المسألة الدينيّة ــــ السياسيّة بين الدولة الدينيّة والدولة الدين

عبد الله السيد ولد أباه
 
 
يخترق الفكر الإسلامي المعاصر اليوم صدام حادّ حول المسألة الدينيّة ــــــ السياسيّة في ما وراء الاتّفاق الظاهر حول مطلب "الدولة الإسلاميّة" والنبذ الجليّ لمقولة "العلمانيّة".
 

والأطروحة التي ننطلق منها هي أنّ مفهومي "الدولة الإسلاميّة والعلمانيّة" يحجبان هذا التباين الواسع في النّظر للمسألة السياسيّة - الدينيّة، سواء في مقاربتها التحليليّة - التاريخيّة أم في النظر لطبيعة الدولة الراهنة ونمط شرعيّتها وصيغ الاندماج فيها.

وليس من همّنا وضع تحديدات نظريّة دقيقة لهذين المصطلحين، بل سننطلق من تناولهما الإشكاليّ لضبط خيوط المسألة في أبعادها الحاضرة، في ما وراء الصدام الأصوليّ - العلمانيّ المتفجّر حاليّاً.

ويُمكن أن تميز داخل الفكر الإسلاميّ المعاصر بين اتّجاهات ثلاثة متمايزة في النّظر للمسألة:

ـــــــ اتّجاه يحصر نموذج الدولة الإسلاميّة في أشكالها التاريخيّة، أي دولة الخلافة والدولة السلطانيّة، بالاستناد إلى المرجعيّة الفقهيّة الوسيطة.

ــــــ اتّجاه يسعى إلى أسلمة الدولة الوطنيّة الحديثة، أي إضفاء الشرعيّة الدينيّة على هياكلها المؤسسيّة البيروقراطيّة، مع تصويب منظومتها القيميّة التشريعيّة.

ــــــ اتّجاه يتبنّى الدولة الحديثة ونمط العقلنة السياسيّة التي تقوم عليها، من منطلق تصوّرها الإجرائيّ الأداتيّ الذي لا يتناقض جوهريّاً مع المرجعيّة الإسلاميّة، بل يقبل شتّى المقاربات القيميّة.

والواقع أنّ الفرق شاسع بين هذه التصوّرات الثلاثة، في منحيين بارزين على الأقلّ:

أوّلهما: طبيعة الدولة ذاتها: هل هي إمامة شرعيّة أم أداة تنظيم إجرائيّة أم تجسيد لقيم جماعيّة مشتركة؟

ثانيهما: طبيعة علاقة الدين بهذه الدولة: هل هي نظامه المؤسسيّ الذي لا هويّة له خارجه أم هي نظام بشريّ تحكمه قيم دينيّة أم أداة تنظيم اجتماعيّ له منطقه الداخليّ الذي لا يتعارض مع أيّ منظور دينيّ أو عقديّ؟

....إنّ ما نريد أن نبّنيه هنا هو أن الفكر الإسلامي المعاصر تأرجح بطريقة ملتبسة ما بين مقاييس الأحكام السلطانيّة في نظرتها للدولة التي كان مؤطّرة بتجربة دولة الخلافة أو الدولة السلطانيّة والتصوّرات القانونيّة للدولة الحديثة، دون تبيّن خيوط الفصل بين نموذجي الدولة واستباعات هذا الفصل المنهجيّة والنظريّة.

نلمس هذا التأرجح جليّاً في تحديد طبيعة النظام السياسيّ في الإسلام: هل يشكّل مقوّماً من مقوّماته الذاتيّة وأصوله العقديّة أم هو إطار لتنظيم شؤون المجتمع المسلم وضرورة سياسيّة واجتماعيّة، وليس أصلاً عقديّاً أو التزاماً شرعيّاً؟

فالإسلاميون المعاصرون وإن شكّلت أدبيّات السياسة الشرعيّة مخزونهم الفقهيّ الذي يتسلّحون به، نادراً ما يقفون عندها في تحديد مبحث الإمامة الذي يقصر عن القول بالدولة الإسلامية التي هي الطبعة الإسلامية للدولة القومية الحديثة.

ويرجع الإشكال إلى طبيعة النظرة الراهنة للنموذج التاريخيّ للدولة الإسلاميّة، التي تعبّر تلك الأدبيّات عنه.

ولا يمكن بداهة فصل المسألة الدينية ــــــ السياسيّة عن المناخ العقديّ والسياسيّ للصراعات التاريخيّة الحادّة التي مزّقت الأمّة منذ نهاية الخلافة الراشدة.

لقد أفضى هذا السياق التصادمي إلى تحطيم الحاجز بين العقديّ والإيديولوجيّ في التصوّرات الدينيّة للمسألة السياسيّة.

ولنشر هنا إلى أنّ التراث السياسيّ الإسلاميّ الوسيط يتوزّع إلى ثلاث مدارس متمايزة هي الفلسفة السياسيّة والآداب السلطانيّة والأحكام السلطانيّة.

أمّا المبحث الفلسفيّ فلا يختلف عن مألوف الفكر اليونانيّ في نسخته الأفلاطونيّة أساساً، وإشكاليّته هي رسم المدينة الفاضلة، التي تنسجم والنظام العقليّ للوجود، وغايتها هي تحصيل السّعادة الفرديّة والجماعيّة.

أمّا الآداب السلطانيّة المستوحاة في الغالب من التراث الفارسيّ، فتندرج في سياق أدبيّات مرايا الحكّام بما تتضمّنه من نصائح عمليّة لتدبير الحكم وافتكاك السّلطة والحفاظ عليها.

وأمّا الأحكام السلطانيّة فهو جانب الإمامة وشروطها وموانعها ونواقضها...

ثانياً: فصل الدين عن الدولة أو فصل السياسة عن الدّين؟

لاحظنا أنّ وجوه الفكر الإسلاميّ المعاصر قد تعوّدت على تناول شرعيّة الدولة الحديثة وعلاقتها بالدّين من منطلق أدبيّات الأحكام السلطانيّة والسياسة الشرعيّة.

وعادة ما يُفضي هذا التناول إلى نعت الدولة الحديثة بالعلمانيّة التي تعني في السياق التداوليّ الإسلاميّ المعاصر نبذ الدّين وإقصائه من الشّأن العام.

ومع أنّ الحوار محتدم راهناً في السّاحة الفكريّة والسياسيّة العربيّة حول موضوع "العلمانيّة" وعلاقتها بالدين إلا أنّ هذا المفهوم غالباً ما يحجب الأسئلة الحقيقيّة التي تطرحها المسألة الدينيّة السياسيّة في الدول الحديثة.

فهل تعني العلمانيّة فصل الدّين عن الدولة أم فصل السياسة عن الدّين أم إقصاء الدّين من المجال العام؟

وكيف يُمكن النظر إلى تفصيلات هذه العلاقة بحسب تباين وتنوّع السياقات التي طبّقت فيها النظم العلمانيّة؟

لا يبدو أنّ هذه الإشكالات قد لقيت اهتماماً جاداً في السّاحة الفكريّة العربيّة، حيث الصّراع الإيديولوجيّ على أشدّه حول سبل ضبط العلاقة بين الدينيّ والسياسيّ في مسلك تدبير الحكم.

وإذا تركنا جانباً الكتابات التبشيريّة المتطرّفة بالعلمانيّة التي برزت منذ نهاية القرن التاسع عشر في قالبين فكريين هما من جهة النّزعة الوضعيّة المبسّطة الداعية إلى استبدال المنقول الدينيّ بالمعقول التجريبيّ، ومن جهة أخرى النزعة التنويريّة التاريخيّة في نظرتها للدين كمرحلة عقليّة متجاوزة تتصادم وقيم الحريّة والعقد الاجتماعيّ، ورجعنا إلى الكتابات الأكثر رصانة وعمقاً، أمكننا التمييز داخل الاتّجاه العلمانيّ العربيّ بين مقاربتين: صداميّة تقوم على فكرة القطيعة بين الدّين من حيث هو معتقد وسلطة، والدولة من حيث هي مؤسّسة الانتظام الإنسانيّ المشترك، وتوفيقيّة تقوم على قدرة الدين الإسلاميّ على استيعاب العلمنة من داخل نسقه العقديّ والرمزيّ على غرار الديانات الأخرى.

أمّا المقاربة الأولى فيمثلها أقوى تمثيل عزيز العظمة، الذي يوظّف عدّة مفهوميّة مركّبة وصلبة في الدّفاع عن إقصاء الدّين من الشأن العام، وليس من السياق السياسيّ وحده.

ففي كتابه الأهمّ "العلمانيّة من منظور مختلف" يخلص في تعريفه للعلمانيّة ورصده لحقول انطباقها وتتبّعه لمسار نشأتها ولتحوّلاتها، إلى أنّها أوسع من تضادّ الدين والدولة، وأنّ لها أوجهاً متعدّدة من بينها الابستمولوجيّ العلميّ (نفي الأسباب الخارجة عن الظواهر الطبيعيّة والتاريخيّة)، ومن بينها التاريخانيّ الغائيّ (تأكيد تحوّل التاريخ دون كلل)، ومنها المؤسّسي القانونيّ (الفصل التامّ بين المؤسّسة السياسيّة والمؤسّسة الدينيّة)، ومنها الأخلاقيّ والقيميّ (ربط الأخلاق بالتاريخ والوازع بالضّمير بدل الإلزام والترهيب بعذاب الآخرة)...

أمّا المقاربة الثانية فيمثلها أجلى تمثيل محمد الشرفي في كتابه "الإسلام والحريّة: الالتباس التاريخيّ". والفكرة الأساسيّة التي يدافع عنها الشّرفي هي الفصل في الإسلام بين الجانب العقديّ التعبّديّ الثابت والجانب التشريعيّ المؤسّسي الذي هو البعد التاريخيّ المتغيّر الذي يحيل إلى سياق ماضويّ، لا قداسة له، وليس مرتبطاً عضويّاً برسالة الإسلام.

ويخلص الشرفي من استعراضه لتجربة الخلافة ونظام الدولة في السياق التاريخيّ الإسلاميّ، إلى أنّ التصوّر الإسلاميّ للحكم قابل لاستيعاب النظام العلمانيّ الذي لا يعني أكثر من الفصل الوظيفيّ بين الشأن الدينيّ والشأن السياسيّ يقول:

"وما ينجم بوضوح ممّا تقدّم أنّه من ناحية لا يمكن أن تتوفّر الحريّة ولا الديمقراطية بدون الفصل بين سياسيّ الأمور ودينها، ومن ناحية أخرى أنّ الدولة الإسلاميّة التي لم تذكر في القرآن ولا السنّة هي مؤسّسة ابتدعها الإنسان فاستعمل الدين لغايات سياسيّة".

بيد أنّه يقرّ أنّ تخلّي الدولة عن وظيفتها في رعاية الدّين وإقامته غير مقبول في السياق الإسلاميّ، ولذا اقترح قيام سلطة دستوريّة رابعة تدير شؤون الدين، على أن يكون الفصل محصوراً في صلب الدولة بين الوظيفة الدينيّة والوظائف السياسيّة...

ونلمس التذبذب ذاته في الخطاب الإسلاميّ حول العلمانيّة الذي يتأرجح بين النظر للعلمنة بصفتها فصلاً مرفوضاً بين الدّين والدولة لا يستقيم مع التصوّر الشموليّ للإسلام والنظر إليها كرؤية شاملة للكون تقوم على التصوّر العقلانيّ الماديّ للطبيعة وللمجتمع.

فالتصوّر الأوّليّ هو السّائد لدى الكتّاب الإسلاميين، الذين يذهبون إلى أنّ العلمانية نتجت عن صراع الكنيسة والدولة في الغرب المسيحيّ، فكانت الحلّ الأمثل لهذا الصدام الذي لم يقم في المجال الإسلاميّ...

إنّ ما نريد أن نشير إليه.... هو أنّ الخطابين المتناوئين [الإسلاميّ والعلمانيّ] يتّفقان في ثغرتين أساسيتين:

أولاهما: اختزال علاقة الدين والسياسة في الطابع المؤسّسي للدولة، أي نمط اشتغالها وهياكلها الدستوريّة والتشريعيّة (المقاربة الرخوة).

وثانيتهما: مصادرة تماهي الحداثة والعلمنة، من دون تبيّن الرهانات المعقّدة والمتباينة لعلاقة الدينيّ بالسياسيّ في المجتمعات الحديثة (المقاربة الصّلبة).

ولنبادر بالتنبيه هنا إلى أنّ السّمة المميّزة للدولة الحديثة هو أنّها تأسّست على مقاربة جديدة للسّلطة ولعلاقة الشّأن العام بالجسم الاجتماعيّ، قوامها التصوّر القانونيّ الإجرائيّ للمجموعة السياسيّة، بصفتها تعبيراً عن علاقات تعاقديّة، تستمدّ شرعيّتها من داخل نسق المجتمع نفسه.

فالدولة من هذا المنظور ليست سوى أداة تنظيميّة للنوازع الفرديّة المتصادمة، ولم تعد إطاراً شاملاً لتكريس قيم الفضيلة وتحقيق السّعادة، حسب التصوّرات اليونانيّة والوسيطة التي اعتمدتها الأدبيّات السياسيّة الإسلاميّة.

بيد أنّ هذا التحوّل قد أفضى إلى نتيجتين تبدوان متعارضتين هما: تقويض الطابع المطلق الشموليّ للدولة باختزال مبدأ التنظيم السياسيّ في إجرائيّة التعاقد العرضيّ، واستبدال المطلق الدينيّ الذي كان هو أساس شرعيّة الدولة الوسيطة (بمختلف ألوانها) بالمطلق السياسيّ أي الولاء للأمّة بمفهومها القوميّ والرمزيّ.

وقد أبدع العقل السياسيّ الحديث للتغلب على هذه المفارقة مفاهيم محوريّة مثل السيادة والتمثيل والشخصيّة، وهي كلّها تعبيرات عن الحاجة الموضوعيّة للوساطة المطلوبة بين ذرات الجسم السياسيّ المشتتة بعد انهيار الوحدة الأصليّة للكيان السياسيّ التي كان مرتكزها هو الدين.

ومن الواضح أنّ الأنموذج القانونيّ الذي أفرز هذه المفاهيم، تحوّل من سمته الإجرائيّة المحضة (أي تنظيم علاقات القوى بين المجتمع مع الحياد الشامل إزاء شتّى التصوّرات والأنساق القيميّة) إلى طابع قيميّ إيجابيّ، غذّته الأيديولوجيّات التاريخانيّة والوضعيّة التي هي أساس التصوّرات العلمانيّة السّائدة. فالدين من هذا المنظور هو في آن واحد العامل الخارجيّ المقصيّ، لأنّ مبدأ الشرعيّة مستمدّ من داخل نمط الاجتماع المدنيّ والأفق الرمزيّ الحاضر بصفة ملتبسة من خلال السّمة الإطلاقيّة للكيان السياسيّ.

ولقد تفطن سراة الفكر الليبرالي الحديث إلى أنّ المرور من المطلق الدينيّ إلى المطلق السياسيّ يقتضي تحويل الدولة إلى دين يؤدّي كلّ الوظائف العقديّة والإدماجيّة والرمزيّة للديانات. فاعتبر كانط أنّ دولة المواطنة القائمة على الحريّة تحقّق الجوهر الأخلاقيّ للدّين في حدود العقل في حين رأى هوبز أنّ السّلطة المطلقة للدولة "تضمن سيطرة الربّ في الأرض وتحقق القوانين الإلهيّة المطلقة"، في الوقت الذي ماهى سبينوزا بين "الدين الحقّ والمتناسق مع نظام الوجود و"الحقّ الطبيعيّ" من منطلق وحدة الإله والطبيعة.

أمّا روسو فقد تحدّث عن "الديانة المدنيّة العموميّة"، أي ديانة المواطنة التي لئن كانت متميّزة عن المعتقدات الدينيّة، إلا أنّ لها قداستها، أمّا هيغل فقد اعتبر الدولة الليبراليّة الحديثة التجسيد التاريخيّ للمطلق الدينيّ، والتحقيق الفعليّ لقيم الحريّة المسيحيّة.

من هذا المنظور يُبيّن كارل شميت أنّ العلمانيّة لا تعني في الحقيقة الفصل بين الدين والدولة، وإنّما تحويل المفاهيم اللاهوتيّة إلى مقولات سياسيّة إجرائيّة، حيث يتحوّل "الحاكم السيّد" (الدولة) إلى "الإله المطلق". فالمقاييس المحايثة لا تتناقض ضرورة مع القيم الدينيّة المتعالية، بل هي ترجمة لها في النسق السياسيّ المعاصر.

وعادة ما تخلط المقاربات السائدة حول العلمانية ما بين اتّجاهات ثلاثة، ليست مقترنة بالضرورة.

- العلمنة بصفتها فصلاً مؤسّسيّاً بين الدوائر الدينيّة والزمنيّة.

- العلمنة بصفتها مظهراً لتراجع وانحسار المعتقدات والممارسات الدينيّة.

- العلمنة بصفتها تقهقراً للدين في الدائرة الخاصّة.

فهذه الظواهر ليست بالضرورة متلازمة، مترابطة، بل تتمايز بحسب السياقات والسّاحات، حتّى في العالم الغربيّ وداخل المجال الأوروبيّ ذاته، ولكلّ واحدة من هذه الظواهر محدّداتها وأسبابها الظرفيّة.

فإذا كان التمايز بين المؤسّستين الدينيّة والسياسيّة حالة عامّة سائدة في كلّ البلدان الغربيّة الحديثة، إلا أنّ هذه الحالة لا تقتضي ضرورة تناقص أو انحسار الشّعور الدينيّ أو الممارسة الطقوسيّة الدينيّة، كما لا تعني هذه الحالة حصر الدين في الوعي الفرديّ.

ففي بعض البلدان، حاربت الكنيسة الحداثة السياسيّة والثقافيّة فنتج عن ذلك تقلّص وتراجع حضور الدين في الحياة العامّة (كما هو الشأن في إسبانيا)، وفي بلدان أخرى اضطلعت الكنيسة بدور محوريّ في مواجهة الاستبداد، فكانت طليعة تنويريّة للمجتمع المدنيّ، فشهدت صحوة دينيّة جليّة للعيان...

وما يتعيّن تأكيده هو أنّ العلمنة المتحقّقة هي العلمنة المؤسّسيّة المتجسّدة في الدولة القوميّة التي اضطلعت ببعض الأدوار التاريخيّة للدين، خصوصاً ما يتعلّق منها بالأبعاد الرمزيّة المشتركة، أي دائرة المقدّس الجماعيّ الذي تحوّل منذ العصور الحديثة ــــ كما بيّنا ــــ من المؤسّسة الدينيّة التي كانت تؤطّر النسق الاجتماعيّ إلى الدولة التي أصبحت تؤدّي الدور ذاته، في حين اضطلعت الإيديولوجيّات بدور الدين العقديّ، والطقوسيّ، في سعيها لمنافسة الديانات في معتقداتها التأويليّة التفسيريّة وفي ضبطها لوعي النّاس ومخيّلتهم.

فالخطأ الجلل الذي تقع فيه أغلب اتّجاهات الفكر الإسلاميّ هو محاولة أسلمة الدولة الوطنيّة الحديثة، من دون الوعي بأنّها تستبطن الوظائف العموميّة التقليديّة للدين، وبإمكانها بسهولة تحويل شتى الدعوات الدينيّة إلى أحد أجهزتها الإيديولوجيّة الفاعلة التي توظفها في تكريس عقيدة الولاء للكيان القومي.

وقد بيّن أولفييه روا في أحد أعماله الأخيرة أنّ التيّارات الإسلاميّة الجديدة تؤكّد ـــــ بدلاً من أن تنفي ـــــ الاتّجاه المتنامي إلى انبثاق فصل جذريّ بين العقل السياسيّ في دلالته الكليّة الشّاملة كمقوّم انتماء وطني لا يصطدم بالدين وحيّز الانتماءات العقديّة والسياسيّة الخصوصيّة، التي يُشكّل الوعي الدينيّ السياسيّ أحد تجلّياتها.

أي بعبارة أخرى، إنّ ما نلمسه حاليّاً هو تحوّل التيّارات الإسلاميّة في الوعي العام إلى مجموعات سياسيّة تمارس دورها التعبويّ والإيديولوجيّ ضمن نسق الرمزيّة الدينيّة الجماعيّة، من دون أن تتمكّن من وراثة المؤسّسة الدينيّة التقليديّة (الإفتاء والوقف والتدريس) التي كانت تشكّل عماد وجود الأمّة الدينيّ والثقافيّ.

ومن الواضح أنّ المجموعات التي تطالب بحق المشاركة السياسيّة تجد نفسها مرغمة على قبول كسر احتكار الشرعيّة الدينيّة وعلى الإقرار ضمناً ومسبقاً بشرعيّة النّظام السياسيّ الذي تصارع من داخله.

وهكذا يمكن القول إنّ هذه المجموعات تدفع بنمط انتظامها واستراتيجيّاتها النضاليّة نهج "العلمنة السياسيّة" باندماجها النّشط في منطق العقل السياسيّ للدولة الوطنيّة الحديثة القائم على الفصل بين الوعي الدينيّ والمجال العموميّ.

المصدر: التسامح

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك