دعوة لقبول الاختلاف الشيعي

هاني فحص

 

يمنعني ديني والكتب ودواوين الشعر التي اقرأها والمقالات التي اكتبها والندوات التي احضرها او احاضر فيها، والحوار الذي اعيش فيه واحيا عليه، والتزامي الخيار الثقافي نهائيا، مع الاحتفاظ بحقي السياسي كمواطن يصرّ على المواطنية والبقاﺀ في صفوف المواطنين... ويمنعني حبي لأهلي، أي كل المواطنين والشيعة منهم وربما كانوا أولهم، ولكنهم متساوون معهم.. أن أنتهز الفرص في لحظات الارتباك في الأداء لتظهير عداوة غير موجودة أو شماتة لا يسوِّغها الاختلاف مع «حزب الله» وحركة «أمل».

ومع تفهميّ وعدم حماستي للنزوع المتزايد الى الاصطفاف في طائفتي وفي غيرها، محتفظا بمودتي للجميع ونقدي للجميع ولرهطي الشيعي اكثر من غيره، لاني تعرفت عن كثب الى المخاطر التي تحدق بالشيعة جراﺀ استشعارهم الزائد بضرورة وصواب استخدام القوة المتأتية من العدد والمال والسلاح والولاﺀ والوصف غير الواقعي التعبويّ للمخاطر المحدقة بالطائفة! والمقاومة والتحالفات القريبة والبعيدة... ما عبرت عنه اكثر مــن مــرة بالخوف على الشيعة من الشيعة اكثر من الخوف عليهم من غيرهم واكثر من الخوف منهم على غيرهم.

وكنت صريحا وواضحا عندما قلت وكتبت اكثر مــن مرة، مــا بين حرب تموز واتفاق الدوحة، بأني اعاند في ان اعارض السائد الشيعي ببديل شيعي، مستقل أو منشق او تابع... وان خياري هو البديل الوطني الجامع في مقابل هذا الاستشراﺀ لمرض الوعي الخطر بالهويات الفرعية، ما يهدد، لا الوحدة الوطنية فقط، بل ووحــدة كل طائفة بذاتــهــا، مــن حــيــث كــونها متحدا اجتماعيا قابلا للتطور من خلال سياق وطني حــضاري وقانوني وسياسي يوضع فيه الجميع، على اساس المحافظة على حيوية التعدد وضمانات الــوحدة.

وقلت وكتبت بأنه لا داعي ولا ضمانة في النجاح لاي تحرك نحو خيار شيعي مختلف مع السائد الشيعي او عنه، سواﺀ في اطار شيعي، او في اطار وطني، يظهر عليه ان باعثه الاساس هو معاداة ذلك السائد الشيعي فقط، من دون تردد في تظهير الاختلاف واستيعابه والإلحاح على نقده وضبطه ما دام موجوداً سواءً كان قوياً أو ضعيفاً، هادئاً أو مضطرباً ومتوتراً وحاملاً لاحتمالات الصراع العصبي.. لان سعيا كهذا سوف يستفز القوى الشيعية المسيطرة اصالة او تبعا، ليدخل الشيعة في فتنة لن يستفيد منها الآخرون من طائفيين ووطنيين، بل سوف تستغل العوامل المختلفة لإحداث فتن داخل الطوائف، كانت ولا تزال العلاقات التي تدل على امكان حصولها او افتعالها قائمة، وقد تؤدي الفتن المتنقلة في لحظة ما، الى عودة كل طائفة متناحرة داخليا الى وعي ذاتها والعودة الى وحدتها على اساس نقل الصراع الى سياقه مع الطوائف الاخرى.

ثم ان اي حراك، لا بد له من ناظم، وان لقاء بين متعددين مختلفين على السلبية من طرف آخر، لا يكفي لجمعهم في مشروع او على مشروع، لان جمع الامزجة المتنافرة يؤدي الى زيادة احتمالات المناحرة.. وقد حدث ذلك اكثر من مرة، ووضع حداً لبدايات فصالية مترددة واحيانا خجولة بسبب منهجيتها وترفـّعها، في السياق الشيعي خصوصا وفي غيره عموما.

وعليه فلا يكفي ان نتفق على ما لا نريد هذا اذا كنا متفقين، بل لا بد ان نتفق على ما نريد.. وهو امر بعيد.

كان بعيدا.. وقد يكون الآن قد اصبح اقل بعداً أو أكثر... لكن لم يصبح قريباً في كل حال.. فلا بد من الترويّ. وعودا على بدﺀ اكرر اني قلت وكتبت ان دوام الحال من المحال واني أتوقع تطورات درامية او ميلودرامية وتــفــاعــلات واســتــحــقــاقــات وتــراكــم سلبيات معينة، ســوف تـــؤدي الى ارتخاﺀ في القبضات الطائفية وتفتح ثغرات في السياج الطائفي الذي كلما ازداد إحكاما و صلابة، ازدادت امكانيات تصدعه وحــدوث الخروقات الواسعة في بنيانه... ما يعني انه قد يتوفر جو يلزم الاطراف الطائفية القابضة على طوائفها بالقبول المر أو المحلّى بالحكمة والواقعية، بوجود الرأي الآخر وبعدم جدوى القمع والمنع والتخوين واخراج المعترض من جماعته والقائه على عاتق جماعة اخرى، مع ان اي جماعة طائفية لا تقوى على هضم اي مناصر لها من طائفة اخرى، الا اذا تنصل من طائفته بالكامل، ليعود وحيدا مكتئبا مقروحا، معزولا بعدما تكون التسوية بين الطوائف قد استحقت او فرضت من قبل اطراف اقليمية او دولية... وعليه فلا داعي لاستثارة القوي في لحظة قوته واستنفاره... ولا بد من الانتظار لتبدل المشهد ومعادلات القوي للعمل المسؤول لا للانتهازية والتسرع وإعادة إنتاج الطائفية والمذهبية بشكل مختلف ومحسَّن ظاهرياً، ومضمون مطابق وأسوأ مما كان.

وحصلت احداث ووقائع كان اكثرها مؤشرا على ان السائد الشيعي في طريقه الى فقد شيﺀ من وهجه وقدرته على المصادرة والاختزال ما لم يعد الى الاستزادة من الحذر الذي غاب عن سلوكه تقريباً. ونرجو أن يعود إليه لأن أي انفجار مهما تكن ذرائعه ليس مضمون النتائج التي سوف تكون فاجعة ولا تناسب تراث المقاومة والتحرير، ولا الدروس التي يفترض أن نكون قد تعلمناها من الحروب العابثة بين جميع الطوائف وداخل كل طائفة... ولا يهمنا هنا ان ننكأ جراحا عانيناها وعاينها الجميع. اما ان تصل الاهــتــزازات الى مستواها السياسي اليومي المؤسسي، من النيابة الى الحكومة الى البلديات والحياة اليومية والجامعة وروضة الأطفال، فان السكوت يصبح خيانة للوطن والطائفة.

مع العلم ان الاهتزاز المشهود قد طال طوائف عدة وبنسب مختلفة، ولعل اعلى نسب الاهتزاز كانت في المجال الشيعي، فماذا نفعل؟

لا ادعو نفسي ولا غيري الى التسرع في اغتنام الفرص. وادعو كل الطامحين أن يحذروا من الطمّاعين مــن الشيعة وغيرهم، وان يدعوا هذه المرة الناس يذهبون الــى حيث يــشــاؤون، فــي حركتهم واختياراتهم والتعبير عن رأيهم.. على أن ما أبداه الناس من حزبيين وانصار ومذعنين سراً وعلناً من حيرة أو تحفظ أو مساءلة حول الموقف من الربيع العربي، لم يكن فيه فضل الا في حدود، لحركة الإعتراض الشيعي على السائد المتنوعة والجادة والحكيمة.

هذه المرة يجب ان ننتظر التطورات محلياً وإقليمياً، خاصة وانــه يمكن ان يكون السائد الشيعي المهيمن الذي اطلق ســراح الموالين له، في تقديم الــولاﺀ على غيره، عائداً الى ترجيح المعايير، لأنها ضمانة في حاليْ الربح والخسارة أو القوة والضعف.

لقد قلنا اكثر من مرة لـ«حزب الله» بأن عقله وحده لا يكفيه مهما يكن كبيرا. وان عقولا لا تعاديه ولكنها تظن انه يعاديها. ولا بأس من ازالة الالتباسات وســمــاع النصيحة لا الاستلحاق ولا الاستعداﺀ ولا الاستغناء.

ومعروف ان الغني يكون اكثر حرصا على الربح من الفقير، ولولا ذلك لما بقي غنياً... الى ذلك فلا بد من توسيع رقعة المشاركة في العقول الى داخل الشيعة وخارجهم، ولكن لا على اساس اخذ حزمة او قطعة من هذه الطائفة على حساب قسم آخر منها... ولا بأس ان يكون التفاهم هنا، اقوى من التفاهم هناك، على ألا يبدو التفاهم وكأنه كيد للطائفة الاخرى، او استتباع لجزء منها، مع تباين لا يلبث ان ينكشف، بين الظاهر والباطن.

ولنتذكر دائماً انه كلما طمع الاب في المزيد من التحكم بولده البار المطيع والمحتاج اليه، كلما ازدادت احتمالات خروج الولد على طاعة والده.

لقد اطاعتهم قرانا وأحياء مدننا واجيالنا بما فيه الكفاية ولكنهم مطالَبون بأن يكونوا متواضعين، او واقعيين بمافيه الكفاية... وانا شخصيا كنت اقول لمن يعتبرون ان «حزب الله» مشكلة بــأنــه لا يــجــوز حــل المشكلة بمشكلة اكبر... ان المرشحين للبلديات والمقاعد النيابية الشيعية من الاحــزاب المتحالفة ومن غيرها... اولادنــا... لا نريد لهم ولا نحب ولا نرغب بالانشقاق ولا ننصح احدا بأن يحول الاعتراض الى انشقاق. ولكن لا بد من اعتماد معايير الكفاءة والنزاهة بدل معايير الولاء والإمّعيّة التي تتوفر بكثرة لدى القاصرين والمقصرين.. وننصح كل الحكماﺀ الا يقصروا في فهم واستيعاب لا احتواء ظاهرة الإعتراض الشيعية بهدوﺀ وروية وامانة وتقوى ومن دون استعجال أو نية ثأرية... لاننا نكون بذلك قد مهدنا لفتنة شيعية لن يكون المعترضون اقوى فيها من غيرهم، خاصة أن قوتهم إنما تأتي من شجاعة الموقف وليس من أسباب ومصادر أخرى. بل سرعان ما يعضون على اصابعهم ندما، عندما يفرق جمعهم ويساعدون على اعادة تأسيس الخطأ وتجديد الهيمنة الى الابد.

هذا مع ترجيحي وتمسكي بضرورة التفكير الــهــادئ والجاد والرؤيوي والمدني والمتروي والتعددي من دون أن يكون فاقداً لنصاب الوحدة، والذي يتحرك في فضاء وطني وشيعي غير طائفي، إذا أراد معتدلو الشيعة في لبنان، أن يشاركوا في صناعة مستقبله بدم بارد وعقل بارد وخطاب بارد وحــراك مــدروس يقوم على المشاركة وتجنب الشبهات، وان نقرأ نهج البلاغة بعمق ومنه «من وثق بماﺀ لم يظمأ» ومنه «ومجتني الثمرة لغير وقت ايناعها كالزارع في غير ارضه».

وفي المحصلة فإن قناعتي أنه لا يوجد مانع من ذلك، أي الحراك بعيداً عن الدولة الشيعية أو الحزب الشيعي، ولا يكفي أن يكون هنا أو هناك دولة ذات صفة شيعية الى صفات أخرى قد تكون هي الأرجح، حتى نتعسف ومن موقع القوة النسبية التي تتحول الى ضعف مدمر اذا بالغنا في استخدامها، فنلزم كل شيعي مهما تكن حساسيته أو خبرته، بالولاء المطلق لهذه الدولة أو لحزب متفرع منها ويصب فيها.. لأننا لو سلمنا جدلاً بدقة الدليل ووضوح دلالته على لزوم الدولة الدينية ومشروعتيها في الفقه الشيعي، فإن ذلك لا ينقل الدولة الحاصلة أو المفترضة الى مقام المنظومة العقدية (الأصول) لتصبح المخالفة مدركاً للحكم بالكفر أو الخروج من المذهب، لأن الدولة الدينية ليست من ضروريات الدين الاسلامي ولا المذهب الشيعي.. ولا داعي للتشبث بالتطهرية، فالدولة الوطنية الإيرانية ليست معصومة بل أخطأت وتخطئ في حق أنصارها ومعارضيها السياسيين في الداخل والخارج، وشيعيتها كجزء من هويتها لا أكثر، ليست كافية لتصحيح كل مسالكها في الداخل والخارج، ولا تصحيح تحالفاتها، خاصة إذا كانت مع أنظمة جائرة بشهادة شعوبها وشعوب العالم حتى الشعب الإيراني.

وهناك دول شيعية حصلت في التاريخ وتجنب فقهاء الشيعة أن يمنحوها غطاءً فقهياً وبذلوا لها النصح والإرشاد من بعيد، ومن دون أن يلبوا دعوتها الى الانخراط فيها كالدولة (السربدارية) في خراسان (إيران) بعد تفكك دولة ورثة هولاكو المغولي واستقلال أمراء المغول في دول صغيرة.. وبقيادة الشيخ خليفة (ت 736 هـ) وخلفه الشيخ حسن الجوري الذي كان يعدّ العدة لخروج المهدي كما يجري ويقال الآن. واستمرت هذه الدولة أو الدويلة نصف قرن من 738 هـ الى 782 هـ، وقضى عليها تيمورلنك، وكان آخر ملوكها (علي بن المؤيد) الذي كتب الى عالِم الشيعة في بلاد الشام الشهيد الأول ليكون مرجع الدولة الديني، فرفض وأرسل اليهم كتاباً فقهياً من تأليفه ليكون مرجعاً لهم، مفضلاً التحالف مع بيدمر والي الشام المملوكي في مصر في محاربة المتطرفين والغلاة الشيعة.. ما يؤكد أن طريقتنا هي ترجيح الدعوة على السلطة من دون عداء للدولة ومع اشتراط العدل عليها. ولا بد أن نذكر بأن الدولة الشيعية (المشعشيعة) التي قامت بعد سنة من نهاية الدولة السربدارية، في خوزستان (عربستان) واستمرت حتى 1117 هـ. من دون دعوى ولاية أو نيابة عن الإمام (ع).

نذكر بأن هذه الدولة كانت دولة فتك وإجرام واستبداد وإفساد في الشيعة باسم الشيعة.. أي انها نقيض للتشيع وخط أهل البيت (ع) وعلي الذي كان يخصف نعله الليف بعد الخلافة فجاءه عبد الله بن عباس فقال له: يا ابن عباس أترى الى هذه النعل كم تساوي؟ فقال: إنها لا تساوي شيئاً. فقال علي: والله إن إمارتكم عندي أهون علي من هذا النعل إلا أن أقيم حقاً وأبطل باطلاً!

إن الوفاء للعلويين في سوريا والحفاظ عليهم كمكوّن أصيل في بنية الشعب السوري وتاريخه وكعلامات إبداع في الفكر العربي من صالح العلي الى بدوي الجبل الى سعد الله ونوس.. الى الرائد عز الدين القسام.. والعشرات بل المئات من غيرهم، يقتضي الاحتجاج على أي نظام أخطأ في حقهم عندما أغرى غيرهم باحتساب الخطأ منهم ولأجلهم.. ونذكر بفقيه الشيعة السيد ابن طاووس الذي حسم الأمر منسجماً مع موروثه الشيعي ونهجه الاسلامي الذي يكتمل التوحيد فيه بالعدل، عندما رجح العدل مع كفر الحاكم، على الجور مع إسلامه كما هو معروف.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=7541

الأكثر مشاركة في الفيس بوك