إشكالية تأثر القرآن الكريم بالأناجيل في الفكر الاستشراقي الحديث
إشكالية تأثر القرآن الكريم بالأناجيل
في الفكر الاستشراقي الحديث
د. عبد الحكيم فرحات
المقدمة
تبلورت في الآونة الأخيرة دراسات متعددة في المدارس الاستشراقية والكليات النصرانية تنحو منحى مقارنة الأديان في دراسة الخطاب القرآني لمقارنة موضوعاته ومفاهيمه بمختلف مصادر الأديان التي كانت مزامنة لنـزوله، للبحث في قضايا التناصّ والتأثير والتأثر ومسائل التكوين والتكون، توظف لذلك العديد من منهاج النقد الأدبي، وطرق النقد التاريخي، وتستعين بنماذج نقد مختلفة، فأنتجت العديد من النظريات حول خطاب القرآن الكريم ومصادره، وتاريخية خطابه، وهذا ما أعطى الدرس القرآني آفاقا جديدة، وفتح خطابه على علوم عديدة وأسئلة جديدة.
ولما كانت المسائل النصرانية موضوعاً قرآنيّاً بارزاً، وكانت النصرانية موجودة في البيئة العربية المزامنة للنبوة المحمدية، فقد اتجهت جل الدراسات الآخذة بهذا الاتجاه إلى دراسة علاقة القرآن بالأناجيل المعتمدة الأربعة( )، ثم دراسة علاقته بأناجيل الأبوكريفا المختلفة (Apocrypha) التي اكتشفت في السنوات الأخيرة، لتنظر في عناصر الوفاق؛ كي تجعل منها أمارة تأثر، وتنظر مرة أخرى في بيئة العرب وما فيها من نصرانية فتجعل منها قرينة أخرى، ثم تحقق في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلاقته بالنصرانية التي كانت سائدة في جزيرة العرب، فتؤسس بها قرينة ثالثة. وبضم القرائن بعضها إلى بعض تصل إلى تفكيك الخطاب القرآني وتعريته من قداسته، والتساؤل حول علاقته بالأناجيل المختلفة، فاتحة بذلك العديد من الأسئلة حول التأثير والتأثر، وهذا ما يطرح إشكالات مختلفة على مفاهيم الفكر الإسلامي ذات الصلة بالوحي والنبوة( ).
ومع أن فكرة تأثر القرآن بالأناجيل قد ظهرت عقب الحروب الصليبية إلا أنها لم تصر نظرية متكاملة إلا في القرن التاسع عشر على يدي اليهودي إبراهيم قيقر (Abraham Geiger)، الذي صاغها في كتاب مخصص لهذا الغرض( )، ثم توالت الدراسات وتعددت، ولقد تعددت الدراسات التي تريد إعادة دراسة النص القرآني في القرن الأخير، وتبلورت في ضوء مستجدات الدراسات النصرانية والأبحاث البيبلية(*) المعاصرة، وصار لها تاريخ يزيد على القرن ونيف( ).
ورغم أهمية هذه الدراسات فإنها لم تحظ باهتمام الباحثين المسلمين، ما جعلها مجالاً عاجاًّ بنظريات تضع النص القرآني أمام نظريات عديدة حول تاريخيته ومصادره، تجعل من الوحي استمراراً عاديّاً لعقائد كانت موجودة في الحيز الثقافي العربي القديم، ومظهراً من مظاهر التأثر الديني والتأثير النصراني، وليس وحياً، حتى قال فيليب حتي: ((إن مصادر القرآن هي بلا شك: المسيحية واليهودية والوثنية العربية))( )، ويقاربه كرون (Crone) وكوك (Cook) في ربطهما القرآن بأصول ثقافية مفقودة غابرة من غير تحديد( ). ولا يخفى أنها نظريات تناقض مقررات الدرس الإسلامي، ومحررات النقد التفسيري، وتطيح بالمعتقد الإسلامي جملة وتفصيلا( ).
ويقوم منطق بحث نظريات تأثر القرآن بالأناجيل على نموذج نقدي يعتمد على مقدمتين منهجيتين متكاملتين، وهما: توافق القرآن والإنجيل في الرؤية والمسيحيات، ووجود النصرانية في الحيز التاريخي الذي ظهر فيه النص القرآني، ينتج عنهما أن القرآن امتداد تاريخي للأناجيل، وانتحال محمدي للمعرفة النصرانية.
وهذا ما سأحاول فحصه عبر تحليل المقدمتين المشار إليهما ودراستهما في المبحثين الآتيين:
1- القرآن والأناجيل ومعطيات المقارنة.
2- الظرف التاريخي للتأثر القرآني بالأناجيل.
أولا: القرآن والأناجيل ومعطيات المقارنة.
اعتمدت مختلف الدراسات التأثيرية في تحقيق العلاقة بين القرآن والأناجيل على منهج المقارنة بين الموضوعات المشتركة بينهما، ولاسيما قصة المسيح، لتنظر في عناصر الوفاق، فتجعل منه أمارة تأثير؛ تأثير السابق زمنا وتأثر اللاحق زمنا؛ لأن التماثل مع التفاعل التاريخي لا معنى له في نظرها سوى ما ذكرنا.
وقد ركزت الدراسة التأثيرية على المقارنة بين القرآن الكريم والأناجيل (Gospels) المعتمدة الأربعة لمتّى ومرقس ولوقا ويوحنا على التوالي، وأربعتهم يفترض أنهم من دعاة النصرانية الأولى، اعتمدها المجتمع المسكوني الأول الشهير الذي انعقد في نيقية بآسيا الصغرى عام 325م تحت رعاية الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الكبير، وأطلق عليها اسم الأناجيل المعتمدة (Canonical Gospels)( )، ولذلك فهي التي يفترض أنها كانت منتشرة قبيل البعثة المحمدية وبعدها بين نصارى الجزيرة العربية، ومختلف البلدان النصرانية إلى وقتنا الحاضر، ولذلك فمن البَدَهِي أن تقارن بين مضامينها الأربعة ومضامين النص القرآني في مجال العقيدة والمسيحيات( ).
والأسفار الثلاثة الأولى، متى ومرقس ولوقا، تدعى الأناجيل المتوافقة لتشابهها في المواضيع التي تغطيها، والتي لا تخرج عن كونها سردا قصصيا لحياة المسيح عليه السلام، يبدأ سفر مرقس بذكرها مختصرة، ويزيدها سفرا متّى ولوقا تفصيلا. أما السفر الرابع: إنجيل يوحنا، فيختلف عن الثلاثة الأولى بما يتناوله من موضوعات لاهوتية معقدة؛ كالاعتقاد بالوجود المسبق والخالد لعيسى (الكلمة)، والاعتقاد بالتجسد( ).
ولا شك أنه يوجد توافق بين القرآن والأناجيل في بعض القضايا الخاصّة بالمسيحيات؛ ومن ذلك أنه عيسى المسيح، أمه مريم الصديقة، ولد من غير أب، له معجزات كثيرة: أحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، بشر الناس ودعاهم للعودة إلى الله جل وعلا، فكاد له اليهود، ودبروا لهلاكه وصلبه.
وليس لهذا الوفاق في نظر كل من ريشارد بيل (Richard Bell) وإبراهيم قيقر (Abraham Geiger) وكلير تيسدال (St. Clair Tisdall) سوى مظهر من مظاهر التأثير النصراني في الدين الجديد، وأمارة من أمارات التأثر القرآني بما ورد في الأناجيل المعتمدة، وقرينة على انتحال النبي محمد صلى الله عليه وسلم لما ورد في مصادر النصرانية ولاسيما وأن الإمكان التاريخي للتفاعل الديني والتأثر الفكري قائم؛ فقد علم أن النصارى كانوا موجودين في الجزيرة العربية، بل وفي مكة كما سنرى في المبحث القادم.
وبإعادة المقارنة بين النص القرآني والأناجيل الأربعة يظهر أن التناول القرآني للموضوعات النصرانية وزعته مقامات وسياقات مختلفة، تناولت مقاطع من قصة المسيح وظفتها لأغراض مختلفة، ولا تكاد تتفق اتفاقاً كاملاً مع إنجيل بعينه من الأناجيل المعتمدة؛ إذ توجد عناصر وفاق، كما توجد عناصر خلاف جديرة بالتنبيه ولا يمكن إغفالها، وردت في النص القرآني ولم ترد في الأناجيل الأربعة، ومن ذلك قصة أم المسيح مريم عليها السلام( )، وكلام عيسى في المهد( )، ونـزول الإنجيل عليه( )، واستنصاره الحواريين ونصرتهم له( )، كما توجد عناصر ذكرتها الأناجيل ولم يذكرها القرآن الكريم، ومن ذلك مواعظه الكثيرة، وزوج أمه يوسف النجار( )، وقصة المجوس الذين ترقبوا مجيء المسيح( )، وخبر النجم الذي ظهر قبيل ميلاد المسيح( )، وقصة صلبه المزعوم( )، وهي كلها عناصر تعطي القصّة معنى جديداً، وتسد فراغاً موجوداً، وتقف عقبة أمام سؤال التأثير والتأثر.
ومن جهة أخرى فقد وردت عناصر في النص القرآني تخالف ما ورد ذكره في الأناجيل الأربعة، كإثبات الإنجيل الواحد، ونفي التثليث( )، ونفي بنوة المسيح لله( )، ونفي أبوة الله للمسيح( )، ونفي صلب المسيح وقتله( )، ونصرة الحواريين للمسيح( )؛ فإذا كان القرآن ناقلا أو منتحلا فلِم يقع الخلاف في عناصر أساسية تعطي القصّة القرآنية خصوصية ومعاني لا توجد في الأناجيل الأربعة، ولا يقبلها التفسير النصراني الرسمي( )؟
وما أشرنا إليه من أوجه التباين يدحض فكرة التوافق الكامل ويدحض معه فكرة النقل الكامل، ويثبت أن المقارنة المتوسل بها اهتمت ببعض العناصر السردية وأغفلت باقي مكونات القصّة ومراميها وسياقات إيرادها التي تعطيها معاني جديدة ودلالات عديدة لا توجد في الأناجيل الأربعة. ومع ذلك فإنّ محرري الموسوعة الكاثوليكية الجديدة يؤكدون أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قد استقى معارفه من مصادر مختلفة، أهمها النصرانية واليهودية، ثم أصبغها بصبغته الخاصة، ما أعطاها لونا مميزاً( )، ويفترضون وجود ترجمات عربية للكتب النصرانية واليهودية تخمينا من غير دليل( )، مع أن علماء ((الكتاب المقدس)) ينفون وجود أي ترجمة عربية لأسفار ((الكتاب المقدس)) بعهدَيْهِ القديم والجديد في ذلك العصر، بل وبعد ذلك بمئات السنين؛ إذ لا يوجد معطى أثريٌّ ولا وثيقة تثبت هذا الأمر( ). وأول ترجمة عربية لمجمل (الكتاب المقدس)، تدعى (البروباغاندا) ظهرت في أواخر القرن الثامن الميلادي؛ أي بعد 250 عام تقريباً من ظهور الدعوة المحمدية( ).
وهذا ما جعل كلير تيسدل (St. Clair Tisdall) يؤكد أن دراسة مسألة تأثير النصرانية الرسمية على القرآن الكريم تثبت أن تأثيرها لا يكاد يذكر، وأن دعوى اقتباس القرآن منها لا تقوم على دليل، لما عرف من بون في الطرح وتفاوت في الرؤية( )، يجعل القرآن أقرب إلى المسيحيات غير الرسمية التي تعرف عند النصارى بالبدع والهرطقات، ونصوصها الأبوكريفية (Apocryphal traditions)، إذ المقارنة بينهما تبين وجود بعض التشابه الذي لا يمكن إنكاره( ).
ولا يلبث كلير تيسدل (St. Clair Tisdall) أن يبطل فرضية استمداد النص القرآني من النصوص الأبوكريفية، إذ معلوم أن المسيحيات غير الرسمية لم يعرف لها وجود في الوسط العربي( )، كما أن الأناجيل لم تترجم إلى اللغة العربية إلا بعد البعثة المحمدية( )، بل إنه يقول ((إن التتبع الدقيق لموضوع تأثير المسيحيات على القرآن الكريم يثبت أنه بصفة عامة لا يكاد يذكر))( ).
ويرى الأب قزي المستعير لنفسه لقب ((أبو موسى الحريري)) أن القرآن قد تأثر بالفرقة اليهودية النصرانية التي تدعى بالإبيونية (Ebionites) وهي فئة من اليهود المتنصرين، سموا أنفسهم بالفقراء، آمنوا بالله الواحد الذي لايلد، كما آمنوا بالمسيح ككلمة مخلوقة مُرسلة فحسب؛ نبي من الأنبياء لا يعترفون بلاهوته ولا ببنوته الإلهية، بل هو رجل كسائر الرجال جاءه الوحي بعد معموديته على يد يوحنا المعمدان، تقوم رسالتها على التعليم والتبشير، ولا تؤمن بالفداء والخلاص، تعترف بإنجيل معتمد واحدٍ يسمونه الإنجيل حسب العبرانيين، تلتزم بأحكام التوراة، تحبذ الطهارة، والاغتسال الدائم بالماء، وتحرم غير المذكى، وترتدي الألبسة البيضاء، وتدعو إلى مكارم الأخلاق، تدعو إلى عمل البر والاهتمام باليتامى والعناية بالفقراء والمساكين وأبناء السبيل وإعانة المحتاجين وإطعام الجياع، وهي المعاني التي نجدها في الإسلام والنص القرآني، فقد دعا أتباعه فقراء إلى الله، وآمن بالتوحيد المطلق، وبإنسانية الكلمة، وأنكر لاهوت المسيح وعدّه نبيّاً عظيماً، ونجّاه من الصلب، ورفض دلالات الصلب والفداء والتكفير، وعظم أحكام التوراة والإنجيل ومكارم الأخلاق والأعمال الصالحات كما هو معلوم، وهذا ما يجعل من المسيحيات القرآنية استمراراً للفكر الإبيوني البائد( ).
ويدعم أبو موسى الحريري هذه المقارنة برؤية تاريخية، توظّف ما ورد في النص القرآني من إشارات إلى النصارى وتعقد مقارنة بين عقائد الإبيونيين وما يروى عن ورقة بن نوفل ليُبَيِّنَ تطابقاً يدعم به فرضية وجود الإبيونيين في الجزيرة العربية وفي مكة بالذات، ربما هاجروا إليها بعد خراب هيكل أورشليم، فأقاموا فيها وأذاعوا منها ثقافتهم الدينية، التي وجدت آذاناً صاغيةً وقلوباً واعيةً، بلورت النص القرآني، وبذلك تطعمت المقارنة ببعد تاريخي، صيرها دليلا قويّاً على التأثير والتأثر( ).
ويقول الأب لويس شيخو في معرض حديثه عن النصرانية في الحجاز: ((والظاهر أن بعض تلك البدع المعروفة بالبدع اليهودية النصرانية (Sectes Judeo-Chretiennes) شاعت خصوصا في نواحي العرب كشيع الناصريين (Nazarenes) والإبيونيين (Ebionites) والكسائيين (Elekesaites)( )، يلمح بذلك إلى أن النصرانية المؤثرة في الحيز المحمدي والنص القرآني هي البدع النصرانية المندثرة، كالناصرية، والكسائيين التي قدمت تفسيراً خاصّاً للأناجيل لا يفترق كثيرا عن النصرانية الإبيونية في كل ما يتعلق باللاهوت والمسيحيات. لقد كانتا قريبتين إلى عصر النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- مقارنة مع البدعة الإبيونية التي بادت منذ زمن بعيد، وباد معها احتمال تناصّ القرآن معها ونسبته إليها؛ لأنه لا يمكِّن محمداً صلى الله عليه وسلم، ولا مَن هو في عصره أن يكون مطَّلعاً على نصوصها وعقائدها( ).
ويتأكد من أعمال أبي موسى الحريري والأب لويس شيخو أنهما يفترضان تأثر النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بفرق نصرانية بائدة منذ زمن بعيد، بناء على التخمين فحسب؛ إذ ليس لهما برهان ولا وثيقة علمية يُعتمد عليها، وليس لهما أي معطى أثري يركن إليه كما سنرى في المبحث الموالي، وهذا ما يجعل من افتراضاتهم مجرد تخمينات لا ترقى إلى مستوى العلم( ).
ويؤكد كريستي ولسون (J. Christy Wilson) أن مصادر القرآن ليست هي الأناجيل المعتمدة، ولا ((الكتاب المقدس)) بعهديه القديم والجديد، وإنما هي أناجيل الأبوكريفا والمصادر التلمودية اليهودية التي كانت منتشرة بين النصارى( )، ومع ذلك فلا يشير إلى واحد بعينه.
وما أجمله كريستي ولسون (J. Christy Wilson) قد بسطه فيليب حتِّي (Philip K. Hitti) إذ قد بيّن وجود أواصر القربى بين القرآن وأناجيل الأبوكريفا والثقافة النصرانية التي كانت تنشر بين النصارى السريان( )، ويخص بالذكر إنجيل طفولة المسيح (Gospel of the Infancy) من بين عشرات الأناجيل المنحولة التي أراد واضعوها كتابة قصة حياة المسيح، يرجع للقرن الثاني الميلادي، ذكره كثير من آباء الكنيسة الأوائل في كتاباتهم ونقدهم للبدع والهرطقات، وقد عُثر على عدة مخطوطات قديمة وبلغات مختلفة لهذا الإنجيل، منها اللغة العربية، وتكمن أهميته في تناول طفولة المسيح عليه السلام وما وقع له قبل البعثة، الأمر الذي أغفلته الأناجيل المعتمدة الأربعة، فذكرت ميلاده وطفولته ومعجزاته العديدة التي لا تذكرها الأناجيل الأربعة، تتفق في بعضها مع ما ورد في القرآن الكريم، مثل الكلام في المهد، والخلق من الطين كهيئة الطير( )، ومع ذلك فلا يقول فيليب حتي (Philip K. Hitti) بالاقتباس ولا بالانتحال؛ ولكنه يقول إن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أسلم وعرَّب وأعطى طابعاً محليّاً للمادة الإنجيلية( ).
ولا يلبث فيليب حتي أن يلتفت إلى مشكلة منهجية تعكر عليه مقررات نظريته، إذ يوضح أن النسخة العربية الموجودة الآن ليست هي اللغة الأصلية لهذا الإنجيل، والأكيد أنها مترجمة من اللغة القبطية في القرون التالية لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن أسلوبها العربي الركيك يؤكد أنها لم تكتب في عصره ولا في العصور القريبة منه( )، قرون البلاغة العربية الراقية؛ وهذا ما يبعد احتمال انتشارها في عهد النبوة، ويبطل فرضية تأثر القرآن بها. ورغم أهمية هذه الإشكالية المنهجية وأثرها في تقرير نظرية التأثر إلا أن نيكلسون لا يعيرها اهتماماً، فيوافق على نظرية التأثر التي نظّر لها كل من كريستي ولسون وفيليب حتي، ويبيّن أن محمداً قد انتحل التراث الأبوكريفي( )، وقريب منه نتائج جيب (H. A. R.Gibb) في دراساته حول الديانة المحمدية( ).
ومع أن ما ذكره فيليب حتِّي يطيح بنظرية التأثر القرآني بإنجيل الطفولة من أساسها، إلا أن المقارنة بين النصّ القرآني وأناجيل الأبوكريفا تفوقه قوة وإثباتا إذ تفيد أنهما لا يتفقان إلا في عنصرين، وهما كلام عيسى في المهد( )، وإحياء ما هو على هيئة الطير( )، وما عداهما فتخالف كما أكد فيليب حِتِّي وكما أشرت آنفا. الأمر الذي يبعد فرضية التأثير والتأثر؛ إذ كيف يجعل للوفاق دور في التأثير ولا يعار الاختلاف أي اهتمام رغم تعدد عناصره، وهذا ما يثبت أن نظريات تأثر القرآن بالأناجيل لم تؤسَّس على المقارنة ومعطياتها، ولذلك نجد في النفس استفهامات حول نظريات تأثر القرآن بالأناجيل وحيثيات أحكامها.
إن ما أثاره القرآن من قضايا نصرانية ومسائل عقدية توجد متفرقة في مجمل الأناجيل المعتمدة والأبوكريفية، ولا يوجد في إنجيل واحد بعينه، مما يبعد تأثر محمد صلى الله عليه وسلم بها، إذ القول بالتأثر يفرض أنه صلى الله عليه وسلم قد اطلع عليها جميعا واقتبس منها مباشرة، أو نهل ممن اقتبس منها، وكلا الأمرين مستبعد؛ إذ لم يكن بوسع النبي صلى الله عليه وسلم (570م-632م) الاطلاع على الأناجيل المعتمدة، لأنها لم تترجم إلاّ بعد البعثة المحمّدية بأكثر من أربعة قرون، بتاريخ 1060م (وهي موجودة الآن في روسيا بمكتبة سان بطرسبورج)( )، ولا الحصول على كتب الأبوكريفا في ذلك العصر؛ لأنها غير متاحة ولا مترجمة، ولا الوصول على المعطيات الأثرية والوثائق النصرانية البائدة، ولا الاتصال بمراكز دينية بمكة أو ضواحيها أو بجزيرة العرب ينهل من أفكارها وأبحاثها؛ فكيف يتسنى له مع كل هذه العوائق العلمية اللغوية والبحثية أن يتخير الأحداث وينظم نص قرآنه، ليصل لهذه التوليفة، أليس هذا خرط القتاد؟ إن هذه الحيثيات النقدية تجعلنا نجزم أن القول بالتأثر ادعاء بلا برهان، يقوم على التخمين لا غير، وهذا ما يتمثله قوله تعالى:ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﮊ [النحل: ١٠٣]، إذ المراد أن الكتاب الذي يتهمونك بالاقتباس منه يا محمد هو أعجمي غير عربي؛ إما بلغة سريانية كنسخة البسيطة، أو لاتينية كالفولجاتا، أو يونانية كالنسخة السبعينية، بينما لسان القرآن الكريم عربي مبين، فكيف يتم الاقتباس ولا مترجم ولا ترجمة؟؟؟
ثانيا: الظرف التاريخي للتأثر القرآني بالأناجيل:
بيّنا في مطلع هذا البحث أن نظريات تأثر القرآن بالأناجيل تقوم على مقدمتين، حللنا الأولى منهما، ويبقى علينا تحليل المقدمة الثانية، أي: وجود النصرانية في الحيز المحمدي حتى يتسنى الحكم بالتأثير والتأثر؛ لأن مقتضى التأثر هو اعتراف بوجود تفاعل تاريخي بينهما في إطار ظرف تاريخ معين، تبلورت فيه عملية التأثر والتأثير، ولن يكون لمعطيات المقارنة بين الأناجيل والقرآن دلالة تأثير وتأثر ما لم يثبت التفاعل التاريخي، إذ التشابه لا يعني بالضرورة النقل والانتحال والتأثر، فقد يكون له مصدر آخر.
ولقد شغلت دراسات كثيرة بدراسة هذه المقدمة وتتبع دلائلها بما يثبت الوجود النصراني في الحيز المحمدي، ويحلل طبيعة التفكير الديني الجاهلي وديانات العرب قبل الإسلام وعلاقتها بالأفكار النصرانية الرسمية والبدعية، ثم تحليل كيفيات التأثر والتأثير المحتملة في جناب المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ الأمر الذي يمهد لفحص تاريخية النص القرآني والكشف عن علاقات التأثير والتأثر( ).
تبين الدراسات الناقدة أن الجزيرة العربية كانت ملتقى الأديان الوثنية والسماوية، عرفت عبادة الأوثان والأصنام الأنصاب، ومن أشهرها ودّ، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، واللات، والعزى، ومناة، وهبل، كما عبدوا الكواكب والنجوم بأشكالها المتعددة، كالشمس، والقمر، والزهرة، وعطارد، والثريا، وغيرها( ).
كما عرفت الجزيرة العربية الديانة اليهودية من زمن قديم، وكذلك النصرانية، وإن كانت الأولى أعظم شأناً وأعظم تأسساً( ). ويحاول بعض رجال الكنيسة أن يرجعوا بتاريخ دخول النصرانية إلى السنوات الأولى من التاريخ النصراني وهذا عين ما يرفضه النقد التاريخي( )؛ يقول المؤرخ جواد علي: ((لأن حججهم في ذلك غير كافية، ولذلك فلا يمكن تثبيت تاريخ لانتشارها في هذه الأماكن في الزمن الحاضر))( ). ومهما يكن الأمر فلا يمكن تحديد تاريخ دخولهما إلى جزيرة العرب.
وقد دخلت الديانة النصرانية إلى الجزيرة العربية بفعل القوافل التجارية، والدعوات الدينية، والشتات النصراني عقب الاضطهادات الدينية المتوالية( )، وتجارة الرقيق من الجنسين، فدخل العبيد الذين يقرؤون، كما دخل الرقيق الأبيض الأوروبي من الروميات والصقلبيات والجرمانيات فتزوج بهن العرب وصرن أمهات قبائل عربية( )، الأمر الذي سمح بنقل المعتقدات الجديدة إلى الأرض الوثنية، وأدى إلى التعايش بين الأعراق المختلفة العربية واليونانية والرومانية( )؛ وهذا ما وطد لانتقال النصرانية واليهودية إلى الجزيرة الوثنية، ولم يلبث أن تبلورت عنها اتجاهات دينية جديدة كأشكال الحنيفية مثلا( ).
واقتصر انتشار النصرانية في البدء على أطراف الجزيرة العربية لما كانت مجاورة للمراكز النصرانية المجاورة لبلاد العرب؛ أي الشام، العراق، والحبشة، فانتشرت في الرها والحيرة والبحرين وعمان التي تحوّل قسم من عربها إلى النصرانية وصاروا يعرفون بالعبّاد. وانتشرت عن طريق الحبشة في اليمن والحجاز، ولكنَّ تديُّنَ أهلِ هذه البلاد على ما يبدو كان ظاهريّاً ومشوباً بالكثير من المعتقدات الوثنية( ).
ويبدو أن النصرانية لم تعرف انتشاراً واسعاً في يثرب المدينة، إذ لا تشير المصادر التي بين أيدينا إلا لوجود شرذمة منهم لا تبلغ شأن اليهود عددا( )، كانوا يسكنون بموقع يدعى: سوق النبط( )، ومن أشهرهم أبو عامر الراهب الذي استطاع أن ينصر ثلة من شباب أوس، ولما ظهرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم سارع لمغاضبته ومحاربته( ). وقد حاول بعضهم أن يثبت وجود عددٍ هائلٍ من النصارى بالمدينة بناء على ما ورد في القرآن من حديث عنهم، مع أن ما ورد فيه من آي لا يزيد عن كونه إشارات عرض لطبيعة المسيح والمواقف النصرانية، وليس حديثا عن نصارى يثرب( ).
كما نجد بعض الباحثين يحاولون التهويل من شأن النصارى في يثرب بناء على الاحتمال والتخمين، حتى قال أحدهم: ((وأنا لا أستبعد احتمال وجود أناس آخرين من أهل يثرب كانوا قد دخلوا في النصرانية ودعوا إليها واحتمال وجود مبشرين فيها كانوا يسعون لإدخال أهلها في دين عيسى يؤيدهم ويمدهم بالمال والمعونة الرومُ حكامُ بلاد الشام))( )، ويبقى السؤال قائما: هل يقوم البحث التاريخي بالاحتمال والتخمين؟؟؟
ولم يكن حال النصارى في مكة ببعيد عما هو في يثرب، كان عدد من النصارى الغرباء النازحين إليها، لأسباب شتى، منها: الاتجار، والحرف، والرق ومن هؤلاء عبد أعجمي اختلف الرواة في اسمه على أقوال (سلمان، أبو يسار، وقيل جبر، وقيل يعيش، وقيل بلعام)( )، كان نصرانيّاً، يقرأ الكتب، فادعى أهل مكة أنه هو الذي كان يلقن الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه لا يعرف اللغة العربية( )، فأنزل قوله تعالى: :ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﮊ [النحل: ١٠٣].
كما يفترض المستشرق جيب (H .A .R.Gibb) وجود تأثيرات ثقافية دينية بين مكة وباقي المناطق النصرانية كالحيرة والرها، تبلورت عن التفاعل التجاري والاقتصادي( ).
وقد استدل الأب لويس شيخو على تأسس النصرانية في مكة، بخبر يرويه الأزرقي يثبت فيه وجود صور الرسل والمسيح وأمه مريم، قيل إنها كانت مرسومة على جدران الكعبة( )، وهذا ما يدل عند البعض على وجود مركز ديني للنصرانية وبعضهم أبعد فقال إن الكعبة كنيسة، ويعلق الباحث بيل (Bell) ويبين أنه بالرغم من وجود رواية رسم صورة المسيح على جدران الكعبة، إلا أنه ليس هناك أي دليل على وجود مركز ديني للنصرانية في الحجاز، أو بالقرب من مكة أو المدينة( ).
ومهما يكن الأمر فإن النصرانية التي عرفتها الجزيرة العربية عصر محمد صلى الله عليه وسلم هي نصرانية العصر، أنواع من المذاهب التثليثية، أهمها النسطورية واليعقوبية، وإن كانت النسطورية أكثر؛ تعلم منهم أهل الحيرة، ومنهم انتقلت إلى الجزيرة العربية بلسانها السرياني، فصارت لغة نصارى العرب رغم بعدها عنهم، ومع ذلك فقد صارت لغة رجال الدين والقداس النصراني( ). كما تعلم أهل الرها والغساسنة من اليعقوبية( )، وهي نصرانية تثليثية، تؤمن بالأناجيل المعتمدة الأربعة، وتعتقد في التثليث، والتجسد، وتخالف النسطورية في حقيقة هذا العنصر الأخير( ). وكل هذا ما يجعل القول بتأثيرها في النص القرآني لا يستقيم؛ إذ كيف يصير التثليث توحيدا، وكيف يصير التجسد تنـزيهاً، وكيف تصير الأناجيل الأربعة إنجيلا واحدا، ولذلك يؤكد كلير تيسدل (St. Clair Tisdall) أن تأثير النصرانية الرسمية على القرآن الكريم لا يكاد يذكر، وأن دعوى اقتباس القرآن منها لا تقوم على دليل، لما عرف من بون في الطرح وتفاوت في الرؤية( ).
ويذكر الدكتور جواد علي أن هناك فرقا نصرانية أخرى غير النسطورية واليعقوبين، وهي الإبيونيون، والناصريون (Nazarenes)، والكسائيون( )، وبالتتبع يظهر أنه ليس له من دليل سوى كتاب الأب لويس شيخو ((النصرانية وآدابها))( )، وبالرجوع إليه نجده يقول: ((والظاهر أن بعض تلك البدع المعروفة بالبدع اليهودية النصرانية شاعت خصوصاً في نواحي العرب كشيع الناصريين والإبيونيين، والكسائيين( )، ورغم خطورة هذه المعلومة وتفرده بالحديث عنها، إلا أنه لا يحيل على أي مصدر، ويبدو أنها مجرد استنتاج شخصي، وإلا لأحال. ولم يذكر أحد قبله أن هذه الفرق كانت موجودة في الجزيرة العربية، وهذا ما يتأكد من كتب التاريخ رغم كثرتها، ومن كتب الكلام والملل والنحل رغم احتفائها باستقصاء الفرق، ولذلك أرى ضعف هذا الرأي وعدم صحته. وأحسب أن صاحبه يريد أن يؤسس لنقد النص القرآني؛ لأن معطيات الدرس القرآني لا تتوافق مع المسيحيات الرسمية السائدة آنذاك (النسطورية واليعقوبية)، وتتوافق مع هذه الفرق أو تكاد؛ إذ معلوم أن الإبيونيين جماعة يهودية نصرانية يوافق تصورهم التصور القرآني في شتى القضايا العقدية والمسيحيات، فهم يؤمنون بوجود إله واحد خالق للكون، وأن المسيح كلمة مخلوقة، بشر لا ألوهية فيه، نبي كالأنبياء، لم يصلب، وإنما ألقي الشبه على غيره، يلتزمون بالتوراة ويوجبون ما فيها وينتهون عن محرماتها( )، فلما كانت الإبيونية كذلك أراد الأب شيخو أن يثبت وجودها في مكة كي يثبت الأصل النصراني للنص القرآني، ويدعم نظريات التأثير والتأثر التي لا تجد لها مستندا من الواقع.
وبذلك يتبين أنه لم يكن في مكة والأماكن المجاورة والفضاء العربي الواسع سوى النسطورية واليعقوبية والأناجيل المعتمدة الأربعة بلسان أعجمي سرياني، ولم يثبت تاريخيا أنه ترجم إلى العربية كما أشرنا في المبحث السابق، ومهما يكن الأمر فإنها تختلف عن التصور القرآني وعن النصرانية كما يذكرها الذكر الحكيم، ولذلك فلا يمكن أن تكون قد أثرت فيه.
وهذا ما يثبت أن القول بنظريات تأثر القرآن بالأناجيل لم يقم على أساس من النقد التاريخي، وإلا فكيف يكون تأثير ولا مؤثر؟ وكيف يكون تأثر ولا حيز تأثر؟
خاتمة البحث
تبين لنا من هذا البحث أن نظريات تأثر القرآن بالأناجيل تقوم على مقدمتين، الأولى تقر وجود تشابه بين القرآن والأناجيل، والثانية تفترض وجود ظرف تاريخي تمت فيه عملية التأثير والتأثر، وقد اتضح من تحليل المقدمتين، أن المقدمتين مجرد ادعاء لا يستند إلى معطى علمي ولا نقد تاريخي، إذ يظهر أن النص القرآني لا يماثل الأناجيل المعتمدة بمختلف تفسيراتها الرسمية والبدعية؛ لأنها لم تكن منتشرة في وقت النبي صلى الله عليه وسلم ولا مترجمة، كما لا يماثل الأناجيل الأبوكريفية؛ لأنها لم يعثر عليها بعد في ذلك الزمن، وأبعد من ذلك أن تكون مترجمة. ومهما يكن الأمر فبينهما تخالف في اللغة والمفاهيم، يجعل كل قول بوجود تأثير وتأثر مجانباً للعلم والنقد التاريخي، وهذا ما يجعل مجرد الالتفات إلى المقدمة الثانية للتحقيق فيها عبثا من القول ومضيعة للوقت، إذ كيف ينظر في ظروف التأثر ولا تأثير ولا تأثر.