حول فكرة الإصلاح الإسلامي

العقيدة السليمة خير مركب لعناصر الحضارة في النفوس وأقدر على خلق أمة والصعود بها في مدارج الرقي والكمال، وبما أن الحضارة ليست سلعة تباع في الأسواق ولا حبوبا تستنبت من الأرض ولا مركبا كيماويا يصنع في المعامل وإنما هي إشعاع روحي ينبثق من أعماق الإنسان في صورة مركب من عناصر الحياة:عناصر الحضارة الأساسية التي أشرنا إليها في مقالاتنا عن أستاذنا مالك بن نبي –بأن الدين كان وما يزال- هو الشرارة التي تعتمد عليها الحضارة في بناء كيانها وهو الأساس الذي تبنى عليه المدنيات، وسرعان ما يتزلزل البنيان إذا ما ضعف الأساس.
ولاستمرار الحضارة في حالة سليمة وصحيحة لابد من وجود وعي صحيح وحذر دقيق، إذ قد يتسرب إلى النفس التي انبثق منها ذلك الشعاع جراثم فتاكة وأفكار خاطئة، وضالة، فتشوه الفكرة وتسلبها سر فعاليتها، فتقتل روحها، وتتركها جثة هامدة، تعبر عن الشكل دون الجوهر، وقد تبقى محتفظة بدماء، تعطي بعض الأمل في الاستعداد لعوامل الحياة والتجدد إذا وجد من ينفخ في أرجاء تلك الجثة نفخة البعث والإحياء، وهذه قصة الدول والأمم : منها ما يفنى إلى الأبد، ومنها ما يقاومه الفناء ببعض ما يحتفظ به من حصانة روحية، ولذلك فإنها تتجدد في فترات مختلفة، وقد تدخل في مركبات أممية جديدة نتيجة ظهور عقائد أو أفكار جديدة.
والمسلمون كانوا خير أمة أخرجت للناس، يوم كان للعقيدة الصحيحة دورها الفعال في النفوس تدفعهم إلى البناء والتشييد وتقودهم من نصر إلى نصر، وتضع في يدهم الوسائل المختلفة لاستكمال كيانهم وسد حاجاتهم بما يتفق والغاية التي يرمون إليها وتبعثهم على الابتكار والتجديد، والتوسع في ميدان العلم والفن، وتبعدهم عن مواطن الزلل وورطات الغرور والخيلاء، بما رسمت لهم من معالم واضحة وأخلاق صالحة وسبل هادية، وبما أمدتهم به من علاقات اجتماعية بناءة.
ولما بدأت عناصر العقيدة تتحلل في أرواحهم، ويضعف أثرها الفعال في نفوسهم، بما خالطها من شوائب معوقة للنمو الروحي والفكري، وملوثة صفاء العقيدة الأولى، وملونة سلوك المسلمين بلون هو أقرب إلى الجاهلية منه للإسلام –حينئذ تمكن الضعف منهم وبث في أعصابهم الارتخاء وفي عقولهم الجمود وفي نفوسهم الوهن، فقعد بهم عن سيرهم الحضاري الرائع بل عجزوا عن الاحتفاظ بحضارتهم وفتوحاتهم ففقدوا الأخلاق والأرض، وشاع نوع من الأنظمة السياسية بعيدة عن أن تحقق أهداف الإسلام، واستولى العبيد والمغرورون على مقاليد الأمة الإسلامية، وأصبحت أهدافهم ومثلهم تنبثق من بطونهم وفروجهم، وخضع الكل لتحقيق تلك الأهداف، كما شاعت في المجتمع الإسلامي عقائد تضلهم عن طريقهم وتسلك بهم في مهاوي الانحطاط ومزالق الفناء، إذ كانت تصادم معاني التوحيد الصافية وغيرها من العقائد التي كانت تشكل منابع السعادة للمجتمع الإسلامي.
ومن الطبيعي أن يكون لعوامل الهدم زمن طويل ليتاح لها القيام بدورها في تهديم ذلك الصرح العظيم، الذي بني على أسس قوية، وقيم خالدة، ومنذ الفتنة الكبرى وتلك العوامل تتعاون ويتفاقم خط هجومها على المجتمع الإسلامي في العقائد والأفكار، وكانت نتيجة التفاعل بين العرب وغيرهم أن فقد المسلمون كثيرا من خصائصهم الفاضلة على مر الزمن، واستطاع الدخلاء والمتآمرون على الإسلام أن يؤثروا على المجتمع الإسلامي في حياته العامة والخاصة وكانت نتيجة ضعف الوعي العام وقلة الحذر مما يهدم الحضارة الإسلامية أن استسلم المسلمون إلى نوم عميق واتخذوا المؤخرة مستقرا لهم حيث لا ازعاج هناك، وجمدوا كذلك قرونا طوالا يتحكم في سلوكهم غرور أرعن: يحجب عن أعينهم حقائق الحياة وسنن التاريخ (وربما كان أشد البلاء الذي نزل بهم أنهم لم يفطنوا إلى تدهورهم(1) وأخطر من المشكلة الجهل بها وعدم تقدير خطورتها أو تشخيصها تشخيصا اعتباطيا أو مزيفا لأن ذلك ما هو إلى إعطاء الفرصة لها كي تتعقد ويتراكم عليها غيرها، حتى تحدث بعبئها الثقيل تصدعا في الصدح وتهيئه لأن يتناثر لأقل صدمة كما تناثر العالم الإسلامي عندما هاجمه الاستعمار الغربي.
ولكن هذا «العالم الإسلامي» على الرغم مما حل به من ويلات عبر التاريخ: من فتنة كبرى إلى انقسام داخلي إلى هجوم التتار والصليبيين إلى الاستعمار أخيرا ما يزال محتفظا ببقية من الحياة: بشيء ولو قليل من ذلك الإشعاع الرباني، بخميرة روحية، وهي ذلك الاستعداد الذي يتجاوب مع صيحة المصلحين الذين لم يخل منهم التاريخ الإسلامي إلى اليوم على الرغم مما يلاقونه من مقاومة جبارة من لدن أعداء الإسلام: «المواطنين» و «الأجانب».
وقد عرف العالم الإسلامي نوعين من القيادة أو من مريدي الإصلاح: نوعا مضللا عن سوء نية أو عن غفلة، ونوعا يعتمد على الأسس التي اعتمد عليها المسلمون أول الأمر في بناء شخصيتهم، وما جاءت دعوة إصلاحية حقة إلا صادفت مقاومة وحربا عوانا من مختلف الجهات، فعندما حاول المسلمون النهوض في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا للتخلص من أسباب الانحطاط ولإنقاذ البلاد الإسلامية مما يهددها من استعمار وجدوا أمامهم قوة خطيرة تحاربهم ليس في الميدان الحربي بل في الميدان الفكري: فكانت حركة الاستشراق إحدى جوانب تلك الحرب بما استعملته من وسائل التضليل وقلب الحقائق والدس والمكر، وقد وجد الاستعمار في «بعض» المسلمين من هم على استعداد لبيع ضمائرهم وتقديم خدمات جلى في الميدان الديني والعلمي لمصلحة الاستعمار وأهدافه.
فتأسست مذاهب وابتدعت أفكار وتكونت أحزاب و «مدارس» القصد منها مقاومة الإصلاح بوسائل التهريج على المسلمين، وفي ذلك يقول أستاذنا مالك في أنشودته الرمزية الرائعة: «ها هم ينصبون الآن على باب المدينة التي تستيقظ، السوق وملاهيه لكي يميلوا هؤلاء الذين جاءوا على أثرك ويلهوهم.
وها هم قد أقاموا المسارح والمنابر للمهرجين والبهلوانات لكي تغطي الضجة على نبرات صوتك.
وهاهم قد أشعلوا المصابيح الكاذبة لكي يحجبوا أضواء النهار...
وها هم قد جملوا الأصنام ليلحقوا الهوان بالفكرة(2) ».
ولهذا كان على الإصلاح أن يحارب في واجهتين، واجهة الاستعمار الصريح وواجهة الاستعمار الخفي الذي يتقمص «شخصيات إسلامية» وأفكارا تجديدية صادرة عن المسلمين ويكمن خلف مؤسسات ومنظمات وكتب ونشرات يوجهها حيث يريد، ولكي يتقن المؤامرة يلبس بعلها أثوابا علمية-وما العلم حينئذ إلا عنوانا كاذبا لا يدل على معناه المقدس – وهذه الواجهة أخطر على المسلمين من الواجهة الأولى بما لديها من فعالية مضللة وخداعة، وبما تتوفر عليه من قوة النفوذ إلى نفوس البسطاء والمغرورين والمرضى بحب الظهور عملا بقاعدة «خالف تعرف» وهذه الناحية من المؤامرة على الإسلام لا تزداد إلا حدة وتكاثرا مع الأيام، بما نشاهد من سريان أفكار غريبة عن الإسلام تتردد في أجواء تحتاج لمناقشة أو برهان(3). وإذا قمنا بمقارنة تاريخية تبين المؤامرة الحديثة والمؤامرات القديمة على الإسلام فسنجد تشابها كبيرا في الأهداف بل وفي كثير من الأساليب كتزييف نصوص دينية وتأويلها تأويلا فاسدا لمهاجمة القيم الإسلامية مهاجمة غير مباشرة حيث لم ينفع الهجوم المباشر، وكمحاولة للانتقاض من رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلب الحقائق وتجاهل الوقائع وما لديها من ارتباط، وبالانتقاض من أصحابه الأجلة توسلا للنيل منه، فهذا أحد زعماء القرامطة والباطنية يوصي أصحابه بقوله: لا تشتموا محمدا بل ابكوا عليا وتأسفوا عليه وادعوا أنه كان أحق بالخلافة من الشيخين واشموهما فإنكما ان شتمتموهما  شتمتم صاحبهما، وهذه خطة الاستعمار اليوم في محاربة الإسلام حيث عجز عن تحطيمه مباشرة، فالاستعمار لا يقول لشباب المسلمين لا تصلوا ولكن يبتدع أفكارا ومفاهيم خاصة تتعاون لتضعف الإيمان بالصلاة، فيترك الشاب المسلم الصلاة اعتمادا على أفكار اعتنقها وآمن بها وتوهم أنها من وعيه وابتكاره فالفكرة المتداولة «بأن الصلاة رياضة أبدان» لا يراد منها تبرير الصلاة علميا والرفع من شأنها وإنما يراد تعليلها تعليلا عاديا وسخيفا، حتى إذا ما استقر هذا التعليل في النفوس، تلاشى عنها المعنى الديني المراد، وكان من الهين أن يستغني الإنسان عن هذه الرياضة ما دام يتابع رياضة بدنية منظمة. ولا عجب أن تكون هذه الفكرة وأمثالها قد ملأت العالم الإسلامي ولقنت حتى للأطفال الصغار، ومن تلك الأفكار«الدين لله والوطن للجميع» ابتكرها الاستعمار في الشرق لحمل المسلمين على التخلي عن دينهم من أجل التآخي في القومية في حين يظل المسيحيون على عقائدهم دون تغيير، فالقومية(4) إذن فوق الأديان، فهي التي تحدد لنا شروط الأخوة دون الدين.
فالفكرة إذن موجهة ضد الإسلام: لقطع العلاقة بين العرب وبين فكرة الخلافة وبينهم وبين الشعوب الإسلامية من جهة أخرى حتى أننا سمعنا مرارا وتكرارا أنه لا معنى للتآخي مع الأندونيسي البعيد، وإهمال الأخ العربي المسيحي المواطن، فالأخوة يجب أن تكون في دائرة القومية لا في دائرة الدين، وهكذا أصبحت كتلة من الشبان لا يؤمنون بأخوتنا نحن العرب مع إخواننا المسلمين غير العرب، ويلاحظ على هذه الفكرة التي صنعها الاستعمار وطبخها وجهزها وقدمها سما زعافا لبعض السذج –يلاحظ عليها كثير من السذاجة والغفلة وضعف التفكير لأنها تجعل أخوتنا للمسلمين غير العرب شرطا لعداوتنا لأخواننا المسيحيين العرب، والعكس بالعكس، مع أن تعاليم الإسلام ترفع هذا التناقض، فالأخوة الإسلامية لا تعني عداوة أحد، أما موقف الإسلام من المواطنين غير العرب فيتسم بالعدالة والرحمة والعطف مما لا يوجد لدى الأمم الأخرى والتاريخ شاهد ما نقول، والغربيون أنفسهم يعترفون بذلك.
فهذه الأفكار وأمثالها كثيرة تسربت إلى فكر المسلمين وعاداتهم وأخلاقهم وكما توجد بعض السموم التي بثها أعداء الإسلام وبعض المخطئين من ذوي النيات الحسنة في ثقافتنا الإسلامية القديمة فكذلك توجد في ثقافتنا الحديثة من تلك السموم التي يراد بها عرقلة نهضتنا وتضليل خطواتها، ولها دور كبير في انحرافنا عن الجادة الإسلامية وما زالت تلك المفاهيم الخبيثة تتوارد على العالم الإسلامي في أثواب علمية وعادات مدنية الأمر الذي يشوه العقيدة الإسلامية ويشل فاعليتها في النفوس(5)، ولم تذهب مؤامرة الاستعمار الثقافية سدى بل استطاعت أن توجد في البلاد الإسلامية عصابات تشهر السلاح على الإسلام وتهاجمه في كل مناسبة وتعمل على إقصائه واستئصاله من الحياة الإسلامية الحديثة عن طريق استبدال الشريعة الإسلامية بقوانين الكفار وتحطيم الثقافة الإسلامية وإهالة تراب النسيان على تراثنا الثقافي وأحلال الثقافات الأجنبية محله، غير أن الميدان لم يبق فارغا لهؤلاء طيلة التاريخ الإسلامي بل هناك رجال مؤمنون حاولوا إنقاذ العالم الإسلامي مما يتخبط فيه ومقاومة الدجالين والمهرجين والإمام الشيخ محمد عبده أحد أعلام أولئك الأبطال في عصرنا الحديث الذين أثروا في فكرة الإصلاح بل تزعموا تلك الفكرة، موعدنا العدد المقبل بحول الله لنعيش لحظات مع الفكرة الإصلاحية عند محمد عبده رحمه الله.
 

(1)الإسلام بين أمسه وغده – للدكتور محمود قاسم
(2) شروط النهضة ومشكلات الحضارة ص16 للأستاذ مالك بن نبي
(3)ان المراكز الثقافية الأجنبية في البلاد الإسلامية أخطر علينا من المراكزالعسكرية 
(4)أن القومية من الناحية السياسية الزمنية نحبذها ونظائرها ونعمل من أجلها أما أن تكون هي الأساس في نهضتنا فإني على يقين من أنه لا ينهض بهذه الأمة إلا العقيدة الإسلامي
(5)أن تصفية التراث الإسلامي من الدخيل والسموم المبثوثة فيه لهو أجل عمل يجب أن يقوم به علماؤنا كما فعل أسلافهم الكرام.

المصدر: http://www.habous.net/daouat-alhaq/item/838

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك