الرؤيــة الاسـتشراقيــــة للأحرف السبعةوالقـــــراءات القرآنيــــة
الرؤيــة الاسـتشراقيــــة للأحرف السبعةوالقـــــراءات القرآنيــــة
( عرض ونقد )
إعداد الباحث
د. رجب عبد المرضي عامر
المقدمة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ومن بهديه اهتدى وإلى طريقه التجا...
وبعد:
فإن الله تعالى قد تولى حفظ كتابه القرآن الكريم، ودعا إلى التمسك بحبله المتين، وصراطه القويم، فاستجاب المؤمنون به، وشغلوا حياتهم بكتاب الله – تعبداً – وانبرى جمهور العلماء - قديماً وحديثاً – يذودون من حوله سهام الطاعنين، ويفندون شبهات الملحدين في آيات الله،..
وعلى طريق هذه الجهود المتواترة، يقدم هذا البحث عرضاً مجملاً للرؤية الاستشراقية حول الأحرف السبعة والقراءات القرآنية، ومدى خروج أصحابها المستشرقين عن الأصول العلمية - التي يعرضونها فقط – في دراستها بخاصة، وذلك في ضوء الحقائق عند علماء المسلمين وموقفهم الملتزم بما تقتضيه طبيعة الدراسة، ويفرضه المنهج العلمي الصحيح، ولم يقصد البحث إلى الاستيفاء الحاصر لكل شبهات المستشرقين، فقد نحا في بعض الجوانب نحو الإجمال، فقد فصل آخرون بما يفند الشبهات الاستشراقية، واحدة واحدة، مكتفياً بالإشارة إلى بعض هذه الجهود الموفية، وبالله التوفيق.
تمهيد: أهمية الموضوع ومصطلحاته
إن موضوع الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم، وما قام عليها من القراءات القرآنية ليتطلب اهتماماً بالغاً، واستشعار تأثيره دائماً، فهو يتعلق بالمصدر الأول في الإسلام، وهو القرآن الكريم، من جهة أصوله الثابتة، فالاعتقاد به هو محور الدين، ومرتكز حياة المؤمن كلها. ولما كان القرآن الكريم وحياً من الله تعالى، أنزل على سبعة أحرف، هي أيضاً من وحي الله، وبلاغ رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الأحرف السبعة تعد الأساس الشرعي في تعدد القراءات القرآنية, وربانية مصدرها الإلهي.
ومن جهة ثانية فالقرآن الكريم بكلماته وحروفه ذو لغة متميزة بخصائصها، وهي العربية التي نزل بها على أحرفه السبعة، فاتسع القول في مدلولات هذه الأحرف كثيراً، تبعاً لخصائص اللغة العربية، وما حملته من وحي معصوم. ولذلك التزم علماء الإسلام منهجاً علمياً منضبطاً، يتناسب وإدراكهم جلال هذا الموضوع وخطر شأنه، ووجوب تجلية وجه الحق فيه، بما يدمغ الباطل ويزهقه بالحجج العلمية المفندة لشبهات المستشرقين وتلامذتهم فيه.
1- الأحرف السبعة:
الأحرف: جمع قلة من (حرف) كفلس وأفلس. ومما ورد عنه في لسان العرب(1): ((الحرف من حروف الهجاء معروف، واحد حروف التهجي، والأداة التي تسمى الرابطة، لأنها تربط الاسم بالاسم والفعل بالفعل، كعن وعلى ونحوهما.
والحرف في الأصل: الطرف والجانب، وبه سمي الحرف من حروف الهجاء. وحرفا الرأس: شقاه. وحرف السفينة والجبل جانبهما. والجمع أحرف وحروف وحرفة. وقال الأزهري: وكل كلمة تقرأ على الوجوه( ) من القرآن تسمى حرفاً)).
وفي تأويل مشكل القرآن( ): ((والحرف يقع على المثال المقطوع من حروف المعجم، وعلى الكلمة الواحدة، ويقع الحرف على الكلمة بأسرها، والخطبة كلها، والقصيدة بكمالها. ألا ترى أنهم يقولون: قال الشاعر كذا في كلمته، يعنون في قصيدته. والله جل وعز يقول: ﮋ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﮊ [التوبة: ٧٤]، وقال: ﮋﮢﮣﮤﮊ[الفتح: ٢٦])).
وقال أبو عمرو الداني( ): ((فأما معنى الأحرف التي أرادها النبي صلى الله عليه وسلم هاهنا فإنه يتوجه إلى وجهين: أحدهما أن يكون يعني أن القرآن أنزل على سبعة أوجه من اللغات..، والحرف قد يراد به الوجه بدليل قوله تعالى: ﮋ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮊ [الحج: ١١]، فالمراد بالحرف هاهنا الوجه الذي تقع عليه العبادة... فلهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأوجه المختلفة من القراءات، والمتغايرة من اللغات أحرفا. على معنى أن كل شيء منها وجه على حدته غير الوجه الآخر...
والوجه الثاني من معنى الأحرف: أن يكون - صلى الله عليه وسلم - سمى القراءات أحرفا على طريق السعة، كنحو ما جرت عليه عادة العرب في تسميتهم الشيء باسم ما هو منه، وتعلق به،... فلذلك سمى النبي صلى الله عليه وسلم القراءة حرفا، وإن كان كلاماً كثيراً... على عادة العرب في ذلك، واعتمادا على استعمالها نحوه)).
فكلمة (حرف) تعني -في أصل وضعها اللغوي- نحو الطرف والجانب والحد، وتستعمل بعدة اعتبارات، أحدها هنا: الدلالة على ما تقرأ عليه ألفاظ القرآن الكريم.
والسبعة: صفة الأحرف، للمذكر من العدد: فوق الستة ودون الثمانية( ). فالأحرف السبعة هي التي ورد ذكرها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن نزول القرآن الكريم عليها، وحيا من الله، فلقنها كما تلقاه، فهو أول من عبر عنها لصحابته وأمته من بعده، فنسبها إلى الوحي والحق والصواب وتيسير الله بها عليهم.
2- القراءات القرآنية:
القراءات: جمع قراءة، وهي مصدر سماعي من الفعل قرأ بمعنى تلا، ومن معاني القراءة في اللغة: الجمع. وهي في مفردات القرآن: ((ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل))( ). وعند ابن الجزري( ) أن القراءات ((علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها، معزواً لناقله)).
وبوصف (القراءات) بالقرآنية تتحدد الألفاظ المقروءة على وجوهها الصحيحة، بنسبتها إلى القرآن الكريم كلام الله تعالى. ثم بإضافتها إلى أئمتها وأعلامها تتحدد – أيضا – وجوه التلاوة التي تلقاها، ثم لقنها كلٌّ منهم، فتسمى القراءة باسمه، وتنسب إليه مجرد نسبة، تميز وجوه كلٍّ فقط. ((فلذلك أضيفت إليه دون غيره من القراء، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد))( ).
3- الرؤية الاستشراقية:
هي نظرة الدارسين الغربيين (مؤسسات وأفرادا) تجاه الشرق، وبخاصة دين الإسلام فيه بجميع جوانبه، وجلهم غير مسلمين، فهم مستشرقون ذوو أغراض متعددة، يسلكون إليها بدراساتهم المسماة بالاستشراق، حسب المتغيرات.
يقول د. محمد خليفة حسن( ): ((الاستشراق من أقدم الحركات الفكرية الغربية المستخدمة للعلم والمستغلة له، كوسيلة لدراسة الشرق من ناحية، وتحقيق تغريبه وفرض الهيمنة عليه من ناحية أخرى)).
سمات الأحـــرف السبعة
1- نص الأحاديث:
الحديث الأول: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره( ) في الصلاة فتصبَّرت حتى سلم، فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: كذبت، أقرأنيها على غير ما قرأت. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال: ((أرسله، اقرأ يا هشام)) فقرأ القراءة التي سمعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذلك أنزلت)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرأ يا عمر)) فقرأت التي أقرأني، فقال: ((كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه))( ).
الحديث الثاني: عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار( ) قال: فأتاه جبريل عليه السلام فقال: ((إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسال الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسال الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا))( ).
الحديث الثالث: عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لقي رسول الله صلى عليه وسلم جبريل فقال: ((يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط)). قال: يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف( ).
الحديث الرابع: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أقرأني جبريل على حرف، فراجعته فلم أزل أستزيده فيزيدني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف)). قال ابن شهاب: ((بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا، لا يختلف في حلال ولا حرام))( ).
الحديث الخامس: عن بسر بن سعيد رضي الله عنه قال: حدثني أبو جهيم: ((أن رجلين اختلفا في آية من القرآن قال هذا: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((القرآن يقرأ على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإن مراء في القرآن كفر))( ).
الحديث السادس: عن أبي المنهال قال: بلغنا أن عثمان رضي الله عنه قال يوما وهو على المنبر: أُذكّر الله رجلا سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف، كلها شاف كاف)) لما قام، فقاموا حتى لم يحصوا، فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف)). فقال عثمان رضي الله عنه: وأنا أشهد معهم( ).
ونكتفي بسوق هذه النصوص من الأحاديث الشريفة، وبقول د. حسن عتر( ) في توثيقها: ((وجدنا الحديث مرويا في أمهات كتب السنة، في الصحاح الستة، وغيرها،... وتبلغ عدة من روى الحديث من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو أربعة وعشرين صحابياً( )،... فالحكم على حديث الأحرف السبعة بالشهرة من مسلمات علوم الحديث، لكن استفاضته البالغة، وتعدد أسانيده وانتشار شهرته، وكثرة رواته بما يمنع معه تواطؤهم على الكذب، يؤدي إلى الحكم بتواتره، لذلك نحكم بأن حديث (أنزل القرآن على سبعة أحرف) حديث متواتر قطعي الثبوت)).
2- أهم سماتها:
ومن خلال نصوص الأحاديث هذه تبرز أهم سمات الأحرف السبعة ومقتضياتها فيما يلي:
(1) الأحرف السبعة أحداث بشواهد واقعية، تصور تعدداً في ألفاظ القراءة القرآنية التي أقرأها النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته، فالتزم كل منهم قراءته بالتوجيه النبوي (فاقرؤوا ما تيسر منه).
(2) تعددها (على حروف كثيرة) صواب بإطلاق، فلا تناقض بينها، وإنما تنوع وتغاير، (كلها شاف كاف).
(3) استناد تعدد الحروف إلى الوحي، بإقراء النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره (كذلك أنزلت) فهي توقيفية لا مدخل فيها لبشر.
(4) تحديد المراد بها غير واجب على التعيين( )، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة، ولم يسأله الصحابة عنه، ولم يسأل التابعون الصحابة عنه، وقد يترجح بالقرائن لدى العلماء.
(5) ضرورة وجوب تلقيها بالمشافهة والتلقين لا بالتشهي بمقياس ما.
(6) صحة تسمية الحرف قراءة (كما في الحديث الأول) وتحديدها في الاستزادة النبوية بسبعة حقيقة، في الألفاظ لا المعاني( ).
(7) تيسيرها قراءة القرآن الكريم لجميع الأمة، بمراعاة الأعذار الضرورية فيها، معافاة من الله وتخفيفاً عليها، ونشراً للإسلام وكتابه الكريم.
(8) تحريم المراء في القرآن الكريم، بالنِزاع في حروفه الثابتة، أو إنكار حرف منها، فهو كفر.
وقد كثرت أقوال العلماء في تحديد المراد بالأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، واختلفت اجتهاداتهم، حسب ما يترجح بقرائن الأحوال فيه لدى كل منهم، ما بين اللغة أو اللهجة أو القراءة، وعدد كل منها في الواقع أو المراد به، وكيفية حصره. وقد نقلت في هذا أقوال لأبي حاتم سهل بن محمد السجستاني المتوفى 255ﻫ، ثم لابن قتيبة: عبد الله بن مسلم المتوفى 276ﻫ في كتابه (تأويل مشكل القرآن) تعد هي الأولى( ) في تتبع وجوه الاختلاف وحصرها في سبعة لتوافق النص عليها في الحديث النبوي.
ولا تزال اجتهادات العلماء في تحديد المراد بالأحرف السبعة دائرة في نطاق لغة القرآن والحديث وواقع الأمة، وقد تتداخل الأقوال، كما تتوارد الآراء فيما بينها، ولكل اجتهاد قبوله وترجيحه، في مقابل غيره المرجوح لديه، وبهذا ونحوه - من دأب العلماء تتجلى - صورة مشرقة من تعلق المسلمين بكتاب ربهم، وتوفر علمائهم على دراسته التي لا يشبعون فيها منه، وهو لا يخلق على كثرة الرد، فلعل في كثرة هذه الاجتهادات حول أحرفه السبعة التي نزل عليها صورةً من هذه العلاقة التي لا تنقضي.
يقول د. رؤوف شلبي( ): ((لا ينبغي أن نماري في تحديد المراد من الحروف السبعة حتى لا ننقل العمل بالقرآن من الجو الإسلامي البنائي التطبيقي إلى قاعات البحث، دون أن ينفذ القرآن كإمام وأنيس في جميع مجالات الحياة، وذلك ما كان يحرص عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة... ولا نأبه بالعلمانية الاستشراقية الغربية التي تريد أن تميع الذاتية الإسلامية)).
3- بقاؤها وحكمتها:
بتدوين القرآن الكريم في المصاحف العثمانية وفق ما أنزل عليه من أحرفه السبعة بقيت محفوظة في السطور مع الصدور، - شأن القرآن – حفظاً إلهيا بقول الله سبحانه وتعالى: ﮋﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮊ[الحجر: ٩].
يقول الزرقاني( ) – رحمه الله -: ((ولدينا دليل مادي أيضاً على بقاء الأحرف السبعة جميعاً، هو بقاء التيسير والتخفيف وتهوين الأداء على الأمة الإسلامية الذي هو الحكمة في الأحرف السبعة، فها نحن أولاء لا نزال نشاهد عن طريق القراءات المختلفة القائمة الآن سبيلا سهلاً قد وسع كافة الشعوب المسلمة، سواء منها الأمم العربية وغير العربية)).
فحيث الأعذار المتعددة لا تزال باقية، فتلاوة القرآن ميسورة كذلك دائماً، يقول الله تعالى: ﮋ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮊ [القمر: ١٧] فتيسر نشره، وسهلت تلاوته على المسلمين بسؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه المعافاة والتخفيف على أمته، لتقرأه على امتداد الأزمنة والأمكنة، وتعدد الأحوال والأعذار المتنوعة، وإجابة الله إياه فيما وسعه على الأمة بتعدد الأحرف السبعة والقراءات القرآنية، كما شاء الله سبحانه وأنزل، فبلَّغ رسوله وعلّم صلى الله عليه وسلم.
4- علاقتها بالقراءات:
تعدُّ الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن الكريم أصلاً شرعياً في تنوع القراءات وتعددها، حيث هي وحي (كذلك أنزلت)، فهي للقراءات كالأصل للفرع، ويختلف العلماء في النسبة بينهما تبعاً لما يرجحه كل فريق في المراد بالأحرف: لغات ولهجات أو وجوه قراءات، من جهة، وفي كيفية رسمها على هذا المراد في المصحف من جهة أخرى. وعليه ففي مجمل أقوالهم – وهي ثلاثة – بيان لعلاقة الأحرف السبعة بالقراءات القرآنية وتتلخص فيما يأتي:
القول الأول: وهو مبني على أن المراد بالأحرف لغات أو لهجات، وعليها دُوِّنَ المصحفُ الإمام، ولهجة قريش منها بالتحديد، فتكون القراءات القرآنية حرفاً واحداً فقط من الأحرف السبعة، هو الموافق للعرضة الأخيرة دون غيرها.
وينسب الإمامان ابن تيمية( ) ثم ابن الجزري( ) – رحمهما الله – هذا القول إلى جمهور من علماء السلف والخلف والأئمة، منهم ابن جرير الطبري( ).
وأما القول الثاني والثالث: فمبنيان على أن المراد بالأحرف السبعة وجوه من القراءات، وعليها دون المصحف الإمام، فتكون القراءات القرآنية بعامة شاملة لجميع الأحرف السبعة، ضرورة إنزالها وحيا، وكتابتها وحفظها وجها ((فالقراءات الثابتة سواء في ذلك العشر وغيرها هي بمجموعها مجموع الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن))( ) وهو القول الثاني ((وعليه طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام)) كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية( )–رحمه الله-.
ثم القول الثالث: وهو يفصّل من حيث ثبوت الأحرف ثبوتاً قطعيا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتشتمل القراءات القرآنية على الأحرف الثابتة قطعياً في العرضة الأخيرة في شكلين: فالمتفق( ) من القراءات رسماً يشتمل على كل من بعض الأحرف، والمختلف( ) منها رسما يشتمل على بعض من بعض الأحرف، وأما ما لم يثبت من الأحرف فلم تشتمل عليه القراءات القرآنية، وبذلك لم يبق من الأحرف السبعة في المصاحف العثمانية إلا ما يحتمله الرسم كله منها.
يقول د. حسن عتر( ): ((فالحكم الاجتهادي العام أن القراءات المقطوع بصحتها جميعاً، أخص من الأحرف، والأحرف أعم منها، والنسبة بين الأحرف والقراءات هي العموم والخصوص المطلق، والله أعلم)).
وأخيراً فباعتبار القراءة القرآنية الواحدة فرعاً عن الأحرف السبعة أيضاً، فإنها بكل رواية منها تشتمل على أنواع من جميع الأحرف، التي هي أوجه قرآنية عند من اعتبرها كذلك، فابن الجزري( ) مثلاً يقول: ((وأما هل هذه السبعة الأحرف متفرقة في القرآن فلاشك عندنا في أنها متفرقة فيه، بل وفي كل رواية وقراءة باعتبار ما قررناه في وجه كونها سبعة أحرف، لا أنها منحصرة في قراءة ختمة وتلاوة رواية، فمن قرأ -ولو بعض القرآن- بقراءة معينة، اشتملت على الأوجه المذكورة، فإنه يكون قد قرأ بالأوجه السبعة التي ذكرناها، دون أن يكون قرأ بكل الأحرف السبعة)).
كما تشتمل - أيضاً – هذه القراءة القرآنية الواحدة على بعض الأحرف السبعة فقط، التي هي لغات سبع عند من اعتبرها كذلك، فأبو عمرو الداني رحمه الله مثلاً يقول( ): ((وأما هذه الأحرف السبعة، فإنها ليست متفرقة في القرآن كلها، ولا موجودة فيه في ختمة واحدة، بل بعضها، فإذا قرأ القارئ بقراءة من قراءات الأئمة، وبرواية من رواياتهم، فإنما قرأ ببعضها لا بكلها، والدليل على ذلك أنا قد أوضحنا قبل أن المراد بالسبعة الأحرف سبعة أوجه من اللغات، كنحو اختلاف الإعراب... إلخ )).
وقد يتبادر إلى الذهن أن الأحرف السبعة هي القراءات السبع، وليس الأمر كذلك؛ فلا خلاف في أن الأحرف السبعة ليست هي القراءات القرآنية المتواترة التي يقرأ بها من السبع أو العشر( )، وقد أفتى بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-( ) فقال: ((لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن الأحرف السبعة، التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست قراءات القراء السبعة المشهورة.. ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبعون، من السلف والأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بالقراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين)).
هذا من جهة الأحرف السبعة، وعليها بوصفها وحيا منَزلاً، من جهة، وتدوينها من المصاحف العثمانية من جهة أخرى، قامت القراءات القرآنية بتلقي الصحابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن الكريم بحروفه مشافهة وتَلقينا، وعنهم أخذه التابعون من بعدهم كذلك، فتعددت قراءاته ورواياته وفق ضوابط منهجية دقيقة كل الدقة، في إطار متقن من المشافهة والتلقين.
أركان القراءات القرآنية
القراءات القرآنية الصحيحة وحي الله تعالى، في كلامه المنَزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فلا مدخل فيها لبشر، غير التبليغ والتلقي والتعليم، فمصدرها الوحي الإلهي أولاً، ثم حملها الإقراء فنشرها على ما يقتضيه ذلك من ضوابط.
وقد تحققت للقراءات القرآنية الصحيحة كل مقاييس الضبط التام والتوثيق الكامل، في كل مراحل انتقالها من الوحي إلى واقع حياة الأمة الإسلامية.
فإذا ما تعددت وجوه هذه القراءات المنقولة في إطار هذا الضبط والتوثيق فإنما ذلك من لحظة تلقيها وحياً قرآنيا يجب الإيمان به كله، ومن ثم تسجيله محفوظاً لتنقله الأجيال، كما هو، قراءة، قراءة، كما تحفظه آية، آية، وكلٌّ حَقٌّ منَزَّل من عند الله، تلاه الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرأهم به وأقرهم عليه، فنشروه مع انتشارهم في الأرض، وتعليمهم التابعين من بعدهم، وكل يقرأ ويقرئ كما عُلِّم، فانتشرت متعددة منضبطة في كل عصر تبعاً لطرق الأخذ والرواية بالمشافهة التي يختارها القراء.
قال نافع إمام القراءة بالمدينة رضي الله عنه: ((قرأت على سبعين من التابعين، فما اجتمع عليه اثنان أخذته، وما شذ فيه واحد تركته حتى اتبعت هذه القراءة))( ).
وبالتتبع التام لكيفية نقل القراءات القرآنية الصحيحة بين أجيال المسلمين عبر التاريخ، لم ترصد أية شائبة انخرام في مقاييس الضبط والتوثيق التي صاحبت التلاوة الأولى، عقيب الوحي وإلى وقت التدوين والنشر العام، بمختلف وسائله وحتى الآن.
وتتمثل هذه المقاييس فيما التزمه جهابذة النقلة للقرآن الكريم، وأولهم كتّاب الوحي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وحفاظه من الصحابة، وهم كثيرون، ثم من بعدهم طبقة طبقة، من أصول ضرورية، تحقق صحة النقل، وتضمن سلامة النص، ولا تخرج عما كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، كما لم يتخلف واحد منها في أية مرحلة، ولا ينفك أحدها عن الآخَرَين, فتعد أركاناً ضرورية في صحة القراءة، واعتبارها وحياً قرآنيا, وهي ثلاثة:
أ- فبعض أصحابه صلى الله عليه وسلم يكتبون عنه الوحي فور تلقيه ويسجلونه، وكلهم يقرؤون عليه ما يسمعونه منه، فيحفظونه ويتلونه دائماً، فعدت الكتابة الصحابية أصلاً لضابط يشترط التزام موافقة الرسم القرآني، الذي تنسخ عليه المصاحف بعد.
ب- ومن جهة أولى تعد القراءة والعرض على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو على جبريل إسماعاً واستماعاً، أصلاً أيضاً لضبط الرواية جيلاً عن جيل.
ج- ولأن القرآن: ﮋ ﮣ ﮤ ﮥ ﮊ [الشعراء: ١٩٥]، فبدهي أن الأصل – كذلك – في نقله بقراءاته الصحيحة هو موافقة المنقول - ولو بوجه ما – للغته العربية.
وهذه الأركان من: المشافهة، والرسم، واللغة، هي التي بالتزامها جميعاً على الوجه الصحيح نقل القرآن الكريم – ولا يزال – نقلا صحيحاً متواتراً من الوحي إلى واقع حياة المسلمين، منضبطاً بثلاثة مقاييس ضرورية ومترابطة، فأولها: صحة الإسناد, مع الرواية عن الشيوخ بالمشافهة والتلقي.
وثانيها: موافقة رسم المصحف الذي خطه الصحابة، ونسخه عثمان -رضي الله عنه- في مصاحف الأمصار جميعها.
وثالثها: موافقة اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم.
يقول ابن الجزري – رحمه الله -( ) عنها: ((فقام جهابذة علماء الأمة، فبالغوا في الاجتهاد، وجمعوا الحروف والقراءات وعزوا الوجوه والروايات، وميزوا بين المشهور والشاذ، بأصول أصلوها، وأركان فصلوها، وها نحن نشير إليها فنقول: كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً، وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة، أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم، هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السَّلف والخلف)).
وهذه الضوابط، أو الأركان الثلاثة، هي التي يتعرض المستشرقون للطعن في قراءات القرآن الكريم، من جهة كل واحد منها أو من ثلاثتها مجتمعة.
الإطار العام للرؤية الاستشراقية
أولاً: مجالها
تقوم الخطة الاستشراقية الدائمة على الطعن في القرآن الكريم، بإثارة الشكوك حول جميع جوانبه، بدءا بمصدره، وكيفية تلقيه وتلقينه، وروايته وتدوينه، وكذلك محتواه وتأثيره، وانتهاء بما عسى أن يظنه المستشرقون ثغرة لسهام مطاعنهم، تلك التي يتابع بها آخرهم أولهم.
ولقد قام المستشرقون –قديما وحديثا– بمحاولات كثيرة متنوعة، وسموها بسمة البحوث العلمية المحايدة، في ميدان القراءات القرآنية، أخص ما في دين الإسلام، وأصول القرآن الكريم، فخاضوا – عامدين – فيما لا خوض فيه، وبخاصة لأمثالهم، فلا منهج علمي يوجه خوضهم، ولا هدف سوي يضبط قصدهم.
وعلى الرغم من ذلك فقد شملت مخاضات المستشرقين كل جوانب القراءات القرآنية، من تأصيلها الشرعي، إلى وضعها اللغوي، إلى نقلها التاريخي، فلم يسلم أي من هذه الجوانب من انتحال شبهة ظنوها قادحة في الأصل الشرعي للقراءات، واستنادها إلى الوحي المعصوم وأنها (كذلك أنزلت)، أو طاعنة في وسائل حفظها وروايتها في كل عصر.
1- فقد تطاولت الرؤية الاستشراقية فتمددت مطاعنها إلى الوحي القرآني، أصل القراءات، لتتساءل حول ثبوت حقيقته للنبي صلى الله عليه وسلم، وصحة تلقيه إياه, فينكره مثل لامارتين الفرنسي، وشاركو، وغيرهما، كما يتعصب ضده بعد أن يقره وليم موير الإنجليزي، وماسينيون الفرنسي، وغيرهما( ).
2- ثم تقاصرت نظرة المستشرقين أمام وجود الوحي المنَزل، وحقيقته الماثلة في القرآن الكريم، فرمت نصه بالاضطراب، والتناقض، ونحوهما تارة، كما ادعت حرية قراءته بالمعنى، حسب تعدد وجوه القراءات، ونحو ذلك من أسباب مختلفة.
3- توجهت كل الشبهات الاستشراقية بالطعن في أصل واحد أو أكثر مما يأتي:
أ- مصدر القراءات القرآنية واستناده إلى الوحي المعصوم، فطعنوا في الأحرف السبعة.
ب- نقلة القراءات القرآنية أنفسهم، حيث هم أوعيتها الحافظة الضابطة لها رواية ودراية في كل وقت، فطعنوا في تلقي الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيمن بعدهم كذلك.
ج- بقية أركان القراءات القرآنية، وسيلةً ناقلة، بالكتابة، واللغة.
ثانياً: مصادرها
تتحدد الرؤية الاستشراقية للأحرف السبعة والقراءات القرآنية من دراسات المستشرقين المنشورة حول القرآن الكريم عامة، في مؤلفات مستقلة، أو في دوائر المعارف الموسوعية، ونحو ذلك عند تلامذتهم.
1- فمن كتبهم( ):
أ- مدخل تأريخي نقدي إلى القرآن، رسالة من تأليف اليهودي جوستاف فايل (1808-1889م).
ب- تاريخ القرآن، نشر عام 1860م، من تأليف تيودور نولدكه الألماني (1836-1930م)، وله أيضاً رسالة دكتوراه عنوانها:
ج- أصل وتركيب سور القرآن.
د- التطور التاريخي للقرآن، بحث للإنجليزي إدوارس.
ﻫ- مذاهب التفسير الإسلامي.
و- العقيدة والشريعة في الإسلام، كلاهما من تأليف اليهودي المجري إجناتس غولدزيهر (1850-1921م).
ز- جمع القرآن تأليف: جون جولكر.
ح- المدخل إلى القرآن، للفرنسي ريجيس بلاشير. هذا إلى ما قام به آخرون مثل: شيفالي، برجشتراسر، وبرتزل، ثم آرثر جيفري، وكازانوفا، من تعليقات على الكتب، وكتابة المقدمات لتحقيقاتها، ونحو ذلك في فقرات الكتب الاستشراقية الأخرى، من ترديد الآراء وتضخيمها فيما بينهم.
فغولدزيهر يتابع نولدكه ويمتدح كتابه بقوله( ): ((وقد عالج هذه الظاهرة – تعدد القراءات – علاجا وافيا، وبين علاقتها بفحص القرآن، زعيمنا الكبير تيودور نولدكه، في كتابه الأصيل البكر: تاريخ القرآن، الذي نال جائزة أكاديمية النقوش الأثرية بباريس)).
2- ولم تعْدُ المادة الكثيرة المكتوبة في دوائر معارف المستشرقين، حول القراءات القرآنية عامة، سائر ما نشروه في مؤلفاتهم المستقلة عنها، فجلهم هم الذين كتبوه في الدوائر، وعلى ذات منهجهم.
3- وثم تلامذة المستشرقين من الدارسين المسلمين، ومقلدتهم، فهم مصدر تتحدد منه – أيضاً – الرؤية الاستشراقية بأفكارها التي غالباً ما التزموها، وربما زادوا عليها، حين رددوها( ).
وهو وإن كان مصدراً فرعياً، إلا أن إخلاص التلامذة( ) والمقلدة في الانقياد لمتبوعيهم ونشر آرائهم، يجعله معتمداً في تحديد هذه الرؤية من وجه آخر.
ثالثاً: وسائلها
لم تخرج الرؤية الاستشراقية للأحرف السبعة والقراءات القرآنية عن خطتها الطاعنة في القرآن الكريم، بوسائل شتى – كدأب المستشرقين – تظهر بجلاء في مؤلفاتهم، وتحدد إطارهم العام الذي أبدوا فيه رؤيتهم، وخلاصة دراساتهم إجمالاً وتفصيلاً.
فبالإجمال لم يتبع المستشرقون أي منهج علمي حقيقي يتناسب وطبيعة الموضوع، ولذلك أسبابه لديهم، في بيئتهم( ) الضاغطة عليهم.
يقول د. محمد خليفة حسن( ): ((وعلى المستوى المنهجي تظهر أزمة الاستشراق في غياب الرؤية المنهجية للمستشرقين، وعدم وجود منهج واضح يمكن تسميته بالمنهج الاستشراقي،... فالاستشراق يعيش عالة، ليس له منهج يخصه، كما أنه في استخدامه لمناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية نجده يلفق بينها، ولا يستخدمها الاستخدام الدقيق المحدد في هذه العلوم)).
ويضيف: ((ويعد التظاهر بالعلم وبالمنهجية العلمية من أكبر خيانات الاستشراق، وذلك لأن وضعه العلمي يشير إلى تستره خلف العلم والعقلانية واختفائه وراء ستار المنهجية العلمية لتحقيق غايات غير علمية))( ).
فمن الانحراف (أو الإفلاس) المنهجي أن يعتمد المستشرقون على مصادر ليست في مستوى البحث العلمي ولا هي أصلية في موضوع الدراسة مثل كتاب: ألف ليلة وليلة، كدليل على عدم وقوف الناس في العصور المتأخرة عند مجاميع القراءات السبع (أو العشر) المعتمدة – كما يقول غولد زيهر ويضيف( ): ((وورد على لسان الجارية الضليعة في العلم تودد، افتخارها بأنها تستطيع أن تقرأ القرآن بالقراءات السبع والأربع عشرة)). ولا يصلح كتاب: ألف ليلة وليلة أيضاً دليلاً اعتمد عليه غولد زيهر في تفضيل بعض الأقاليم قراءة ما من السبع، كما فعل( ).
ومن جانب آخر: يتعمد( ) المستشرقون إساءة فهم النصوص الأصلية في الموضوع، أو يشتبهون فيها بشبهة ما، فيؤسسون عليها حكماً أو يوردونها في غير مواردها، فيحملونها ما لا تحتمل، ثم يوجهونها إلى غير دلالاتها، أو إلى جانب منها يضخمونه هو لغرض ما. ((وآفة المستشرقين أنهم يسوقون مجرد الاحتمالات العقلية مساق الحقائق المسلَّمة))( )، وهذا - كله - هو الغالب على منهجهم فيما يتعلق بالأحرف السبعة والقراءات القرآنية.
وقد عرض د. عبد الوهاب حمودة( ) مثالاً مجملاً من ذلك فقال عن غولدزيهر:
((كان آخر كتاب ألفه هو كتابه: ((المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن))، عند تمام السبعين من عمره، وملأه بتجاربه في ((البحوث الإسلامية))... في هذا الكتاب عند بحث القراءات أخطاء لا يمكن السكوت عليها، وكان كل هَمِّ المؤلفِ أن يدلل على أن الاختلاف في القراءات إنما كان عن هوى من القراء، لا عن توقيف ورواية، وهذا هو سر خطئه في منهجه...ثم نقله عن كتب غير جديرة بالنقل منها، والارتكان إلى آراء ضعيفة لا يقيم لها علماء القراءات وزناً، هذا إلى خطئه في فهم النصوص وعجزه عن الغوص إلى أعماقها.. ومن أخطائه أنه يُحَمِّل القراءة ما لا تحتمله، ويتطوع في تفسير السبب الذي حمل القارئ على اختياره هذه القراءة، والقارئ نفسه بريء من هذا الاستنباط، بل ويصرح أحياناً بما يخالفه. ولكن حرص غولدزيهر على التشكيك في القراءات وإثبات أنها من محض الرأي لا النقل، يجعله يسلك ذلك السبيل)).
مدى التزام الرؤية الاستشراقية للأحرف السبعة بالضوابط العلمية
يتعلق موضوع الأحرف السبعة بالوحي وتنـزله، ولذلك أصوله حسب شأنه المقدس عند المؤمنين به، فلا يبحثون فيه إلا على ضوء الهدي النبوي بالنص الإلهي، بعيداً عن المراء، الممنوعون منه بمقتضى الإيمان، أما جدلية المستشرقين بشبهاتهم الطاعنة فلا بد من تفنيدها، ببيان انتقاض أساسها، بخروجها عن أصول الموضوع وطبيعة دراسته عند المؤمنين به من جهة، ومخالفتها قواعد البحث العلمية، وكذا الآداب الأخلاقية أيضاً من جهة أخرى.
فمصدر القراءات القرآنية في الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، وهي تستند إلى الوحي من قول النبي صلى الله عليه وسلم عنها: ((كذلك أنزلت))، قد طعن بها المستشرقون تارة في صحة الحديث، وأخرى في غموض دلالته – كما زعموا – وثالثة بقطع الصلة بتاتاً بينه وبين القراءات، وغير ذلك من مزاعم منتقضة منها:
1- وَصْمُ حديث الأحرف السبعة بالشذوذ وعدم الإسناد:
قال غولدزيهر عن حديث ((إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه)) ما يلي( ): ((روي في مجاميع السنة المعتد بها، على الرغم من أن ثقة مثل أبي عبيد القاسم بن سلام (توفي 224ﻫ-837م) دمغه بأنه شاذ غير مسند، انظر: ألف باء البلوي، ج1، ص 210)) ا. ﻫ.
وأقول: نعم إن الحديث مروي في مجاميع السنة المعتد بها، كما يقول غولد زيهر، ويتناقض في قوله، إذ كيف والحالة هذه لمسلم - ثقة أو غيره - أن يدمغه بأنه شاذ غير مسند؟ ((وهي دعوى باطلة، وفرية ظاهرة، فإن أبا عبيد لم يقل بصحة الحديث وشهرته فحسب، بل صرح بتواتره كما نقله عنه جميع العلماء))( ).
ولكن غولد زيهر قد زور هذا النقل إلى نقيضه، ثم نسبه موثقاً إلى كتاب ((ألف باء البلوي، ج1، ص210)) وكذب عليه فيما نقله عنه. فالمؤلف يوسف بن محمد الأندلسي المالكي المعروف بالبلوي يذكر في نفس الموضع من كتابه (ألف باء)( ) هذا، أن أبا عبيد قد صحح حديث: ((إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه)). فهو - كما يذكره الثقة أبو عبيد، وينقله عنه البلوي وكل العلماء والمسلمين– صحيح فضلا عن أن يدمغه أحد بالشذوذ وعدم الإسناد، كما يدعي أو يتناقض غولدزيهر.
ثم هناك حديث آخر يذكره البلوي( ) بلفظ: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف حلال وحرام، وأمر ونهي، وخبر من كان قبلكم، وخبر ما هو كائن بعدكم وضرب الأمثال)) ثم يذكر قول أبي عبيد عنه: ((ولسنا ندري ما وجه هذا الحديث لأنه شاذ غير مسند)). فهذا قول أبي عبيد عن هذا الحديث الآخر، ويتفق معه قول غيره أيضاً عنه: إن الحديث مردود لا يحتج به.
((فهل ترى أن غولد زيهر قد اختلط عليه الأمر؛ أم أنه خلّط فيه زوراً وبهتاناً!؟))( ). وأجب بما تراه، فلن يتصل هذا الاختلاط أو التخليط إلى الضوابط العلمية، إن لم تقل الأخلاقية، بسبب.
2- قطع صلة حديث الأحرف السبعة - بتاتاً - باختلاف القراءات:
وهو ما يقرره غولد زيهر( ): فبعد أن قال إن هذا الحديث – أنزل القرآن على سبعة أحرف - ((صار نقطة البدء وحجر الأساس لإحقاق علم القراءات الذي ازدهر فيما بعد))، أردفه بقوله عن الحديث: ((وهو في معناه الصحيح... لا علاقة له في الأصل بتاتاً باختلاف القراءات))، ثم بعد بضعة أسطر أيضاً يقول إن الحديث استخدم ((في الدلالة على التصويب المقيد ببعض النظم والشروط للقراءات السائدة، وذلك لما روي من أن الرسول أصدر هذا المبدأ الأساسي، حينما عرضت عليه اختلافات في قراءة نص القرآن)).
وهو فيما يذكره هنا يقطع صلة القراءات القرآنية بمصدرها الإلهي
- الأحرف السبعة -، ويسند تصويبها كلها إلى مبدء أصدره الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد إسناد ازدهار علمها – فيما بعد - إلى نقطة البدء في الحديث، ليغفل الجانب الأعظم المنصوص عليه في روايات الحديث كلها، وهو جانب الوحي الذي أنزل به القرآن على سبعة أحرف، تلقاها وأقرأها وقال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كلها شاف كاف))، ((كذلك أنزلت)) فهي حق وصواب، ولكن ليس له فيها إلا التلقي والإبلاغ، لا يحيد عنه قيد شعرة، فلم يصدر من تلقاء نفسه أمراً بالتصويب المقيد ببعض النظم والشروط للقراءات السائدة، كما يقول غولدزيهر، بل أُوحي إليه فسأل ربه المعافاة فأجيب بالتيسير، فبلغه كله وصوب وفق ما تلقى. ((فإن هذا الحديث هو الأصل والعمدة في بيان إنزال القرآن على هذه القراءات المختلفة، وهذا إجماع من علماء الإسلام، لا خلاف بينهم في ذلك، فكيف لا يكون له علاقة باختلاف القراءات))( ).
ومن جهة أخرى يقول الشيخ عبد الفتاح القاضي( ): ((فقوله: إن هذا الحديث لا علاقة له في الأصل بتاتاً باختلاف القراءات، قد توسط بين قولين من كلامه، كل واحد منهما ينقضه، ويأتي على بنيانه من القواعد)).
وأرى أن غولد زيهر بذلك التناقض مع الضوابط العلمية يهدف إلى تعليل تعدد القراءات بأسباب رآها هو، ليس من بينها الوحي والإنزال الإلهي على سبعة أحرف، مراعاة لعموم الأمة في كتابها، وعالمية الرسالة في دعوتها.
ولكن غولدزيهر يعللها - متواترة أو شاذة - في مواضع من كتابه بأكثر من علة، فمرة بالخط بقوله( ): ((وترجع نشأة قسم كبير من هذه الاختلافات إلى خصوصية الخط العربي)) ومرة بالإضافة الموضحة فيقول( ): ((وطائفة أخرى من القراءات الظاهرة في هذه الدائرة تنشأ من إضافة زيادات تفسيرية، حيث يستعان أحياناً على إزالة غموض في النص بإضافة تمييز أدق، يحدد المعنى المبهم، ودفعاً لاضطراب التأويل))، وثالثة: بما يحلله من دلالة الألفاظ ويراه خشية استعمال عبارات غير لائقة كما يقول( ): ((وهنا أراد بعض القراء استبعاد هذا التخوف بتغيير يسير في النص )). على طريقة اليهود أجداده، ورابعة: بما يزعمه( ) من ((إهمال الناسخ...، أو خطأ كتابي وقع فيه ناسخ غير يقظ)).
3- وصف غولدزيهر( ) حديث الأحرف بغموض الدلالة، وعدم وضوح موقف العلماء منه. ولا يستقيم هذا الوصف مع تمام اعتنائهم بالقرآن الكريم وما يتصل به أيما اعتناء، بلغ ببعضهم إلى حد إفراد الأحرف السبعة بالتأليف، وما كثرة الأقوال المنقولة عن العلماء في المراد بالأحرف السبعة، والتي عدها هو نفسه هنا 35 وجها إلا دليلاً يعلمه غولد زيهر على ذلك، فينتقض به قوله، أو ينقضه هو بقوله – بعد ذلك – ((وقد ألف أبو شامة كتاباً خاصاً في وجوه التفسير المختلفة لحديث الأحرف السبعة))( ).
4- وصف( ) حديث الأحرف السبعة بأنه يبدي شبهاً كبيراً برأي التلمود( ) في نزول التوراة بلغات كثيرة في وقت واحد، وهو في هذا المطعن ينْزع عن أصله اليهودي، كما نزع عنه في غير هذا الموضع( )، ثم هو يتناقض فيما يشتبه به، كدأبه المتعمد.
5- إسناد تصويب القرآن إلى الخليفة عمر، فهو الذي قرر: ((أن القرآن صواب كله، وفي رواية: كاف شاف ما لم تجعل آية رحمة عذاباً، وآية عذاب رحمة (طبري ج1ص10)))( ). انتهى كلام غولدزيهر الذي نسبه إلى الطبري في تفسيره، فتعمد التحريف بالكذب عليه فيما أسنده هو من متن الحديث إلى رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كأن تصويب القرآن قرار أصدره الخليفة عمر بعد، مع أنه هو الذي اختلف مع هشام بن حكيم حين سمع قراءته، فرفعا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أمر مشهور في حديث مرفوع عند جميع العلماء - ومنهم الطبري( ) أيضاً – إلى النبي صلى الله عليه وسلم -، وقد التزموا جميعاً بضبط الرواية وتحقيق الدراية، حسب الأصول العلمية المرعية عند المسلمين، أما المستشرقون فما يعنيهم من الضبط أو التحقيق إلا ما يوصلهم إلى أغراضهم أولاً، فقد التزم غولد زيهر - بعد اطلاعه على الحديث - بتعمد التحريف والكذب فيما نقله منه عن عمر رضي الله عنه.
يقول د. حسن عتر( ): ((علما بأن الطبري قد ذكر روايات كثيرة جداً لحديث الأحرف السبعة، رفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر منها هاتين الروايتين. فلقد رفعهما الطبري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقف بهما عند عمر رضي الله عنه. فذكر في الرواية الأولى منهما أن عمر ترافع مع رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قراءة القرآن. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عمر إن القرآن كله صواب، ما لم تجعل رحمة عذاباً أو عذاباً رحمة)). وفي الرواية الثانية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف وكاف)). اﻫ. فما رأيك بتحريف غولد زيهر هذا – بعد مشاهدته ما في تفسير الطبري – أهو جهالة أم سفاهة وحقد!؟ وتأمل أمر الذين يثقون بكتبه وكتب أمثاله))
6- الطعن في عدد الأحرف السبعة، مرة من جهة تحديده، وثانية أن له فعلاً سحرياً في نفوس الساميين( ). وهذا التشغيب مما لا يتفق وطبيعة الأحرف السبعة، من حيث الاعتقاد الديني بها، فضلاً عن إرادة العدد، الذي هو ظاهر في النصوص النبوية، أو عدم إرادته كما اختاره بعض علماء المسلمين. ((وبهذا يعلم أن ما ذهب إليه غولد زيهر رأي قديم عند العلماء، تأباه الأحاديث الصحيحة، والآثار القوية))( ).
مدى التزام الرؤية الاستشراقية للقراءات القرآنية بالضوابط العلمية
تعرض المستشرقون للقراءات القرآنية عامة فطعنوا في مصدرها ورجالها، وأصولها الضابطة لها، ولم يميزوا بين أنواعها على أساس صحيح، ولا ضابط منهجي.
فزعموا أن القراءات تتبع القارئ حسب رؤيته وتحليله لمعنى الآيات، فله أن يتدخل فيها بالتغيير اللفظي – يسيراً وكثيراً – وهو ما يطلقون عليه حرية القراءة بالمعنى، كما طعنوا في الأركان الثلاثة للقراءات، وهذه بعض شبهاتهم:
أولاً: من جهة ثبوت القراءات القرآنية
1- يدعى غولدزيهر أن كثرة قراءات الصحابة واختياراتهم الشخصية جعلت القرآن ((يقدم نصه في أقدم عصور تداوله مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات))( )، حيث المعول على المعنى لا على اللفظ، إلى أن حاول عثمان جمعه، ليحد من الحرية الفردية التي كانت سائدة في تلاوة القرآن. فيقول: ((فيما يتعلق بإقامة النص المقدس في الإسلام الأول، كانت تسود حرية مطردة إلى حد الحرية الفردية كأنما كان سواء لدى الناس أن يرووا النص على وجه لا يتفق بالكلية مع صورته الأصلية.. فالمعول إذاً في المرتبة الأولى على المعنى الذي يستبطنه النص، لا على الاحتفاظ المتناهي في الدقة بقراءة معينة. وهو رأي انتهى – فيما يتعلق بتلاوة القرآن في مراسيم العبادة – إلى القول بجواز قراءة النص المطابق للمعنى وإن لم يطابق حرفية اللفظ (القراءة بالمعنى)))( )
كما ينقل عن: نولدكه ج1، ص50 (الطبعة الثانية)، متابعا له قوله: ((لأنه إذا كان المعنى لن يناله تغيير، بل يزداد وضوحاً في بعض الأحيان، فمن الجائز أن تستبدل بكل طمأنينة من كلمة غامضة أخرى أوضح منها))( ).
وفي عرَض من الذكر صرح غولد زيهر بهدفه من مطعنه هذا فقال: ((أما أن مثل هذه الحرية، التي لا تشجع الإيمان الثابت بحصانة نص الوحي المقدس... إلخ))( ).
2- ويربط بلاشير هذه الحرية المزعومة بأسباب تاريخية وسياسية دعت إليها في نظره فيقول في كتابه (المدخل إلى القرآن: 69-70) ما نصه:
((خلال الفترة التي تبدأ من مبايعة علي، عام 35ﻫ، حتى مبايعة الخليفة الأموي الخامس، عبد الملك، عام 65ﻫ، كانت جميع الاتجاهات تتواجه، فالمصحف العثماني قد نشر نفوذه في كل البلاد،...فبالنسبة إلى بعض المؤمنين، لم يكن نص القرآن بحرفه هو المهم، وإنما روحه، ومن هنا ظل اختيار الوجه (الحرف) في القراءات التي تقوم على الترادف المحض – أمرا لا بأس به، ولا يثير الاهتمام. هذه النظرية التي يطلق عليها (القراءة بالمعنى) كانت دون شك من أخطر النظريات، إذ كانت تكل تحديد النص إلى هوى كل إنسان))( ).
3- ويشير مستشرق ثالث وهو آرثر جفري إلى أثر هذه الحرية في القراءة فيما يسميه التطور في القراءات القرآنية إلى درجة التغيير والتحوير فيقول - في تقديمه لكتاب المصاحف لابن أبي داود ص3 حين نشره محققا، وألحق( ) به ضعف حجمه قراءات شاذة - ما نصه:
((نشر في أيامنا هذه علماء الشرق كثيراً مما يتعلق بتفسير القرآن وإعجازه وأحكامه، ولكنهم إلى الآن لم يبينوا لنا ما يستفاد منه التطور في قراءاته، ولا ندري على التحقيق لماذا كفوا عن هذا البحث، في عصر له نزعة خاصة في التنقيب عن تطور الكتب المقدسة القديمة، وعما حصل لها من التغيير والتحوير ونجاح بعض الكتاب فيها))( ).
نقد رؤية المستشرقين:
ورؤية المستشرقين - هؤلاء الثلاثة وغيرهم - لا تتفق والأصول العلمية، وتكذبها الحقائق التاريخية الثابتة بالوقائع، والمنقولة بالتواتر.
فقراءة الصحابة للقرآن الكريم لم تكن إلا بإقراء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، ومراجعتهم إياه دائماً، ومن ثم ترافعهم إليه - عند الاشتباه - لبيان الصواب والحق، للالتزام الدائم به. ((وحاشا الصحابة والتابعين أن يقولوا في القرآن برأي، مجرد رأي، دون سند مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فما بالنا باتهامهم أنهم عبثوا بالنص القرآني، إضافة وتقويما وتوجيها إلى أغراضهم العقائدية))( ).
لم تكن لقراءات الصحابة - أولاً، ولا لمن بعدهم من التابعين فمن بعدهم- أبداً دوافع شخصية في اختيار قراءة ما، فضلا عما يزعمه المستشرقون من حرية مطردة سائدة إلى حد الحرية الفردية، فلا سبيل إلى اضطراب في النص القرآني منذ تلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم، وعنه الصحابة فمن بعدهم.
