أزمة الثقافة الاسلامية أم أزمة الداعية؟: قراءة نقدية في أفكار هشام جعيط

تركي علي الربيعو
 
 
أكثر من عقد ونيف، هو الزمن الذي يفصل بين كتابي المؤرّخ والمفكّر التونسيّ هشام جعيط، وأشير هنا إلى كتابيه «الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة والمصير العربيّ، دار الطليعة في بيروت، 1984»، «أزمة الثقافة الإسلامة، دار الطليعة، 2000» فما بين هذين التاريخين، أي بداية عقد الثمانينات وبداية الألفيّة الجديدة، يبدو للمتتبّع لنشاط وفكر جعيط، أنّه قد عيل صبره وأنّ التعب قد نال منه وأنّه فقد ثقته بالأجيال العربيّة وقدرتها على تحديد مصيرها، وهذا ما يعتبره محمد عابد الجابريّ بمثابة نتيجة، فهو يسجل لنا في كتيبه «الديمقراطية وحقوق الإنسان، مركز دراسات الوحدة العربية، 1994» أنّ كتابة الكبار كثيراً ما تشوّشها المداوة والمراوغة وكثرة الحسابات والاعتبارات التي تعقل لسانهم وتعكّر صفو تفكيرهم، ونضيف إلى ذلك قلّة الصّبر وفقدان الثقة بالنفس والأمّة.
 

في كتابه «الشخصيّة العربية الإسلامية والمصير العربي، 1984» أراد جعيط لنفسه أن يؤدّي دور الداعية، لنقل دور المفكر الداعية، وخصوصاً أنّ مهمّة المفكّرين كما يراها هي «إبداع مثل انسانيّ عالٍ، وإعادة تحديد القيم والمساهمة في الاستفهام الذي يتحدّى الإنسان في عصرنا، من دون التنازل للاعتباط الإيديولوجيّ. إنّها مهمّة ملقاة على عاتق المفكّرين لهذا الجيل» وإنّ جل ما يهدف إليه هو أنّ «يثير اليقظة» وهذا ما أكّده في «أزمة الثقافة الإسلامية» حينما راح يحلم بـ «عودة الروح» و«بزوغ الوعي» فلا مناص لرجل الفكر من التفكير في مستقبل مجتمعه من دون قلق مبرح لشعوره بمسؤوليّته».

هذا الشعور بمسؤوليته تجاه مستقبل مجتمعه، كان جعيط قد استقاه جملة من ميشيل عفلق الذي راح يصفه بأنّه «نبيّ سياسيّ» يشعر مسبقاً بسيل التاريخ، ويضيف في مدحه لعفلق «إنّ هذا الرجل ولد إيديولوجيا، ومهما كانت فعلاً التطورات التي عرفتها النظرية والعمل البعثيّ، فإنّ فكر عفلق هو الذي أعطى إشارة الانطلاق، وهو من عدّة وجوه أثرى فكره وأكثره تلوناً وإنسانيّة. ولعلّ ما يشرفه تماماً أنّه أقصي باستمرار عن الأنظمة البعثيّة القائمة» - الشخصية العربية الإسلامية. لابد أنّه لم يكتف بذلك في غمرة حماسه للمهمّة الملقاة على عاتق المفكّرين، فقد استعار من عفلق عنوان كتابه «معركة المصير الواحد» ليجعل منه معركة المصير العربيّ كما يشير إلى ذلك كتابه عن «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي».

بعد عقد ونيف على ذلك الإيمان الكبير بدور الداعية الذي أذكاه عنده ميشيل عفلق، جاء كتابه «أزمة الثقافة الإسلامية» ليبين لنا - كما أسلفت - مدى الخور والضعف الذي نال من دور الداعية/ المفكر، فقد فَقَدَ جعيط إيمانه بأرض الأجداد وبقيمهم العليا وحتى بإمكان نهضتهم، فمن الغلط أن نتحدّث عن «مشروع حضاريّ عربيّ» (أزمة الثقافة الإسلامية، ص197)، فهذا وهم وكلام فضفاض على حدّ تعبيره، ونحن لسنا أكثر من «عابر سبيل»، والحديث عن الخصوصيّة ليس أكثر من «نفاق كبير وتضليل عظيم»، والوضع العربي ميؤوس منه. إنّه وضع مجموعة من الضّالين الذين يتخبّطون في جملة من التناقضات وعلى مسار تاريخ طويل، وخصوصاً أنّ بلادنا العربية والإسلاميّة عموماً لا تزيد عن كونها «صحراء ثقافيّة في كلّ المجالات، في التراث كما في استيعاب الثقافة الغربيّة، في الكتاب كما في الرسم أو الموسيقى أو المسرح، في المعرفة كما في الأدب. وبما أنّ جهاز الدولة قتل المجتمع المدنيّ وأنّ هذا المجتمع أعطى رقبته للذبح والتذّ بموته، فلا أرى الآن خروجاً من المأزق». ولذلك نراه يرنو ببصره باتّجاه الحداثة الغربية، لنقل باتّجاه سقف التاريخ وحداثة القبيلة الشّقراء، على حدّ تعبير مطاع صفدي في تقديمه لكتاب فرنسيس فوكوياما «نهاية التاريخ والإنسان الأخير».

فلا مخرج لنا من صحرائنا الثقافية إلا بتتبع خطى القبيلة الشقراء التي باتت نموذجاً يحتذى في كلّ شيء. إنّها سقف التاريخ ونهايته، وقد سبق لمفكّرنا أن أبدى إعجابه بأطروحة فوكوياما وشجاعته. ولكنّه هنا لا يكتفي بالإعجاب، بل يجعل من الحداثة الغربية على طريقة فوكوياما قدراً لا فكاك منه، فتيار الحداثة الغربية سيل لا يقاوم، على حدّ تعبيره الذي يقتفي فيه آثار خير الدين باشا التونسيّ، في كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، والذي وصف فيه الحضارة الغربية بأنّها «سيل لا يرد».

يقول جعيط: «لا جدال في أنّ قيم الحداثة رفيعة، وأنّ علينا أن نأخذ بها، أي أن نقوم بتحوّل ثقافيّ كبير، ولا نقيم أيّ اعتبار لأصلها الجغرافيّ بل فقط لوجه الخير فيها». ويضيف: «ليست هناك حداثة غربية وحداثة إسلاميّة وأخرى صينيّة وأخرى هنديّة أو أفريقيّة، فهي واحدة في جميع أبعادها. أن يجري الكلام على الخصوصيات لدحض قيم الحداثة، فهذا نفاق كبير وتضليل عظيم».

إلى هنا قد يبدو الكلام مقبولاً من داعية مبهور بسقف التاريخ وحضارته المعولمة، لكن جعيط لا يتركنا أسرى للمفردات الحداثويّة، فهو يؤكّد لنا أنّ الحداثة الكونيّة التي يدعونا إلى ولوج أبوابها لا يمكن لها أن تقوم إلا على أنقاض ثقافتنا العالمة، أي تراثنا الحضاريّ وقيمنا الروحية العالية. فالحداثة من وجهة نظره لا يمكن لها أن تتحقّق إلا بـ «مجّ الإسلام جملة»، وخصوصاً أنّ الثقافة الإسلاميّة تتموضع في المتن من الحضارة الزراعيّة القديمة التي يتجاوزها تاريخ الحداثة. من هنا يظهر الإسلام باعتباره عنصراً عتيقاً على حدّ تعبير جعيط.

ومن هنا يرى جعيط «أنّ الحداثة الجديدة تقطع مع كلّ دين» ص194، وألا مفرّ من هذه الحداثة التي ينعتها جعيط بـ «الحداثة الثالثة»، حين نظهر نحن العرب والمسلمين متسكعين على أبوابها، وفقراء روحيين على عتباتها، إذ أنّ شرط دخولها أن يتخلّى المرء عن ثقافته وخصوصيّته وهويّته، فجنّة الحداثة الغربية لا تقبلنا إلا إذا كنا عراة، لكنّها قدرنا - كما يقول جعيط - وعلينا أن ندخلها ولو بضربات الهراوة، مع أنّ النّاس لا تريد أن تدخل جنّة الحداثة بضربات الهراوة كما كتب لينين ذات مرّة.

أعود للقول - والعود أحمد - أنّ راديكالية جعيط التي لا تقبل إلا بحداثة تجبُّ ما قبلها، سرعان ما تجبهنا لتنتشلنا من الحلم إلى صحراء الواقع، فلا أمل لنا بأكل الأناناس في الظلال الوارفة لجنة الحضارة الغربية كما كان يسخر فوكوياما من أحلام الجنود الروس، وها هو جعيط يسخر منا على طريقة فوكوياما وعبر منهجه الاستشراقي، فنحن «عاجزون عن المشاركة في إبداع التكنولوجيا» وعاجزون أيضا عن تبني قيم الحداثة والديمقراطية، والسبب لا يرتد من وجهة نظره إلى فارق حضاري، بل إلى أسباب بنيويّة وإلى جرثومة تخلّف أبديّ على حد تعبير بريان تيرنر في نقده للاستشراق. يقول جعيط «نحن أقدر على المجابهة منا على الإبداع وعلى البحث عن السّعادة والدّعة». ويضيف في مكان آخر، وفي إطار تعليقه على عجزنا الديمقراطيّ بقوله: «المسألة في الحقيقة لها عروق فلسفيّة وثقافيّة». بهذا يرتد تخلّفنا الحضاريّ إلى أسباب تراثيّة وبنيويّة قد تتعلق بتركيبنا البيولوجيّ كما كتب أحد وزراء التكنولوجيا العرب في ندوة «التكنولوجيا المتطوّرة وفرصة العرب للدخول في مضمارها، منتدى الفكر العربي بعمان 1986» تجعل منّا برابرة الحداثة ومعارضيها الدائمين، وذلك نظراً إلى العاهات الثقافيّة والبيولوجيّة المتحكّمة فينا...

بهذا يصل قلق جعيط ويأسه إلى منتهاه، إنّه يُشير بسبّابته إلى أزمة الثقافة الإسلاميّة لكنّه لا يرى إلا أزمته، فيظنّ أنّ هزيمة الداعية، لنقل هزيمته هي هزيمة الثقافة العربيّة حصراً، وعندها لا يجد مخرجاً من أزمته إلا بالهروب من الواقع. فما أكتبه - يقول جعيط - هو فوق المستوى الفكريّ العربيّ الحالي، والبحث عن الحداثة من خارج الغابة، وهذه هي شيمة الخطاب العربي المعاصر، والتي تتمثل في مزيد من الهروب إلى الأمام، وشيمة المثقف العربيّ الذي آثر أن يتحوّل إلى عميل حضاريّ لحضارة أخرى على حدّ تعبير برهان غليون في نقده لمجتمع النخبة، يروّج لبضاعة فاسدة، ينعتها غليون بـ «الحداثة الحثالة»، ويتصرّف على أنّه مالك الحقيقة التي يجهلها قومه، لأنّهم من دون المستوى الفكريّ له.

هذه حالنا مع جعيط الذي أتحفنا في كتابه العمدة «أوروبا والإسلام: صدام الثقافة والحضارة»، ولكنه في «أزمة الثقافة الإسلامية 2000» راح يدفعنا إلى حافة الهاوية.

المصدر: صحيفة الوسط البحرينيّة

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك