جدليّة العلاقة بين النّص والواقع في الفكر الإسلاميّ

أحمد الإسماعيلي
 
 
يُلاحظ المتأمّل في الفكر الإسلاميّ المُعاصر أنّ عودة التاريخ لذاته التي يُنَظِّرُ لها علماء الفلسفة تكاد تكون مرئيّة على أرض الواقع، فالتاريخ يكاد يعيد ذاته بصورة تشبه تلك الصورة التي وقعت في القرن الأوّل والثاني الهجريّ، مذ انقسم العقل الإسلاميّ إلى تيّارات إيديولوجيّة كان للجانب السياسي دور كبير في تشكّلها إلى حدّ ما. بيد أنّ العوامل التي جزّأت العقل الإسلاميّ آنذاك تختلف اختلافاً كبيراً عن العوامل التي كانت وراء تعدديّة الفكر الإسلاميّ اليوم. حيث لم تكن إشكاليّة الذات والآخر أو ثنائية التقدم والتأخّر حاضرة في العقل الإسلاميّ الكلاسيكيّ الأوّل، بسبـب الشّهود الحضاريّ لهذا العقل في البدايات التأسيسيّة الأولى له، والذي استمرّ حتى نهاية الدولة العباسيّة... وظهور الدولة العثمانيّة. بعد هذه الحقبة الحرجة دخل العقل الإسلاميّ في متاهات عميقة لم يستطع الخروج منها إلا ومطارق القادم من الغرب تدّق نواقيس الخطر محدقة بالأمة الإسلاميّة من كلّ جوانبها، فشكّل ذلك انعطافاً تاريخياً بين الشرق والغرب أو بين الذات والآخر، معلناً بداية نهاية الذات الحضاريّة وصحوة الحضارة الغربيّة التي رمت بكلّ ثقلها في الشّرق مفكّكة بنيته الفكريّة والسياسيّة، بعد أن تهيّأت لها كلّ الدواعي والأسباب.
 

نظر الفكر السلفيّ إلى الغرب على أنّه العدو الذي ينبغي أن نحذر منه، ولا خلاص منه إلا بالرجوع إلى التّجربة الأولى التي عاشها القرن الأوّل الهجريّ، إلى جانب إظهار القطيعة التامة مع الغرب. وبالمقابل أراد الاتّجاه الليبراليّ أن يوجد لوناً من القطيعة مع التراث محاولاً إسقاط تجربة الحضارة الغربيّة في الحضارة الإسلاميّة بكلّ تداعياتها وإفرازاتها واتّجاهاتها، مع تباين الجذور التاريخيّة والتأسيسيّة لكلّ منهما. يقول: زكي نجيب محمود "الجواب الواحد الواضح لإنهاء التخلف والتحضّر هو أن نندمج في الغرب اندماجاً في تفكيرنا وآدابنا وفنوننا وعاداتنا ووجهة نظرنا إلى الدنيا، وأن تكون مصر قطعة من أوروبا". ويقول أدونيس: "فما قيل وعمل في الماضي في مجال الثقافة ليس شيئاً مطلقاً يجب تكراره والإيمان به، وإنّما هو نتاج تاريخيّ أي نتاج يتجاوز التاريخ من حيث أنّه تعبير عن تجربة محدّدة لا تتكرّر في مرحلة لا تتكرّر"، وهو بهذا الفهم لمادّة التراث الذي ينطلق منه في كلّ تصوراته الأخرى يُحدث نوعاً من القطيعة المعرفيّة بين الماضي والحاضر، وبين التراث والواقع الذي لا يستطيع أن يتحرّك بمعزل عنه. ومن منظور آخر، فإنّنا لا نؤمن بقدرة هذا التراث أن يستوعب الواقع بكلّ إفرازاته، وإنّما هي علاقة جدليّة بين النص والتاريخ الذي يتحرّك من خلاله. وبالمقابل يرى نصر أبو زيد "أنّ الرؤية التي يتبنّاها أدونيس للتراث تقوم على الهدم بدلاً من الارتباط. إنّ الارتباط بالتراث – خاصّة في اتّجاهاته المتقدّمة– لا يعني إهمال الظروف التاريخيّة بل يعني الوعي بها. إنّ الفارق بين الارتباط الذي يقوم على الوعي والارتباط الذي يقوم على التقليد فارق جوهريّ/ الوعي يُدرك التمايز بين الماضي والحاضر، في نفس الوقت الذي يُدرك فيه جدليّة العلاقة بينهما. إنّهما متمايزان متداخلان. أمّا التقليد فيحاول أن يكرّر الماضي. الارتباط بالتراث القائم على الوعي يرى أنّ الماضي والحاضر متمايزان وجوديّاً، ولكنّهما متداخلان معرفيّاً، بينما لا يميّز الارتباط التقليديّ بين هذين المستويين".

يبدو أنّ الرؤية التي تنادي بضرورة وجود قطيعة تامّة مع الآخر قد انتهت بحكم المثاقفة التي حدثت من الغرب تجاه الشّرق، إذ أصبحت العلاقة بينهما علاقة تفاعل وجدل بدلاً من قطيعة تامّة. فمحاولة إنكار الآخر اليوم وفرض قطيعة تامّة معه لا سيّما في ظلّ عصر يتّسم بالنظم المعلوماتيّة، كما يذهب إلى ذلك الفكر السلفيّ هي محاولة تعسفيّة لقراءة أبجديّات الواقع ومنطلقاته، في حين أنّ محاولة الفكر الليبراليّ إسقاط تجربة الفكر الغربيّ بكامله على الفكر الإسلاميّ وإظهار قطيعة تامّة مع التراث، مع إنكار الصيرورة التاريخيّة لكلا التجربتين، هو إقحام في غير محلّه، بل تحامل على التراث وإنكار للذات.

فتقدّم الغرب وقوّته يعود إلى أخذه بعوامل التقدّم وأسبابه، وليس كما ذهب بعض المثقفين الإسلاميين اليوم من أنّ الغرب تقدّم بسبب أخذه الحضارة الإسلاميّة، إذ لو كان الأمر كذلك لاستطاعت الذات العربيّة الإسلاميّة أن تتقدّم أكثر منهم، بحكم السبق الزمنيّ. ولكنّ الأخذ بأسباب الرقيّ الحضاريّ هو الفيصل في ذلك، "فالتقدّم الحضاريّ وأسباب الحياة والعمران مبذولة للخلق على السواء، ومن يتمسّك بأسباب العمران يبلغ غايته وهدفه، بصرف النظر عن إيمانه وكفره... فأنجع دواء لفتنة المسلم المتأخّر، بغيره المتقدّم هو أن يعلم ذلك المسلم أنّه ما تأخّر بسبب إسلامه، وأنّ غيره ما تقدّم بعدم إسلامه، وأنّ السبب في التقدّم والتأخّر هو التمسّك والترك للأسباب".

وبذا، فإنّ الذات بحاجة ماسّة إلى الآخر بما يتوافق مع روح الشريعة الإسلاميّة، ولا يتعارض مع الذات العربيّة وهويّتها. "فالآخر الحضاريّ يتضمّن مجموعة من الإنجازات والمكاسب التي لا غنى للإنسان عنها، وإنّ من الخطأ الاعتقاد بأنّ طريق تمكّن الأنا الحضاريّة على الواقع الخارجيّ يمرّ عبر تدمير الآخر الحضاريّ، لأنّنا نقف موقف الاحترام والتقدير من المنجزات العلميّة والإنسانيّة الهائلة التي حقّقتها الحضارة الحديثة في هذا العصر، وهذا لا يعنى تهميش الذات أو ضياع الهويّة، بحيث لا تستطيع "الأنا" تطوير ذاتها وفق الإمكانات والقدرات المتاحة لها، بل إنّ فهم الآخر واستيعاب ما وصل إليه من تقدّم هو مدخل لفهم الذات ومحاولة تلمس نقاط الضّعف والخلل الذي أصاب العقل الإسلاميّ اليوم. يقول: برهان الدين غليون: "ينبغي أن يكون تعلّقنا بالعصر والحضارة حافزاً على تدمير ذاتيتنا وتهشيم أنفسنا والتّضحية بمستقبلنا كجماعه إنسانيّة، وهذا جعل جورج طرابيشي يرى أنّ إشكاليّة نظرة الآخر إلينا ما هي إلا إشكاليّة زائفة أوهي إشكاليّة نفسيّة أكثر منها إشكاليّة معرفيّة". وهو بذلك يؤكّد أولوية نقد الذات ومحاولة تشكيل التراث الإسلاميّ بما يتلاءم والواقع الذي نعيش. وهي نظرة لها أنصارها اليوم، وبالتالي فهو ينتقد بعض المفكّرين لإعطائهم أهمية كبيرة لتغيير نظرة الآخر إلينا، ويقول: "إنّ الإشكاليّة الأساسيّة ليست هي نظرة الآخر إلى الذات، بل هي قدرتنا على اتّخاذ موقف نقديّ من الذات، وهي منطقة لا يمكن الاقتراب منها بفعل التصوّر الموجود في مخيّلة العقل الإسلاميّ الراهن من جرّاء تعالي المسلّمات الفقهيّة على الزّمن، وكأنّها صالحة لاستيعاب الزمان والمكان مع أنّ هذه الصّلاحية لا يمكن أن تتصور إلا في إطار الذكر المقدّس وليس في فينومينولوجيا الوعي الدينيّ"، بل إنّ كثيراً من دعاة الفكر الإسلاميّ اليوم يُحاولون مصادرة إعادة التفكير في كثير من الرؤى والنتائج التي توصل إليها العقل الإسلاميّ في العصور الأولى. وهذا في حدَّ ذاته يؤكّد لنا أنّ هؤلاء يحاولون تغييب عامل الزمن من النصوص المؤسّسة، فضلا عن تغييبها عن العقل الإسلامي الراهن، وما كان الاتّجاه الذي اختّطه بعض المفسّرين حول تفسير القرآن الكريم بالرأي إلا أحد ركائز محاولة قراءة النصوص في ضوء الواقع، أي إسقاط النصوص على الواقع المتغيّر المستمرّ، وما الأحكام المتدرّجة التي جاءت تعالج موضوع تحريم الخمر إلا أكبر دليل على جدليّة العلاقة بين النص والواقع المتغيّر. هذا بالإضافة إلى ظاهرة النسخ الموجودة في القرآن، فهي دليل آخر على وجود هذه العلاقة الجدليّة، بل إنّ علة نزول القرآن الكريم منجماً في ثلاث وعشرين سنة كانت تنبيهاً للعقل الإسلاميّ على أنّ الرسول -عليه السّلام- إنّما جاء يُعالج واقعاً كان يعيشه في تلك الفترة المحدّدة إلى جانب المقصد الأسمى لهذه الرسالة، وهو عالميّتها وشمولها، بحيث تكون صالحة للزمان والمكان. فإشكاليّة اليوم ليست هي هل الإسلام صالح لكلّ زمان ومكان؟ فهذا أمر لا شكّ فيه، بل إنّ الإشكاليّة كما يراها الجابري هي ما إذا كان المسلمون اليوم صالحين لزمانهم، أي قادرين على أن يعيشوا عصرهم. ويتساءل الجابري حول كيفيّة التعامل مع هذا التراث بموضوعيّة وعقلانيّة، حيث يقول: "كيف نتعامل مع هذا التراث بموضوعيّة وعقلانية"؟ ونعني بالموضوعيّة جعل التراث معاصراً لنفسه، ونعني بالمعقوليّة جعله معاصراً لنا، أي إعادة وصله بنا بمعنى جعل التراث معاصراً لنفسه على صعيد الإشكاليّة النظريّة والمحتوى المعرفيّ والمضمون الأيديولوجيّ، الشيء الذي يتطلّب معالجته في محيطه الخاصّ، وهذا هو معنى الموضوعية، وفي الوقت نفسه جعله معاصراً لنا ينقله إلينا ليكون موضوعاً قابلاً لأن نمارس فيه وبواسطته انتماءنا إلى عصرنا، وهذا هو معنى العقلانية".

إنّ التراكمات الفقهيّة، وبسبب استمدادها من النصّ الخالص، اكتسبت مع الصيرورة التاريخية قداسة أوصلتها إلى أن تكون كالنص المؤسّس من حيث الإلزامية وهو تناقض عقليّ غريب أصاب العقل الإسلاميّ، طوال فتراته التاريخيّة، إذ كيف يمكن أن تكتسب اجتهادات فقهيّة عقليّة ــــ قد تصل في أحيان كثيرة إلى التضادّ في الحكم لمسألة واحدة بين الإباحة والتحريم ـــــــ، كيف تصل إلى حدّ مجاراة النص المؤسّس في إلزام الوعي العام بها، مع أنّ الفقه ليس إلا مجموعة من الأحكام الناتجة عن احتكاك النصّ بالواقع؟!

هذه الإشكالية لا تكمن في ذلك فقط بل تكاد تكون أوسع نطاقاً، وهي تحميل الفقه الذي نشأ بفعل الاحتكاك الدائم بين النصّ والمكان المتحرّك مرجعيّة إلزاميّة، بل خارقة للزمان والمكان، بحيث أصبح غير منظور إليه إلا في إطار الفقه وليس العكس، وهو أمر وصل بالعقل الإسلاميّ اليوم إلى عدم القدرة على إعطاء الصورة الخالصة للإسلام بعيداً عن ملامسة الفقهاء للنصوص. ونحن لا نستطيع أن نقول بمنع هذه الملامسة، ولا هذا هو موضع انشغالنا في هذه القضية، فذلك أمر لا بدّ منه، وهو تبيان للأمة غير الواعية بمنهاجها الذي تسير عليه جملة وتفصيلاً. وإنّما نعني عدم الفصل بين النصّ وأثره المترتّب عليه من منظور العقل الفقهيّ، وهذا هو الذي دعا عبد الجواد ياسين إلى التساؤل: هل العقل الإسلاميّ الراهن في مجمله مؤسّس على الفقه أكثر ممّا هو مبنيّ على النص؟ بمعنى أنّه يستمدّ الخلفية المرجعيّة من تلك المنظومة الفقهيّة المدوّنة التي لم تكن في ذاتها نصيّة بالقدر المطلوب، ممّا سبب ذلك مسافة زمنيّة غير معلومة في ذاكرة العقل الإسلاميّ بين العقل الإسلاميّ الراهن وبين العصر الذي يعيشه، أي أنّ هناك خللاً في الانسجام التام بين اللحظة الزمنيّة والبعد المكانيّ الذي تعيشه الأمّة وبين مناهج وطرائق التفكير لدى العقل الإسلاميّ الراهن اليوم، ممّا أدّى إلى وجود قطيعة مع العقل المسلم.

إننا ينبغي أن لا ننسى أمراً آخر وهو أنّ الطاقات والإمكانات التي أودعها الله في النصّ المؤسّس ليستمدّ منها صلاحيّته عبر الزمان والمكان ليست موجودة في الفقه، برغم كونه منبثقاً منها؛ على أنّ الفقه الإسلاميّ لم يتولد من خلال النصوص المؤسّسة فقط، وإنّما كان للمؤثرات السياسيّة الناشئة في لحظته أثر كبير في ولادته وتشكّله، ومن ثمّ إغلاق دائرة العقل الإسلاميّ في إطاره.

بيد أنّ مصدريّة كلّ منهما هي التي جعلت من الأوّل خارقاً للزمان والمكان، ومن الثاني مقيّداً بل مؤطّراً بالزمان والمكان. والغريب في الأمر أنّ القواعد الفقهيّة التي جاءت مناهضة للتقليد وداعية إلى النّظر في النصوص المؤسّسة، باعتبارها النبع الذي يستمدّ منه العقل المسلم منهاج الحياة وطرائق التفكير، كان لها - أي تلك القواعد الفقهيّة- حضورها في التراث الإسلاميّ، منذ مرحلة التدوين وحتّى يومنا هذا. بيد أنّها على نطاق الممارسة العمليّة كان حضورها خافتاً، بل كان التعصّب للرأي هو الأكثر حضوراً عند من يمثلون الوعي العام.

إذن هناك نصوص مؤسّسة للفكر الإسلاميّ يستمدّ منها صلاحيّته عبر الزمان والمكان منسجمة مع الحراك الاجتماعيّ والواقع الزمانيّ، هي التي تؤسّس للفكر مصداقيّته عند الآخر، إذا استطاع العقل الإسلاميّ أن يقدّمها بعيداً عن الجدليّات الأيديولوجيّة التي أفرزها التاريخ الإسلاميّ، وبعيدة عن المعطيات السيكولوجيّة عبر تاريخه السياسيّ الذي أثر في حركتها ونمو فكرها، بما يتطابق تماما مع الذكر المقدّس.

إنّ الإشكالية التي غيّبها أو حاول أن يغيبها الفقهاء هي إقصاؤهم للنصوص المطلقة عن فاعليتها في الزمان والمكان، وكان الأجدر في هذه الحالة إقامة علاقة جدلية بين نصّ مطلق، وواقع متغيّر حتّى يستطيع الفكر الإسلامي اكتساب عالميّته، بل وأزليّته...

هذه المسألة دفعت العديد من المفكّرين إلى طرح إشكالية لم تكن تطرح من قبل حينما كانت النصوص المؤسّسة خالية من التراكمات الاجتهاديّة وهي: ما هو الإسلام؟ وهو سؤال تبدو فيه الغرابة، إذ كيف تستشكل ماهيّة الإسلام بعد خمسة عشر قرناً من الزمان على واقعيته، على مفكّرين معنيين بتفكيك التراث الإسلاميّ وإيضاح عالميّته.

إنّ غياب هذه النّظرة هو الذي جعل من الأمّة الإسلاميّة تتفكّك إلى تيّارات تتصادم وتتناحر، وتدّعي كلّ واحدة منها أنّها تملك ناصية الحقيقة المطلقة وأنّ غيرها على باطل.

المصدر: التفاهم.

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك