تناحُر الدَّلالات في الفكر الدِّيني
بالعودة إلى موقف عدد من المفكرين والفلاسفة من الدِّين، يمكن فهم طبيعة الموقف الذي اتَّخَذوه، ليس من الدِّين، في ذاته، باعتباره فكراً، وإيماناً بهذا الفكر، بل من الطريقة التي تَمَّ بها تأويل هذا الفكر وتحريفه، أو نقل هذا الدِّين، من سياق فِكريٍّ إيمانيٍّ، إلى سياق فكري أيديولوجي، تَحَوَّل معه الدِّين، نفسه، من نصٍّ يقوم على التبعية، بالتصديق والاعتقاد، إلى نص، خارجٍ من معنًى، جاء تالياً على النص، خارجاً عنه، وليس خارجاً منه.
تفتيتُ الدِّين، وتحويلُه من نصٍّ، إلى نصوص، ومن فكرة، إلى أفكار، كان بين ما جعل بعض هؤلاء الفلاسفة والمفكرين، ينظرون إلى رجال الدِّين بنوع من الشَّك والريبة، وينتقدون سلوكاتهم التي كانت نوعاً من الدِّين في قلب الدِّين.
فنيتشه، انتقد المسيحيّة، بهذا المعنى، ما يعني أنّه انتقد رجالَ الدين، أو "اللاهوتيين"، وسيعتبر البروتستانتيّة، "بمثابة فالجٍ نِصْفِيٍّ في المسيحية".
لم تأت مواقف هؤلاء الفلاسفة، من مجرد فكرٍ نظريّ تجريديّ، بل إنّ تجربة أوروبا، والغرب، إجمالاً، مع الكنيسة، وما كانت عليه الكنيسة من تَطرُّف، وشطط في استعمال الدِّين، هو ما دفع هؤلاء إلى رفض الدِّين، باعتباره أداة لاستغلال الإنسان، وفرض هيمنة اللاهوتيين، ممن وظَّفُوا الدِّين للاستفراد بالسلطة، ولِمُصادَرة العلم والمعرفة، ومحاصرة العقل والنظر، وقتل المفكّرين والعلماء، بدعوى التجديف، والمسّ بالمعتقدات.
فمُخالَفة "الكاهن"، كانت تعني مُخالَفَة الله، وكان الكاهن، بتعبير نيتشه، هو وحْدَه المُخَلِّص. ما يعني أنّ ذات الله، حَلَّت في ذات الكاهن، أو رجل الدِّين، وأصبح المسُّ بالكاهن، أو انتقادُه، هو مَسٌّ بذات الله، ونقد لها. فَهُم "قلبوا بالتدريج الدِّين، والعبادة والأخلاق والتاريخ بطريقة لا يمكن علاجُها" ولا مناقضة قيمها الطبيعية.
سيجعل هؤلاء الكَهَنَة، ونيتشه، هنا يتحدَّث عن اللاهوتيين الأوائل، من النص الدينيّ، وسيلة لتمرير ما يرغبون فيه من دلالاتٍ، ولقلب المفاهيم والقيم، بما يخدم فكرهم، الذي كان فكرَ تحريفٍ، بامتيتاز.
ووفق الرؤية النيتشوية لفكر هؤلاء، فهم جعلوا من نصوصهم، ويقصد "العهد الجديد بكل نُسَخِه"، معياراً للحقيقة، والحكم على جميع النصوص والآراء. وسيعملون على تحميل مفهوميْ "الحلال" و"الحرام" بمعان، هي غير المعاني، أو الدلالات التي حملاها، في تعبيرهما الديني، "الأصلي".
فاحتكار الله، كان بين ما سعت إليه الكنيسة، في ما بعد، وكل ما يمكن أن يكون ذا علاقة بالدِّين، أو بالشأن الدِّيني، لا يمكن أن يكون خارج الكنيسة، أو بمنأًى عنها. فعين الكنيسة على كل شيء، ما دام كل شيء قابل لأن يكون ذا صلة بالدِّين، أو يحمل، في ذاته، بعض مَخَايِل الدِّين.
عملت الكنيسة، بما كرَّسَتْه من فكر استفراديّ تَسَلُّطيّ، على وضع برنامج يتأسَّس على قيم وأفكار، كانت، في جوهرها تَهْدِف إلى تعطيل إراء الإنسان، وإفراغه من الملاحظة والتأمُّل والنقد. أي بتحويله إلى تابع، مُطيع، لا إرادةَ له. وبتعبير نيتشه، في سياق نقده لهذا البرنامج الذي كان اعتبره نظاماً عالمياً للأخلاق، فـ 'الإرادة الإلهية' هي التي تُعَيِّن ما الذي يجب أن يفعله الإنسان، وما لا يجب أن يفعله، وأن قيمة أي شعب، أو أي شخص، تُقاسُ بمقدار هذه الطاعة.
فالكاهن هو من يملك حرية فهم الأشياء وتأويلها، وهو من يُقَرِّر ما يريد، في ما هو يُجَرِّد غيره من هذه الإرادة، ويمنعه منها. وبعبارة لنيتشه، فالكاهن هو عنكبوتٌ مُسَمِّمٌ للحياة، فهو، دائماً، يستعمل "الإيمان"، كـ "فيتو"، ضدَّ العلم.
فهذه المعاني التجريدية اللاَّواقعية، للعالم، في فكر هؤلاء "الكهنة"، هي ما انتقده نيتشه. وهو ما جعله غير معني بـ "حقيقة ما فعله يسوع"، ولا "بما قاله"، أو "كيف مات"، بقدر ما كان مشغولاً بقدرة "نمطه" على الاستمرار في"التَخَيُّل والإدراك، والانتقال بالتقليد".
ولإدانة هذا الاستفراد الدِّيني، الذي حرص اللاهوتيون على تكريسه، بعيداً حتى عن شخص المسيح نفسه، فهو اعتبر يسوع خارج ما نُسِب إليه، أو ما قيل نيابةً عنه، فـ "يسوع لم يَدَّع شيئاً لذاته على الإطلاق"، بمعنى أنه لم يقل أنا ابن الله. وللعودة بهذا المعنى لبدايته، كَوْن نيتشه يُمَيِّز بين مفهوميْ "الأصل" و"البداية"، فهو يرى، لسحب البساط من اللاَّهُوتيِّين، أنّ "الجميع هم أبناء الله".
ولا غرابة، في هذا السياق، أن يُطلِقَ نيتشه على يسوع تسميةَ "الروح الحُرّ"، بما يمكن أن تحتمله هذه الصفة من انطلاق، بعيداً عن تحريفات اللاهوتيين، وتأويلاتهم التي قَيَّدَت المسيحَ نفسَه، داخل سجون الكنائس.
استعمل نيتشه، في نقده للمسيحية، كثيراً من السخرية، رغم أنه كان يكتب بطريقة، فيها معرفة بسياقات موضوعه، وكان حريصاً على توظيف المعرفة العلمية، في نقد الدِّين، بهذا المعنى الذي آلَ إليه. فكتابه كان أحد أهم الأعمال التي أثارت مشكلة العلاقة بالدِّين، خصوصاً، حين يصير الدِّين خارج السياقات التي أفرزتْه، أو يصبح ديناً، خارجَ الدِّين نفسه.
نفس ما كان فعله هذا الفيلسوف العميق والجريء، في كتابه "الفلسفة في العصر المأساويّ". فهو كان يذهب للأساسات، لِما تراكَم من تُرَبٍ، ومن طبقات على بداية الأشياء، وأوَّلِها. فإزالة هذه التِّرَب، وهذه الطبقات المتراكمة، هو ما يمكنه أن يُعيدَ "النصوص" أو الأشياء إلى أصلها، ويكشف بالتالي عن حقيقة النص، أو الشيء، كيف بدأ، وكيف هي طبيعة الأساسات التي شُيِّدَ عليها. وليس معنى "مفهوم القراءة الجيدة"، أو "فن القدرة على قراءة الأعمال دون تزييفها عبر التأويل"، سوى إحدى استراتيجيات هذا الفيلسوف في إعادة الأمور إلى "طبيعتها".
في هذه لمراجعة النيتشوية، يحدث مثل هذا النقد للمسيحية، الذي لا يمكن عزله عن الفكر النيتشوي، وعن رؤية نيتشه، التي هي تغيير في الدلالات، وفي معاني النصوص والأشياء، التي كانت، قبل هذا الحَفْر، في الأُسِس، التي كانت مطْمُورة، ومَخْفِيَةً.
أدرك فوكو هذا القلب في طبيعة الدلالات، وكان في تقديمه لأحدى طبعات كتاب "الفلسفة في العصر المأساوي"، أشار إلى أن "ماركس ونيتشه وفرويد، لم يُضاعفوا الدلالات داخل العالم الغربي، إنهم لم يُعطوا معنًى جديداً لأشياء لم يكن لها معنى. [بل] إنّهم في الواقع قد غَيَّروا طبيعة الدلالة، وعَدَّلُوا الطريقةَ التي يمكن للدلالة، بشكل عام، أن تُفَسَّرَ بواسطتها".
فنحن، في هذا الوضع، إزاء رؤية جذريّة، وقراءة مختلفة، كانت بين ما عمل الفكر النقديّ الحديث، على تكرسيه، في مقابل القراءات النمطيّة الكلاسيكيّة، التي وضعت الدِّين في طريقها، ولم تعد قادرةً على تجاوزه، أو تَخَطِّيه. ما سينطبق ليس على المسيحيّة وَحْدَها، بل وعلى اليهوديّة والإسلام. فرجال الدِّين، من الأرثوذوكسيين، في هذه الديانات الثلاثة، كانوا بعيدين عن هذه الديانات نفسها، وابتدعوا دياناتٍ، حَجَبت الدِّين في "أصله"، وأصبحت النصوص التي كتبوها "بآيديهم"، وفق الآية القرآنية، هي النص الذي تُقاس عليه الأشياء.
إننا، اليوم، مثلما حدث في الماضي، نعيش هذا التحريف، ونعيش حَرْبَ دلالات ومعاني، لا معرفةَ بالنص، في 'أصله'، الذي هو مدار كل ما يمكن تَفْكيرُه، في كل ما يتعلق بالشأن الدِّيني، وفي فهم الإنسان لِما يعنيه الدِّين، في ذاته، دون وساطات، هي، في جوهرها، حَجْبٌ لبداية الأشياء، وأولها، وتكريس لمعان، هي تأويلات، ليس إلاَّ.
المصدر: القدس العربي.