الحضارة الكاملة في أفكار الإسلاميين المحدثين والمعاصرين

ظهرت رسالة شكيب أرسلان الصغيرة: (لماذا تأخَّر المسلمون، ولماذا تقدّم غيرهم) في مجلة المنار عام 1933م، ثمّ طُبعت بشكل منفصل مرّتين بعد ذلك في الثلاثينات والأربعينات. وبرغم أنّ سؤال التقدّم شكّل عنواناً لها، لكنّ الحضارة عنده ــــــ وليس المدنيّة ــــــ تعني الدّينَ وحده، فمشروع المسلمين للنهوض والتقدّم هو الإسلام نفسه، ويعود انحطاطهم إلى تركهم الدّين وقيمه وأخلاقه. وجاء كتاب محمد إقبال المفكّر الإسلاميّ المعروفَ بالهند عام 1935م بعنوان (إحياء الإسلام) ليصبّ في المنحنى ذاته، فإذا أراد المسلمون أن يتقدّموا فلا بدّ من العودة إلى أصول دينهم وشريعتهم بطرائق ومناهج مغايرة عن المناهج السّابقة.

على أنّ النّهج الانفصاليّ، نهج الحضارة المكتملة والمستغنية والمنفصلة إنّما ظهر أوّل ما ظهر في مقالة لأبي الأعلى المودودي (1979)، المفكّر الهنديّ، ثمّ الناشط الإسلاميّ بباكستان، عام 1941م وتحمل المقالة عنوان: نحن والحضارة الغربيّة، وهو لا يرى الخلاص إلا في التنكّر للغرب وحضارته التي تُعاني من داءَين: داء نقص النْسل، وداء القوميّة، وإذا لم تكن شواهد نقص النْسل كثيرة آنذاك، فإنّ شواهد مساوئ القوميّة كانت حاضرة للعيان في الصّراع الذي شبَّ بين الدول الغربيّة في الحرب العالميّة الثانية (1939-1945). وقد تطوّرت كتابات المودودي في الأربعينات وحتّى السبعينات باتّجاه إقامة حزب (الجماعة الإسلاميّة) الذي صار هدفه إقامة الدولة الإسلاميّة، التي تُحقِّق الحضارة الإسلاميّة الجديدة على الأسس والأصول الموروثة، وهي دولةٌ تنفصل عن الغرب، وتُعاديه (وتستعلي) عليه باتّجاه الخلاص من ماديّته واستعماره، وإقامة (البديل الحضاريّ) للشقاء المُعاصر الذي نشره الغرب في جنبات الأرض.

أمّا زميله أبو الحسن الندويّ، فقد تردّد على القاهرة منذ أواخر الأربعينات، ونشر في مطلع الخمسينات كتابين اثنين عن البديل (الحضاريّ) المُرتجى: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (1950م)، و(الصّراع بين الفكرة الإسلاميّة والفكرة الغربيّة) (1952م). في الكتاب الأوّل استعرض الندوي أحوال العرب والعالم قبل البعثة المحمديّة، والنقلة التي أحدثها الدّين الجديد في عالَم العصور الوسطى، وكيف سعى العالم بتراجع الدور الحضاريّ للمسلمين، وظهور الثقافات الأخرى القائمة على المادية والمُغالبة، أمّا في الكتاب الثاني فقد استعرض الندوي الصّراع بين الفكرتين الغربيّة والإسلاميّة في القرنين التاسع عشر والعشرين، وقد انتهى إلى أنّ الحضارة الغربيّة ظهرت وسيطرت؛ لكنّ الإسلام لم يُغلب غلبة قاصمة، وإنّما لا بدّ من نهوض جديد لا يقوده غير العرب الذين قادوا النّهضة الإسلاميّة الأولى، وقد بدأ الأمر لدى العرب بالفعل في ظهور الحركة الإسلامية الناشطة، وفي قيام الثورة المصريّة (كان ذلك قبل الاشتباك بين جمال عبد الناصر والإخوان المسلمين عام 1954م).

إنّ الثابت الآن أنّ كتابات المودوديّ والندويّ، في الأربعينات والخمسينات، صارت هي الغذاء الفكريّ للخصوصيّة والحضارة الكاملة، أو البديل الحضاريّ لدى الإسلاميين العرب، وبخاصة الإخوان المسلمون. ومن اللافت للانتباه أنّ سيّد قطب (1966) كان هو الذي كتب مقدّمة لكتاب الندويّ الأوّل. ثمّ إنّه في كتاباته عن خصوصيّة الإسلام وتصوّراته الحضاريّة، أفاد أكثر ما أفاد من كتابات المودودي والندويّ ـــــــ كما تدلّ عن ذلك مقارنات النصوص ـــــــ ثمّ إنّه في أطروحته بشأن (الحاكميّة الإلهيّة) أفاد إفادةً مباشرة من رسالة المودوديّ المعروفة باسم (المصطحات الأربعة)، والتي صدرت في القاهرة بالعربيّة عام 1951م. والمصطلحات الأربعة عند المودوديّ هي: الإله، والربّ، والعبادة، والدين. وباستعراض رسائل وكتابات سيّد قطب في الخمسينات والستينات بشأن الحضارة وبشأن إقامة الدولة الإسلاميّة، يتبيّن لنا كيف اكتمل ظهور فكرة الحضارة الكاملة والمتكاملة: الإسلام والسّلام العالميّ (1951)، ومعركة الإسلام والرأسماليّة (1952)، والإسلام ومشكلات الحضارة (1953)، وخصائص التصوّر الإسلاميّ ومقوّماته (1962) ومعالم في الطريق (1964). فالداءُ العياءُ في الحضارة الغربيّة هو قيامها على مناقضة الدين أو على قاعدة لا دينيّة، بينما عماد الحضارة كلّه في الإسلام إنّما هو الدّين الإسلاميّ وقيمه الحافظة لإنسانيّة الإنسان، والموازنة بين الروحيّ والماديّ فيه، واستعادةُ الزمام لصالح نظريّة الإسلام وشريعته، تتطلب إخراج الغرب من ديارنا وثقافتنا، وإقامة الدولة الإسلاميّة التي تطبّق الشريعة فتحفظ الهويّة والانتماء والالتزام، وتنشر حضارتنا في العالمَ من جديد.

أدَّى وصول المسألة الحضاريّة لدى الإسلاميين إلى الدولة التي صارت هي جوهر المشروع الجديد، إلى تضاؤل الحديث لديهم في الحضارة.

ففي العام الذي صدر فيه كتاب: معالم في الطريق (1964) لسيّد قطب، صدر كتاب محمد محمد حسين: الإسلام والحضارة الغربيّة (وهو استنساخ لمقالات المودوديّ بالمجموعة تحت اسم: نحن والحضارة الغربيّة)، كما صدر في عام 1965م كتاب محمد قطب: جاهليّة القرن العشرين، وكتاب أنور الجندي: الإسلام والحضارة. أمّا بعد ذلك فقد انصبّت المؤلفات على إيضاح تفاصيل الحلّ الإسلاميّ، أي طرائق بناء النظام الإسلاميّ، والدولة الإسلاميّة.

أمّا في التسعينات من القرن الماضي، وما بعد، فإنّ مؤلفَّات الإسلاميين في المسألة الحضاريّة، كانت ردود فعل على أطروحة هنتنغتون بشأن صراع الحضارات، وهي مؤلفات تستعيد مرحلة المودوديّ والندويّ، فتقرأ وقائع عداوات الغرب ضد الإسلام والمسلمين، وتستشرف الحلّ الإسلاميّ الذي آن أوانه، ولا يمنع الوصول إليه غير فشل الأنظمة، وتآمر الغرب.

... وما توقف الحديثُ في الحضارة وقضاياها ومشكلاتها لدى العرب بتوقُّف الإسلاميين عن الحديث إلا في الدولة، فقد كتب قسطنطين زريق كتابه عن الحضارة قياماً واستبياناً في الستينات، وكانت أفكاره كلُّها فيه تطويراً وعملاً على أطروحة أرنولد توينبي في التحدّي والاستجابة. كما أنّ حسين مؤنس، أصدر في الثمانينات كتاباً أكاديميّاً ونظريّاً عن الحضارات وتطوّرها، ولكن يبقى هناك استثناءان تغييريان في هذا المجال، أوّلهما لمالك بن نبي الذي كان إسلاميّاً مستقلاً، وثانياً لأنور عبد الملك وهو من مفكّري العالمثالثيّة والنهج اليساريّ الصينيّ. ومالك بن نبي الذي صدرت أكثر كتبه في الحضارة والمسألة الثقافيّة في حقبة الإحيائيّة الإسلاميّة الصّاعدة في الخمسينات والستينات؛ ما انضمّ إلى تيّار لعْن الغرب والحاكميّة، بل درس الأمر بمنهجيّاتٍ ثقافيّةٍ وأنثروبولوجيّة ونفسيّة، وظلّ على رأي النهضويين في معارضة الخصوصيّة، وفي ضرورة الشراكة مع العالم، في حين رأى أنور عبد الملك حتميّة قيام تحالف عالمثالثيّ في وجه الغرب الرأسماليّ، الأطراف الآسيويّة (الصين والهند) هي القائدةُ فيه، وللمسلمين بحكم تضرّرهم من الغرب موقع معقولٌ ضِمْنه.

بدأ الحديث لدى العرب والمسلمين في (المدنيّة) إذاً باعتبارها صناعةً أوروبيّةً وغربيّة، وأنّ لها شروطاً حتميّةً، إذا توافرت يحدثُ التقدم، وقد اختلفوا في عناصر أو شروط المدنيّة، لكنّهم اتّفقوا على ضرورة الشراكة مع الغرب فيها، أو على الأقلّ على الإفادة من إيجابيّات المدنيّة الأوروبيّة والغربيّة القائمة، ثمّ حدث التحوّل في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين باتّجاه إحلال إشكاليّة الهويّة محلّ إشكاليّة التقدّم، ومع هذا التحوّل صار الحديث عن (الحضارة) وليس عن (المدنيّة)، والحضارة في نظر الإسلاميين الجدد تكوينٌ مُصْمَتٌ عمادُهُ الدين الموحى، وليست صناعة إنسانيّة تبنى مدماكاً مدماكاً؛ ولأنَّ الأمر كذلك فلا علَّة لإزاحة الإسلام وحضارته عن السيادة في العالم وفي حياة المسلمين إلا الاستيلاء الغربيّ. ولذا لا بدّ من النضال المزدوج لإخراج الغرب وثقافته من ديار المسلمين، ولإقامة الدولة الإسلاميّة التي تعيد الإسلام وشريعته وحضارته إلى حياة المسلمين، ومنذ صارت (الحاكميّة الإلهيّة) أو الدولة التي تطبق الشّريعة، في مركز النقاش، انتهى أكثر الحديث لدى الإسلاميين عن الحضارة شروطاً وقياماً، كما انتهى من قبل الحديث عن المدنيّة.

د.رضوان السيد (بتصرّف)/الموقع الرسميّ

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك