جدالات الوحدة والتعدّد في الفكر الأصوليّ المعاصر
بل إنّ العقيدة الإسلامية، بزعمهم، ترفض أيضاً وحدة المصالح الاقتصادية استناداً لقوله تعالى: «قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ»؛ الأمر الذي ينفي شرعية كلّ أنماط الاجتماع في الجاهليّة القديمة والمعاصرة، بما فيها شرعيّة النظام الدوليّ المعاصر! ليس غريباً إذن، والحال هذه، أن يذهب محمد عمارة مثلاً إلى القول: إنَّ التعددية السياسية تعني في الرؤية الإسلاميّة التنوع والتمايز والاختلاف في إطار الوحدة، إذن هناك مساحات للتعدّد والاختلاف، التعددية ليست مطلقة دون حدود، وإنّما هي تنوّع وتمايز واختلاف في إطار الوحدة.
وفي دراسته «الإسلام السياسي والتعددية السياسية من منظور إسلامي» يؤكد أن الإسلام منذ تحول إلى حضارةٍ وأمةٍ وتاريخٍ جمع الأمّة على خمسة جوامع: وحدة العقيدة، وهذه لا تعدّدية فيها، ووحدة الشريعة ولا تعددية فيها أيضاً، ووحدة الأمة، ووحدة الحضارة، ووحدة دار الإسلام، وفي إطارها تكون هناك تعدّدية ويكون هناك تنوع واختلاف. مثلما ينصّ على أنَّ الشريعة لا تتغيّر ولا تتعدّد بتغيّر الزمان والمكان، لكن الفقه هو الذي يتجدّد ويتطوّر ويتعدّد بتعدّد الاجتهادات الفقهية.
وتبعاً لنفي التعددية يتأتى رفض الأصولية الإسلامية مبدأ الحق في تشكيل «الأحزاب السياسية» بل إننا نقرأ تحت مادة «الأحزاب» في موسوعة جماعة الإخوان المسلمين بمصر ما يلي: «إنَّ الأحزاب تقوم بتفريق الأمَّة كما قال الشيخ البنا وكان من رأينا - ولا يزال - أنَّه لا يحقّ اليوم لدولة إسلامية أن تسمح بتعدُّد الأحزاب فيها. بل إنَّ من رأينا أنَّ وجود الأحزاب السياسيّة في الظروف الحالية للمجتمعات الإسلامية ليس ضرورة لتقدّمها، ولا يعدّ ضماناً لعدم استبداد الحاكمين بالمحكومين، وفقه القواعد الأصوليّة الإسلاميّة يقوم، بين ما يقوم عليه، على قاعدة عظيمة مفادها أنَّ: (ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب) ومن ثم؛ يكون تكوّن القواعد الفقهية، والقراءة الصحيحة للنصوص وللتاريخ، يكون ذلك كله شاهدا لعدم ضرورة التعددية السياسية من المنظور الإسلامي. وهذا الرأي الذي قررناه يجب أن يكون موضع عناية خاصة من مفكري الحركة الإسلامية المعاصرة، والمشتغلين منهم بالعمل السياسي خاصة».
وفي المحصلة يمكن القول: إن موقف الأصولية الإسلامية من التعددية مناقض تماماً لموقف الإسلام من التنوع والتعدد. فمن جهة، ليست التعددية ترفاً وإنما ضرورة وهي في الإسلام أصل، ليس في السياسة وحدها وإنّما في جميع مجالات الحياة. بمعنى أنّه ليس هنالك واحدية في الإسلام، كما يزعم الأصوليون، إلا لله تبارك وتعالى القائل في كتابه الكريم: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»، أي خلقهم للاختلاف.
ولعلّ ذلك هو ما دفع يوسف القرضاوي لأن يقول: «إنَّ المذاهب أحزاب في الفقه، والأحزاب مذاهب في السياسة». وآية ذلك أنَّ الإمام الشافعي عندما جاء إلى مصر كان بها أكثر من عشرين مذهباً قبل أن ينتهي الأمر إلى المذاهب الأربعة المعروفة عند أهل السنة، وإلى مذهبين فقط عند الشيعة هما الإماميّة والزيديّة إلى جانب مذهب الإباضيّة. وإذا كان الإسلام قد اتّسع لكلّ هذه المذاهب في دين الله الذي يتعبّد الناس به لربّهم، فكيف لا يتّسع في اختلاف الرأي السياسيّ والتجمّع حول الآراء المختلفة؟!».
ومن جهة أخرى، وفي ظلّ بنى التسلّط السياسيّ التي تسود عالمنا العربي، فإنّه ليست هناك وسيلة لتداول السلطة أكثر نفعاً وجدوى وعملية من وجود الأحزاب وتنافسها؛ الأمر الذي يؤكّد أنّ منع التعددية السياسية والحيلولة بين الناس وبينها جريمة في حق الإسلام والمجتمعات الإسلامية معاً.
ومع ذلك، فإنَّ التعدّدية السياسيّة ليست منفصلة بحال من الأحوال عن السياق العام لمكوّنات مفهوم التعدّدية في شموله؛ فهناك تعددية ثقافيّة وتعدديّة اقتصاديّة وتعدديّة اجتماعيّة.. إلخ. وبعض هذه التعدّديات أمر فطريّ، مثل التعدّدية اللغويّة والتعدديّة الإثنية، وبعضها مكتسب كالتعدديّة المذهبيّة أو الطائفيّة، وهو ما تعجز الأصولية بحكم طبيعتها عن قبوله أو حتّى تفهمه! ختاماً، ربما اتّضح لنا من خلال تحليلنا لموقف الأصولية من التعددية مجموعة من الأمور التي يمكن إيجازها على النحو التالي: أنّ كلا المفهومين (الأصوليّة والتعدديّة) بحاجة إلى مزيد من الإيضاح وفضّ الغموض والالتباسات المتعلقة بهما، وكذلك بحثهما ضمن سياقات أكثر رحابة بدلاً من الاقتصار على الجانب «السياسيّ» وتجاهل الجوانب الفكرية والروحية الأخرى.
وأنّ هناك حضوراً طاغياً للآخر في الثقافة الأصوليّة؛ ولكن حضوره هذا من قبيل نفيه ووجوب مواجهته ومعاداته والعمل على إلغائه وإقصائه، ليس فقط من المعادلة السياسية برمتها وإنّما أيضاً من الوجود، وذلك مرتبط بـ، ومترتب على، صورة هذا «الآخر» لدى الأصولية من حيث إنّه لا ينفكّ عن تخريب معتقداتها وثوابتها والمؤامرة عليها.
وللأسف الشديد؛ لم يتّجه الفكر الأصوليّ، ولو لمرّة واحدة، لنقد ذاته وترميم آلياته والانشغال على تصحيح مداراته الثقافيّة ومواكبة متطلبات العصر، وإنّما على العكس من ذلك تماماً اتجه هذا التيار بالكامل نحو تعزيز أدبياته الماضوية ونصوصه التراثية لمواجهة ما يعتقد أن «الآخر» قد أتى للإتيان عليه وإقصائه ونسف وجوده. ولعل ذلك هو ما دفع محمد أركون لأن يعنون أحد كتبه بـ«الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي».
فبفضل هذه المعتقدات الفكرية المناهضة لـ«الآخر»، فكراً ووجوداً، النافية للتعدديّة بكافة تجليّاتها السياسيّة والدينيّة لم تستطع تيّارات الأصوليّة الإسلاميّة استثمار التعدديّة الثقافيّة المعاصرة في بناء منظومة من التجاذبات الفكريّة التي تؤمن لها التواصل المثمر مع «الآخر» دينياً وسياسياً ومذهبياً.. إلخ.
ولذلك فإننا نعتقد أنّ جوهر المشكلة الكبرى في واقعنا المعاصر إنّما يتعدّى تحويل السياسة إلى دين، كما هو الحال لدى الحركات الأصولية التي لا تكفّ عن إعادة تفسير الدين وتقديم قراءات للواقع من خلال هذا التفسير، إلى ما هو أكبر من ذلك أي «تسيّس الدين». بمعنى أن هاتين العمليتين تتمان جنبا إلى جنب. فمن ناحية، تحول الأصولية السياسة في بنيتها إلى ممارسة دينية، ونتيجة لذلك تغدو ممارسة السياسة فرضا على كل مؤمن يبحث عن خلاصه الذاتي! ومن ناحية أخرى، تسعى الحركات الأصولية إلى مأسسة التعاليم الدينية بحيث تبدو أكثر الأمور بعدا عن طبيعة السياسة واقعة في خضمها بفعل التوظيف الدائم للنصوص خارج سياقاتها التاريخية والمعرفية. أي أن الأصولية تمارس السياسة كدين والدين كسياسة منطلقة من قناعة تامة بأن استخدام السلطة السياسية في خدمة الفكرة الدينية واجب ديني وأن من يرفضها يدخل دائرة الكفر، ومنطلقة كذلك من وجوب «سيادة الإسلام» (بالمعنى السياسي) في كافة أديان وأصقاع العالم.
المصدر: الشرق الأوسط.