّ هؤلاء المستشرقين العلمِيِّين أقلُّ خطأً من غيرهم في فهم الإسلام وتراثه، بَيْد أنَّ الواقع أنَّ الخطاب الاستشراقي بمعسكرَيْه المُنْصِف والمُجْحِف لا يسلم غالباً من أخطاء. وأحياناً تكون هذه الأخطاء قد بلغت من السذاجة ما يجعل المرء يتساءل: هل يستحق مرتكبوها الألقابَ العلمية البرّاقة التي أُلبِِسوها؟! ولا أجد مندوحةً من ضرب مثال واحدٍ فقط على مثل هذه الأخطاء المضحكة المبكية.
فقد زعم أحد المستشرقين( ) أنّ تفسير الجلاليْن من تأليف رجلٍ وابنه، الأب هو: جلال الدّين السيوطي، والابن هو: جلال الدّين المحَلِّي! ولا أريد أن أعلّق بشيء على هذا الهراء؛ لأنه لا يستحقه في الحقيقة. وإنما أذكّر القارئ الكريم فقط بأنَّ جلال الدين السيوطي (الأب في زعم المستشرق) هو: عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد، أبو الفضل، عاش بين 849-911ﻫ/ 1445-1505م. أما ابنه – حسب ما أتحفنا به المستشرق- وهو: محمدٌ بن أحمد بن محمد، أبو عبدِ الله، فقد وُلد قبل ((أبيه!)) السيوطي بثمانٍ وخمسين سنة، وذلك عام 791ﻫ/1389م، وتوفي عامَ 864ﻫ/1459م، حين لم يكن السيوطي ((أبوه!!)) قد بلغ حتى السادسة عشرة من العمر( ).
ولعل قائلاً يقول: قد يكون مثل هذا الكلام صدر من المستشرق في كتابة غير محررّة أو غير علميَّة، فأقول: لمثل من يحمل هذا الظن عذرُه، لكنني أفيده بأنَّ الكلام قد سطّره المستشرق روبرتس في كتابٍ له مطبوع ومنشور، ويعتبر جزءًا من متطلبات حصوله على درجة الدكتوراه في علوم المسلمين ( )! فالله المستعان.
ولستُ بهذا أُطلق القول بأنّ المستشرقين كلّهم جهلة، ولست منكرًا جهودَهم في خدمة التراث العلمي الإسلامي، وما يتّصفون به من الجلَد والجدّ في العمل، وقد أشرتُ فيما مضى إلى جهود ونسنك ورفاقه في وضع المعجم المفهرس لألفاظ الحديث الشريف.
ولكن ينبغي أن يقدَّر كلُّ شيء بقَدرِه، دون إفراطٍ ولا تفريطٍ؛ فإنَّ وضعاً يكون فيه مستشرقٌ قد حصّل شيئاً من المعلومات العامة عن الإسلام وعلومه وفنونه المختلفة، مفتياً في عقيدة المسلمين وشريعتهم وتاريخهم، يستدعي ذلكم الوضعُ الإنكارَ والشجبَ من كل منصف، ولا يمكن السكوت عليه أو الرضى باستمراره.
المبحث الثاني: مرتكزاتُ موقفِ المستشرقين من التشريعات القرآنية، وبيانُ وهنِها
توجّه عدد من المستشرقين نحو دراسة متخصصة عن القرآن الكريم، لا سيما ما يتعلّق منه بالتشريعات المختلفة، فوجدوها نظاماً كامل البنيان، ثابت الأركان، قوي الحجّة والبرهان. فحينئذٍ -من منطلق النظرة الدونية لشعوب الشرق عامةً، والمسلمين منهم خاصةً- قرّروا دون تردّدٍ أنّ هذا البنيان الفقهي المحكَم لا بد أن يكون ثمة مؤثرات خارجية، منها قد استُمدّ، وإليها يستند. حتّى شككوا في اسم ((القرآن)) نفسه؛ فزعموا أنّه ذو أصل عبراني، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كاد أن يكون يهودياً( )!.
ثم وجدوا أنفسهم في حيرة من تحديد المصدر أو المصادر الخارجية المزعومة لهذه التشريعات القرآنية، فصاروا في ذلك فرقاً وأحزاباً، كل حزبٍ بما لديهم فرحون.
إلاّ أنّهم وإن اختلفوا في تحديد ما يزعمونه مصدراً للقرآن الكريم وما تضمّنه من التشريعات، فقد اتّفقوا جميعاً على إنكار المصدر الإلهي له. وكان المتطرفون منهم ينسبون ما جاء في القرآن الكريم إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم صراحةً، بنحو قولهم: ((قال محمد في القرآن))( ). وآخرون يؤْثرون اللجوء إلى أساليب المكر والخداع، وسرعان ما يكتشف أي متأمل للنصوص وفحواها أنّ ما يرمي إليه هؤلاء لا يختلف في شيءٍ عما يقصده أولئك. ومن ذلك ما صرّح به وليام مونتغمري وات من أنّه يتعمّد استخدام عبارة ((قال أوْ يقول القرآن)) بهدف تجنّب البتّ في مسألة كون القرآن كلامَ الله أو أنَّه ليس كذلك، وذلك ما توحي به عبارتا: ((قال الله))، أو ((قال محمد))( ).
ولما كان موقف المستشرقين من التشريعات في القرآن لا يختلف عن موقفهم من هذا الكتاب العظيم برمّته، من حيث إنكار مصدره الإلهي، فسأتناول في هذا المبحث -بمشيئة الله- أهمَ ما يتكئ عليه المستشرقون في إنكارهم المصدر الإلهي لكل ما جاء في القرآن الكريم من تشريع وغيره، باعتبار أنَّ ذلك هو الأساس الذي انطلقوا منه لاتخاذ ما سيُعرض من مواقف لهم تجاه التشريعات المالية في القرآن الكريم في المبحث القادم إن شاء الله.
هذا، وسيتم تناول هذا الجانب من البحث من خلال المطالب الثلاثة الآتية:
المطلب الأول: زعم الاتصال بأفراد من اليهود والنصارى.
المطلب الثاني: زعم الاقتباس من الكتب المقدسة لدى اليهود والنصارى.
المطلب الثالث: دعوى تأثير الأعراف والتقاليد الجاهلية.
المطلب الأول: زعم الاتصال بأفراد من اليهود والنصارى
مما ادّعاه المستشرقون في سبيل سعيهم الحثيث لاصطناع مصدر بشري للقرآن الكريم، أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكّة كان على اتّصال سرّي ببعض اليهود والنصارى الموجودين آنذاك في الجزيرة العربية، وأنّ هذا الأمر لم ينقطع حالةَ هجرته إلى المدينة المنوّرة، بل ازداد لوجود جالية يهودية هنالك أيضا.
يقول أبراهام كاتش في كتابه ((اليهودية في الإسلام)): ((لقد اتّبعت القبائلُ العربية المتهوّدة في الجاهلية الممارسات اليهوديةَ إلى حدٍّ بعيد. كانت العادات والتقاليد اليهودية معروفة لدى الكثيرين من العرب، وقد مارسوها فعلاً. ومحمّدٌ [صلى الله عليه وسلم] الذي كان يعرف كثيراً من هذه القوانين والعادات أَدرج عدداً كبيراً منها في تعليماته الدينية))( ).
أما وليام مونتغمري وات فقد عقد فصلاً في كتابه ((محمد: نبي ورجل دولة)) بعنوان: ((آثار اليهودية والنصرانية))، قال فيه: ((من المحتمل أنّه [يعني النبي صلى الله عليه وسلم] قد التقى يهوداً أو نصارى، وتحدّث معهم حول مسائل دينية))( ). وأقاويلهم في هذا المعنى كثيرة.
والمتتبع لكتاباتهم في هذا الشأن يجد أنها تتمحور حول نقاطٍ( )، أهمها:
الأولى: أنّ كلّ ما في القرآن الكريم من شرائع وغيرها قد تعلّمها النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود الموجودين في جزيرة العرب آنذاك.
والثانية: أو أنّه قد تلقّى شيئاً من ذلك عن ورقة بن نوفل، الذي كان قد تنصّر في الجاهلية.
والثالثة: أنّه قد تعلّمه من الراهب بحيرى الذي تروي لنا كتب السيرة أنه التقى به في رحلة له صلى الله عليه وسلم إلى الشام.
والرابعة: أنّه ربّما استفاد شيئاً من ذلك من بعض أصحابه رضي الله عنهم الذين كانوا قبل إسلامهم نصارى أو على صلة بالثقافة النصرانية، أمثال عديّ بن حاتم، وصهيب الرومي( )، رضي الله تعالى عنهما وعن سائر الصحابة.
هذه محاور فرية تأثر القرآن الكريم بما زعموا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد تلقاه عن أفراد من اليهود والنصارى. فلنأت الآن إلى مناقشتها، وسيتم ذلك بطريقتين: إجمالية وتفصيلية.
المناقشة الإجمالية:
إنّ منشأ الإشكال لدى المستشرقين في المسألة أنّهم بنوا دراساتهم عن أصل القرآن على أساس الحقيقة المرّة التي لم تعد تخفى اليوم على المتخصصين، ألا وهي أنّ ما يسمّى اليوم بالكتاب المقدّس بعهديه القديم( ) والجديد( )، لا ينطبق عليه -في الصورة التي هو عليها الآن- كونه وحياً إلهياً. وهذا ما اعترف به أحد أعلام اللاهوت النصراني( ) حيث يقول تحت عنوان: ((الكتاب بشري ومع ذلك فهو سماوي))، قال: ((نعم، إن الكتاب المقدس تصنيف بشر، وإن كان البعض بسبب الغيرة التي لا تتفق مع العلم قد أنكروا هذا، تلك الكتب [كتب أو أسفار كتاب النصارى المقدس] قد مرت من خلال أذهان البشر، وكتبت بلغة البشر، وبأقلام البشر، وتحمل صفات تتميز بأنها من أسلوب البشر))( ).
وإذا كان الغالب على الكتب المقدسة لدى المستشرقين هو الأسلوب البشري، من قبيل حكاية قاصٍ يحكي ما شهد بنفسه أو أُخبر به -وهذا أمر يعرفه كلُّ من له اطّلاع على هذه الكتب- دعُونا إذاً نقف على شيء من الأساليب القرآنية التي تبرهن على اختلافها كلَّ الاختلاف عن قراطيس( ) القوم التي هم بأنفسهم قد اعترفوا قبل غيرهم ببشريتها.
ففي نصوص القرآن الكريم نفسه ما يكفي للدلالة على أنّه وحي من الله تعالى أنزله على رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم، الذي بلّغه بدوره كما أوحي إليه من غير زيادة أو نقصان. ومن هذه الأمور ما يلي:
1- العبارات القرآنية الدالة صراحةً على أنّ ما فيه ليس كلام النبي صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك قول الله عز وجل: ﮋ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﮊ [البقرة: ١١١ ]، وقوله عز وجل: ﮋ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﮊ [آل عمران: ١٢ ]، وقوله تعالى: ﮋ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﮊ [الجن: ٢٥ ]، وقوله عز وجل: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﮊ [الإخلاص: ١ ]. والآيات بمثل هذا السياق في القرآن الكريم ليست بالعشرات بل بالمئات. فالمعهود في لغات العالم قاطبةً، أنّ الرسول حين يبلّغ عن مرسلِه أمراً أو نهياً فإنّما يعبّر عن مضمون الرسالة بأسلوبه وتعبيراته الخاصة. وحتى في حالة احتفاظه بنص الرسالة حرفاً حرفاً، فسيضطر لحذف ما صدر من المرسِل من صيغ الأمر أو الطلب المقصود بها الرسول نفسه دون المرسَل إليهم. وحين تأتي في القرآن الكريم عبارات كالتي تقدمت ((قُل كذا وكذا)) علمنا أنّ دور الرسول المبلّغ إياه قد اقتصر على نقله تاماً؛ لفظاً ومعنىً، دونما تصرّف أو إعادة صياغة. ومن جانب آخر، كان ذلك برهاناً على مباينة الأسلوب القرآني لأساليب البشر في أحاديثهم وتعبيراتهم.
2- أضف إلى ذلك أنّ القرآن الكريم قد اشتمل على عبارات فيها عتاب صريح من الله الخالق، إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، في أمورٍ لا تمس أصل الدّين فاجتهد فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يُقَر على اجتهاده لحكمةٍ يعلمها الله تعالى. وليس بمعقولٍ أن نتصور بقاء هذه العبارات العتابية في أكثر من موضع من القرآن الكريم لو كان النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً هو واضعه كما يزعم هؤلاء المستشرقون. ومن هذه الآيات قوله تعالى: ﮋ ﭑ ﭒ ﭔ ﭕ ﭖ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭢ ﭣ ﭤ ﭦ ﭧ ﭨ ﮊ الآيات [عبس: ١ - ٦ ] ( ). وكان بعض السلف رحمهم الله يقولون: ((لو أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم مِنَ الوحي شيئًا، كتم هذا عن نفسه)) ( ).
3- ولئن ثبت عدم كتمانه صلى الله عليه وسلم أو حذفه شيئاً من القرآن الكريم، فقد ثبت بيقين أنّه لم يزد فيه شيئاً كذلك. فعلى الرغم من حاجته الشديدة إلى نزول الوحي في قصة الإفك في أسرع وقت ممكن، فإنّه قد انتظر قرابة شهرٍ قبل أن ينْزل الوحي ببراءة زوجته وأحب الناس إليه. ولو كان القرآن الكريم من صنعه –كما يزعم المستشرقون- لما لزم هذا الانتظار، ناهيك عن المعاناة الشديدة والحرج الذي كان يلاقيه طيلة أيام الانتظار هذه، جرّاء ما كان يتناقله أولئك الذين جاءوا بالإفك أو خاضوا فيه( ).
4- تعبيرات خطابية تشير من جهةٍ إلى أنّ الله تعالى يمنّ على رسوله بما أوحى إليه من أخبار الأمم السابقة، ومن جهةٍ أخرى هي إفحام لمنكري رسالته وإلزام لهم بأنّه إنّما يتلقّى الوحي من لدن حكيم عليمٍ، ومن أمثلة هذا: قول الله سبحانه وتعالى: ﮋ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﮊ [آل عمران: ٤٤ ]، وقوله: ﮋ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﮊ [القصص: ٤٥ ]، وقوله:
ﮋ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮊ [العنكبوت: ٤٨]( ).
المناقشة التفصيلية:
أما بالنسبة لما تمسك به المستشرقون من الشبهات –وقد سبق إيرادها- فإليكم الأجوبة عنها فيما يلي:
أولاً: شبهة التعلّم من اليهود الموجودين في جزيرة العرب آنذاك
لا ننكر تواجد بعض القبائل اليهودية في الجزيرة العربية حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمرٌ قد ذكرته كتب المسلمين قبل غيرها. أما كون النبي صلى الله عليه وسلم قد نقل عنهم شيئاً مما في القرآن الكريم أو غيره من تعاليم الإسلام فهذا أمرٌ لا يمكن إثباته بطريقة علمية. وعلى العكس من ذلك، فإن جميع الحقائق التاريخية والعلمية تؤكّد عدم صحة مثل هذا الاختلاق.
فاليهود الموجودون في الجزيرة آنذاك لم يكونوا على ثقافة واسعة في الدّين، ولا على جانب من المعرفة بالدنيا تؤهِّلهم لمثل هذا الدور المزعوم، وإنما كان مستواهم الثقافي والاجتماعي متدنييْن إلى حدٍّ بعيد. وهذا ما ذهب إليه جماهير المؤرخين الغربيين أنفسهم، وقد اعترف بهذا المستشرق اليهودي كاتش وإن أبدى –كما هو متوقّع- اعتراضه على موقفهم هذا( ).
ويقول العلاّمة المؤرّخ ابن خلدون، وهو يصف حالة اليهود في الجزيرة العربية في تلكم الحقبة من الزمن: ((وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك( ) إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حِمير الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلّق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك)) ( ).
فقومٌ حالُهم ما وُصف، مِنْ سطحية المعلومات، وتدنّي المستوى الفكري والثقافي، كيف يمكنهم أن يؤثّروا في القرآن الكريم الحافل بالشرائع والمعارف والعلوم، بعضها لم تهتد إليه البشرية بكل ما أوتوا من تطور علمي وتكنولوجي إلاّ بعد جهد جهيدٍ. ولعلنا نستشهد هنا بشيءٍ مما شهد به المنصفون من الباحثين الغربيين أيضاً.
فقد قالت يوجينا غيانة ستشيجفسكا (B. G. Stryzewska)، وهي باحثة بولونية معاصرة متخصصة في الدراسات القانونية: ((إنَّ القرآن الكريم مع أنَّه أُنزل على رجلٍ عربيٍّ أُمِّي نشأ في أمّة أميّةٍ، فقد جاء بقوانين لا يمكن أن يتعلمها الإنسان إلاّ في أرقى الجامعات))( ).
وتقول ديورا بوتير (D. Potter)( ): ((كيف استطاع محمّد صلى الله عليه وسلم الرجل الأمّي الذي نشأ في بيئةٍ جاهلية أن يعرف معجزات الكون التي وصفها القرآن الكريم، والتي لا يزال العلم الحديث حتى يومنا هذا يسعى لاكتشافها؟ لا بد إذاً أن يكون هذا الكلام هو كلام الله عز وجل ))( ).
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ مؤرّخي اليهود أنفسهم يرون أنّ يهود الجزيرة العربية كانوا في معزلٍ عن بقية أبناء دينهم، وأنّ اليهود الآخرين لم يكونوا يرون أنّهم مثلهم في العقيدة، لأنّهم لم يحافظوا على الشرائع الموسوية ولم يخضعوا لأحكام التلمود( ).
وذهب المستشرق الألماني ((كاسكيل)) ( ) إلى حدٍّ أبعد؛ حيث أنكر يهودية هؤلاء اليهود الموجودين في الجزيرة العربية استناداً إلى دراسة أسماء يهود الحجاز عند ظهور الإسلام، مقرّرًا أنّهم في أرجح الاحتمالات عربٌ متهوّدون( ). ويتفق هذا إلى حدٍّ ما مع ما قررّه ابن خلدون، حسبما جاء في النقل السابق عنه.
ثم إنّ القرآن الكريم فيه كثير من الآيات التي تؤنّب اليهود وتذكّرهم بأفعالهم الشنيعة، والتي منها: وصفهم الله عز وجل بصفات النقص، وتحريفهم للكلم عن مواضعه، وتركهم الحكم بموجب ما أنزل عليهم من الشرائع، وأكلهم أموال الناس بالباطل. فكيف يُعقل أن يكونوا هم مَن علَّم محمداً صلى الله عليه وسلم القرآن ثم يسكتون وهم يرونه ويسمعونه يكشف خبثهم ويفضح أمرهم، ولا يحتجّون عليه على الأقل ولو مرّةً واحدةً بأنّك لم تأخذ دينك وشرائعك إلا منّا؟
هب أنّهم لم يفعلوا، فكيف يُظن بكفار قريش وغيرهم ممن رفضوا الدخول في دين الإسلام من عرب الجزيرة، وحاربوه بكل ما أوتوا من قوة ومال وولد. كيف يُظن بهم أنّهم يغفلون عن إقامة الحجة على النبي صلى الله عليه وسلم وإفحامه بذلك إن كان فعلاً قد اقتبس شيئاً من اليهود الموجودين آنذاك. ولا ننسى في هذا السياق أّن هؤلاء الكفار قد تحالفوا وتآمروا مع اليهود عسكرياً وفكرياً ضد النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من موقف. حتى إنّ قريشاً كانت تبعث رسلاً ليأتوا من اليهود بأسئلة تعجيزية يطرحونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكّة( ).
فلو كان بأيديهم هذه الحجّة لم يكونوا ليفوتوا الفرصة على أنفسهم، ثم بدلاً من ذلك يرمونه بأنّه إنما يتعلّم قرآناً عربيّاً في غاية من الفصاحة والبيان من رجل أعجمي لا يكاد يُبين! كما حكى لنا ذلك القرآن الكريم، مفنّداً زعمهم هذا، ومبيّنا أنّه لا يتفق مع المنطق السليم. قال تعالى: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﮊ [النحل: ١٠٣].
ثانياً: شبهة التلقّي عن ورقة بن نوفل
وهذه هي الأخرى لا حجّة فيها للمستشرقين، وبيان ذلك كما يلي:
1- أنّ ما بين لقاء النبي صلى الله عليه وسلم ورقةَ بن نوفل وبين وفاة الأخير فترة وجيزة جداً( ). ويبعُد - بل يستحيل - أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تعلّم منه خلال هذه المدّة هذا الكتاب العظيم، بكل ما اشتمل عليه من تفاصيل دقيقة عن شؤون الدّين والدنيا.
أما ما زعمه بعض المستشرقين من أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد لازم ورقة فترةً طويلةً من الزمن( ) - أوصلها بعضهم إلى خمسة عشر عاماً قبل البعثة( )- فضربٌ من الأكاذيب التي لا تستند إلى أي دليل. ويكفي في ردّه أنْ نقول: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم ملازما لورقة بن نوفل وتلميذا له كل هذه المدّة كما تزعمون، فما الذي أحوجه لوساطة زوجته خديجة -رضي الله عنها- ابنة عمّ ورقة، أولَ ما نزل عليه الوحي؟ أليس الأقرب أن يتوجه إلى أستاذه مباشرةً، وقد عرفه ولازمه طيلة خمس عشرة سنة، كما تدّعون!
2- ثم إنّه قد ثبت لدى المحققّين من العلماء والمؤرّخين أنّ ورقة نفسه قد أسلم واتّبع النبي صلى الله عليه وسلم. فكيف يُعقل أنْ يُقدم على مثل هذا وهو يعلم في قرارة نفسه أنّ ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم ليس إلا من بنات أفكاره هو؟
قال الإمام ابن القيّم –رحمه الله-: ((وأَسلَم القسُ ورقةُ بن نوفل، وتمنى أن يكون جذعاً( ) إذ يخرِج رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قومُه. وفي جامع الترمذي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه في المنام في هيئة حسنة وفي حديث آخر: أنه رأه في ثياب بياض))( ).
وترجم له الحافظ ابن حجر في الإصابة، وقال –رحمه الله-: ((ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العُزَّى بن قصي القرشي الأسدي، ابن عم خديجة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم. ذكره الطبري، والبغوي، وابن قانع، وابن السكن، وغيرهم في الصحابة))( ).
ودليل إسلام ورقة رضي الله عنه ظاهرٌ فيما قاله في ذلكم الموقف العظيم، حيث أعلن وهو يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم يأت رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يُدركني يومُك أنصرك نصرا مؤزرًا)) ( ). وثمة أدلة أخرى ليس المقام مقام التوسع في ذكرها( ).
3- وأخيراً، أعود فأقول: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تلقى شيئاً من القرآن الكريم عن ورقة لما خفي ذلك على كفار قريش، ولكان احتجاجهم عليه بذلك أقرب إلى التصور والواقع من اتّهامهم إياه زوراً بأنّه إنما يتعلّم من رجل أعجمي، كما تقدّم( ) .
ثالثا: دعوى التعلّم من الراهب بحيرى
من المهمّ أن نذكّر هؤلاء المستشرقين أولاً بأنّ كتب المسلمين في السيرة النبوية هي التي جعلت لبحيرى مكانة في التاريخ، إن جاز التعبير. أما تواريخ النصارى فلا ذكر للرجل فيها، فكل ما عرفه المستشرقون عنه مصدرهم في ذلك كتب أهل الإسلام( ). حتى المجامع النصرانية التي كانت تُعقد من حينٍ لآخر بين رجالات الكنيسة وأساقفتها، لم نجد شيئاً منها يذكر بحيرى من بين الحاضرين( ).
فمن أين للمستشرقين أن يفتروا ما ليس في المصادر التي استقوا منها فيزعمون زوراً وبهتاناً أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد تلقّى القرآن الكريم أو شيئاً منه عن الراهب القابع في صومعته سنين! أليس هذا يمثلّ قمة الخيانة العلمية، والتشويش على وقائع التاريخ؟
ثم إذا نظرنا إلى حيثيات اللقاء الذي تم بين النبي صلى الله عليه وسلم والراهب بحيرى، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم في رفقة عمّه أبي طالب، وهما في طريقهما مع بقية التجار إلى الشام، فسرعان ما ينكشف أمامنا عدم واقعية ما ادّعاه المستشرقون من جعل بحيرى مصدرا للقرآن الكريم.
فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ من العمر حين وقع هذا الحدث العابر سوى اثني عشر عاماً( )، وقيل: تسعة أعوام فقط( ). فأنى لغلامٍ أُمّيٍ لا يقرأ ولا يكتب، أن يتعلّم، وهو في هذا السن المبكّر من العمر( )، كل هذه القصص والمواعظ والعِبَر، وفوق ذلك أحكاماً وشرائع تنظّم شؤون الدنيا والآخرة بأدق التفاصيل.
أضف إلى ذلك أنّ هذا اللقاء لم يدم لا لسنةٍ، ولا لشهر، ولا ليوم كامل، وإنّما كان حدثاً عرضياً لم يدم إلا لدقائق، أو لساعات قلائل في أعلى التقديرات( ). فكيف يذهب المستشرقون بحدث كهذا مذاهب شتّى، حتى جعلوا منه مدرسةً لتعليم ديانة متكاملة مستوفاة؟!( )
وفوق هذا كلّه، فإنَّ الراهب بحيرى في هذه القصة هو مَن أبدى إعجابه الشديد بالنبي صلى الله عليه وسلم، لما رأى فيه من علامات النبوة وأمارات الرسالة الإلهية، فقال محذّراً عمَّه أبا طالبٍ: ((فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفتُ ليبغنه شرًّا؛ فإنه كائنٌ لابن أخيك هذا شأنٌ عظيمٌ))( ). فإذا ما أردنا تحليل هذا الموقف تحليلاً علمياً أو نفسياً صحيحاً، نجد أنّ الأقرب أن يكون بحيرى هو مَن يتطلع إلى التعلّم من النبي صلى الله عليه وسلم، لا العكس، والله تعالى أعلم.
رابعاً: زعم التعلّم من بعض أصحابه رضي الله عنهم الذين كانوا قبل إسلامهم نصارى أو على صلة بالنصرانية
وهذه هي الأخرى حجّة واهية، وهاء بيت العنكبوت لو كانوا يعلمون؛ إذْ لا يمكن تصوّر كون هؤلاء هم معلّميه ثم يظلّون أتباعاً له منقادين لأوامره ونواهيه بكل إخلاصٍ حتى فارقوا الدنيا( ).
ولما ضرب أحدُ الكفار مولىً له –كان نصرانياً فأسلم- متّهما إياه أنّه هو معلم محمدٍ ما يقوله، ردّ بكلام واضح لا لبس فيه ولا متعلَّق لأي طامعٍ، مستشرقاً كان أو غيره، فقال: ((لا والله، بل هو يعلّمني ويهديني))( ).
ولو كان ما يدّعيه المستشرقون حقًّا لمّا امتنع هؤلاء من إعلانه على الملأ وإخبار الناس بالحقيقة. فها هو واحد منهم: عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو قول الله تعالى: ﮋ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﮊ [التوبة: ٣١ ]، فقال: ((لم يعبدوهم يا رسولَ الله))، فحينئذٍ بيّن له النبي صلى الله عليه وسلم ما كان خافياً عليه من أنَّ اتّباع هؤلاء الأحبار والرهبان في تحليل ما حرّم الله وتحريم ما أحلّه هو عين عبادتهم( ). فازداد عديّ رضي الله عنه بذلك تعلّماً من المعلّم والمربّي الحقيقي، أمين وحي السماء، محمد بن عبد الله، صلوات ربّي وسلامه عليه.
المطلب الثاني: زعم الاقتباس من الكتب المقدسة لدى اليهود والنصارى
البايبل (Bible) أو ((الكتاب المقدس)) ينقسم إلى جزئين رئيسين: الأول هو العهد القديم، ويقدّسه كل من اليهود والنصارى، والثاني: العهد الجديد، وهو خاص بالنصارى وحدهم( ).
يتضمن هذا الكتاب قصصاً ومواعظَ وشرائعَ وأحكاماً بعضها في الأصل مما أوحى الله تعالى به إلى أنبياء بني إسرائيل، لكن دخلت فيه أيدي التحريف والتبديل. والبعض الآخر لا يعدو كونه مذكّرات وحكايات لوقائع دوّنها أناسٌ من رجال الدين النصراني خاصةً، وهم إما شهود عيان أو قد رووا عن شهود عيان( ).
فعن هذا الكتاب يزعم بعض المستشرقين أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد استقى جلَّ ما في القرآن الكريم( )، والعياذ بالله. ولمناقشة هذه الدعوى العارية عن أي دليل، أقول:
أولا: إنّ دعوى الاقتباس من البايبل لا تستقيم إلا بعد اعتقاد كون النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ويكتب( ) . فإذا جئنا لنناقش هذا الأساس الذي تنبني عليه فرية الاقتباس، نجد أمامنا حقيقة تاريخية راسخة رسوخ الجبال، ألا وهي أنّ حكمة الله البالغة قد اقتضت أن يكون نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أمّيًّا لا يقرأ ولا يكتب. قال الله عز وجل: ﮋ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮊ [الأعراف: ١٥٧ ] وقال سبحانه وتعالى: ﮋ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﮊ [الأعراف: ١٥٨ ] وكل مصادر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم متّفقة تماماً على هذه النقطة، ولكنَّ هؤلاء المستشرقين كعادتهم يخرجون علينا بما ليس في جميع الكتب التي هي مَعِينهم ومصادر معلوماتهم، كما أسلفتُ. ولهذا فإنّهم يقعون في أخطاء لم يقع في مثلها من عاش في الجاهلية الجهلاء. فأعداء القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وإن كانوا أقل من المستشرقين ثقافةً، إلاّ أنّهم أكثر منهم دقّةً وإنصافاً. فهم لما وجهوا اتّهامهم صوب القرآن الكريم قالوا ((اكتتبه)) محمّدٌ( )، ولم يقولوا ((كتبه))، اعترافاً منهم وإقراراً بأنَّه لا يقرأ و لا يكتب، وهم –بلا ريب- يعرفون عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرفه أيّ مستشرق( ).
هذا، وهناك رهطٌ قليل من المستشرقين وجدوا أنَّ هذه الحقيقة التاريخية أوضح من أن تُنكر، فاعترفوا مشكورين - ولو مضطّرين- أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ ولا كان يكتب، بل كان كما وصفه القرآن: ((نبيّاً أمّيًّا))( ). ومن هؤلاء: هنري دي كاسترى (H. de Castries) الذي قال في كتابه ((الإسلام: سوانح وخواطر)): ((إنّ محمّداً ما كان يقرأ ولا يكتب، بل كان كما وصف نفسه مراراً نبيًّا أميًّا. وهو وصف لم يعارضه فيه أحدٌ من معاصريه، ولا شكّ أنّه يستحيل على رجلٍ في الشرق أن يتلقّى العلم بحيث لا تعلمه الناس، لأنّ حياة الشرقيين كلها ظاهرة للعيان)) ( ).
ثانياً: ولَوْ( ) سلّمنا جدلاً أنّه قد طالع أو قرأ شيئاً من البايبل كما يزعم هؤلاء، فمن المعلوم أن لا شيءَ من أسفار البايبل قد كُتب في الأصل باللغة العربية، فلا بد إذاً أن يعتمد – في هذه الحالة الافتراضية الجدلية - على ترجمة عربية للكتاب. فهنا يصطدم المستشرقون بحقيقة تاريخية أخرى، ألا وهي أنّ أقدم ترجمة عربية للبايبل إنّما صدرت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بنحو قرن من الزمن( )، عامَ 724م أو 750م، على يد يوحنا، أسقف أشبيلية بأسبانيا آنذاك( ).
وقد شهد شاهدٌ آخر من البيت الاستشراقي، حيث قال المستشرق ر. في. س. بودلي: ((إنَّ الشكوى الشائعة بأنّ محمداً [صلى الله عليه وسلم] قد انتحل البايبل (الكتاب المقدس) لا صحة لها، فلم يكن قد رآه قط. وباستثناء ما يمكن استثناؤه من قصاصات لترجمة ورقة [بن نوفل] غير المكتملة، لم يكن هناك أي بايبل يمكنه الاطّلاع عليه. وحتى هذه القصاصات أيضًا فإنَّ احتمالَ كونه قد رآها بعيدٌ)).
The common complaint that Mohammed plagiarized the Bible is untrue. He had never seen it. With the possible exception of fragments of Waraka's incompleted version, there was no Bible for him to see. It is, moreover, most unlikely that he saw these( ).
وقال وليام منتغمري وات: ((ومن جانب آخر، فإن ثمة أسبابا عديدة لاعتقاد أنه [أي النبي صلى الله عليه وسلم] لم يكن قد قرأ قط، لا البايبل ولا أيَّ كتاب آخر)).
There are on the other hand, many reasons for thinking that he had never read the Bible or any other book( ).
ثالثاً: أنَّ ما دعا هؤلاء المستشرقين إلى الاعتقاد بأنّ القرآن الكريم قد اقتُبس من البايبل، ما لمسوه من التوافق في مواضع بين نصوص الكتابين، وكأنَّ الأصل عندهم في الرسالات السماوية أن تتعارض وتتناقض!
بعض أسفار البايبل -كما تقدّم- هو في الأصل مما أوحى الله تعالى به إلى بعض أنبيائه عليهم السلام، قبل أن يدخله ما دخله من التحريف والتبديل. ووجود توافق أو تشابه في بعض الأحكام والقصص بين رسالات الأنبياء والرسل –عليهم السلام- أمر طبيعي؛ فهم ((إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد))( ). وهذا أمرٌ قد أكّده القرآن الكريم في مواضع، منها قول الله تعالى: ﮋ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﮊ [آل عمران: ٣-٤]، وقوله عز وجل: ﮋ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮊ [المائدة: ٤٨ ]، وقوله سبحانه وتعالى: ﮋ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭠ ﭡ ﭢ ﮊ [الأعلى: ١٨ – ١٩].
رابعاً: على أنّ ثمة اختلافات جوهرية بين بعض ما في القرآن الكريم وما في أيدي اليهود والنصارى اليومَ من كتبٍ هم يقدّسونها. ويعجب المرء من طريقة تعامل المستشرقين مع هذه النقطة أيضاً. حيث راحوا يقيسون ما في القرآن على ما في البايبل، فإذا وجدوا أدنى اختلاف بينهما قالوا إنَّ ((محمَّداً)) قد أخطأ هنا، أو إنّه نَقَل المعلومة عن مصادر غير موثوقة!( ). أوَليس الأجدر بهم وبالطريقة العلمية التي يدّعون سلوكَها أن يوازنوا بين النصّين موازنة علمية محايدة ليتوصّلوا إلى الصواب والخطأ؟!
وهذا ما فعله القلة منهم وقادهم إلى إعلان إسلامهم فور اكتشافهم موافقة ما في القرآن الكريم للحقائق كلها، المحسوسة منها والمعنوية، وتعارض البايبل كلَّ التعارض مع ((أكثر معطيات العِلْم رسوخاً))، على حدّ تعبير المستشرق الفرنسي موريس بوكاي( ). أما أنْ يكون للباحث موقف عداء ومعارضة من النص قبل النظر فيه، ثم يحشر الشُبَه والتعليلات التعسفية لتأييد هذا الموقف المتّخذ سلفاً –كما هو ديدن جمهور المستشرقين- فلا نعلم لذلك أيَّ صلة بالعلم، بل نجزم بأنّه منافٍ له.
المطلب الثالث: دعوى تأثير الأعراف والتقاليد الجاهلية
هذه آخر عقدة من سلسلة اتّهامات المستشرقين المجحفة في حق القرآن الكريم والنبي محمد صلى الله عليه وسلم. حيث زعموا أنَّ جزءًا من القرآن المجيد إنّما تولّد من تأثير البيئة التي عاش فيها محمد صلى الله عليه وسلم، وأنّه قد ضمّنه بعض أعراف الجاهليين وتقاليدهم( ).وفي هذا يقول المستشرق الإنجليزي هاملتون جب (Hamilton Gibb): ((إنَّ محمدًا ككل شخصية مبدعة قد تأثّر بضرورات الظروف الخارجية المحيطة به من جهة، ثم من جهةٍ أخرى قد شقَّ طريقاً جديداً بين الأفكار والعقائد السائدة في زمانه، والدائرة في المكان الذي نشأ فيه … وانطباع هذا الدّور الممتاز لمكّة يمكن أن نقف على أثره واضحاً في كل أدوار حياة محمّدٍ. وبتعبير إنساني: إنَّ محمدًا نجح لأنّه كان واحداً من المكّيين))( ).
وقال المستشرق الصهيوني المعروف برنارد لويس: ((تروي السنّة بعض الأخبار عن الحنفاء الذين لم يرتضوا دين قومهم الوثني، ولم يقتنعوا لا بالنصرانية ولا باليهودية، فيجب أن نبحث عن أصول محمّد [صلى الله عليه وسلم] عند هؤلاء))( ).
هذا، والرد على هذه الفرية يأتي في نقاط:
أولاً: أننا لا ندّعي أنَّ القرآن الكريم حين نزل على النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كان الناس بلا أعراف ولا تقاليد، كلاّ. فالجاهليون كغيرهم قد نشؤوا على عادات بل ومعتقدات وعبادات منها الصالح، والآخر طالح. وقد استوعب الإسلامُ الصالحَ من أعراف الجاهليين وأبقى عليها، وألغى في الوقت نفسه الأعراف الفاسدة وأبطلها؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم إنّما بُعث ليُتمم مكارم الأخلاق( ).
ومما يؤكّد لنا أنّ القرآن الكريم لم يأت لتبني ما لدى الجاهليين كما يدندن المستشرقون حوله، ما أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، من إعلانٍ صريحٍ وواضحٍ لهؤلاء الجاهليين بأنَّه قد أوحي إليه بدينٍ مناقضٍ لما هم عليه من الشرك والإلحاد، فقال سبحانه وتعالى: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﮊ [الكافرون: ١ – ٢].
ثانياً: أنَّه لو كان الأمر كما يدّعيه هؤلاء المستشرقون لأبقى الإسلام على جميع أعراف الجاهليين و تقاليدهم، ولما حرّم بعضها وأباح البعض الآخر( ). ونحن نعلم يقيناً أنّ ما ألغاه الإسلامُ قرآناً أو سنّةً من عادات الجاهليين وتقاليدهم أضعاف ما أبقاهم عليه. فلو أخذنا باب البيوع مثلاً، نجد عدداً كبيراً من بيوع الجاهليين التي كانت تُبنى على الظلم، واستغلال حاجات الناس، وأكل أموالهم بالباطل، فمنعها الإسلام ووضع حدًّا لها. كبيع النَّجش ( )، وبيع السلعة قبل تملّكها وقبضها، وبيع الثمار قبل بدو صلاحها، وبيع المسلم على بيع أخيه، وبيوع الغرر، والبيعتين في بيعة، وبيع الدَّيْن بالدَّيْن، وبيع المعدوم، وبيع حبل الحبلة ( )، وبيع العِينة ( )، وبيع الحاضر للبادي، وتلقّي الركبان، وبيوع المصرّاة( )، والمزابنة( )، والملامسة( )، والمنابذة( )، وغير ذلك.
وهكذا الأمر في أنكحة الجاهليين التي لا تتوافق مع كرامة الإنسان( )، وتدنو به من مصاف الحيوان. كأنكحة الشغار، والمُحلِّل، والمتعة، والنكاح بلا ولي، والنكاح في العِدّة، ونكاح المحرّمات بالنسب أو بالرضاعة أو بالمصاهرة، وغير ذلك مما ألغاه الإسلام وأبطله( )، رحمةً بالعباد، وتكريماً لهم وتشريفاً.
أما ما كان موافقاً للفطرة السليمة التي فطر اللهُ الناس عليها، فقد أبقاه الإسلام، بل ورغّبهم فيه، لأنّه دين الفطرة( )، أتى لتحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم.
ثالثاً: أنّ تصوّر كون الشعب الجاهلي الأمّيّ هو مصدر ما في القرآن الكريم من التشريعات البالغة في الدّقة والإتقان حدّاً لا يُمكن تعلّم أمثالها إلاَّ في أرقى الجامعات –كما سبق أن اعترفت بهذا باحثة غربية( ) -، يُعدُّ هذا التصوّر أمراً غريباً لا يستقيم مع ما يدّعيه المستشرقون من التزام النَهج العلمي في تفكيرهم وأبحاثهم( ).
وأخيراً، أقول: إنّ إقدام المستشرقين على مثل هذه الفرية الواهية –كما رأينا- اعتراف مبطَّن بكساد أهم بضاعتهم وسلاحهم في محاربة القرآن الكريم، ألا وهو دعوى الاقتباس من الديانتين اليهودية والنصرانية، وقد تقدّمت مناقشة ذلك أيضاً بالتفصيل.
فهكذا نجد أنَّ المستشرقين قد تخبطوا في هذه المسألة تخبطاً عجيباً، وتناقضوا فيها تناقضات كبيرة، حتى صار كل طرفٍ يدّعي شيئاً ثم ينفيه الطرف الآخر( ). وتظلُّ الحقيقة التي لا يجادل فيها إلا مكابر أنَّ القرآن الكريم –بكل موضوعية وإنصاف- لا يمكن أن يكون نتاجاً بسيطاً للمؤثرات الخارجية، كما قد رأينا ذلك من خلال المناقشات السابقة. فالمصدر الوحيد للقرآن الكريم هو الله تعالى وحده لا شريك له، الذي تحدّى البشرية بالإتيان بسورة مثله، ولم يأتوا ولن يأتوا بها إلى الأبد.
المبحث الثالث: نماذج من انتقادات المستشرقين للتشريعات المالية في القرآن الكريم، ومناقشتها
بعد أن تناولتُ في المبحثين السابقين أهم المنطلقات المنهجية والأيديولوجية لمواقف المستشرقين من القرآن الكريم وما فيه من التشريعات وغيرها، فقد رأيتُ أن أخصّص هذا المبحث للجانب التطبيقي فيما يخص التشريعات المالية في القرآن الكريم خاصةً( ).
لقد تكلّم المستشرقون سواء فيما شرعه الله تعالى أو حرّمه من العقود المالية في القرآن الكريم، فكان كلامهم في ذلك يتَّسم تارةً بالتشكيك وإثارة الشُبَه، وأخرى بالنقد الصريح لجوهر هذه العقود ومضامينها، وتارةً ثالثةً بإطلاق التهم جزافاً بلا دليل. ففي المطالب الآتية نعرض شيئاً من أقاويلهم موثّقةً من بعض أشهر كتبهم، ثم مناقشتها مناقشةً علميةً بعون الله تعالى وتوفيقه.
المطلب الأول: ما يتعلق بالعقود المالية( ) المشروعة في القرآن الكريم
فمما جاء عنهم في هذا:
قول يوسف شاخت (Joseph Schacht)( ) في دائرة المعارف الإسلامية: ((شرع القرآنُ الكريم (سورةُ البقرة: 283) تقديمَ الرّهون (رهانٌ مقبوضة) في المعاملات التجارية المحدودة الأجل، إذا تعذر إعداد وثيقة مكتوبة. وذلك في تقرير واضحٍ للتقليد القانوني لعهد ما قبل الإسلام)).
The Kur'an (ii. 283), obviously in confirmation of pre-Islamic legal usage, provides for the giving of pledges (rihânun makbûda) in business in which a definite period is concerned, if the preparation of a written document is impossible( ).
وقال في موضع آخر: ((هل تأثّر القانونُ التجاري الإسلامي الحديثُ العهدِ بالقانون والحياة الاقتصادية للشعوب التي تم دمجها في الإمبراطورية الإسلامية؟ مسألةٌ دار النقاش حولها كثيراً في الماضي، إلاّ أنه بات من الممكن الآن الإجابة عليها يقيناً بالإيجاب)).
The question whether nascent Islamic commercial law was influenced by the law and economic life of the peoples incorporated in the Muslim empire, has been much discussed in the past but can now be definitely answered in the affirmative( ).
ويقول أيضاً: ((لقد وصل القانون التجاري في مكة ما قبل الإسلام - بلا شكٍ - مرحلةً معيّنة من التطوّر؛ فالتجارة التي عليها وحدَها اعتمد وجود المدينة، قد بلغت هنالك من الهيمنة ما يجعل القرآن لا يشير إليها بكثرة فحسب، بل إنه [يعني القرآن] قد استخدم عدداً من المصطلحات التجارية للتعبير عن أفكار دينية)).
Commercial law in pre-Islamic Mecca had undoubtedly reached a certain level of development ; the trade on which alone the existence of the town depended, occupied such a predominant place there that the Kur'an not only referred to it often but used a number of technical terms of commerce to express religious ideas ( ).
أما المستشرق روبرتس فقد علّق على معنى قول الله عز وجل: ﮋ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮊ [البقرة: ١٩٨ ] قائلاً: ((وفي حين أن إذناً كاملاً قد أُعطي [للمسلمين] ليقوموا بالتجارة حتى وهم في مناسك الحجّ، ومع هذا –وكما نعلم من سورة أخرى [من سور القرآن]- فإنّ الحماس الذي انخرط به العرب في ذلك في وقت النبي لم يكن مرضيًا له تماماً. فقد كان حزيناً جداً حين رآهم –وقد اقتربت قافلةٌ- ينسحبون دفعةً واحدة، تاركينه ليلقي الخطبة وليس أمامه سوى مقاعد خالية. فهذا ما نقرأه في السورة رقم 62: الآية التاسعة فما بعدها)).
While, however, full permission is thus given to trade, even when on pilgrimage; yet, as we learn from another Sura, the zeal with which the Arabs of the Prophet's time gave themselves up to this was not altogether pleasing to him. He was much grieved to find them, on the approach of a caravan, withdrawing en masse, leaving him to preach to empty seats. So we read in Sura 62:9 ff.( )
وقريب من هذا ما جاء عن المستشرق هيفينينغ (Heffening) الذي قال: ((تحت تأثير الأفكار الزهدية النصرانية، تبدّل سلوكه [يعني النبي صلى الله عليه وسلم] نحو التجارة؛ صحيحٌ أنه لم يستنكرها، لكنه أصبح الآن يرى فيها شيئاً قد يعوق المؤمنين عن عبادة الله وعن أداء الصلاة)).
Under the influence of Christian ascetic ideas, his attitude to trade was modified; he does not condemn it, it is true, but he now sees in it something which may detain believers from the worship of God and from performing the salat( ).
التحليل والمناقشة:
لقد حوت النصوص السابقة جملة أمورٍ تعبّر عن الرؤية الاستشراقية لما شرعه الله تعالى في القرآن الكريم لعباده من عقودٍ تتصل بعلاقة بعضهم ببعض بيعاً وشراءً. ولعل أبرز تلكم الأمور ما يلي:
1- أنّ تأثر التشريع المالي الإسلامي ليس بأعراف وتقاليد الجاهليين فحسب، بل وحتى بالقوانين السائدة في المجتمعات التي دخل أهلها في الإسلام في مراحل لاحقة.
2- أنّ القرآن الكريم كثيراً ما يشير إلى مسائل البيع والشراء، بل ويستخدم مصطلحات تجارية للتعبير عن أفكار دينية، وذلك نتيجةً لهيمنة التجارة على المجتمع المكّي قبل الإسلام.
3- أنّ هذا التشجيع والاهتمام بالتجارة قد تقلّص أو تبدّل نتيجة التأثّر بالفكر الزهدي النصراني.
هذه خلاصة ما جاء في كلام المستشرقين، وإليكم مناقشة ذلك كله فيما يلي:
أولاً: فيما يتعلق بزعمهم تأثّر التشريعات المالية في الإسلام بأعراف وتقاليد الجاهليين، فقد تقدمت مناقشة ذلك مع ضرب أمثلة للعقود المالية الجاهلية التي ألغاها الإسلام نظراً لما تشتمل عليه من ظلمٍ واعتداءٍ. ولا أرى ضرورةً لإعادة الكلام هنا فليراجع هنالك( ).
لكن ما أريد التركيز عليه هنا هو ما زعموا من تأثر التشريع الإسلامي أو اقتباسه من قوانين المجتمعات التي دخلت في الإسلام. لا سيما أنّ هذا الاتّهام يأتي من رجلٍ يُعتبر من أشدّ المستشرقين سعياً وراء إخراج التشريع أو الفقه الإسلامي من إطاره الحقيقي وإلباسه زيّ القوانين الوضعية. ومن ذلك صنيعه في كتابه ((مدخل إلى القانون الإسلامي)) حيث عمد إلى تقسيم الفقه الإسلامي على أسس التقسيمات القانونية، مثل: الأحوال الشخصية، المِلْكية، الالتزامات العامة، الالتزامات في العقود خاصةً ... الخ. وهذا التقسيم هو السائد اليوم في جميع ما يسمى بأقسام القانون الإسلامي (الشريعة ) في كليات القانون في الجامعات الغربية، بل وحتى في جميع جامعات الدول الإسلامية التي تدرَّس فيها الشريعة باللغة الإنجليزية، كالباكستان، وماليزيا، ونيجيريا( ). وقد اعتبر الدكتور مصطفى الأعظمي ذلك من أوجه محاربة القرآن الكريم ودعوى استمداده من المصادر الأجنبية( ) .
وما ألمح إليه شاخت في النص السابق هو ما قد صرّح به في أماكن أخرى، سواء في دائرة المعارف الإسلامية نفسها أو في كتبه الأخرى( )، من أنّ التشريعات الإسلامية أو ما يسمّيه هو بالقانون الإسلامي قد استُمد من القانون الروماني. ولو كان هذا رأياً شاذاً له هو وحده لهان الأمرُ، لكن قد سبقه ولحقه في القول به كتّاب آخرون لهم وزنهم في العالم الاستشراقي، ومن أبرزهم: المجري جولدزيهر، والألماني فون كريمير، والهولندي دي بور( ).
وكلامهم هذا مجرد افتراء واّتهام ليس لهم عليه أي بيّنة، كما سنرى من خلال النقاط الآتية:
1- صحيح أنّ حركة الترجمة التي بلغت أوجها في عهد الخليفة العبّاسي المأمون قد أمكن معها نقل كثير من العلوم والمعارف إلى العربية لغة الإسلام والمسلمين. لكن في حين أنّ الترجمة هذه شملت ميادين مختلفة من طبٍ، وهندسةٍ، وفلكٍ، وجغرافيا، وفلسفةٍ، وغيرها، فإنّها لم تطل أي كتب أو مراجع قانونية سواء من اللاتينية أو اليونانية( ). ويؤكّد هذا أنّ ابن النديم في الفهرست ذكر في صفحات كثيرة أسماء المترجمين والكتب المترجمة من الأمم الأخرى، وليس فيها كتاب قانوني واحدٌ( )!
2- أنَّ الفقه الإسلامي قد تطوّر وبلغ شأواً من التقدّم والرقي قبل أن يتم هذا الاتصال الثقافي أصلاً. فلم يكن شرعنا الحنيف بحاجة إلى مصادر قانونية أجنبية عند تكوينه؛ حيث كانت الآيات القرآنية تنـزل على النبي صلى الله عليه وسلم غضّةً طريّةً، ثم مِنْ بعدِه وجد الخلفاء الراشدون ومَنْ بعدَهم في القرآن والسنّة ما يكفي لاستنباط حُكمٍ لكل نازلة، إما نصاًّ وإما قياساً على نصٍّ.
كما أنّ الشريعة الإسلامية لم تكن بحاجة إلى أي مصدر قانوني أجنبي حتى عند اكتمال بنائها؛ وليس أدلّ على ذلك من أنّ المأمون إنّما تولّى الخلافة سنةَ 198ﻫ، بينما ولادة آخر أئمة المذاهب الفقهية الأربعة: الإمام أحمد بن حنبل –رحمهم الله جميعاً- كانت في عام 164ﻫ، وقد صار إماماً مشهودا له بالعلم والفقه قبل أن يتولّى المأمون مقاليد الحكم، ويأمر حينئذٍ بترجمة علوم الرومان واليونان( ). بل وُجد من هؤلاء الأئمة أمثال الإمام مالك بن أنس –رحمه الله- من لم تطأ قدمه أي أرض كانت تخضع لحكم الرومان، إذ ظل في الحجاز حتى توفي. فكيف يُظنّ بمثله التأثر بثقافة الرومان أو قانونهم؟
3- أنّ المدارس القانونية الرومانية الموجودة في البلدان التي فتحها المسلمون كانت إما قد أُغلقت أو خَرِبتْ قبل دخول المسلمين لهذه البلاد. وآخر تلكم المدارس مدرسة بيروت القانونية التي كانت قد خربت بسبب الزلازل والكوارث الطبيعية التي ضربت المدينة، وبلغت ذروتها سنة 551م( ). أي قبل فتح المسلمين إياها وسائر بلاد الشام بخمسةٍ وثمانين عاماً (13ﻫ/635م) في أول خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( ) . وقد جاء في الموسوعة البريطانية نصاً أنّ ((بيروت يوم دخلها المسلمون الفاتحون سنةَ 635م، كانت ما تزال في معظمها متهدِّمةً))( ).
4- يضاف إلى ذلك كلّه أنّ المدارس الفقهية الإسلامية المشهورة - وبشهادة المستشرقين أنفسهم - لم ينشأ شيء منها لا في الإسكندرية ولا في بيروت -حيث كانت توجد مدارس القانون الرومانية - وإنّما نشأت حيث كان العلم النبوي هو السائد كالمدينة المنوّرة وبغداد( ).
5- ومما لا جدال فيه أيضا أنّ أئمة الفقه الإسلامي سواء في عهد الصحابة أو التابعين أو تابعيهم لم يطّلعوا على أي مرجع قانوني مترجم من القانون الروماني. ولذا، لا يكاد يوجد لفظ واحد مستعار من اللاتينية أو اليونانية في اللغة الفقهية الأصيلة( ).
ثانياً: أما عن دعواهم هيمنة المصطلحات التجارية في القرآن الكريم، وربط ذلك بسيطرة التجارة على المجتمع المكّي قبل الإسلام …إلخ فهدف المستشرقين من هذا هو الإيحاءُ بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم هو من ألّف القرآن الكريم، بدليل أنّه تأثر بالجو التجاري السائد في بلدته مكّة، فصار يعبّر كثيرا بمصطلحات تجارية. ومن المستشرقين الذين أسسوا لهذه النظرية التلفيقية: س. س. توري في كتابه: المصطلحات التجارية اللاهوتية في القرآن (The Commercial Theological Terms of the Koran)( ). وجوابنا عن هذا في الأسطر القادمة:
1- لقد تتبعتُ مواطن ذكر ((التجارة)) و((البيع)) و((الشراء)) ومشتقاتها في القرآن الكريم، مقارناً بين عددها الإجمالي وعدد مرات ذكر ((الزرع)) و((الحرث)) و((النبات)) ومشتقاتها، فوجدتُ أنّ العدد الإجمالي للأخير أكبر من الأول! ( )، الأمر الذي يدّل على هشاشة الأساس الذي قامت عليه نظرية توري وشاخت ومن لفّ لفَّهما من المستشرقين؛ فالألفاظ المتعلقة بالزراعة وما إليها أكثر من التي تتعلق بالتجارة، فأين الحجّة في نظريتكم الساقطة هذه؟
2- إنّ أكثر الآيات التي وردت فيها كلمة ((زرع)) ومشتقاتها هي في السور المكيّة، بل ليس في السور المدنيّة منها شيء إلا ما ورد في قوله تعالى: ﮋ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮊ [الفتح: ٢٩ ].
فهل هناك – بعد ما كشفنا عنه ههنا من الحقيقة- من المستشرقين مَن يكابر فيقلب أحداث التاريخ رأساً على عقب بدعوى أنّ أهل مكّة كانوا مزارعين ولم يكونوا تجّاراً. لا إخالهم يفعلون، ولكنني –والله- لن أتعجّب إذا وُجد منهم مَن يذهب هذا المذهب أيضاً، فديدنهم دائماً إنكار الواضحات وادّعاء المستحيلات.
3- أما إشارات القرآن الكريم وتطرقه إلى مسائل التجارة، والبيع والشراء، والزراعة، والحراثة وسائر أوجه النشاط الإنساني المباح، فليعلم المستشرقون أنّ هذا أكبر دليلٍ على أنّ ديننا منهج حياة متكامل يتكفل لا بالجوانب الدينية للإنسان فحسب، بل بها وبسائر جوانب الحياة المختلفة؛ اقتصاديةً كانت أو اجتماعية أو تربوية أو سياسية. وليس كملّة هؤلاء القوم التي ((تُعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله( ) ))، فكل شيء عندنا معشر المسلمين لله، ولا شيء يخرج عن إرادته كوناً أو شرعاً.
ثالثاً: وأما عن الزعم بأنّ موقف القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم من التجارة قد تبدّل نتيجةَ التأثّر بالفكر الزهدي النصراني، فقد سبق أن ناقشتُ مسألة دعوى التأثر بالنصرانية أو غيرها فيما مضى بما فيه غنية إن شاء الله( )، وأضيف هنا أيضا ما يلي:
1- أنَّ المستشرقين أنفسهم قد تناقضوا في هذا الزعم، ففي حين يدّعي هيفينينغ –زوراً- أنّ السبب هو التأثر بالفكر النصراني الذي لا أساس له كما تقدّم، يرى روبرتس أنّ السبب إنّما هو ما لوحظ من الحماس الزائد لدى بعض المسلمين في مزاولتهم الأعمال التجارية. فهل من داعٍ لكل هذا التخرّص والتخمين، ومن ثم التناقض والتعارض، وسبب نزول الآية واضحٌ ومعلوم كما سيأتي ذكره؟
2- ثم إنَّ مَن يعرف حالَ رؤساء الكنيسة وأقطابها في العصور الوسطى( )، ولا سيما فيما يتعلق بحب المال والانغماس في الحياة المادية، يتعجّب من دعوى هيفينينغ هذه من أنّ النصرانية الموجودة آنذاك تؤثّر في صرف أحدٍ عن التجارة والسعي وراء المادة. أليس هذا الطغيان المادي للكنيسة جزءًا أساسيا لقيام الحركة الاحتجاجية البروتستانتية التي كان مؤسِّسُها مارتن لوثر يوماً ما يعرض على الناس صورةً للمسيح عليه السلام، وهو يطرد الباعة من الهيكل( )، وصورةً أخرى للبابا آنذاك وهو يبيع الغفرانات، وأمامه أكداس مكدّسة من الذهب( ).
3- أما عن سبب نزول الآية التي في آخر سورة الجمعة، فهو كما أخرجه الشيخان عن جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- ((أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَخطب قائمًا يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً. فأُنزلت هذه الآية التي في الجمعة: ﮋ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮊ))( ).
وقد قيل إنّ سبب انصرافهم أنَّهم ظنّوا ألا شيء عليهم في ترك سماع الخطبة، لا سيما وقد ورد في بعض الطرق أنّ الحادثة إنما كانت في زمن كان النبي صلى الله عليه وسلم يقدّم فيه صلاة الجمعة على الخطبة كالعيدين( ) . قال القاضي عياض: ((هذا أشبه بحال الصحابة والمظنون بهم أنهم ما كانوا يدعون الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم))( ).
ويؤكّد هذا أنّه لم يُنقل لا برواية صحيحة ولا ضعيفة ولا حتى موضوعة أنّهم قد عادوا لمثل هذا بعد ورود النهي، وصيرورة الحكم الشرعي في الأمر معلوماً واضحاً بالنسبة لهم. ففي مراسيل أبي داود –رحمه الله- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بدأ يقدّم الخطبة على الصلاة يوم الجمعة عقب نزول هذه الآية، وأنّه من ذلك الحين ((كان لا يخرج أحدٌ لرعافٍ أو لحدَث بعد النّهي، حتى يستأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم ...الحديث))( ) .
4- أما زعم روبرتس أنّهم قد تركوا النبي صلى الله عليه وسلم ((ليلقي الخطبة وليس أمامه سوى مقاعد خالية)) ففيه تجني واضح على أحداث السيرة، وسوء ظنٍّ بصحابة النبي صلى الله عليه وسلم. إذ الروايات التي ذكرت الحادثة نصّت كلها -بلا استثناء- على أنّ ثمة عدداً من الحاضرين بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينصرفوا. قيل إنّ عددهم أربعون، وقيل ثلاثة عشر، وقيل أحد عشر( )، وأصح ما ورد فيه أنهم كانوا اثني عشر رجلاً، كما في رواية الشيخين المذكورة آنفاً، منهم صاحباه أبو بكر وعمر –رضي الله تعالى عنهما-( ) . وفي روايات أخرى أنّ راوي الحديث جابر رضي الله عنه كان منهم( )، وكذلك بقية الخلفاء الراشدين: عثمان وعلي، وكبار الصحابة كـطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم( )، رضي الله تعالى عنهم وعن سائر الصحابة.
5- وكذلك ما أشار إليه هذا المستشرق نفسه من مشروعية التجارة في الحجّ في قوله تعالى: ﮋ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﮊ [البقرة: ١٩٨]. فنقول: إنّ هذا مما يؤكّد كون الإسلام دينا متكاملاً، يشرع للمسلمين ما يصلح به دينهم ودنياهم دون أن يعيق جانبٌ الجانب الآخر. وهذا ما يتّضح من سبب نزول الآية الكريمة، فقد روى البخاري بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ((كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في المواسم، فنـزلت: ﮋ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﮊ في مواسم الحج))( ). أي: لا حرج عليكم في البيع والشراء قبل الإحرام وبعده( )، وفي ذلك بيانٌ أنّ التجارة لا تنافي المقصد الشرعي، وإبطالٌ لما كان عليه المشركون؛ إذ كانوا يرون التجارة للمُحرِم بالحج حرامًا( ). قال الإمام القرطبي: ((ففي الآية دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة، وأنَّ القصد إلى ذلك لا يكون شركاً، ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترَض عليه)) ( ). والله تعالى أعلم.
المطلب الثاني: ما يتعلق بالعقود المالية المحرّمة في القرآن الكريم
فمما جاء عنهم في هذا:
قول س.س. توري (C.C. Torrey) في سلسلة أبحاثه الموسومة ((الأصل اليهودي للإسلام)): ((فمع ذلك هناك قضايا مهمة لم تنظمها أيُّ قوانين عربية عامة، وسَنُّ قوانين معيَّنة فيها كان أمراً ضرورياً أو مستحسناً: كيفية التعامل مع المَدين، وهل يجوز للمسلم أن يأخذ الربا إذا أقرض أخاه المسلم؟ وهل يحق للإنسان أن يمارس تجارته يوم الجمعة كيفما يريد كما يفعل في الأيام الأخرى؟ أسئلة مثل هذه وأخرى مما يعالجه القرآن، سبق أن أجاب عنها المشرّعون العبرانيون والشُّراح؛ ومن قراراتهم خاصةً استخرج محمدٌ [صلى الله عليه وسلم] شريعتَه)).
There were nevertheless matters of importance, not regulated by any general Arabian laws concerning which some prescription was necessary or desirable. How should debtors be treated? Should the Muslim exact interest when making a loan to his fellow-Muslim? May a man pursue his trade on Friday as freely as on other days? Questions similar to these, and to still others with which the Koran deals, had been answered by the Hebrew lawgivers and interpreters; and it is from their decisions especially that Mohammed derives his own doctrine( ).
ويقول شاخت في مادة ((الربا)) من دائرة المعارف الإسلامية: ((إنّ كون الفقرات الرئيسة التي هي ضد الربا [في القرآن] تعود إلى العهد المدني، وكون اليهود قد وُبّخوا بأنّهم انتهكوا هذا الحظر، لَيُوحيان بأن تحريم الربا في الإسلام يرجع سببه إلى تعرّف النبي [صلى الله عليه وسلم] عن قربٍ على معتَقدات اليهود وممارساتهم في المدينة، أكثر من صلة ذلك بالأوضاع في مكّة)).
The fact that the principal passages against interest belong to the Medina period and that the Jews are reproached with breaking the prohibition, suggests that the Muslim prohibition of ribâ owes less to conditions in Mecca than to the Prophet's closer acquaintance with Jewish doctrine and practice in Medina( ).
وكرّر الاتّهام نفسه بل وبالعبارة ذاتها تقريباً في كتابه: ((مدخل إلى القانون الإسلامي))( ).
وقال في موضع آخر: ((الأمر المعلوم على نطاق واسعٍ في الوقت المبكّر [من تاريخ الإسلام] هو أنّ الربا المحرّم في القرآن، على ما يبدو، إنّما هو أخذ الزيادة (الفائدة) على القروض (خصوصاً في الأموال والأطعمة)؛ وما عدا هذا فينبغي اعتباره تطوّراً لاحقاً)).
What was generally understood in the earliest period as the ribâ forbidden in the Kur'an, seems only to have been interest on loans (chiefly of money and foodstuffs); anything that goes beyond this is to be regarded as a later development ( ) .
وفي سياق آخر، قال س.س. توري: ((وبالنسبة للربا أيضاً، فإنَّ التشريعات العبرانية القديمة قد أُعيدت في القرآن: لا يجوز للمسلم أن يأخذ ربا من أخيه المسلم، ولكن لا وجود لتقييد كهذا عندما يتعامل مع غير المسلمين (قارن بين القرآن 2: 276-279 وبين سفر الخروج 22: 25 و سفر التثنية 23: 19).
In regard to usury, also, the old Hebrew enactments are repeated in the Koran. The Muslim must not exact interest from his fellow-believer, but there is no such restriction when he is dealing with non- Muslims (cf. 2:276-279 with Ex. 22:25 and Deut. 23: 19)( ).
وغير بعيدٍ عن هذا ما قاله روبرتس في كتابه ((القوانين الاجتماعية في القرآن)): ((فنجد أنَّ محمدا [صلى الله عليه وسلم] قد ترك مسألةَ: هل يجوز لأتباعه أن يتعاملوا مع أهل الديانات الأخرى بالربا أم لا ؟ مفتوحة تماماً… فمن المرجّح إذًا، أن يكون محمد [صلى الله عليه وسلم] واسع الاطّلاع على تعليمات العهد القديم( ) المتعلقة بالربا)).
It will be seen that Muhammed leaves entirely open the question whether his followers may or may not practise usury with people of another religion … It is more than probable, therefore, that Muhammed was conversant with the Old Testament teaching as regards usury( ).
لكنَّ الأدْهى والأمرّ صنيعُ المستشرق اليهودي أبرهام كاتش، الذي جعل من نفسه مفتياً للمسلمين، أو ناطقاً رسميًا باسمهم، فقال: ((في الإسلام، يحرم الربا في حالات تعامل المسلم مع أخيه المسلم، لكنه غير محرّمٍ إذا تعامل مع غير المسلم)).
According to Islam, usury is prohibited in the case of a Moslem dealing with a fellow-believer, but not when dealing with a non-Moslem( ) .
ويقول روبرتس في موضع آخر: ((توجد في موضع واحدٍ فقط من القرآن الإشارة المباشرة إلى الرشوة، وذلك في سورة البقرة، الآية 188، حيث نقرأ:
ﮋ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ
ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮊ … ويبدو غريباً نوعاً ما أنَّ النبي [صلى الله عليه وسلم] قد أعطى اهتماماً ضئيلاً كهذا لهذا الأمر المهم، تماماً كما فعل بمسألة السرقة أيضاً. إنَّ المساحة المخصّصة للموضوع في القرآن لا تتناسب إطلاقاً مع الانتشار الواسع لشر الرشوة بين المحمّديِّين( ) … ولو أن محمداً [صلى الله عليه وسلم] قد أعطى القضية قدراً أعلى من الانتباه في القرآن، ربما لا يجد المرء هذا القدر الكبير من الرشوة في الدُّول المحمّدية)).
There is only one direct reference made to bribery in the Qorân, namely, in Sûra 2, 184( ), where we read, ((Devour not your wealth among yourselves vainly, nor present it to the judges that ye may devour a part of the wealth of men unjustly, while ye know(( … It seems somewhat strange that the Prophet should give to this important matter, as he did also to that of theft, such scant attention. The space given to the subject in the Qor'an by no means corresponds to the wide prevalence of the evil of bribery among the Muhammedans … And had Muhammed given more notice to the matter in the Qoran, perhaps one would not find so much bribery in Muhammedan countries ( ) .
التحليل والمناقشة:
تعرض المستشرقون كعادتهم إلى بعض ما ورد النهي عنه في القرآن الكريم من العقود المالية، مستخدمين أساليب التشكيك حيناً، والطعن المباشر حينا آخر؛ عَلَّهم
يجدون فيه ثغرات ينفذون من خلالها لتحقيق أهدافهم المرسومة سلفاً كما شرحنا ذلك في المبحث الأول. والحقيقة أنّهم لم ولن يجدوا أي ثغرة في كلام العليم الحكيم، ولو استمروا في البحث والتنقيب آلاف السنين ﮋ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮊ [الملك: ٤].
لقد تضمنّت النصوص الاستشراقية السالفة الذكر من النقاط ما يلي:
1- أنَّ جملة من التشريعات المالية القرآنية قد أُخذت من شرائع اليهود، خاصةً في الجوانب التي ليس لعرب الجاهلية فيها تنظيم معيّن. وأنّ كون آيات النهي عن الربا مدنيّة، دليلٌ على أنَّ الإسلام إنّما نهى عن الربا نتيجةً لما اطّلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم من أسفار اليهود وشرائعهم في المدينة بعد هجرته إليها.
2- أنّ الربا المحرّم في القرآن الكريم هو ربا القروض، وأنّ ما عدا ذلك فتطور جاء بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
3- أنّ القرآن كرّر ما في كتب اليهود، فقرّر التفرقة بين المسلم وغيره في جواز التعامل بالربا مع الغير.
4- أنّ الاهتمام بموضوع الرشوة في القرآن الكريم غير كافٍ، ولذلك انتشرت هذه الآفة بين المسلمين.
هذا مجمل ما ذهب إليه المستشرقون، وإليكم فيما يلي مناقشته، ومن الله تعالى نستمد العون والتوفيق.
أولاً: نلاحظ أن هؤلاء المستشرقين ما فتِئوا يردّدون شبهة أسلافهم القديمة، المتمثلة في دعوى تأثر التشريعات القرآنية بالأعراف الجاهلية تارةً، وبالشرائع اليهودية تارةً أخرى، وهذا ما قد تصدّينا له في المبحث الثاني من هذا البحث، ولله الحمد. والإضافة الجديدة في هذا السياق تكمن فيما أثاره شاخت من كون معظم الآيات القرآنية التي تنهى عن الربا هي في السور المدنيّة، وربط ذلك بوجود اليهود في المدينة، واحتكاك المسلمين بهم. وعلى هذا أقول:
1- إنَّ التحذير من الربا ليس في السور المدنية فقط، بل في سورة مكيّة أيضاً. قال الله تعالى في سورة الروم: ﮋ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﮊ [الروم: ٣٩]. حيث نُقل عن بعض السلف كالحسن البصري –رحمه الله- أنّ معنى الربا هنا هو الربا المحرّم( ). فبهذا يسقط زعم هذا المستشرق وغيره من أنّ القرآن لم ينه عن الربا إلاّ بعد ما اطّلع النبي صلى الله عليه وسلم على شرائع اليهود وممارساتهم في المدينة بعد الهجرة.
2- أما عن كون معظم الآيات الواردة في النهي عن الربا مدنيّة، فذلك له ما يبرّره. فاليهود –كما هو معلوم- هم أشد أكلة الربا، فلما كان المجتمع المدني آنذاك يضم عدداً منهم – على عكس المجتمع المكّي - ناسب أن يُزاد في النهي عن هذه الآفة وتنويع الخطاب في ذلك مبالغةً في التحذير. والله تعالى أعلم.
3- وفوق هذا كلّه، فمن المعلوم أنّ شرائع الإسلام أتت متدرّجةً لحكمة إلهية بالغة. حيث لم تُشرع الشرائع الإسلامية دفعةً واحدةً، بل جاءت بالتدرج على مدى السنين الثلاث والعشرين التي قضاها النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى دين الله ويعلّمهم شرائعه. فالنهي عن الربا، وإن كان ذلك مهماً، إلاّ أنّه لا يبلغ في الأهمية مسألة النهي عن الشرك الذي كان متفشياً بين العرب الجاهليين آنذاك. فلا غرو إذاً أن نجد النهي عن الربا يتأخر بعض الشيء عن النهي عن الشرك بالله تعالى والأمر بتوحيده وعبادته وحده. ولا علاقة لذلك البتَّة بتخمينات المستشرقين الذين يحاولون دوْماً أن يجعلوا من الحَبَّة قُبّة، بل الأمر كله قد حصل وفق إرادة الله الخالق الذي يعلم ما الذي يصلح لعباده، ومتى؟ وكيف؟ ﮋ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﮊ [الملك: ١٤].
ثانياً: أما قول شاخت أيضاً إنّ الربا المحرّم في القرآن الكريم هو ربا القروض، وأنّ ما عدا ذلك فتطورٌ جاء بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلي معه في هذا وقفات:
1- أنّ هذا الرجل –كما رأينا- هو من أكثر المستشرقين اهتماماً بالجانب التشريعي في الإسلام، وقد اعترف أقرانه له بطول الباع ودقّة التخصص في هذا المجال، ولا أدلّ على هذا من كون معظم المواد المتعلقة بالفقه الإسلامي –إن لم يكن كلّها- في دائرة المعارف الإسلامية (الاستشراقية) من وضعه هو.
لكن ما أودُّ الإشارة إليه ههنا أّن هذا الرجل الذي يُدّعى له العلم والمنهجية العلمية ودقة التخصص .. الخ، نجده كثيراً ما يكون أسلوبه أبعد ما يكون عن الأسلوب العلمي، شأنه شأن مستشرقين آخرين ممن سبق الحديث عن مناهجهم في المبحث الأول؛ إذ كيف يُعقل أن يلجأ ((عالمٌ)) إلى أسلوب التخمين والتقدير العشوائي –كما صنع شاخت ههنا( ) - في مسألة خطيرة كهذه. ثم لا يقف عند هذا الحدّ، بل يتمادى فيتّهم عموم المسلمين من أهل القرون المفضّلة بأنّهم قد أضافوا من تلقاء أنفسهم شيئاً إلى شرائع القرآن؟!
2-أنَّ ما يومئ إليه شاخت هنا في الحقيقة ليس جديداً، بل ترديد لقول أستاذه جولدزيهر الذي زعم أنّ الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلها من صُنع المسلمين في القرون الأولى للهجرة، بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. وقد أكّد شاخت نفسه هذا الافتراء حين زعم في موضع آخر أن التأثير اليهودي على موقف الأحاديث من مسائل الربا أمر لا جدال فيه( ). وسبق أن بينتُ جانباً من السقطة العلمية والمنهجية لنظرية جولدزيهر هذه في المبحث الأول من هذا البحث( ).
3- أنّ الربا في الإسلام محرّم تحريماً كليّاً، سواء أكان ربا القروض (النسيئة) أم ربا الفضل؛ الأول ثبت بنص القرآن، والثاني بالنصوص النبوية التي هي مبيّنة للقرآن وموضّحة له. قال الله تعالى: ﮋ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﮊ [النحل: ٤٤ ]، وقال أيضاً سبحانه وتعالى: ﮋ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮊ [الحشر: ٧ ]، وقال أيضاً: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﮊ [النساء: ٨٠]. ومكمَن خطأ المستشرقين وتخبّطهم في مثل هذا محاولتهم التفريق بين ما قاله الله وبين ما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم. ﮋ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮊ [النساء: ١٥٠].
أما الخلاف الحاصل في ربا الفضل في زمن الصحابة رضي الله عنهم فلا يعدو كونه اختلافاً في فهم النص في بداية الأمر، وبعد أن تبيّن ألا تعارض أصلاً بين النصوص الواردة في المسألة فقد أجمعت الأمّة على تحريم الربا بنوعيه( )، وارتفع بذلك هذا الخلاف، فلا متعلَّق لأحدٍ فيه.
ثالثاً: زعم كلٍّ من توري و روبرتس أنَّ القرآن الكريم لم يحسم مسألة التعامل بالربا مع غير المسلمين، أو أنَّه كرّر في هذا الصدد ما كان موجوداً أصلاً في التشريعات اليهودية.
الجواب عن هذا فيما يلي:
1- أنّ هذا اتّهام غريب، بل نعتبره افتراءً وكذباً صريحا على الإسلام وعلى كتاب الله عز وجل، و نطالب المستشرقين أن يقيموا دليلاً عليه إن استطاعوا، وأنى لهم ذلك!
2- ومما يؤكّد كون هذه الخطوة الاستشراقية محض افتراء وكذب، أنّ توري، وهو يقرّر اقتباس القرآن لتشريع اليهود في هذا الجانب – في زعمه - قد استند إلى مقارنة آيات النهي عن الربا في القرآن الكريم بفقراتٍ من كتابهم المقدّس. ولدى الرجوع إلى هذه الفقرات اتّضح أنّ ما فعله توري بالاكتفاء بالإشارة إلى أرقام السور والآيات والفقرات فحسب، دون نقل شيءٍ من محتواها تمويهٌ مقصود وتحريف للنصوص، إذْ ليس بين الآيات القرآنية التي أشار إليها وبين فقرات البايبل التي ذكرها أدنى تشابه. وإليك أيها القارئ هذه الآيات، ثم تلك الفقرات لتكون أنت بنفسك حكماً منصفاً في القضية:
(أ) الآيات القرآنية: ﮋ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﮊ [البقرة: ٢٧٦ - ٢٧٩ ].
(ب) فقرات العهد القديم: ((إنْ أقرضتَ فضّةً لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي. لا تضعوا عليه رباً)) (الخروج 22: 25).
((لا تقرض أخاك برباً ربا فضّةٍ أو ربا طعامٍ أو ربا شيءٍ مّا مما يُقرَض بربا. للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا لكي يبارك الربّ إلهك في كلّ ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخلٌ إليها لتمتلكها)) (التثنية 23: 19و20)( ) .
فأين ما ادّعاه توري من الاقتباس أو التكرار ؟ أم أنّ هذا تأكيد آخر على أنَّ القوم لا يتورَّعون عن أي شيء في سبيل ادّعائهم –زورا وبهتاناً- أنَّ المسلمين قد اقتبسوا هذا التشريع أو ذاك من كتبهم، فالله المستعان.
3- أما عندنا معشر المسلمين فحُكم الربا في شريعتنا واضح جليّ لا لبس فيه، ولم يُترك شيءٌ من ذلك مفتوحاً كما زعم المستشرق روبرتس .
لقد حرّم الله على المسلم أن يتعامل بالربا أخذاً وعطاءً، سواء أكان تعامله مع المسلم أم مع غيره. والنصوص الشرعية في ذلك عامةً، كما رأيناها من خلال الآيات المذكورة أعلاه، وكذا غيرها من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة. وها هو الإمام النووي – أحد أبرز علماء المسلمين - يقرّر هذا المعنى بوضوح حيث يقول: ((يستوى في تحريم الربا الرجلُ، والمرأةُ، والعبدُ، والمكاتبُ، بالإجماع. ولا فرق في تحريمه بين دار الإسلام، ودار الحرب؛ فما كان حرامًا في دار الإسلام، كان حراماً في دار الحربِ، سواءٌ جرى بين مسلمين، أو مسلم وحربيٍّ، سواء دخلها المسلم بأمان أم بغيره))( ) .
رابعاً: ما أثاره روبرتس مما أسماه قلةَ الاهتمام بموضوع الرشوة في القرآن الكريم، ومحاولة ربط ذلك بمدى انتشار الرشوة في بعض البلدان الإسلامية.
فمناقشته في النقاط الآتية:
1- أنّ على روبرتس أن يحدّد لنا أولاً ما مقصوده بالاهتمام؛ إذ إنّ هنالك فرقاً بين الاهتمام والتكرار، وليس بالضرورة أن نرى تلازماً بينهما وبين سلوك المخاطَبين. وهذا أمرٌ يدركه جميع العقلاء، لذا، فإني أستغرب لجوء المستشرق إلى مثل هذه المناورة في عملٍ علميٍّ، أو يُفترض – على الأقل - أنه كذلك.
2- وعلى فرض التسليم بترادف الأمرين، فإننا نقول: لو كان زعم روبرتس هذا صحيحاً لانعكس ذلك على المجتمعين اليهودي والنصراني؛ فإنّ الزنى وحرمته مثلاً قد ذُكرا في كتابهم عشرات المرّات( ). فلماذا نجد المجتمعات اليهودية والنصرانية اليوم غارقة في رذيلة الزنا، بل وبوسائل وطرقٍ شتّى؟
وحتى الرشوة نفسها، التي ورد ذكرها في البايبل مع مشتقاتها: اثنتين وعشرين مرّةً( )، فهل يجرؤ أحدٌ أن يدّعي خلو المجتمعات اليهودية والنصرانية في مشارق الأرض ومغاربها من هذه الآفة؟ الرشوة شأنها شأن الأمراض الاجتماعية الأخرى، لا تخصّ ديناً ولا شعباً، ومن الظلم ادّعاء عكس ذلك.
3- ثم في هذا السياق نفسه نذكّر روبرتس وغيره من مثيري الشبَه، بأنَّ الإسلام قد اهتم بمسألة الرشوة وبيّن حرمتها في أكثر من نصّ. منها النص القرآني الذي أورده روبرتس، بالإضافة إلى نصوص نبوية أخرى، منها ما رواه الشيخان عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: ((استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأسد يقال له ابن اللُّتْبيَّة على الصدقة، فلما قَدِم قال: ((هذا لكم، وهذا لي أُهدي لي)). قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ((ما بال عامل أبعثه فيقول: ((هذا لكم وهذا أهدي لي)) أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا. والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحدٌ منكم شيئاً إلاّ جاء به يوم القيامة، يحمله على عنقه: بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تَيْعر)) ثم رفع يديه حتى رأينا عُفْرَتَي إبطيه، ثم قال: ((اللهم هل بلّغتُ))؟ مرتين))( ).
قال الإمام النووي وهو يشرح الحديثَ: ((في هذا الحديث بيان أنَّ هدايا العُمَّال حرامٌ وغلول))( ). وقال الحافظ ابن حجر: ((فيه إبطال كلِّ طريقٍ يتوصَّل بها من يأخذ المال إلى محاباة المأخوذ منه، والانفراد بالمأخوذ))( ).
وفي حديث آخر عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو –رضي الله عنهم- قالا: ((لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي))( ). فأيّ اهتمامٍ يريده روبرتس أكثر من هذا الحاصل فعلاً!.
4- وأخيرا، فإنّ روبرتس يتكلّم ههنا وكأنَّ النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو المشرِّع من عنده، يُعطي لهذا اهتماما بالغاً، ولذاك اهتماماً ضئيلاً ... وهكذا. فإنْ كان لي ثمة رد على هذا فليكن ما قد ردّ الله عز وجل به على أسلاف روبرتس من قبل، حيث قال سبحانه وتعالى: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﮊ [يونس: ١٥].
فسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين، نبيّنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
تُصدَّر إلى ديار المسلمين باسم البحث العلمي يوماً بعد آخر آراء غربية وغريبة، تمسّ المصدر الأول لدينهم، ألا وهو القرآن الكريم. دراسات تلو أخرى تبدو في ظاهرها علمية، لكنها ذات دوافع وأهداف أبعد ما تكون من العلم والموضوعية.
ففي الصفحات الماضية سلّطتُ الضوء على أبرز ما وجّهه المستشرقون صوب كتاب الله -الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِن خلفه- من انتقادات، لا سيما ما يتعلق منها بالتشريعات المالية فيه، مبيّناً هشاشة الأسس التي قامت عليها هذه الانتقادات، ومفنّداً ما أثير من الشبهات. ومما تم التوصّل إليه خلال ذلك كلّه ما يلي:
أولاً: أنّ المنهج الاستشراقي يقوم في الغالب على معايير مزدوجة، ويكيل بمكيالين مختلفين. ففي حين يقبل المستشرق أي دليلٍ أو شِبْهِه –مهما بلغ ضعفه- في مقام احتجاجه ضد القرآن والإسلام، نجده يطعن في أصح الأدلة وأبينها لمجرد أنها في صالح الإسلام.
ثانياً: أنّ الاستشراق قديماً وحديثاً يُعدّ مادةً للتنصير، وتتفاوت درجات مشاركة كل مستشرقٍ في التنقيب عن هذه المادة، لكنّ الكل يشارك، بما في ذلك المستشرقون غير النصارى.
ثالثاً: أنّ الركائز الأساسية لموقف المستشرقين من القرآن الكريم ثلاث: أولاها: دعوى تعلّم النبي صلى الله عليه وسلم من أفرادٍ من اليهود والنصارى، والثانية: دعوى اقتباسه من الأسفار المقدسة في الديانتين اليهودية والنصرانية، والثالثة: دعوى تأثير الأعراف والتقاليد الجاهلية فيه. وكلها مزاعم وافتراءات لا تثبت عند النقد والفحص العلمِيَّيْن، كما تم إثبات ذلك في البحث.
رابعاً: أنّ ما تضمّنه القرآن الكريم من التشريعات والأحكام قد بلغت من الدّقة والإتقان والإحاطة بشؤون الدّين والدّنيا حدّاً يستحيل معه أن تكون نتاج تأثيرات خارجية أو اجتهادات بشرية، مما يؤكّد أنّ المصدر الوحيد للقرآن الكريم هو الوحي الإلهي.
هذا، وصلىّ الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
عبد الرزاق عبد المجيد ألارو
المدينة المنورة.
من مراجع البحث
أولاً: المراجع العربية
1- الاستشراق بين الحقيقة والتضليل، للدكتور إسماعيل علي محمد، ط3، د.ن.، 1421ﻫ/2001م.
2- الاستشراق في الأدبيات العربية، للأستاذ الدكتور علي بن إبراهيم النملة، ط1، الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1414ﻫ/1993م.
3- الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي؛ دراسة تطبيقية على كتابات برنارد لويس (Bernard Lewis)، للدكتور مازن بن صلاح مطبقاني، د.ط. الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1416ﻫ/1995م.
4- الاستشراق والدراسات الإسلامية (مصادر الاستشراق والمستشرقين ومصدريتهم)، للأستاذ الدكتور علي بن إبراهيم النملة، ط1، الرياض: مكتبة التوبة، 1418ﻫ/1998م.
5- الاستشراق والمستشرقون؛ ما لهم وما عليهم، للدكتور مصطفى السباعي، ط2، بيروت: المكتب الإسلامي، 1399ﻫ/1979م.
6- الإسلام بين الإنصاف والجحود، لمحمد عبد الغني حسن، د.ط.، القاهرة: مؤسسة المطبوعات الحديثة، د.ت.
7- الاهتمام بالسيرة النبوية باللغة الإنجليزية، للأستاذ الدكتور محمد مهر علي، (من بحوث ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1425ﻫ).
8- البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل، للدكتور أحمد حجازي السقا، ط1، بيروت: دار الجيل، 1409ﻫ /1989م.
9- التبشير والاستشراق، أحقاد وحملات على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبلاد الإسلام، للمستشار محمد عزت الطهطاوي. د.ط.، القاهرة: مجمع البحوث الإسلامية، 1397ﻫ/1977م.
10- التزوير المقدَّس، للدكتور عبد الودود شلبي، ط3، القاهرة: دار الشروق، 1407ﻫ/1987م.
11- التنصير في أفريقيا، لعبد الرزاق عبد المجيد ألارو (من بحوث ملتقى الدعاة لعام 1420ﻫ، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة).
12- دراسات في الكتاب المقدس، لمحمود علي حماية، دون بيانات النشر.
13- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، للدكتور مصطفى السباعي، ط3، بيروت: دار الورّاق، 1423ﻫ/2003م.
14- الظاهرة القرآنية، لمالك بن نبي، ترجمة: عبد الصبور شاهين، د.ط. دمشق: دار الفكر،، 1405ﻫ/1985م.
15- فهرس الكتاب المقدّس، للدكتور جورج بوست، ط12، القاهرة: دار مكتبة العائلة، 2001م.
16- قالوا عن الإسلام، للدكتور عماد الدّين خليل، ط1، الرياض: الندوة العالمية للشباب الإسلامي، 1412ﻫ/1992م.
17- قاموس الكتاب المقدّس، لمجموعة من الأساتذة اللاهوتيين، هيئة التحرير: د. بطرس عبد الملك وآخرين، ط14، القاهرة: دار مكتبة العائلة، 2001م.
18- القرآن الكريم من المنظور الاستشراقي: دراسة نقدية تحليلية، للأستاذ الدكتور محمد أبو ليلة، ط1، القاهرة: دار النشر للجامعات، 1423ﻫ/2002م.
19- قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية، للدكتور فضل حسن عبّاس، ط2، عمّان: دار البشير، 1410ﻫ/1989م.
20- مدخل إلى القرآن الكريم (عرض تاريخي وتحليل مقارن)، للدكتور محمد عبدالله دراز، ترجمة: محمد عبد العظيم علي و د. السيد محمد بدوي، د.ط. الكويت: دار القلم، 1404ﻫ/1984م.
21- المستشرقون والتنصير، للأستاذ الدكتور علي بن إبراهيم النملة، ط1، الرياض: مكتبة التوبة، 1418ﻫ/1998م.
22- مصادر النصرانية: دراسةً ونقداً، لعبد الرزاق عبد المجيد ألارو، (رسالة علمية لنيل درجة الماجستير بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة) 1418ﻫ.
23- مفتريات على الإسلام، لأحمد محمد جمال، ط1، دمشق: دار الفكر، 1392ﻫ/1972م.
24- المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار، لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني (ت444ﻫ)، د.ط. تحقيق: محمد أحمد دهمان، دمشق: دار الفكر، 1403ﻫ/ 1983م.
25- موسوعة المستشرقين، للدكتور عبد الرحمن بدوي، ط3، بيروت: دار العلم للملايين،1993م.
26- نقد الخطاب الاستشراقي (الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية)، للدكتور ساسي سالم الحاج، ط1، بيروت: دار المدار الإسلامي، 2002م.
27- ورقة بن نوفل في بطنان الجنّة، للدكتور عويّد بن عيّاد المطرفي، ط2، مكّة المكرّمة: المؤلّف، 1417ﻫ/1996م.
ثانياً: المراجع الأجنبية
1- A‘zami, Muhammad M. Studies in Early Hadith Literature, 2nd Edition, Indianapolis, 1979.
2- A‘zami, Muhammad M. The History of the Qur’anic Text from Revelation to Compilation, Leicester, 2003.
3- Ali, Muhammad M. The Qur’an and the Orientalists, Ipswich, 2004.
4- Bodley, R.V.C. The Messenger: The Life of Mohammed, West Port, Connecticut, 1969.
5- Bucaille, Maurice. The Bible, The Qur’an and Science, Indianapolis, 1979.
6- Deedat, Ahmed. Is the Bible God’s Word? Karachi: Islamic Seminary Publication.
7- Encyclopaedia Britannica. Chicago, London: Encyclopaedia Britannica Inc. (William Benton Publishers), 1965.
8- First Encyclopaedia of Islam (EI), Prepared by a Number of Leading Orientalists, Leiden, 1913-1936.
9- Goldziher, Ignaz. Muslim Studies (Muhammedanische Studien), English Translation by: C.R. Barber and S.M. Stern, London, 1971.
10- Hussain, Asaf et. al. (Editors), Orientalism, Islam, and Islamists, USA, 1984.
11- Katsh, Abraham, I. Judaism in Islam, New York, 1954.
12- Roberts, Robert. The Social Laws of the Qoran, London & New- Jersey, 1990.
13- Schacht, Joseph, An Introduction to Islamic Law, Oxford, 1986.
14- The Encyclopaedia of Islam (EI), New Edition, Prepared by a Number of Leading Orientalists, Leiden, 1983.
15- The New Encyclopaedia Britannica, 15th Edition, 1994.
16- Watt, W. Montgomery. Muhammad at Mecca, Oxford, 1953.
17- Watt, W. Montgomery. Muhammad: Prophet and statesman, Oxford,
1961
18- Watt, W. Montgomery. Muhammad's Mecca, Edinburgh, 1988.
19- Zubair, Abdul-Qadir. Sharia in Our Citadels of Learning (The 66th Inaugural Lecture of the University of Ilorin, Nigeria), Ilorin, 2003.