يقول د. محمد أبو شهبة( ): ((إن المعول عليه في حفظ القرآن الكريم هو التلقي الشفهي، فعن النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه ألوف الصحابة العدول الضابطين، وعن الصحابة تلقاه ألوف الألوف من التابعين.. ولا يزال الاعتماد في حفظ القرآن على الشيوخ الحافظين المتقنين إلى يومنا هذا، وهذا القرآن المكتوب في المصاحف ثبت بحفظ الألوف الذين لا يحصيهم العد وأجمع عليه المسلمون في كل عصر وقطر، فكل ما جاء من روايات تخالفه مخالفة صريحة أو ضمنية فاضرب بهذه الروايات عرض الحائط... ثم ما قيمة التخمينات والافتراضات في بحث يتصل بكتاب يعتبر عند المنصفين خير الكتب السماوية وأفضلها، بل الأرضية؟، ثم أين النصوص الكثيرة التي أيدت فرية قراءة القرآن بالمعنى؟)).
وما يراه المستشرقون من تعدد القراءات اضطرابا وعدم ثبات فإنما هو صورة ما قام في أذهانهم عن كتبهم الدينية التي حرفت، وحالها الآن، بعد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. يقول د. محمد عبدالله دراز( ): ((يبدو أن المبشر الإنجليزي (آرثر جفري) قد وقع تحت تأثير التاريخ المسيحي الذي ألف دراسته، إلى درجة أنه يكاد يكون قد نقله بأحداثه الكاملة أثناء بحثه في المجال الإسلامي. فالواقع أنه يحاول أن يثبت أن النص القرآني قد مر بأطوار تشبه من جوانب كثيرة ما مر به الإنجيل)).
أما قراءات القرآن الكريم فلم تُحدث اضطرابا في نصه، ولا سبيل إلى ذلك أصلاً في وحي الله، فهي (كذلك أنزلت) و(كلها شاف كاف) فتعددها واختلافها هو من باب التنوع والتغاير، لا من باب التناقض والاضطراب، وحاشا كلام رب العالمين أن يعتريه اضطراب أو عدم ثبات أو تطور كما يرى المستشرقون.
يقول الإمام ابن الجزري يرحمه الله( ): ((فإن الاختلاف المشار إليه في ذلك اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض، فإن هذا محال أن يكون في كلام الله تعالى، قال تعالى: ﮋﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮊ [النساء: ٨٢].
إن تعدد القراءات القرآنية حقيقة واقعة في الحياة الإسلامية بوحي الله، التزمها الصحابة وثبتت بطريق التواتر الذي لا شك فيه، فلم ينشأ عنها تعارض أو اضطراب بل كلها يظاهر بعضها بعضا، ويشهد بعضها لبعض))( ), بحيث تعتبر القراءة مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية، يجب الإيمان بها كلها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله( )، فلا مجال لما يزعمه المستشرقون من اضطراب أو تناقض، يراه غولدزيهر أو بلاشير أو غيرهما.
ولكن المستشرقين يتعمدون الطعن في مضمن النص القرآني أيضاً مع الطعن في صدور نقلته الأولين ومن بعدهم، فيركبون إلى غرضهم كل مركب، مع أنهم يعلمون توقف الصحابة عند تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم كل شيء، وخاصة القرآن الكريم حسبما أقرأهم ولقنهم، وأيضاً ألزمهم به، ثم يعلمون أن قراءات الصحابة التي اتصلت بقراءات القراء المعروفين لم تنقل إلا بالتواتر، وعلى نهجهم يسير المسلمون من بعدهم إلى الآن.
وإذا لم يكن للنبي المعصوم صلى الله عليه وسلم أن يتدخل في القرآن الكريم من تلقاء نفسه، كما يخبر الله سبحانه وتعالى عنه، فمن باب أولى أن لا يكون لغيره قراءة بالهوى تخرج بالقرآن الكريم عن حده الإلهي ووصفه المنَزل عليه.
يقول الشيخ الزرقاني رحمه الله( ): ((ثم أضف إلى ذلك أنه لو صح لأحد أن يغير ما شاء من القرآن بمرادفه أو غير مرادفه، لبطلت قرآنية القرآن وأنه كلام الله، ولذهب الإعجاز ولما تحقق قوله سبحانه وتعالى: ﮋ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮊ [الحجر: ٩] ثم إن التبديل والتغيير مردود من أساسه بقوله سبحانه في سورة يونس، الآيتان 15، 16: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ*ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮊ .
وأما ما يتعلل به المستشرقون لزعم حرية القراءة بالمعنى، فيقول عنه ابن الجزري رحمه الله( ): ((وأما من يقول إن بعض الصحابة كابن مسعود كان يجيز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه، إنما قال: ((نظرت القراء فوجدتهم متقاربين( ) فاقرءوا كما عُلِّمتم))، نعم كانوا ربما يدخلون التفسير في القراءة إيضاحاً وبياناً، لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا، فهم آمنون من الالتباس، وربما كان بعضهم يكتبه معه، لكن ابن مسعود رضي الله عنه كان يكره ذلك ويمنع منه، فروى مسروق عنه أنه كان يكره التفسير في القرآن)).
ويقول مكي بن أبي طالب في (الإبانة)( ): ((إن الصحابة رضي الله عنهم كان قد تعارف بينهم من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ترك الإنكار على من خالفت قراءته قراءة الآخر..، فكان كل واحد منهم يقرأ كما عُلّم، وإن خالف قراءة صاحبه..، وحديث عمر مع هشام بن حكيم مشهور... ))( ) .
وحين يتحدث المستشرقون عن اختلاط مزعوم في النص القرآني بسبب قراءاته فإنهم كثيراً ما يقعون في التناقض والاضطراب، وهو ما يظهر فيما تناوله غولدزيهر من مسائل، وادعاه من دعاوٍ حول القراءات القرآنية في كتابيه: مذاهب التفسير الإسلامي، والعقيدة والشريعة في الإسلام( ), وغير ذلك، إذ لم يلتزم منهجاً منضبطاً في عرض ما يراه شبهات فهو يقول( ) مثلاً:
((وطائفة أخرى من القراءات الظاهرة في هذه الدائرة تنشأ من إضافة زيادات تفسيرية، حيث يستعان أحياناً على إزالة غموض في النص بإضافة تمييز أدق يحدد المعنى المبهم، ودفعا لاضطراب التأويل، وقد رويت أمثال تلك الزيادات عن اثنين من صحابة الرسول بوجه خاص، تظهر في قراءتيهما على وجه العموم أشد الاختلافات التي تمس حتى محصول السور وعلى الرغم مما نال النص القرآني في قراءتيهما من تغييرات بعيدة المدى فقد تمتعا بالإجلال بيد أن هذين الصحابيين ليسا بالوحيدين اللذين نسب إليهما إدخال زيادات على النص المشهور للقرآن، بل روي ذلك أيضاً بين حين وآخر عن آخرين. وليس بواضح حقاً ما قصد من هذه الزيادات: هل قصد أصحابها من ذلك إلى تصحيح حقيقي للنص، أو إلى إضافة تعليقات موضحة فقط)).
يقول د. عبد الحليم النجار، تعليقاً على بعض مواضع من أقوال غولد زيهر، في كتابه مذاهب التفسير الإسلامي، من ترجمته( ):
((وأعجب من ذلك تخبط المؤلف في افتراض أن هناك قراءة أصلية، وأخرى محرفة أو مصحفة، وقد ظهر أنه يبني على غير أساس، وأن ما يزعمه قراءة ليس من القراءات في شيء))، ومثّل المترجم لبعض هذا التخبط، ثم أضاف: ((العجب أشد العجب من تسرع غولد زيهر إلى الحكم بأن الزيادات تؤثر في نشأة قراءات، مع أنه سيذكر بعد قليل أنه ليس بواضح حقاً ما قصد من هذه الزيادات.. ؟ إلخ،... فما هذا التناقض؟)).
وكثيرة هي صور التناقض في أقوال غولد زيهر، حتى إنه ناقض نفسه عشرات المرات, وتخبط في كثير من المواطن كما يقول عنه بعض الباحثين( ).
وعلى ذلك فاتهام عثمان - رضي الله عنه - بمحاولته توحيد نص مضطرب لا محل له أصلاً، إذ النص القرآني ذاته وحي قطعي ثابت متواتر الحفظ، إلى أن دونه عثمان في عدة مصاحف، إثباتاً وتوثيقاً لقراءاته الصحيحة، ونشرا عملياً لها في الآفاق بأكثر من وسيلة.
يقول د. محمد عبد الله دراز( ): ((وفي رأينا أن نشر القرآن الكريم بعناية عثمان كان يستهدف أمرين، أولهما: أن في إضفاء صفة الشرعية على القراءات المختلفة التي كانت تدخل في إطار النص المدون ولها أصل نبوي مجمع عليه وحمايتها، فيه منع لوقوع أي شجار بين المسلمين بشأنها. لأن عثمان كان يعتبر التماري في القرآن نوعاً من الكفر. ثانيهما: باستبعاد ما لا يتطابق تطابقاً مطلقاً مع النص الأصلي، وقاية للمسلمين من الوقوع في انشقاق خطير فيما بينهم، وحماية للنص ذاته من أي تحريف)).
ثم لا سبيل لأحد من المسلمين – لإيمانه المطلق بالقرآن – إلى التدخل في نصه بزعم ما، ولا أن يدور بخلده احتياج هذا النص المقدس إلى أي تدخل فيه، حتى من النبي– الموحى إليه به – صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ عبد الفتاح القاضي رحمه الله( ): ((فلو كان قصد عثمان توحيد النص القرآني لكتبت المصاحف بصورة واحدة، ولم يكن بينها اختلاف ما، فكتابتها على هذه الصورة المختلفة، والكيفيات المتعددة دليل واضح على أن عثمان لم يعمد إلى توحيد النص، وإنما عمد إلى حمل الناس على ما ثبت من القراءات بطريق التواتر دون ما لم يكن كذلك)).
وعلى ذات الطريقة الاستشراقية يقدم غولد زيهر( ) تفسيرات – تقوم في نفسه – للقراءات (المخالفة للنص المتلقى بالقبول) ويسميها بواعث، أو ملاحظات موضوعية ونحوها، تقوم على تحليل القراءة ببيان مدلولها فقد (تبدو غير لائقة أو غير متفقة مع وجهة النظر إلى وجوب تعظيم الله ورسوله) – كما يقول - مثلاً فتغير بتغيير لفظي يسير في النص إلى ما يليق، ويسمى غولد زيهر هذا التدخل بالتغييرات التنْزيهية ويمثل له، في تخبط يجعل المترجم يصفه معلقا بحاشية الصفحة( ) قائلاً: ((إن هو إلا خيال صبياني لا يحيك إلا في نفس غولد زيهر وأمثاله)).
وقد ساق هذا المستشرق – من نفسه أيضاً- باعث التغييرات التنْزيهية على القراءات المتواترة أيضاً، فادعى( ) أنه دفع إلى تغيير بسيط في حركات بعض الحروف ليحل ضمير المخاطب محل ضمير المتكلم في قول الله تعالى: ﮋﮙ ﮚ ﮛ ﮊ [الصافات: ١٢]، وأيضاً ليبني الفعل المضارع (يغل) في آية 161 من سورة آل عمران من المعلوم إلى المجهول، وغير ذلك من قراءات متواترة يطعن فيها بالأحرى قبل غيرها.
يقول د. عبد الوهاب حموده عنه( ): ((أرأيت إلى إصراره على أن القراءات كانت تقرأ بالرأي والاجتهاد، لا أنها رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل ذلك ليبعث الشك، ويثير الارتياب، وهو قصد من مقاصد الاستشراق عندهم)).
ثانياً: من جهة أركان القراءات القرآنية
1- الطعن في ركن القراءات الأول (السند)
تتمثل شبهات المستشرقين الطاعنة في سند القراءات القرآنية واتصالها بالوحي عن طريقه في مزاعم عديدة متنوعة حول رجال هذا السند، وهم القراء في كل طبقة، وأولهم الصحابة رضوان الله عليهم، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأثار عدد من المستشرقين تساؤلات باتهامات وتعريضات، كما صرح آخرون وشككوا في أمانة الصحابة، وكتبة الوحي منهم خاصة، ووصموا جهودهم في مجال القرآن والقراءات بتغليب النَزغات النفسية كالغيرة، وحب التملك، وتقديم المصالح المشتركة، والروابط النسائية، ونحو ذلك مما في أقوال بلاشير، وغولد زيهر( ) فيما نقله عن: كازانوفا، ونولدكه، وشيفالي، وغيرهم كثيرون.
1- فالمستشرق بلاشير( ) يتساءل عن مدى الثقة التي يستحقها كتاب الوحي، وإذا كنا نستطيع أن نثق ببعضهم... إلخ ليبث بذور الشك في أمانة الكتبة والقراء.
ثم هو أيضاً يتساءل حول صحف أبي بكر وهل هي معترف بها من الجميع؟ ليجيب( ): ((كلا، إذ إن هذه الصحف كانت ملكاً خاصاً لأبي بكر وعمر بصفتهما الشخصية، لا للخليفة رئيس الجماعة،... ولنا أن نتساءل عن إمكان أن تصدر محاولة عمر عن سبب آخر: هو الرغبة في تملك نسخة شخصية من الوحي كما كان يملكها صحابة آخرون للنبي صلى الله عليه وسلم،.. يبدو أنه من المستحسن ألا يكون رئيس الجماعة في وضع أقل من بعض الصحابة ممن هم أحسن حالاً)).
ثم يطعن مباشرة بقوله( ):
((بيد أننا نلمح من أول وهلة، إما سوء تصرف لدى الخليفة، وإما بعض النوايا المستترة... فالخليفة الذي كان روح المشروع... يعد الممثل الحقيقي للأرستقراطية المكية، - يقصد عثمان رضي الله عنه – فقد كانت لديه جماعة متحالفة مع هذه الأرستقراطية، وتعمل غالباً باسمها... أصهار الخليفة، تربطهم فيما بينهم النساء، وقد جمعت بينهم مصالح مشتركة... إلخ)).
2- ويتعمد غولد زيهر اتهام الصحابة والقراء من بعدهم بالتساهل في توثيق نقل القراءات القرآنية بالإسناد الصحيح في قوله( ): ((فإن الاستناد على حجج موثوق بها ليس أمراً عسيراً، مادام ذلك راجعاً إلى مجرد اعتماد شفوي)).
فهو يقرر أن مجرد إسناد القراءة إلى بعض ثقات معترف بهم، واعتمادهم إياها شفهياً، يمنحها الثقة والقبول، ومن ثم الانتشار، مغفلاً عن عمد ضابط الإسناد المتواتر الدائم الذي ((هو الأصل الأعظم والركن الأقوم))( ) ليراه هو مجرد اعتماد شفوي وليس منهجاً أساسياً دقيقاً محكماً.
وهذه الرؤية الاستشراقية للسند، ركن القراءات القرآنية الأول، لا تتفق والضوابط العلمية لها حسب ما يدعيه المستشرقون من التزام المنهج العلمي المحايد.
فالمنهج العلمي في توثيق نقل القراءات القرآنية، نقلاً منضبطاً، من شيخ إلى تلميذ، يتطلب المعرفة والإحاطة بتراجم الشيوخ ورجال السند عموماً، وأحوالهم علماً وسلوكاً مؤيداً بالوقائع المنقولة عنهم، حسب أصول علم الرواية ومقتضيات التوثيق، ووجوب الاعتماد الكلي عليها في الدراسة، لتوثيق ما يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم عن الوحي.
ولقد توافرت هذه الأصول لدى علماء المسلمين - والقراء منهم بالأولى – فالتزموها وضبطوا بمقتضاها القراءات القرآنية وسائر ما تحمله الأسانيد من نصوص.
يقول د. محمد عبد الله دراز( ): ((وكل ما عُني به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لإثبات صحة النص القرآني هو المطابقة الحرفية لكل جزء منه، طبقاً لما نزل ودوّن في البداية بإملاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وتلي فيما بعد أمامه، وحمل تصديقه النهائي قبل وفاته. وهذه الموضوعية المطلقة هي الباقية والخالدة على مدى الدهر تشهد لهم لا عليهم)).
بيد أن هذه الأصول الموضوعية المطلقة لم يلتفت إليها كل من بلاشير، أو غولد زيهر من الأساس، فيما يسوقانهما – وكل المستشرقين – من شبهات تتجلى فيها المغالطات التي يقيم عليها كلٌ شبهته، أو يغمز بها في تساؤله حول أمانة الصحابة في نقل القرآن الكريم، بالتلاوة والكتابة، والنسخ والنشر في الآفاق، ولتجلية هذه المغالطات مواضع أخر تؤكد انحراف منهج المستشرقين عن الأصل الصحيح إلى ما يقصدونه ويرونه قدحاً في رجال القرآن الكريم وقراءاته.
فمن عهد الصحابة رضوان الله عليهم، والقراء ينتهجون أسلوب التلقين للقرآن الكريم بالمشافهة والإسماع، وتتوالى عليه طبقاتهم، تعبدا به، وتفانيا في حبه وخدمته والمحافظة عليه والالتزام بآدابه في سائر شؤونهم، التزاماً دقيقاً، نابعاً من الاعتقاد بقدسية كلام الله تعالى.
يقول د. عبد الفتاح شلبي( ): ((والمطلع على كتب القراءات في تسلسل النقل وفي طرقه يجد مثلا أعلى من إحكام الضبط، والتدقيق البالغ غايته في شتى النواحي المتصلة بالقرآن الكريم وكلماته، وآياته، وطرق أدائه، ويكفي أن تقرأ الأسانيد المختلفة في سرد مشاهير من قرأ بالعشرة وأقرأ بها في الأمصار لتعلم حرص المسلمين على كتاب الله، أن يعتوره تحريف أو يبعده عن النقل بالسند الصحيح)).
الأساس في صحة السند وهو اتصال الرواية من العدول الضابطين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنع – أو يحيل كلية - ما يسميه غولد زيهر (مجرد اعتماد شفوي) تقبل به القراءة، أو يسمح بتغيير أساسي في صياغة النص القرآني، فيما يزعمه أيضاً من حرية القراءة بالمعنى بناء على هذا الاعتماد وغيره.
هذا فضلاً عن ضرورة اشتهار الرواية بالقراءة لدرجة استفاضتها وتواترها بين القراء الضابطين ونقلهم لها لثقتهم بها، وبمن يلتزمها، وقت التلقي عن الرسول صلى الله عليه وسلم فمن بعده من الصحابة ثم التابعين فمن بعدهم، وهكذا يتابع الآخر الأول، على سنن أن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها ضرورة.
يقول د. محمد أبو شهبة( ):
((إن العمدة في القرآن وحفظه هو التلقي والسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، أو ممن سمع منه، أو سمع ممن سمع منه، وهكذا حتى وصل إلينا غضاً كما أنزل)).
2- الطعن في ركن القراءات القرآنية الثاني (رسم المصحف)
يراد برسم المصحف: الوضع الذي أثبته عثمان - رضي الله عنه - ومن معه من الصحابة من كلمات القرآن وحروفه في المصاحف التي نسخها، ثم أرسل منها إلى الأمصار.
فالرسم, لغة: الخط والأثر وهو ((تصوير الكلمة بحروف هجائها بتقدير الابتداء بها والوقوف عليها)). والمراد بالمصحف: المصاحف العثمانية التي أجمع عليها الصحابة،... هذا الرسم الذي أجمعت عليه الأمة وتلقته بالقبول بترتيب آياته، بل كلماته، بل حروفه، ليس لنا إلى إنكاره من سبيل، وأصبح مصحف عثمان الإمام والدليل ( ).
ولقد تحملت جميع المصاحف العثمانية وجوه القراءات القرآنية الصحيحة كلها كتابة، بعد أن تحملها الرجال مشافهة من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وصدره مباشرة، إلى الأمصار التي انتشروا فيها يعلمون القرآن الكريم، كل بما تلقى عنه – ولا غيره – من وجوه كلها صواب، شاف كاف.
وحسبما سمي يرتبط هذا الخط بالتدوين الثالث( ) للقرآن الكريم، الذي أمر به الخليفة الثالث عثمان بن عفان أمير المؤمنين رضي الله عنه، وقام عليه وبه معه جمهور الصحابة ثم أجمعوا عليه( ) فالتزمته الأمة، وقفا على القرآن الكريم، ورسما لحروفه وكلماته وحده، حيث ((إنه رسم بطريقة خاصة ترفع الخلاف الذي وقع فيه القراء، وأحدث بين الناس شغباً))( ).
ومع انتشار القرآن الكريم في الأعصار والأمصار كان لا بد من اعتبار هذا الرسم ضابطاً كتابياً ثابتاً لحروفه وكلماته، وتتوافر له وبه شروط التناقل من جيل إلى جيل، بالتعليم والنشر بين الناس، ويوصف أيضاً ببعض خصائص القرآن الكريم بالتبعية بعد أن أجمع عليه كبار الصحابة وارتضته الأمة الإسلامية كلها ((وورثته تركة عن أكابر الصحابة، وهم الأعرف بكتاب الله، الذين شاهدوا الوحي، والنبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه المسلمون جميعاً حتى صار الرسم العثماني خاصية من خصائص القرآن الكريم))( ).
وهذا الركن إذا ما لمحنا فيه استمداده من كتابة الوحي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بإملائه( )، وأن الكتبة أولاً –وهم بعض الصحابة– هم الذين قاموا بهذه الكتابة أيضاً، ثانياً وثالثاً، بعد النبي صلى الله عليه وسلم، تبينا مدى أهمية هذا الركن وضرورته لما شرط له من ضبط وتحقيق لنص وحي مقدس.
وفي الواقع التاريخي نجد أن قراءات القرآن الكريم تتفق وضابط الرسم في جميع المصاحف –كما أثبته فيها الصحابة– ويتحمل جميع وجوهها الصحيحة بلا تعارض، بل يتسع ليشمل كل القراءات، حيث لا نقط ولا شكل، لينضبط المكتوب – كما يتسع – وفق روايته المنقولة، شفاهة بالإسناد، وتلقينا بالتعليم، كما كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فتحقق للقراءات القرآنية كل أصول الضبط وصور التوثيق.
يقول الشيخ الزرقاني – رحمه الله -( ): ((كان الاعتماد في نقل القرآن – ولا يزال – على التلقي من صدور الرجال، ثقة عن ثقة، وإماما عن إمام، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك اختار عثمان حفاظاً يثق بهم وأنفذهم إلى الأقطار الإسلامية، واعتبر هذه المصاحف أصولاً ثواني مبالغة في الأمر وتوثيقا للقرآن ولجمع كلمة المسلمين)).
وعن أسس ضابط الرسم الكتابي هذا يقول د. عبد الصبور شاهين( ): ((إن الذين استخدموه في كتابة القرآن قد أقاموه على أساسين:
الأول: أنهم كانوا يحسون بملاءمة هذا الخط كوسيلة لحفظ النص –ما عُلّموه- وكما روي – ومنع تغييره أو تحريفه.
والثاني: أنهم واءموا بين الرمز والصوت بقدر الإمكان. والدليل على ثبوتهما بدهي، هو أن النص قد وصل إلينا سليما، دون أن يتغير شيء من رسمه،... وأن وراء تصرف أصحابه دواعيهم وفقههم لروح عملهم( )،... ومع ذلك فالرسم ليس إلا مقياسا وقائيا، يمنع ما لا يدخل في نطاقه، مما صح من الروايات، فهو يعد المصفاة الأولى التي تمر بها الحروف، فالرسم لا ينشئ القراءة، ولكنه يحكم عليها)).
مزاعم المستشرقين حول الرسم
يزعم غولد زيهر أن السبب في ظهور القسم الأكبر من القراءات هو خاصية الخط العربي، فالرسم الواحد للكلمة الواحدة قد يقرأ بأشكال مختلفة تبعاً للنقط فوق الحروف أو تحتها، كما أن عدم وجود الحركات النحوية وفقدان الشكل في الخط العربي يمكن أن يجعل للكلمة حالات مختلفة من ناحية موقعها من الإعراب مما يؤدي إلى اختلاف دلالتها.. كل ذلك كان السبب الأول لظهور حركة اختلاف القراءات وتعددها كما زعم كثير من المستشرقين.
1- يقول غولد زيهر( ): ((وترجع نشأة قسم كبير من هذه الاختلافات إلى خصوصية الخط العربي، تبعاً لاختلاف النقاط الموضوعة، وعدد تلك النقاط. وإذاً فاختلاف تحلية هيكل الرسم بالنقط، واختلاف الحركات، كانا هما السبب الأول في نشأة حركة اختلاف القراءات في نص لم يكن منقوطاً أصلاً، أو لم تتحر الدقة في نقطه أو تحريكه. ولبيان هاتين الحقيقتين قد تكفي بعض أمثلة فحسب)).
2- ثم يأتي آرثر جفري متابعاً غولد زيهر في ادعائه أن اختلاف القراءات راجع إلى سببين رئيسين نتجا عن التزام رسم القرآن بالخط العربي فتأثرت القراءات بطبيعته من جهتين: الأولى: تجرد خط المصاحف العثمانية الأولى من النقط. والثانية: عدم ضبط هذا النص بالشكل.
يقول آرثر جفري في المقدمة التي كتبها لتحقيقه كتاب ((المصاحف)) لابن أبي داود:
((وكانت هذه المصاحف كلها – يعني مصاحف عثمان التي بعث بها إلى الأمصار – خالية من النقط والشكل، فكان على القارئ نفسه أن ينقط ويشكل هذا النص على مقتضى معاني الآيات. ومثال ذلك (يعلمه) كان يقرؤها الواحد (يعلمه) والآخر (نعلمه) أو (تعلمه) أو (بعلمه) إلخ على حسب تأويله للآية))( ).
وبتلك الدعوى – التي يستشهدون عليها بالشاذ من القراءات، وكذا بمتواترها أيضاً دون تفصيل بين أنواعها( ) – يقطعون صلة القراءات القرآنية بالوحي، وما اعتمدت عليه في أصولها من الأحرف السبعة المتعددة، وفي كيفية نقلها بالسند المتواتر، تلقيا ومشافهة، من مصدرها الإلهي في الوحي إلى حملتها ونقلتها الرجال الأكفاء الضابطين لها أيما ضبط وتوثيق.
ومن جهة أخرى يهدمون ركن القراءات الأول وهو النقل بالسند عن أئمة القراءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الموحى إليه بها كلها (على سبعة أحرف، كلها شاف كاف) والمنبه عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: ((فاقرؤوا كما علمتم )).
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يزل يشافه الصحابة بالقرآن، ويبعث منهم المعلمين وهم عديدون، يقدّمهم النبي صلى الله عليه وسلم، حسب ما مع كل منهم من القرآن على غيرهم، فكانت قراءاتهم متعددة في حياته صلى الله عليه وسلم، وأقرهم عليها وصوب هذا التعدد لهم، قبل أن تنسخ المصاحف العثمانية وتنضبط على رسمها الخاص وجوه القراءات القرآنية فيما بعد، مع ضابطيها الآخرَين، وكل الضوابط الثلاثة - فضلاً عن أحدها - لا تُنْشئ القراءة، ، وإنما تحكم عليها.
وفي رد هذه الفرية الاستشراقية التي تدحضها حقائق الواقع التاريخي مع الشواهد النصية نشير أولاً إلى أن ما ارتآه المستشرقون مرجعاً لنشأة قسم كبير من اختلافات القراءات القرآنية، وهو طبيعة الخط العربي وقت تدوين المصحف، كما يتوهمون، كان هو ذاته سبباً مساعداً في استيعاب تدوين القراءات الصحيحة في المصحف الإمام، على وجه ميسور جامع لها برواياتها المتعددة المسندة كلها، على تنوعها في كيفية التدوين هذا.
ومن جهة أخرى فإن اللغة العربية بخصائصها الفريدة نطقاً ورسماً، تعد بمنـزلة الوعاء الواسع الصالح – وحده – لتلقي الوحي ونقله محفوظاً بوسائلها الضابطة الواعية له، أكثر من غيرها، وبخاصة حين تتعدد رواياته وقراءاته، وكلها حق صواب يعبر عنه لسان عربي وخط عربي، كل منها مميز بخصائصه الفريدة أيضاً، فلن ينشأ عن أحدهما اختلاف أو تنوع غير مقصود للوحي.
إن اختلاف وجوه القراءات القرآنية لم ينشأ (من مجرد ملابسات فنية ترجع إلى الرسم) كما يقول غولد زيهر في مذاهبه( )، لأن الرسم لاحق للقراءات وليس سابقاً عليها حتى ينشئها أو يؤثر في نشأتها.
ونتساءل تاريخياً مع د. عبد الفتاح شلبي( ) رحمه الله إذ يقول ثم يجيب: ((ألم ترو الروايات وتتداول قبل تدوين المصاحف؟ ثم ألم ترهم كيف كانوا يتحرون ويثبتون؟ أولم يكن القرآن محفوظاً في الصدور قبل جمع القرآن؟ بلى! فلم يكن اختلاف القراءات بين قراء الأمصار راجعاً إلى رسم المصحف، فهو يرجع إلى أن الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل، فاحتملت ما صح نقله، وثبتت تلاوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان الاعتماد على الحفظ لا على مجرد الخط)).
ولهذا أرسل الخليفة عثمان رضي الله عنه مع المصاحف المنتسخة رجالاً يقرئون الناس وفقها إلى كل مصر.
ويبين د. عبد الرحمن المطرودي( ) دور الضبط لوجوه القراءات بالرسم فيقول:
((إن رسم المصاحف العثمانية شرط قياسي، وليس شرطاً ضابطاً بمعنى أن رسم المصاحف العثمانية بني على القراءات القرآنية المتواترة، وأي قراءة تخالفه تعتبر غير متواترة، وليست كل قراءة موافقة له قراءة قرآنية. فالمعتمد عليه في قراءة رسم المصاحف هو النقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم)).
وفي تفنيد ما ساقه آرثر جفري أيضاً شبهةً في أن الرسم باعث على نشأة قسم كبير من القراءات من كلمة (يعلمه) واقتراحه على القارئ أن ينقط ويشكل هذا النص على مقتضى (معاني الآيات) ليقرأها الواحد (يعلمه) والآخر (نعلمه) أو (تعلمه) أو (بعلمه) إلخ على حسب تأويله للآية( )... أقول:
قد فندها لغوياً بعض الباحثين( ) فاستعرض أحوال ورود هذا الهيكل الكتابي المحتملة في اللغة العربية، وما تقتضيه كل حال منها من أسلوب مرتبط أيضاً بسياق الجملة، ثم قدم حصرا لورود هذا الهيكل الكتابي في تسعة مواضع من القرآن الكريم جاء في خمسة منها فعلاً مضارعاً، وجاء في أربعة منها مصدراً مجروراً بالباء مضافاً إلى ضمير المفرد الغائب، وذكر نصوصها ثم قال:
((ولو كان جفري ملِمّاً بأساليب اللغة العربية وقواعد تركيبها لأدرك أن الهيكل الكتابي الذي مثل به لا يخلو أمره من حالتين، إحداهما: أن يكون فعلاً مضارعاً مبدوءا بالنون أو الياء أو التاء. والحالة الأخرى أن يكون مصدراً مجروراً بالباء مضافاً إلى ضمير المفرد الغائب، وأول الفعل المضارع يحكمه السياق... ثم أورد الهيكل المرسوم... ليرى القارئ بالبرهان الاستقرائي فساد ما ذهب إليه آرثر جفري من أن القارئ في المصاحف العثمانية، كان حرا في نقط النص القرآني وشكله حسب تأويله للآية... ومن هنا يدرك القارئ أن جفري باستدلاله على دعواه بهذا الهيكل الكتابي الذي ذكره خبط خبط العشواء، وسار في الظلماء، ولو قد كان جفري رجع إلى مضارع (علم) ومصدره المجرور بالباء في القرآن الكريم لأدرك فساد برهانه، ولم يكن في عالم الفكر والبحث من المتخبطين)).
وسنقتصر في ردِّنا هذه الفِرْيةَ على ما احتوته في المثال من قراءات متواترة مما ساقه غولد زيهر، فمنها بترتيب استشهاده بالآيات، مما يتعلق باختلاف وضع النقط:
1- يقول ابن الجزري( ) رحمه الله في الآية 57 من سورة الأعراف ﮋﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﮊ.
((واختلفوا في (نشرا) هنا والفرقان والنمل، فقرأ عاصم بالباء الموحدة وضمها وإسكان الشين في المواضع الثلاثة. وقرأ ابن عامر بالنون وضمها وإسكان الشين. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالنون وفتحها وإسكان الشين. وقرأ الباقون بالنون وضمها وضم الشين)). اﻫ
ففي هذه الكلمة من الآية قراءات أربع كلها متواترة مقطوع بصحة ثبوتها وهي: بُشْراً، ونُشْراً، ونَشْراً، ونُشُراً. لأصحابها القراء على ترتيبهم المذكور. ((فتبين لك أن مبنى ذلك هو تواتر الرواية لا هيئة الرسم))( ).
2-الموضع الثاني: ما اشتبه به من سورة النساء الآية 94 ﮋ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﮊ ،
ومن سورة الحجرات آية 6 ﮋ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﮊ الآية.
وهنا يوهم غولد زيهر عند سوقه هذا الموضع أن في الآيات شبهة ما فيقول:
((وفي الآية 94 من سورة النساء وردت حالة كثيرة الإفادة إذ تنطبق الظاهرة المذكورة – اختلاف الدلالة تبعاً لوضع النقط فوق الحروف – آنفاً على كل حرف تقريباً من أحرف كلمة فيها...؛ فبدلاً من: (فتبينوا) قرأ جماعة من ثقات القراء: (فتثبتوا)... ثم ينهي كلامه بقوله: وعلى كل حال لا تسبب هذه الاختلافات وما شابهها فرقاً من وجهة المعنى العام ولا من جهة الاستعمال الفقهي( ).
وإذا كان الأمر كذلك فلم التشويش على القراءة في ضابطها أو في دلالتها؟ وبخاصة مع العلم بأن القراءة متواترة، إلى أئمتها، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام ابن الجزري( ) رحمه الله عن هذا الموضع: ((واختلفوا في (فتبينوا) الموضعين هنا وفي الحجرات فقرأ حمزة والكسائي وخلف في الثلاثة (فتثبتوا) من التثبت، وقرأ الباقون في الثلاثة من التبين )). انتهى.
فكلتا القراءتين متواترتان في المواضع الثلاثة.. فليست إحداهما أصلاً والأخرى بدلت منها كما توهمه غولدزيهر( ).
ومما يتعلق بوضع الحركات على الحروف يعبر غولد زيهر عن ما يشتبه به من وضع الحركات على الحروف وما ينشأ عنه من تغييرات أبعد مدى من حيث المعنى، ويستشهد عليه بالقراءات المتواترة وبغيرها كالآية 8 من سورة الحجر، والأخيرة من سورة الرعد، وغيرهما فيقول( ):
(( آية 8 من سورة الحجر: ﮋﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮊ [الحجر: ٨] فتبعاً لاختلاف القراء في قراءة اللفظ الدال على نزول الملائكة هل هو نُنَزّل، أو: تَنْزلُ، أو...(كل هذه القراءات ممثلة في الأقاليم المختلفة)، تفيد المعنى كل كلمة بما يناسبها: نحن ننْزل الملائكة، أو الملائكة تنْزل، بيد أن هذا الاختلاف في الحركات قد يدعو إلى تغييرات أبعد مدى من حيث المعنى))( ).
ثم يستشهد على توهمه هذا بالقراءة الشاذة للآية الأخيرة من سورة الرعد.
ومن هذا الباب أيضاً يقدم غولد زيهر صورة من اختلاف الحركات مما يترتب عليه صور من الاختلاف الفقهي وهي الآية 6 من سورة المائدة ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﮊ [المائدة: ٦]، وهي آية الوضوء في لفظ (وأرجلكم) باعتباره معطوفاً على ما قبله، وهو إما المأمور بغسله، أو بمسحه. والقراءتان بالفتح وبالكسر متواترتان( ).
يقول الشيخ عبد الفتاح القاضي( ) عن استشهاد غولد زيهر بموضع سورة الحجر بعد أن ذكر قراءاتها المتواترة الثلاث:
((وأما القراءتان الأخريان اللتان ذكرهما غولد زيهر فليستا من القراءات المتواترة، ولا الصحيحة، ولا من القراءات الشاذة ولا يعرف أن أحداً قرأ بإحدى هاتين القراءتين، فهما من صنعه واختراعه.. وهذا من الأدلة الصادقة والبراهين القوية على أن إهمال الشكل والحركات في المصحف لا دخل له في القراءات مطلقاً اتفاقاً أو اختلافاً، فمرجع القراءات إنما هو الأثر والنقل، لا الكتابة والرسم)).
3- الطعن في الركن الثالث
وأما الركن الثالث من أركان القراءات القرآنية وهو موافقة اللغة العربية، ولو بوجه ما، فضرورته بدهية، لأن القرآن بلسان عربي مبين، فلا تخرج إحدى قراءاته عن وجه ما من وجوه كلام العرب السائغة في لغتهم، والشائعة على ألسنتهم، وهي كلها تدور بين الفصيح والأفصح، إما مجمعاً عليه أو مختلفاً فيه، لقول ابن الجزري( ) – رحمه الله: ((وقولنا في الضابط: ولو بوجه، نريد به وجهاً من وجوه النحو سواء كان أفصح أم فصيحاً، مجمعاً عليه أم مختلفاً فيه، اختلافاً لا يضر مثله، إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاه الأئمة بالإسناد الصحيح)).
واشتراط الضابط اللغوي هذا يتفق ولسان الوحي الإلهي أولاً، ثم التلقي به، ومن ثم التعليم والنشر به في إطاره الواسع الذي يضم أول ما يضم الرسول صلى الله عليه وسلم – أفصح العرب – وصحابته رضي الله عنهم، ومعظمهم من العرب الخلص، فالتزام السلامة اللغوية، أمر أولي لديهم، ((ولم يكن ذلك المقياس موضع نقاش بين المتقدمين من أصحاب رسول الله، ومن التابعين))( ).
ومع تعدد وجوه اللغة العربية بتعدد القبائل الكبرى، واتساع ديارها، فإنها تنضبط وفق أصولها وقواعدها المستنبطة من كلام العرب الفصيح، المجموع – شفاهة أو كتابة مما يحتج به – في دواوينهم.
وإن أول ما يتأيد به الوجه اللغوي هو ورود لفظ الوحي موافقاً له، ومنه القراءات القرآنية، فقد وردت كلها موافقة لقواعد اللغة العربية من وجه أو وجوه ما، فالقرآن الكريم هو السند الأقوى للغة. يقول د. عبد الله بن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي( ): ((فالذي يوجد في القرآن من الأساليب حاكم على اللغة، ومع التتبع التام لا توجد مسألة واحدة في كتاب الله تعالى إلا ولها وجه في اللغة العربية فصيح مستفيض)).
وبهذا التوافق القائم بين القرآن الكريم بقراءاته القرآنية ولغته العربية تسقط الأوهام الاستشراقية، التي تصورت في القراءات عامة، والشاذة خاصة، تُكَأة لمطاعنها، فتجاهلت علاقة اللغة بالقرآن، ومنـزلة كل منهما من الدين، فهذا غولد زيهر( ) يغمز المطالبة بوجوب مطابقة القراءات لقواعد اللغة العربية، ثم يقول: ((فقد كانت توجد دائماً رؤوس مستقلة التفكير، لا تعد الظواهر غير المستقيمة في نص القرآن مظاهر تقديس لا تمس، وإن غض النظر عنها قراء ثقات، معترف بهم، أو تسامحوا فيها)). ثم يتهم القرآن الكريم وجهود العلماء حوله بقوله( ): ((وكان بغيضاً إلى علماء الدين ذلك التدخل الذي تبعثه الخلافات المدرسية من قبل علماء العربية على وجه الخصوص، على الرغم من أنهم عادة كانوا يبذلون جهوداً كبيرة في تسوية مشاكل القرآن اللغوية.. نعم في أزمنة أقدم من ذلك حصل الاعتراف أيضاً بقراءات اقتضتها ضرورة المطابقة بين قواعد النحو الدقيقة، وبين صيغ لفظية، وتراكيب جملية تخالفها، من ذلك مثلاً ما جاء في الآية 9 من سورة الحجرات: ﮋ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮊ حيث يعود الضمير جمع المذكر (اقتتلوا) على مثنى المؤنث (طائفتان).. وفي أزمنة متأخرة عن ذلك اشتد النكير على استعمال التصحيح النحوي)).
وفي هذا المطعن اللغوي يسوق غولد زيهر شاهداً عليه من الآية 9 من سورة الحجرات ليقرر أنها تخالف (قواعد النحو الدقيقة) لأن ضمير جمع المذكر في (اقتتلوا) عاد على مثنى المؤنث في (طائفتان) فلابد من أن تصحح هذه المخالفة – في نظره – باختراع قراءة ما مطابقة للقواعد النحوية، وقد بين الشيخ عبد الفتاح القاضي( ) -رحمه الله – وغيره- ما يجهله غولد زيهر والمستشرقون من قواعد اللغة العربية، وعلاقتها بالقرآن، فقد جرت الآية الكريمة على أفصح الأساليب، وأبلغ التراكيب، ذلك أن (طائفتان) مثنى طائفة، وبدهي أن الطائفة تجمع أفراداً كثيرين، فحينئذ يكون (طائفتان) في معنى القوم والناس، فأتى بواو الجمع في (اقتتلوا) باعتبار معنى (طائفتان).. ثم قد راعى اللفظ أيضاً في قوله تعالى (فأصلحوا بينهما).. فأنت ترى أن الآية الكريمة قد أوفت على الغاية في روعة الأسلوب ورصانة التركيب، وجلال المعنى، وسمو المغزى.
وأما عن علاقة قواعد اللغة العربية بالقرآن الكريم ((فالكلام العربي وفي مقدمته القرآن والسنة مصدر هذه القواعد، منه نشأت، وعنه أخذت، فهو الأصل وهي الفرع، ولا يعترض بالفرع على الأصل))( ).
وهذه العلاقة الأصلية معلومة لغولد زيهر، فهو قد نقل عن علماء المسلمين أن العربية تصحح بالقراءة، لا القراءة بالعربية ((فالقرآن يقدم المقياس المصحح للاستعمال العربي الصحيح، لا العكس))( ) ا. ﻫ. أقول: وإذا كان الأمر كذلك، فأين هي مشاكل القرآن اللغوية؟، وكيف، ومن أين تأتي تلك التي يختلقها المستشرقون طعناً على نصه الكريم ووحي الله فيه؟!.
وبنظرة راصدة في واقع القراءات القرآنية، على ألسنة التالين بها إلى كيفيات أداء الكلمات والحروف القرآنية المتنوعة، تتوارد الوجوه المتعددة متفقة تماماً مع اللغة العربية، حتى في استعمالاتنا المعاصرة الأخرى، مما يقطع بانعدام المشاكل اللغوية المزعومة، إلى يومنا هذا، فضلاً عن التيسير والسعة، كما أراد الله سبحانه بكلامه المعصوم.
ومن جهة أخرى يتهم غولد زيهر المسلمين جميعاً وفي مقدمتهم صدور الصحابة وكتاب المصحف بالغفلة والسكوت على الخطأ بقوله( ): ((إن النص المتلقى بالقبول يعتمد على إهمال الناسخ.. وفي المواضع التي تبدو فيها مفارقات نحوية يجب النظر إليها على أنه خطأ كتابي وقع فيه ناسخ غير يقظ. وفي وقت متأخر فقط اجتهد الذكاء وحدة الذهن في قواعد العربية لتسويغ صحة المواضع المشار إليها من جهة العربية.. أما المدرسة القديمة فلم تحاول ذلك بل آثرت أن تبقي نص الوحي على ما يعتوره من مآخذ،.. وحصل العمل بنفس هذه الوجهة من النظر في مشكلات نحوية أخرى)) كما يراها غولد زيهر ويعد منها موضعين – من القراءات المتواترة( ) – خطأ لغوياً يرجع إلى السهو والغفلة، سكتت عنهما المدرسة القديمة، معتمداً على روايات باطلة مردودة بما أجمع( ) عليه المسلمون في خط المصحف وقراءاته المتواترة، وموافقتها للغة العربية من حيث يجهل – أو يعرف ويتعمد – غولد زيهر ومعه المستشرقون.
وكثيراً ما يتجلى خضوع المستشرقين في دراساتهم الإسلامية بعامة لأغراضهم في خطتهم الطاعنة على الإسلام، وعلى كتابه القرآن الكريم بخاصة، فأكثر ما تبرز مظاهر خروجهم عن الأصول العلمية، والأخلاقية أيضاً، في ميدان القراءات القرآنية بخاصة، بداية بإنكار الأصل الإلهي لها في الأحرف السبعة، وإلى الاستشهاد على مطاعنهم بالقراءات الشاذة –والمتواترة عمداً– على غير منهج ثابت أو محايد، تقتضيه دراسة موضوعها، وارتباطه بعقيدة المسلمين وحياتهم كلها، ومن ثم التزامهم منهج الحق فيه.
المراجــع
- القرآن الكريم.
- كتب السنة النبوية.
1- الإبانة عن معاني القراءات، لمكي بن أبي طالب حموش القيسي، تحقيق د. عبد الفتاح إسماعيل شلبي، دار نهضة مصر للطبع والنشر.
2- الأحرف السبعة للقرآن (وهو قطعة من كتابه ((جامع البيان)))، أبو عمرو الداني، تحقيق د. عبد المهيمن طحان، مكة المكرمة، مكتبة المنارة، ط 1، 1408ﻫ.
3- الأحرف السبعة ومنْزلة القراءات منها، د. حسن ضياء الدين عتر، بيروت، دار البشائر الإسلامية، ط1، 1409ﻫ.
4- الاختلاف بين القراءات، أحمد البيلي، بيروت، دار الجيل، الخرطوم، الدار السودانية، ط1، 1408ﻫ.
5- أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر، أ. د. محمد خليفة حسن، الرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1421ﻫ.
6- ألف باء، الشيخ محمد بن يوسف المالكي الأندلسي، مصر، المطبعة الوهبية، 1287ﻫ- وصورة مصورة عنها نشرتها بيروت، عالم الكتب، 1405ﻫ.
7- تاريخ القرآن، د. عبد الصبور شاهين، دار القلم، 1966م.
8- تأويل مشكل القرآن، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، تحقيق: السيد أحمد صقر، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.
9- تفسير الطبري، بتحقيق محمود شاكر، دار المعارف، مصر.
10- جواهر العرفان في الدعوة وعلوم القرآن، د. رؤوف شلبي، القاهرة، دار عالم الفكر، ط2، 1409ﻫ.
11- رسم المصحف العثماني، وأوهام المستشرقين في قراءات القرآن الكريم دوافعها ودفعها، د. عبد الفتاح إسماعيل شلبي، جدة، دار الشروق، ط2، 1403ﻫ.
12- الفتح الرباني في علاقة القراءات بالرسم العثماني، د. محمد محمد سالم محيسن، الرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1415ﻫ.
13- القراءات القرآنية، د. عبد الرحمن بن إبراهيم المطرودي، مركز البحوث التربوية – كلية التربية – جامعة الملك سعود، مطابع التقنية، الرياض.
14- القراءات المتواترة، وأثرها في الرسم القرآني والأحكام الشرعية، د. محمد الحبش، دمشق، دار الفكر، ط1، 1419ﻫ.
15- القراءات في نظر المستشرقين والملحدين، الشيخ عبد الفتاح عبد الغني القاضي، المدينة المنورة، مكتبة الدار، مطبعة دار مصر للطباعة.
16- القراءات واللهجات، عبد الوهاب حمودة، ط1، مصر، مكتبة النهضة المصرية، ط1، 1386ﻫ.
17- القرآن والمستشرقون، د. التهامي نقرة، ضمن بحوث مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية الجزء الأول، نشر مطبعة مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1405ﻫ.
18- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم النجدي، وابنه محمد، مطابع الرياض، ط أولى، 1381ﻫ.
19- مدخل إلى القرآن الكريم، عرض تاريخي وتحليل مقارن، د. محمد عبد الله دراز، ترجمة محمد عبد العظيم علي، مراجعة د. السيد محمد بدوي، الكويت، دار القلم، 1406ﻫ.
20- مذاهب التفسير الإسلامي، للمستشرق إجنتس غولد زيهر، ترجمة د. عبد الحليم النجار، مصر، مكتبة الخانجي، مطبعة السنة المحمدية، 1374ﻫ.
21- المستشرقون والقرآن الكريم، د. محمد أمين حسن بني عامر، – إربد – الأردن، دار الأمل، ط 1، 2004م.
22- المفردات في غريب القرآن، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، القاهرة، مكتبة مصطفى الحلبي، 1381ﻫ.
23- المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار، أبو عمرو الداني، دمشق، دار الفكر، 1403ﻫ.
24- مناهل العرفان في علوم القرآن، الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، القاهرة، دار الحديث، 1422ﻫ.
25- منجد المقرئين ومرشد الطالبين، شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد بن الجزري، بيروت، دار الكتب العلمية، 1400ﻫ.
26- النشر في القراءات العشر، الحافظ أبو الخير محمد بن محمد بن الجزري، تصحيح الشيخ علي محمد الضباع، مصر، مطبعة مصطفى محمد، المكتبة التجارية الكبرى.
27- نقد الخطاب الاستشراقي، الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية، الجزء الأول، د. ساسي سالم الحاج، بيروت، دار المدار الإسلامي، ط1، 2002م.
28- النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير الجزري، تحقيق: طاهر الزاوي، محمود الطناحي، المكتبة الإسلامية.