دور المرأة في تجديد رؤية الفكر الإسلامي لمسألة المرأة

زكي الميلاد
لعلّ أبرز حقيقة يمكن أن نقررها في مجال الحديث عن رؤية الفكر الإسلامي المعاصر لمسألة المرأة، هي أنّ هذه الرؤية لن تتغيّر أو تتجدّد بالصورة التي تقبل بها المرأة وتنسجم معها، ما لم تساهم المرأة نفسها في تغيير وتجديد هذه الرؤية على الصعيدين المعرفيّ والعمليّ.

والسؤال هل تستطيع المرأة أن تدفع وتسهم في تجديد رؤية الفكر الإسلامي تجاه المرأة؟

يفتح هذا السؤال النظر لمدى الإسهام الفكريّ والثقافيّ للمرأة في الميادين والمجالات المتّصلة بقضاياها وشؤونها، وفيما إذا كان هذا الإسهام يعدّ متقدّماً ويتحرّك بوتيرة متقدّمة؟ أو يعدّ متراجعاً ويتحرّك بوتيرة متراجعة؟ أو يعدّ متأرجحاً بين التقدّم والتراجع، فيتحرّك تارة بوتيرة متقدّمة، وتارة بوتيرة متراجعة؟

والذي يعنينا في هذا الشأن وبشكل أساسيّ هو رؤية المرأة، وتقييمها لهذا الإسهام الفكريّ والثقافيّ.

لا يراد من هذا الطرح بالتأكيد حصر اهتمامات المرأة بقضاياها وشؤونها، وكأنّها لا معرفة لها ولا خبرة إلا في هذه القضايا والشؤون، وهذا ما تنتقده المرأة وترفضه، وتعدّه انتقاصاً من حقها، وإنّما باعتبار أنّ المرأة هي الأقرب إلى هذه القضايا والشؤون، وكونها الأكثر دراية ومعرفة بها، وبوصف أنّ هذه القضايا والشؤون في إدراك المرأة قد تعرضت للتعسف وسوء الفهم، وظلّت تفسر بطريقة تفتقد لشروط العدالة والمساواة، وهي بحاجة إلى مراجعة وتصحيح، وذلك حين غابت أو غيبت المرأة عن النظر والإسهام في هذه القضايا والشؤون.

ويأتي الحديث عن هذا الموضوع، في وقت بدأت فيه المرأة تعلن عن تقدّمها في الميادين الفكريّة والثقافيّة، وأخذت ترفع من صوتها، وتطالب بالإصغاء والاستماع لها وهي تتحدّث بنفسها عن تلك القضايا والشؤون، وعياً وإدراكاً منها أنّها قد تأخّرت كثيراً بالإسهام الفكريّ والثقافيّ في هذا الشأن، وكيف أنّها أخطأت أو تضرّرت حين تركت للرجل يخوض في قضاياها وشؤونها، ويستحوذ عليها بخلاف رغبتها، الوضع الذي ضاقت منه ذرعاً، وكأنّها تريد أن تستعيد حقّها في الحديث عن نفسها، تأكيداً لوجودها وحضورها، ورفضاً للواقع الذي فرض عليها غيابها أو تغييبها.

ومنذ إعلان المرأة عن هذا الموقف الذي كشف عن وعي جديد بدأ يتشكّل عندها، وعن يقظة في مسلكياتها الفكريّة والثقافيّة، أخذت المرأة تلفت النّظر لطبيعة ما طرحته من أفكار وتصوّرات ووجهات نظر، أكدت على الحاجة إليها، وضرورة الانفتاح والتواصل معها، وبرهنت على قيمة ما يمكن أن تضيفه في هذا المجال، وبالشكل الذي يثري الفكر الإسلامي وتدفع به نحو نقاشات جادة، وتحرضه على استعادة الجدل حول تلك القضايا والشؤون بطريقة جديدة ومختلفة عن السابق.

ومن الممكن القول، إنّ الفكر الإسلامي قد تأثر ضعفاً في تكوين رؤيته عن المرأة، بسبب الضعف الذي كانت عليه المرأة في التعبير عن رؤيتها الفكرية والثقافية، وهذا ما ندركه حينما حاولت المرأة التغلب على ذلك الضعف، والاندفاع في التعبير عما تحمله من أفكار وتصورات، بحيث لم يعد بالامكان الحديث عن رؤية الفكر الإسلامي للمرأة بدون العودة إلى خطاب المرأة نفسها، وكيف تنظر هي إلى ذاتها، وإلى تلك القضايا والشؤون المتصلة بها.

ولعل في إدراك المرأة أن الوصول إلى مثل هذه القناعة، أو الاقتراب منها، والالتفات إليها، يمثل لها إنجازاً فكرياً وثقافياً، يفترض أن يتحول إلى مكسب أخلاقي واجتماعي، تستفيد منه في تدعيم مطالبتها بضمان حقوقها، وتحسين نوعية حياتها.

ولا شكّ أنّ الفكر الإسلامي قد تأخر كثيراً في الوصول إلى مثل هذه القناعة، التأخر الذي يعزى إلى عصور التراجع الطويلة التي مرت على الثقافة الإسلامية، كما يعزى كذلك إلى الضعف الذي أصاب المرأة، وأدى بها إلى العزلة والانكماش، وأفقدها الفاعلية، وأقعدها عن الكفاح في سبيل حقوقها وقضاياها، الكفاح الذي كان موجوداً لكنه كان مبتوراً ومتقطعاً زمناً وتاريخاً، ولم يكن متجدداً ومتراكماً على الصعيدين الفكري والاجتماعي.

مع ذلك يبقى أن التأخر في الوصول إلى هذه القناعة، أفضل من عدم الوصول إليها.

المرأة حين ترفع صوتها

في العقد الأخير من القرن العشرين، وتحديداً منذ النصف الثاني منه، أخذت المرأة تسجّل حضوراً متّصلاً ومتواتراً وبشكل يلفت الانتباه إلى أفكارها ومواقفها، الحضور الذي مثل حدثاً فكريّاً يمكن أن يؤرّخ له في تاريخ تطور علاقة الفكر الإسلاميّ بمسألة المرأة، فقد كشف عن منحى جديد في منهج النظر إلى حقوق وقضايا المرأة، واللافت في الأمر هذه المرة، أنّ المرأة هي التي دعمت هذا المنحى الجديد، ورسّخته بوصفه نهجاً في مسلكيّات الفكر الإسلاميّ المعاصر.

ويمكن الكشف عن هذا المنحى الجديد، في طريقة نظر الفكر الإسلاميّ لقضايا المرأة عن طريق مسلكين، مسلك يعبّر عنه مجموع المواقف والأفكار التي صدرت من المرأة ودافعت عنها منذ تلك الفترة، ومسلك يعبر عنه بعض الأعمال الفكرية الجادة والمتميزة التي أنجزتها مجموعات نسائية.

وبشأن المسلك الأول والذي يتّصل بالمواقف والأفكار، منها ما أكدت عليه الدكتورة منى يكن رئيسة جامعة الجنان اللبنانية، خلال مشاركتها بمؤتمر: (المساهمة الحضارية للمرأة) عقد بالكويت في أبريل 1998م، على ضرورة قيام حركة فقهية تجديدية فيما يتّصل بالرؤية للمرأة وخاصّة في مجال دورها السياسيّ.

ومن مصر دعت الدكتورة هبة رؤوف عزت إلى صياغة خطاب إسلامي جديد حول المرأة، وذلك في ورقة قدّمتها لندوة: (حقوق المرأة وواجباتها في الإسلام) عقدت في أكتوبر 1998 بالعاصمة المغربية الرباط.

ومن الكويت دعت الكاتبة كواكب عبد الرحمن الملحم إلى تأصيل رؤية إسلامية واضحة لقضايا المرأة المعاصرة، وترشيد الخطاب الإسلامي المعاصر وأدبياته الموجهة للمرأة، وتقديم النموذج الحضاري للمرأة المسلمة، وأشارت إلى هذه الدعوة في كتاب صدر عام 1998م بعنوان: (مسلمة على أعتاب القرن القادم).

ومن إيران دعت السيدة فائزة رفسنجاني إلى أن تحتلّ المرأة الإيرانية جميع المناصب الممكنة في الدولة، ومنها رئاسة الجمهورية، وبما لا يتعارض مع الشريعة، كما دعت إلى زيادة عدد النواب من النساء حتى يستطعن التعرّف بعمق على مشاكل المرأة في المجتمع، والمساهمة في وضع برامج وخطط لها. ومن قبلها طالبت شقيقتها الكبرى السيدة فاطمة رفسنجاني بأن يصبح نصف عدد نواب البرلمان الإيراني من النساء، وإجراء إصلاح إداري لتنفيذ القوانين المتعلقة بالمرأة في إيران بشكل عادل.

وفي انتخابات رئاسة الجمهورية الإيرانية سنة 1997م تقدّمت السيدة أعظم طالقاني بطلب الترشيح، وجادلت في الرأي الذي يمنع ارتقاء المرأة لهذا المنصب، الذي يوصف في الأدبيات الفقهيّة بالإمامة العظمى أو الولاية العامة، وفي الأدبيّات السياسيّة بالرئاسة العامة أو الرئاسة الأولى. وترى السيدة أعظم طالقاني أنّ الوقت قد حان لإلغاء بند يثير الجدل على حدّ وصفها في الدستور الإيرانيّ يفهم منه من دون تحديد قاطع أنّ منصب رئيس الدولة منصب للرجال فقط، واعتبرت أنّ الواجب الدينيّ والزمنيّ يلزمنا بإيضاح المادة 115 من الدستور، وإنّه لم يعد يراودها حسب قولها أدنى شكّ بعد قيامها بأبحاث دينية، حيث وجدت أنّ الإسلام لم يمنع المرأة أبداً من الاضطلاع بأعلى المستويات في الدولة.

وفي سبتمبر 1998م طالبت السيدة فاطمة رمضان زاده، نائبة في مجلس الشورى الإيراني آنذاك، بضرورة العمل لإعادة النظر في بعض القوانين التي تتعلق بشؤون المرأة بالاستناد إلى قدرة الفقه الإسلامي على تطوير القوانين الإسلامية، ووجدت أن هناك العديد من المواد القانونية المتعلقة بالزواج والطلاق ينبغي مراجعتها بجدية، واقترحت في هذا الشأن تشكيل فريق عمل من الحقوقيين وأصحاب الرأي في المجال القانوني والفقهي لمناقشة قوانين الإرث والدية والطلاق والزواج والحضانة، لتفادي التصورات الخاطئة حول تعارض القيم الإسلامية مع مبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية.

وفي سبتمبر 2000م طالبت النائبة آنذاك السيدة فاطمة حقيقة جو، الفقهاء المتنورين أن يحددوا الأحاديث الضعيفة ليبعدوها عن الواقع المعاش، ويثبتوا ماهية النظرة الإلهية للرجل والمرأة، ومن هذه الزاوية حسب نظرها يمكن إصلاح باقي القوانين العليا.

وفي عام 2001م صدرت الترجمة العربية لكتاب: (المرأة.. رؤية من وراء جدر) للدكتورة جميلة كديور، وهي نائبة سابقة عن التيار الإصلاحي في البرلمان الإيراني، وكان الدافع الأساسي لتأليف هذا الكتاب حسب قولها (هو الإحساس بالخطر الذي ينطوي عليه اتساع رقعة الفكر بطابعه السطحيّ الجامد، وهو يتجاهل جوهر الدين، وينشغل بالقشور، ويبدو في الظاهر داعماً للمرأة وحضورها في المجتمع، بينما يسعى عملياً إلى إقصائها وتهميشها).

وترى الدكتورة كديور أنّه إذا لوحظت قضية المرأة في ضوء الرؤية القرآنية، فإن كثيراً من التصورات الشائعة في مجتمعتنا سوف تصبح قيد التساؤل، وعندئذ ستتوفر الأرضية اللازمة لطرح بدائل جديدة، وسنشهد ظهور اتجاهات جديدة فيما يرتبط بالعديد من الموضوعات التي لا تزال تشكل حتى اليوم خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها، كمسائل الحكم والسياسة والقضاء، الأمر الذي يمكنه أن يمهد لتحولات مهمة في قضية المرأة.

وفي مارس 2000م صدرت توصيات مهمة في البيان الختامي للمؤتمر الدولي حول (المرأة المسلمة في العلوم) عقد بمدينة فاس المغربية، من هذه التوصيات: تشجيع المرأة لولوج المجالات العلمية وتطوير المؤسسات العلمية المتخصصة، وتمكينها من القيام برسالتها في تنمية المجتمع، وممارستها لدورها في المشاركة لصنع القرار، والعمل على تغيير النظم التربوية في التعليم الأساسي والثانوي من أجل تسهيل توجه المرأة للتخصصات العلمية في مرحلة التعليم العالي، وضرورة تشجيع مشاريع البحث الخاصة بالمرأة وتوفير المنح الدراسية لها، وإنشاء مجلس دولي للمسلمات العالمات، وتخصيص جائزة دولية سنوية تحمل اسم جائزة (فاطمة الفهرية) بانية جامعة القرويين بفاس في منتصف القرن الثالث الهجري، تقدمها الأكاديمية الملكية للجمعيات الدولية للعلوم (رايست)، التي يوجد مقرها في الولايات المتحدة الأمريكية، تعطى لأحسن بحث في العلوم، وقد منحت هذه الجائزة لسنة 2000م ولأول مرة للطبيبة المغربية الدكتورة أمينة براحو حماني رئيسة قسم العيون بمستشفى ابن سينا في الرباط.

وفي عام 2002م دعت الدكتورة المصرية أماني أبو الفضل فرج في كتابها: (ما لم يقله الفقيه)، إلى تخصيص باب عن المرأة في الفقه الإسلامي، واعتبرت أن اختصاص النساء بباب من أبواب الفقه ليس بدعاً من الاختصاص، بل فعله الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم، حين خص النساء بسورة كاملة تضم أحكامهن. وترى الدكتورة أماني أن من الأسباب التي تلح على وجود مثل هذا الباب اليوم، هو ما تحتله هذه القضية من مساحة في حيز الفكر العالمي، إلى جانب ما تتعرض له المجتمعات الإسلامية ـ حسب رأيهاـ من ضغوط لتغيير وضع النساء بطرق قد تشرد عن التصور الإسلامي أحياناً، بالإضافة إلى وجود النساء في هذه المجتمعات تحت أوضاع صنعتها أعراف وتقاليد، هي أيضاً في رأيها قد شردت عن التصور الإسلامي منذ عصور قديمة.

هذه عينة قليلة ومتفرقة من المواقف والأفكار، التي تكشف عن محاولة المرأة لدفع الفكر الإسلامي المعاصر لولوج منحى جديدا في النظر لحقوقها وقضاياها.

وأما بشان المسلك الثاني، والذي يعبر عن بعض الأعمال الفكرية التي حاولت المرأة من خلالها تأسيس منهجيات جديدة في النظر لقضايا المرأة المسلمة، فيمكن الحديث عن محاولتين جادتين ومتميزتين وهما:

أولاً: المحاولة الفكرية التي كشف عنها كتاب: (المرأة العربية والمجتمع في قرن) الصادر عام 2002م، والدعوة لتأسيس حقل خاص بدراسات المرأة من منظور اجتماعي حضاري إسلامي.

ثانياً: المحاولة الفكرية التي كشف عنها كتاب: (دعونا نتكلم) الصادر عام 1999م، وفي ترجمته العربية عام 2002م، والدعوة لبناء منهج للعمل الفكري الفعال في النظر لقضايا المرأة المسلمة.

المصدر: الثرى

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك