اعتبارات الفكر الإسلامي وتطويره

د.يحيى محمد

بداية لا بد من التمييز بين كل من النص والتراث المعرفي الإسلاميّ والفكر المتعلق بهما. فالنص الدينيّ هو العنصر المؤسس لكلّ من التراث والفكر الإسلامي. والتراث المعرفي هو كل ما وصلنا من هذا الفكر. لكن الأخير أعمّ من التراث لزيادته عليه بالفكر الإسلامي المعاصر، وكلما صار الأخير تراثاً كلما زاد عليه الفكر الإسلامي بفكر معاصر آخر، وهكذا يظلّ الفكر الإسلامي قابلاً للتحديث والتجديد، وهو ما لا يصدق على التراث، باعتباره أمراً قارّاً مقارنة بعموم الفكر.

وهنا نتساءل: ما هي خصوصية الفكر الإسلامي؟ أو ما الذي يميّزه عن غيره من ضروب التفكير؟

قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من أن نعرف بأن خصوصية أي فكر تعتمد على ما يستند إليه هذا الفكر من مصادر معرفية منضبطة. وهي على نوعين متلازمين لا غنى لأي فكر أو علم من أن يرجع اليهما للإنتاج والتوليد المعرفي، كما يلي:

1ـ مصادر ذاتية: وهي تشكل خصوصية الفكر المعني، وبدونها ينتفي ذلك الفكر. وتمتاز بأنها تحمل «إعتبارات معرفية» خاصة (غير مشتركة) لدى تيارات الفكر المختلفة.

2ـ مصادر عارضة: وهي ليست ذاتية، أو ليس لها خصوصية الفكر المعني، لكنها قد تلعب دوراً أعظم من المصادر الذاتية نفسها. وتمتاز بأنها تحمل «إعتبارات معرفية» قد تكون مشتركة أو خاصة.

والمقصود بالاعتبارات – كما وردت في النوعين السابقين للمصادر - ليس المفهوم الضيق الذي استخدمه الفلاسفة المسلمون، حينما قالوا: لولا الإعتبارات لبطلت الحكمة أو الفلسفة، وكانوا يقصدون بها تلك الاعتبارات العدمية كما وظفت لأجل تبرير نظرية الفيض والصدور. إنما المقصود بها الدواعي والأدلة التي تتولّد عنها النتائج المعرفية. ولهذه الدواعي والأدلة طبائع مختلفة، إذ قد تكون الطبائع دينية، أو علمية؛ كإعتبارات مبدأ البساطة والتجريب، وقد تكون وجودية كإعتبارات مبدأ السنخية (أي علاقة الأصل والشبه). فالاستدلال على صدور الواحد عن مبدأ الوجود الأول - مثلاً - مستمد من منطق السنخية، ومثله القول بكون العالي يحمل صفات السافل على نحو أكمل، وتنطبق هذه الاعتبارات على الاعتقاد بإزلية الصنع ونفي البداية المحددة لخلق العالم، ومثل اعتبار الفلاسفة بأن كل مجرد يعقل ذاته وغيره؛ استناداً إلى كونه فعلي الوجود من دون حجاب المادة المانعة. فجميع هذه الاعتقادات مستندة إلى اعتبارات خاصة تتعلق بمنطق السنخيّة لدى الفلاسفة.

لكن قد تحمل الإعتبارات دواعي وأدلة مشتركة، بمعنى أنها موضع ثقة جميع الدوائر المعرفية. ويمكن تحديد الاعتبارات المشتركة بكل من:

1ـ اعتبارات حقائق الواقع الموضوعي.

2ـ الاعتبارات الرياضية الثابتة.

3ـ الاعتبارات المنطقية الواضحة كمبدأ عدم التناقض.

4ـ الاعتبارات العقلية المشتركة كمبدأ السببية.

5ـ الاعتبارات الوجدانية المشتركة كالتسليم بحقيقة الواقع الموضوعي العام.

ويمكن عدّ جميع هذه الحقائق المشتركة ثابتة باستثناء الأولى، باعتبارها نسبية وتخضع لاعتبارات منطق حسابات الاحتمال والترجيح.

6ـ كما أن هناك نوعاً آخر من الاعتبارات المشتركة يخص قضايا القيم الأخلاقية، وهي وإن بدت ثابتة في عدد من القواعد الكلية، مثلما عليه قاعدة العدل، إلا أن مصاديقها متأثرة بما عليه طبيعة الواقع وتغيراته، لهذا فقد تفضي بعض المصاديق إلى أن تكون ذات إعتبارات خاصة غير مشتركة. كما قد تتزاحم القواعد عند تضارب مصاديقها مع بعضها بما يمكن أن نطلق عليه (تزاحم القيم)، كالذي يحصل أحياناً بين قاعدتي الصدق وحفظ النفس المحترمة.

ومن حيث مصادر المعرفة أنه إذا كان العقل والواقع يفضيان تارة إلى إعتبارات مشتركة، وأخرى غير مشتركة، فإن الأمر مع النص الديني يختلف، إذ أنه لا يسفر إلا عن اعتبارات خاصة؛ رغم أنها قد تكون مدعومة باعتبارات مشتركة من العقل أو الواقع.

ويمكن تطبيق فلسفة الاعتبارات على المجالات الإنسانية المختلفة، كالنواحي النفسية والاجتماعية والحضارية وغيرها. فكل طرف في هذه النواحي يرتبط مع الآخر باعتبارات ذاتية وعارضة، كما ويرتبط معه باعتبارات خاصة ينفرد فيها الطرف لنفسه، واعتبارات عامة يشترك فيها مع غيره. فمثلاً أن الحضارات العالمية تختلف فيما بينها بنواحي بنيوية خاصة، يمكن أن تميز حضارة ما عن أخرى، لكن مع هذا الاختلاف هناك مشتركات تجمع بين الحضارات وتجعلها أقرب إلى النزعة الإنسانية العامة بما تحمله من قيم متقاربة في نواحي عديدة، ومنها القيم الأخلاقية العليا.

ومثلما تتصف المصادر الذاتية بالثبات والإتفاق بين المنتمين للفكر المعني، فإن المصادر العارضة يسود فيها التغير والإختلاف. فمثلاً في العلم الحديث للطبيعة تُعد التجربة والاختبار أبرز محددات المصادر الذاتية لهذا العلم، لكن يضاف إليها مصادر عارضة بعضها ميتافيزيقية وأخرى تتعلق بما يطلق عليه الحدس والخيال، أو غير ذلك. وبالتالي فلو أن المصادر العارضة تغيرت أو انتفت فإنها سوف لا تغير من طبيعة خصوصية العلم الطبيعي وهو أنه قائم على الاختبار والتجريب، بخلاف الحال فيما لو انتفى الاختبار كلياً، حيث أن ذلك يزعزع الطريقة العلمية بأكملها ويجعلها نمطاً آخر من التفكير.

وتتحدّد المصادر الذاتية للفكر الإسلامي بالنص أو الكتاب والسنة، وإذا كانت السنة شارحة للكتاب وتبياناً له؛ فسيقتصر الأصل على الكتاب. أما المصادر العارضة فتتنوع وتختلف بحسب الفرق والإتجاهات، ومن هذه المصادر العقل الكلامي والعقل الفلسفي والذوق الكشفي، وكذا القياس والاستصلاح والاستحسان، وغير ذلك من المصادر والاعتبارات.

ولو عدنا إلى المصادر الذاتية فسنجد أن أبرز قضاياها المعتبرة هي نظرية التكليف، لكثرة ما تشهده من القرائن الدالة عليها، وهي من حيث كونها أبرز القضايا فإن ذلك يجعلها المحور الذي يدور حوله الفكر الإسلامي والديني عموماً، وبالتالي فإن هوية هذا الفكر محددة بهذه النظرية.

وتتضمن نظرية التكليف أربعة محاور هي موضع اتفاق المسلمين إجمالاً، وإن اختلفوا حولها تفصيلاً، وهي كما عرفنا بالتحديد: المكلِّف والمكلَّف ورسالة التكليف وثمرة التكليف.

لكن إذا أخذنا باعتبار أن كل فكر وعلم يمكن تقسيمه منهجياً إلى نوعين من الفكر: أحدهما (في ذاته)، والآخر (متحقق)، فسيصبح الفكر الإسلامي بما هو في ذاته معبّراً عن تلك الهوية المجملة من نظرية التكليف، وأنه بهذا الشكل يحمل الاعتبارات الذاتية لا العارضة، لكنه من حيث كونه فكراً متحققاً فذلك يعني النظر إليه من حيث تجسده في التراث المعرفي فعلاً. وتعد الإعتبارات العارضة العامل الأهم الذي يقوم بتحديد طبيعة الفكر المتحقق. فعليها يتنوع الفكر ويتجدد، بل وبها يصبح الفكر قائماً على الجمع لا الطرح.

لذا فالفضل في تعدد الفكر الإسلامي يعود - في الغالب - إلى الإعتبارات العارضة، ومن ذلك أن أغلب الطرق المعرفية لهذا الفكر قائمة على الإعتبارات العارضة لا الذاتية. لذلك أخذت نظرية التكليف تقرأ - تبعاً للاعتبارات العارضة - برؤيتين متعارضتين في مرآتين مختلفتين تمام الاختلاف. ونقصد بذلك الفهم المتعلق بنظرية التكليف تبعاً لنظام المتشرعة كعلماء الفقه والكلام من جانب، والفلاسفة والعرفاء من جانب آخر، ففي الغالب أن كليهما اعتمد على الاعتبارات العارضة.

وبعبارة أخرى، أنه من الناحية المنطقية ينقسم الفهم الديني إلى نوعين مختلفين من الاعتبارات، هما الاعتبارات الذاتية للفهم كما تبرزه الدائرة البيانية (النقلية)، والاعتبارات العارضة له كما يتجلى لدى الدوائر المعرفية الأخرى.

وعلى العموم، إنّه لما كان لكل علم إعتباراته المختلفة، وأن بعض هذه الاعتبارات ذاتية والأخرى عارضة، لذا فمن المتوقع حصول درجات وأنواع مختلفة من التعارض، فقد تتعارض الاعتبارات العارضة مع بعضها البعض، كما قد تتعارض الاعتبارات الذاتية مع بعضها، وكذا يمكن أن تتعارض الاعتبارات العارضة مع الذاتية، وقد يمتد التعارض ليكون بين الاعتبارات العارضة من جهة، والحقائق الأصلية أو حقائق الموضوع الخام - كحقائق النص العامة مثلاً – من جهة ثانية. فالاعتبارات العارضة قائمة بدورها على موضوع خام آخر ليس هو ذاته الذي تقوم عليه الاعتبارات الذاتية، الأمر الذي يعني وجود مدارات مختلفة من التفكير يتنافس بعضها مع البعض الاخر، ومن ذلك التنافس بين مدار التفكير العارض الذي تنشأ عليه الإعتبارات العارضة، ومدار التفكير الذاتي الذي تنشأ عليه الاعتبارات الذاتية، وحيث هناك مداران للتفكير، أحدهما ذاتي وآخر عارض، أو قل أن لدينا موضوعين كلاهما يتصفان بالخام، ولهما حقائقهما المنكشفة المستقلة، أحدهما ذاتي، والآخر عارض، فهذا يفضي إلى حصول نوع من التنافس وربما الصراع والصدام، حيث لكل منهما إعتباراته الخاصة، وهي الإعتبارات الذاتية والعارضة. وقد يفضي الصراع إلى أن يكون صداماً بين الإعتبارات العارضة وحقائق الموضوع الذاتي، ومن أبرز الشواهد عليه ما حصل مع النظام الفلسفي والعرفاني، حيث أسفر التفكير ضمن مداره الوجودي العارض إلى نتائج لا تتفق مع موضوع النص الخام أو حقائقه الأصلية.

وبالتالي فالمشكلة - هنا - ليست في النزاع الحاصل بين الاعتبارين الذاتي والعارض للفهم والتفكير، إذ كلاهما يعبّر عن فهم وتفكير اجتهادي، إنما المشكلة في الصدام الذي قد يحصل بين التفكير العارض من جهة، وبين الحقائق الأصلية للموضوع الذاتي من جهة ثانية. مثلما قد يحصل الصدام بين التفكير الذاتي من جانب، وبين الحقائق الأصلية للموضوع العارض من جانب آخر. فالتفكير الذاتي، وهو في قضيتنا عبارة عن التفكير البياني، قد يتحول إلى ما يشكل صداماً مع الحقائق الأصلية للموضوع العارض؛ كالعقل والواقع والوجود.

ومن الناحية النقدية، أن جميع الطرق المتحققة للفكر الديني، بإعتباراتها الذاتية والعارضة، قد عانت من مشاكل مزمنة أساسية ثلاث، كالتالي:

الأولى: أنها لم تمارس المراجعة النقدية المتواصلة لفحص مفاهيمها ومقولاتها، لكونها من المذاهب الدوغمائية التي لا تشكك في مقالاتها.

الثانية: أنها غيبت الإعتبارات الخاصة بالواقع، فحتى الاتجاهات العقلية كانت إتجاهات تجريدية، أو أنها تعاملت في الغالب وفق العقل القبلي وليس البعدي، بل لم يحصل آنذاك تمييز بين هذين النوعين من العقل.

الثالثة: أنها إستندت في الأساس إلى الاعتبارات المعرفية الخاصة دون المشتركة. بل وأن اعتباراتها والنتائج المترتبة عليها كانت تجريدية في كثير من الأحيان، الأمر الذي يصعب إخضاعها للاختبارات الواقعية المباشرة. وهذا يعني أنها تقوقعت ضمن دوائر مغلقة من التصورات والمنظومات الذهنية التي يتعذّر إختراقها وفحصها من الخارج، أو جعلها تحتكم إلى المنطلقات العامة المتمثلة بالواقع والأصول العقلية المشتركة، وكل ما يمكن فعله هو الفحص المنطقي غير المباشر، وكذا الفحص الضمني لتبيان ما قد تفضي إليه من تعارضات ذاتية أو ضمنية. ومن أمثلة الاعتبارات الذاتية المتعارضة في المنظومات المغلقة؛ ما جاء عن الفكر العرفاني حول العذاب وعلاقته بالأسماء. فهناك اعتبارات حكمية وعرفانية متناقضة، فمن الاعتبارات الدالة على عدم الخلود في العذاب ما ذكره صدر المتألهين في عدد من كتبه - كالشواهد الربوبية وغيرها - وهو أن القسر لا يدوم في الطبيعة وأن لكل موجود غاية يصل إليها يوماً، كذلك أن الرحمة الإلهية وسعت كل شيء. لكن في قبال هذه الاعتبارات هناك إعتبارات أخرى منافية دالة على العذاب الدائم، كالقول بأن النفوس خاضعة للأسماء الإلهية، وأن من الأسماء الإلهية ما يظهر بمظاهر الإنتقام والعذاب، وأن من مقتضيات الأعيان الثابتة هو أن تكون على ما عليه بعد أن يفاض عليها الوجود، فالسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه. وكذا يمكن أن يقال حول نظرية الفلاسفة في الصدور وما تتضمنه من تعارضات ضمنية. وأيضاً هو الحال مع ما جاء في نظام المتشرعة (المعياري) من اعتبارات تجريدية وضمنية متعارضة، كالموقف من بعض قضايا الحسن والقبح وغيرها.

كانت هذه نقاط ضعف الاتجاهات المعرفية للفكر المتحقق، بلا فرق بين تلك التي عولت على الاعتبارات الذاتية أو العارضة. فالأولى انطلقت من مقولة (إنما أُمرنا أن نأخذ العلم من فوق)، أي من النص. أما الثانية التي تشعبت بها الطرق والإتجاهات فأغلبها تجريدية؛ إما بحكم موضوعاتها الخاصة، أو لأن معالجتها للقضايا المعرفية كانت تحت سلطة العقل القبلي. وعليه فلو أردنا إيجاد فكر متحقق جديد يتجنب الوقوع فيما وقع به الفكر المتحقق التقليدي؛ لكان لا بد من الأخذ بالنقاط التالية:

1ـ لا غنى عن المراجعة النقدية المتواصلة للفكر الديني، أي مراجعة نقد الذات على التواصل. إذ لا يمكن تحقيق تطور نوعي ملحوظ من غير هذا المبدأ، كالذي حصل مع العلم الحديث في قطيعته مع القديم.

2ـ إحضار الواقع بقوة ضمن مفاصل الفكر الديني، وإحضار الدراسات التي تخصّ واقع الإنسان وحقوقه.

3ـ تقليص الإعتبارات الذاتية مع توسعة الاعتبارات العارضة. وهذا ما يتطلب العمل بجعل الأولى مجملة، على خلاف الثانية، سيما تلك التي تتعلق بالانفتاح على الواقع. والجمع بين هذين النوعين من الاعتبارات يتيح لنا أن نجعل من الإعتبارات الذاتية موجهات دون أن يكون لها سلطة ذهنية تكوينية، خلافاً للاعتبارات العارضة كما تتمثل بالواقع.

4ـ العمل على تفعيل الاعتبارات العارضة المشتركة لا الخاصة. فقد جرّب الفكر المتحقق الديني العمل وفق الاعتبارات الخاصة دون نجاح، وهو لم يجرّب بعد العمل وفق الاعتبارات المشتركة. وحيث أن هناك نسقاً منطقياً يتحكم في العلاقة بين المعرفة والوجود والقيم، لذا كانت المهمة الملقاة على عاتق الاعتبارات المشتركة؛ الانطلاق من البعد المعرفي ليتم بناء كل من النسقين الوجودي والقيمي، وأخص بالذكر - هنا - ضرورة الارتكاز على منطق الاحتمال والاستقراء في التكوين المعرفي.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=6357

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك