المفكّر الإصلاحيّ محمد إقبال: تجديد الفكر الديني في الإسلام

لودفيغ أمّان

 

 

يقول إقبال: "لقد صرفت أغلب أوقات حياتي في دراسة الفلسفة الغربية. وغدت رؤية هذه الفلسفة شيئاً مألوفاً لديّ الآن. وعن وعي، وعن لاوعي أيضاً، أخضع وقائع الإسلام إلى التّحليل من زاوية نظر هذه الفلسفة. وكان من نتيجة ذلك أنّني قد لاحظت في العديد من المرّات أنّني لا أستطيع التعبير عن هذه الإشكاليّات بلغة الأوردو". عبارات أفصح ممّا يُمكن أن تقوله مجلّدات بأكملها!

 

لا غرابة إذن أن يكون هذا الكتاب سهل القراءة بالنسبة للغربيين: إنّها رؤيتنا الغربيّة للإسلام هذه التي يحمل محمد إقبال تأثيراتها العميقة لغةً ومفهوماً وطريقة تفكير. إلا أنّ وضوحه النادر ودقّته والديناميكيّة الحيّة لآليّات تفكيره تطغى بكلّ تأكيد على هذه التأثيرات.

هذا الفكر ليس مجرّد شهادة عتيقة على حقبة زمنيّة قد تجاوزتها الأحداث منذ زمن طويل، بل إنّه ما يزال يُمثل مغامرة ذهنيّة من درجة أولى. ويعود الفضل في ذلك كلياً إلى صاحبه كرجل قد استطاع أن يلمّ بصفة واثقة بمعارف متأتية من تقاليد فكريّة متنوّعة؛ من ابن عربي وفخر الدين الرازي إلى آنشتاين وبرغسون وفرويد.

احترام العلوم الحديثة

وفي ما يتعلّق بمسألة تفوّق الغرب على المشرق، فإنّه يرى إلى ذلك مثله مثل العديد من مفكّري جيله كنتيجة لتوالي قرون عديدة من "التحجّر الذهني" لدى المسلمين. لذلك ينبغي تجديد الفكر الدينيّ حسب رأيه:

"إنّ المهمّة المطروحة على المسلم المعاصر ذات حجم لامتناه. عليه أن يُعيد التفكير في مجمل النظام الإسلاميّ من دون أن يقطع كلياً مع الماضي". وإحدى الشروط الأساسيّة في عمليّة التجديد هي تناول العلوم الحديثة تناولاً نقدياً: "إنّ الطريق الوحيدة التي ما تزال مفتوحة أمامنا تتمثل في التعامل مع العلوم الحديثة باحترام، لكن بموقف مستقلّ مع ذلك، وتقدير التعاليم الإسلاميّة على ضوء ما تمنحه هذه العلوم من إنارات".

معادلة قد تمّت صياغتها عن وعي بمثل هذا التوازن. ومع ذلك، فكثيراً ما يقع التغاضي عن كون محمد إقبال قد دعا حرفيّاً إلى ضرورة التزام الموقف المستقلّ:

"ليس هناك من شعب يستطيع أن يسمح لنفسه بالتنكّر كلياً لماضيه، ذلك أنّ ماضيه هو الذي شكّل معالم شخصيّته. وفي مجتمع كالمجتمع الإسلاميّ تغدو مراجعة المؤسّسات القديمة أمراً أكثر دقّة وتعقيداً، ويكتسي الوعي بالمسؤوليّة لدى المصلح هنا أهميّة قصوى".

لم يتحوّل محمد إقبال من خلال دراسته للمفكّرين الغربيين إلى أوروبيّ متنصّل من الدّين. إنّ التأثر بالغرب لم يبلغ هذا الحدّ لدى إقبال، وهكذا فإنّ المرجع في ما يتعلّق بالمسائل الروحيّة يظلّ قائماً دوماً على مقولة النور القادم من الشرق.

وعندما يدعو إقبال إلى إعادة بناء الفكر الدينيّ فإنّه يعني ما يقوله، ولذلك هو يقيم معادلة متوازنة بين مسلكين برهانيين متوازيين. هناك من ناحية عمل على تسويغ تقبّل العلوم الحديثة، أو العلوم الطبيعية بصفة أدقّ. وهو ما يتوفّق إليه عن طريق إقامة الدليل على أصولها الإسلاميّة:

إنّ الطابع الميدانيّ التجريبيّ الذي يميّز القرآن قد شجّع المسلمين على أن يُصبحوا مؤسّسي العلوم الحديثة. ويعدّ ميلاد الإسلام بالنسبة إليه مرادفاً لمولد العقل الاستقرائيّ، وهو ما يمثل ثورة ذهنية على الفلسفة النظريّة اليونانيّة، وقد تمّ استيعاب المنهج التجريبيّ للعرب وتطويره من طرف أوروبا في ما بعد.

النظرة الشموليّة للدين

إلى أيّ مدى يمكن اعتبار هذه الجنيالوجيا العلميّة المطبوعة بالمركزيّة الإسلاميّة الثابتة مقنعة ومدعّمة؛ ذلك هو ما يظلّ سؤالاً مطروحاً. إلا أنّها قد نجحت على أيّة حال في أن تتحوّل إلى فكرة قد وجدت لها رواجاً واسعاً، وصولاً إلى مؤلَّف "نقد العقل العربيّ" (1984-1992) لمحمّد عابد الجابريّ، الذي يُحيل الحركيّة التي عرفتها العلوم في أوروبا على استيعاب الفكر العقلانيّ الرشديّ (نسبة لابن رشد)، بينما ظلّ العالم الإسلاميّ منكفئاً على الفكر السينويّ (ابن سينا)، الأمر الذي جعله يتقوقع في الجمود.

ومن الجهة الثانية يعتبر محمد إقبال التجربة الروحانيّة الإلهيّة على نفس المستوى من الواقعيّة مثل بقيّة التجارب البشريّة؛ وبما أنّ رؤية العلوم الطبيعيّة تظلّ جزئيّة ــــــ "فهي مثل طيور كواسر عديدة تتكالب على الجسد الميت للطبيعة، يتناول كلّ منها قطعة من اللحم وينصرف" ـــــــ، فإنّ الدين بحكم مقدرته التأليفيّة القائمة على نظرة شموليّة لمجمل التجارب الإنسانيّة الجزئيّة يتّخذ له بالتالي موقعاً مركزياً هنا.

إنّه وحده الذي يستطيع أن يُقيم علاقة حميميّة بالحقيقة، وذلك في ذلك الموقف الروحانيّ الذي يُدعى "عبادة".

لكن إعادة الحيويّة إلى الفكر الدينيّ ليست مسألة مرتبطة باستيعاب العلوم الحديثة فحسب. بل إنّ النقطة المحوريّة والمحدِّدة في ذلك تتمثّل بالأحرى في تصوّر ديناميكيّ للعالم وللإسلام، أو ما يجب أن يُعاد اكتشافة من الكنه الحقيقيّ للإسلام كمقابل ونقيض للمفهوم الاتكاليّ المضلّل لمسألة القضاء والقدر...

الاجتهاد ضرورة

وهنا، ومثله مثل أجيال عديدة من المصلحين المسلمين والمستشرقين، يتمثّل إقبال الجهاد "كمبدأ محرّك لديناميكيّة البنية العامّة للإسلام." ولكي يتمّ إيجاد موالفة بين عنصريّ/مقولتَي الثبات والتحوّل، يحتاج المجتمع الإسلامي ـــــ حسب رأيه ــــــ إلى مبادئ سرمديّة من جهة، بهدف "ترتيب الحياة الاجتماعيّة داخله، ذلك أنّ العنصر السرمديّ يمنحنا موقع قدم ثابتة داخل عالم التحوّلات المطّردة".

لكن، بما أنّ المبادئ السرمديّة يُمكنها أن تتحوّل إلى معيق، عندما يتمّ فهمها على أنّها إقصاء لكلّ تحوّل، فإنّ الاجتهاد يغدو ضرورة كوسيلة لتنشيط الديناميكيّة...

مصلح محافظ

يتّضح أنّ مساهمة المصلح المسلم الهنديّ في مشروع النهضة الإسلاميّة إنّما هي "نقد محافظ صحّي يلعب دور مؤسّسة مراقبة لظاهرة التوسّع الليبراليّ داخل العالم الإسلاميّ"؛ إقبال ليس مصلحاً ليبرالياً إذن، حتّى وإن كنّا نحبّذ في بلادنا أن نعتبره كذلك؛ إنّه مصلح محافظ، هاجسه هو ضمان "حدود ملائمة للإصلاحات".

ذلك بالضبط هو ما يُميز مشروعه المصاغ بتوازن بالغ الدقّة حول "الديمقراطيّة الروحانيّة" كبديل عن الديمقراطيّات الأوروبيّة غير الروحانيّة، وهو ما يُمثل في نظره "الهدف الأكبر للإسلام" ومساهمته الخاصّة في تقدّم الإنسانيّة.

وعندما يجعل إقبال مسألة الاجتهاد من مشمولات مجلس تشريعيّ إسلاميّ، فإنّه لا يُريد من وراء ذلك أن يضمن مساهمة ذوي الرأي من غير رجال الدين فقط في نقاشات المسائل القضائيّة. بل إنّ مبتغاه الأكبر من وراء ذلك هو الحرص على تفادي الأخطاء الجسيمة عند سنّ القوانين. ولذلك يجب أن يمثل علماء الدين "جزءاً مهماً في تركيبة المجلس التشريعيّ الإسلاميّ، وأن يقدّموا مساهمتهم في النقاشات الحرّة حول المسائل القضائيّة وأن يتولوا إدارة هذه النقاشات وتوجيهها"...

المصدر: قنطرة

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك