الاستشراق الإيطالي والإسلام
على مدى تاريخ سابق، كانت الدراسات الإسلاميّة جارية في محلّين متجاورين ومتغايرين: شقّ من تلك الدراسات تابع للمؤسّسات الحبريّة، ويسهر عليه آباء من الكنيسة، على غرار المعهد البابويّ الشرقيّ والمعهد البابويّ للدراسات العربيّة والإسلاميّة في روما، وشقّ آخر ضمن مؤسّسات الدولة الإيطاليّة، كما هو الشأن في "معهد الشرق كارلو ألفونسو نالينو" و"معهد إيسياو" المتواجدين في روما، حيث صاغا رفقة جامعة نابولي، التقليد العلميّ الإيطاليّ الموازي والمقابل، للمنظور الكنسيّ بشأن قضايا العالم الإسلاميّ.
بشكل عام، اكتشفت إيطاليا الإسلامَ مجدّداً، مع موجات الهجرة المتدافعة، التي لا يزيد عمر أقصاها عن ثلاثة عقود، وقد ترافق ذلك مع حصول تطور في الدراسات الإسلاميّة، بدأت على إثره تهجر عباءة الاستشراق الكلاسيكيّ لتصوغ منهجاً تطبعه ملامح فارقة، ويقف على مسافة من عديد الأحكام. وبموجب ما دبّ من تحوّل بدأت اهتمامات الدراسات الإسلاميّة الأكاديمية تنزع نحو أربعة مشارب متمايزة:
- أوّلاً المقاربة السوسيولوجيّة، التي استلهمت مقولات رواد علم الاجتماع، ثمّ شرعت في نحت نهجها المستقلّ. يُعدُّ عالم الاجتماع إنزو باتشي، الأستاذ في جامعة بادوفا أبرز المشتغلين سوسيولوجيّاً على ظواهر الاجتماع الإسلاميّ وقضاياه. حيث تميّز النظر لديه بالبحث عن آليات الحراك الاجتماعيّ، مع محاولة الإحاطة بالخاصيّات النظريّة النابعة من ذلك الواقع. وقد تلخّص عمله ذاك في مؤلّف "سوسيولوجيا الإسلام" (2004)، حيث جاء تتويجاً لسلسلة من الأبحاث مثل "الإسلام في أوروبا" و"الإسلام والغرب".
كما نجد عَلماً آخر من أعلام هذه المقاربة الباحث الاجتماعيّ ستيفانو أَلِيافي. كان بروز أَلِيافي في الأوساط العلميّة مع إيلائه الإسلام المهاجر اهتماماً، وتسليطه الضوء على ظاهرة الاهتداء، التي درسها في كتابه: "المسلمون الجدد: المهتدون إلى الإسلام"، بعد أن باتت الظاهرة لافتة وناشطة في مجتمع كاثوليكيّ يشهد فتوراً في الهويّة. ابتعد أَلِيافي عن القراءة التاريخيّة، التي اعتمدها الثنائيّ بارتوليمي ولوسيل بنّاصار في مؤلفهما "مسيحيّو الله"، عند تناول المتحوّلين إلى الإسلام، ليعالج المسألة داخل التطوّرات الاجتماعيّة وضمن تداعيات الراهن الحالي.
من جانب آخر، مثّل رِنْزو غولو النقيضَ والمغاير، أو بالأحرى الخطَّ اليمينيّ في السوسيولوجيا الإيطالية المنشغلة بالإسلام، ليتحوّل علم الاجتماع معه إلى أداة تنافح عن قيم الغرب في وجه التحديات الوافدة، حيث يفقد الخطاب صرامته العلميّة لينغمس في الإثارة الإعلاميّة، لا سيّما وأنّ الرجل من أبرز المعلّقين على قضايا العالم الإسلامي في وسائل الإعلام.
- ثانياً النظرة الكنسيّة للإسلام، ونعني بها مختلف القراءات الصادرة عن أعلام ينتمون إلى الأوساط الأكاديمية البابوية، لا سيّما في جامعتي الغريغورية وساليزيانا والمعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية. طيلة العقدين السالفين عُدّ الأب موريس بورمانس من أبرز الوجوه المؤثّرة في الأوساط اليمينية في إيطاليا بشأن القضايا ذات الصلة بالدين الإسلامي، مع ذلك بقي الرجل محدود التأثير في الدوائر العلمية. وبشكل عام، فبرغم القدرات الهائلة للشق الجامعي الكاثوليكي، بحيازة نخبة عالية التكوين من الآباء، فضلاً عن وسائل الإحاطة والمتابعة لقضايا العالم الإسلامي، لم يقدر ذلك الشقّ أن يجرّ الوسط الأكاديميّ الإيطالي وراءه، نظراً لهيمنة الصبغة اللاهوتية على مواقفه. فقد تراجع دور المؤسّسات البابوية بشكل كبير، وفَقَد كثيراً من بريقه وأهليته للحديث عن قضايا العالم الإسلاميّ، ومن ثمة طرح تصورات بشأنها، بعد أن غدا ولوج ذلك العالم متاحاً لكفاءات من خرّيجي الجامعات المدنية (على سبيل الذكر بقي تعلّم العربية في المؤسسات الكنسية حكرا على الرهبان دون غيرهم حتى مطلع السبعينيات). لاحقاً مع ضمّ بعض العرب المسيحيين إلى المؤسسات التعليمية البابوية، مثل الأب اليسوعي سمير خليل، ومن غير المسيحيين مثل التونسي عدنان المقراني، لم يُرس ذلك الانفتاح روحاً مسكونيّة أو تخلّصاً من هيمنة المنظور المركزيّ. حيث تبقى النظرة الكنسية للإسلام موسومة بطابع انتقائيّ، كما يغدو التصوّف محور الانشغال الرئيس، بما يجري من تعويل عليه لتليين الصرامة الفقهيّة. تبقى مدرسة الفكر الإسلاميّ الموسوم بطابع عقلانيّ، مع نصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون، وعبد المجيد الشرفي، وعبدالكريم سروش الأقرب إلى هوى الكنيسة. علاوة لا يزال تواصل العقل اللاهوتيّ بالفكر الإسلاميّ أميل إلى نسج علاقات مع الدين الرسمي، ولذلك تكثفت في السنوات الماضية الحوارات مع رجالات من داخل حضن الزيتونة والأزهر لا من خارجهما.
- ثالثاً المدخل التراثيّ، الذي يشمل مجالات الفلسفة والفرق والتاريخ الإسلاميّ. يُعدّ المؤرّخ كلاوديو لوياكونو، مدير معهد كارلو ألفونسو نالينو، الأبرز بين جمهرة المؤرّخين. يحاول الإحاطة باللحظة الإسلاميّة المبكرة، على غرار ما ضمّنه في كتاب "ماهوميتو" الصادر أخيراً عن دار "لاتيرسا". وأمّا على مستوى دراسة الفلسفة الإسلاميّة فقد كانت كارميلاّ بافيوني، بأعمالها المتعدّدة، أبرز وجوه البحث الفلسفيّ. لكن انعدام الاطلاع على محاور الفلسفة الحديثة، مع غياب إطلالة على كبار الفلاسفة العرب المعاصرين، مثل عزيز الحبابي وعابد الجابري وطه عبدالرحمن وغيرهم، ممّا يعوز دارس الفلسفة الإيطاليّ.
وفي خضم الانشغال بالأصول، لا بدّ من الإشارة إلى الكلف البارز بالمذهب الإسماعيليّ وبكلّ ما هو باطنيّ. وقد كان للباحثة أنطونيللا سترافاتشي، الأستاذة في جامعتي باري ونابولي، دور كبير في الحثّ على إيلاء اهتمام للإسماعيليّة وإخوان الصفا. وبموازاة القراءة العقائديّة والمورفولوجيّة للفرق، نجد قراءة اجتماعيّة تدعّمت بالأساس مع بيانكاماريا سكارشيا أموريتي في قراءة ظاهرة التشيّع.
- رابعاً المقاربة السياسيّة: يشغل التاريخ السياسي للمجتمعات الإسلاميّة حيزاً واسعاً من الأبحاث. ويُعدّ المؤرّخ سلفاتوري بوني من أبرز المهتمين بتاريخ حوض المتوسّط وأعمال القرصنة وعلاقات الدولة العثمانية بالممالك الأوروبية، بيْد أنّ الكتابة التاريخيّة لديه تبقى مشوبة بصبغة استشراقيّة بادية. كان المؤرّخ الاجتماعيّ الراحل بيار جوفاني دونيني (1936-2003) العلمَ البارزَ في نقد الطروحات اليمينيّة في التعامل مع العالم الإسلاميّ.
لقد حضر الانسداد الديمقراطي في العالم العربي هاجساً لدى طائفة من الباحثين، وقد تلخّصت تفسيرات المسألة في كون الخلل يعود إلى اضطراب بنيويّ حادث جراء الاستعمار، وعمّقه سوء هضم الحداثة. تبقى لاورا غواتسوني الأستاذة في جامعة روما من أوائل الداعين إلى دمج حركات الإسلام السياسيّ، معتبرة ذلك السبيل الأمثل لدمقْرطة الواقع العربيّ وإخراجه من حالة التشاحن مع الغرب.
في ما سبق كانت الدراسات الإسلامية في إيطاليا نخبويّة ومحصورة بين دارسين تشغلهم قضايا مشتركة، وهو ما لاحظه كبير الدارسين في القرن العشرين أليساندرو باوزاني، منذ مطلع السبعينات، في دراسته "خمسون عاماً من الإسلاميات"، وأمّا اليوم فقد دنت الدراسات الإسلاميّة من هواجس النّاس وحاجاتهم المعرفيّة.
المصدر: الحياة