السياسيّ والكذب: اللغة المخادعة في الخطاب والتواصل

أحمد العاقد

وزارة الثقافة المغربيّة

 

تُشكّل قضايا الكذب مجالاً خصباً لإثارة وتأمّل إحدى الإشكالات الطريفة والمعقّدة، التي تتّصل اتّصالاً وثيقاً بالكائن البشريّ والحياة اليوميّة، وترتبط ارتباطاً عميقاً بالتواصل الإنسانيّ وتجليّاته المختلفة. وقد أضحى موضوع الكذب، في العقود الأخيرة، محوراً علميّاً وإشكالاً فكريّاً، يحتلّ موقعاً متميّزاً في الدراسات الإنسانيّة والأبحاث الأكاديميّة المعاصرة، سواء على صعيد تنوّع المقاربات الوصفيّة والتحليليّة، التي تُلامسه، أو على صعيد تعدّد الحقول المعرفيّة، التي تُعنى به.

الكذب وأشكال المخادعة

يكاد يحضر فعل الكذب Lying بقوّةٍ في العديد من السياقات المجتمعيّة المرتبطة باحتمالات الصدق، بدءاً من الحياة الزوجيّة وفضاء الأسرة، مروراً بالمجالات المهنيّة وقطاع الخدمات، ووصولاً إلى السياسة الدوليّة وقضايا الانتخابات. ففي هذه الحالات التي نوردها على سبيل المثال لا الحصر، يجنح المرء إلى الاستعانة بمصادر متعدّدة للمعلومات، قصد تقويم ما إذا كان الفرد صادقاً في أقواله وأفعاله. وعليه، فإنّ تحفيز كلّ المعلومات المختزنة في الذاكرة يستهدف التأكّد من مدى مصداقيّة مضمون عمليّة الإخبار، في سياق وضعيّةٍ تواصليّةٍ معيّنةٍ؛ ممّا يعني إقامة الفوارق بين وضع المعلومات في خانة الصّدق، بوصفه إخباراً عن الشّيء، على ما هو عليه، أو في خانة الكذب، باعتباره إخباراً عن الشّيء بخلاف ما هو عليه، كما ورد في تعريفات الماورديّ في كتابه "أدب الدّنيا والدّين".

واستناداً إلى ذلك، يكون خرق شروط الصّدق في صياغة الكلام، وإنجاز عمليّات التواصل، محدّداً فاعلاً وحاسماً في توليد الكذب، بمختلف تجليّاته وتحقّقاته، بغية بلوغ التّضليل المقصود. غير أنّ الصّدق ليس مفهوماً مجرّداً، ولا مُعطًى جاهزاً ينعزل عن الملابسات والظروف المصاحبة له، بل إنّه تشييدٌ معرفيٌّ مرتبطٌ بمجال التصوّر، الذي يتعلّق بما نعتقده صادقاً أو غير صادقٍ. فما نعتقده صادقاً في مجالاتٍ تصوّريّةٍ معيّنةٍ قد لا يكون كذلك في مجالاتٍ تصوّريّةٍ أخرى، لأنّ الأمر يقترن بعوامل متعدّدة، من قبيل طبيعة الاستدلال ومعطيات المقام ونوعيّة القصد. ولذلك، ذهب "إيكمان" (1997Ekman  ) إلى وجود صعوباتٍ تحول دون إيجاد تعريفٍ دقيقٍ، خصوصاً حينما يعمد الإنسان إلى الاعتقاد بأنّ الخاطئ صحيحٌ، وبأنّ الزائف صادقٌ؛ فما كان منه إلّا أنْ توجّه إلى مقاربة الكذب، من خلال تمييزه عن عدم الإفشاء بالأسرار، واعتماد مختلف الحيل والمخادعة والمخاتلة والغشّ.

وفي هذا الصدد، يُمكن إيجاز المقاييس المعتمدة في التّمييز بين الكذب وباقي أنواع المخادعة في مقياسين هامّين: أوّلهما، يتمثّل في قصد الكاذب، الذي يتعمّد تضليل المتلقّي، إذ قد يقول الكاذب الحقيقة فعلاً عن غير قصدٍ، كما قد تصدر عن الإنسان الصادق معلوماتٌ خاطئةٌ دون قصدٍ أو تعمّدٍ؛ وثانيهما، يتجلّى في عدم المعرفة المسبقة بالمستهدف، حيث يكون الهدف المقصود من التّضليل غير معلومٍ، ممّا يجعل على سبيل المثال من المحتال أو الدّجال كاذباً على عكس السّاحر أو المُمثّل. وعموماً، يُمكن القول – تبعاً لبارنس (1994Barnes  )، الذي اهتم بسياقات الكذب في ثقافاتٍ ودياناتٍ وتقاليد أخلاقيّةٍ متنوّعةٍ، واعتنى بأدلّته التداوليّة، وبكيفيّة كشفه، وبتجلّيات عواقبه – بأنّ الأكاذيب تعابيرٌ تهدف في مجملها إلى التّضليل، وأنّها ضعفٌ إنسانيٌّ، لا يتأسّف عليه المرء إلّا بعد بلوغ المقصود.

وإذا كان الكذب يعتمد على التقنيتين الشّائعتين المتمثّلتين في الكتمان والتزييف، فإنّ إيكمان (1985Ekman  ) يطرح ثلاث تقنيّاتٍ أخرى، يُدرجها في ما يلي: أوّلاً، قول الصّدق بطريقةٍ مضلّلة، إذ يعمد الكاذب إلى التكلّم عن شيءٍ صادقٍ، بشكلٍ يعني، ويفيد عكس ما يُريد قوله؛ ثانياً، قول نصف الحقيقة على أنّها الحقيقة كاملة، حيث لا يكتمل الصّدق بمعلوماتٍ ناقصةٍ ومجزّأةٍ؛ ثالثاً، المراوغة الاستدلاليّة الخاطئة، التي تتمّ عن طريق تقديم معلوماتٍ عاديّةٍ، مع التكتّم المقصود والسّريّة المبالغ فيها. وعلى هذا الأساس، تُستبعد مجموعةٌ من الأشكال التعبيريّة عن دائرة الكذب، من قبيل الانخداع، حينما لا يُدرك الإنسان أنّه يخدع نفسه، ولا يعرف دافعه الخاصّ لتضليل نفسه، والوعد المخلوف إنْ لم يحصل العلم به، والعجز عن التذكّر، والاعتقاد بأنّ الخاطئ صحيحٌ، والتّعبير الخاطئ غير المقترن بالقصد المتعمّد للتضليل.

وقد جنحت بعض المقاربات المعتمدة، في جملةٍ من الأبحاث الأكاديميّة والعلميّة نحو إيجاز الدوافع إلى الكذب، فذهبت إلى أنّ الدافع قد يكون اجتناب العقاب، أو توفير الحماية، أو بلوغ المنفعة، أو كتمان السّر، أو كسب الإعجاب، أو تجاوز وضعيّةٍ حرجةٍ، أو ممارسة السّلطة على الآخرين، عبر مراقبة المعلومات، التي يتوفّر عليها الهدف (إيكمان.1989)؛ غير أنّ هذه المقاربات استثنت من هذا النطاق أكاذيب التأدّب lies of politeness ، إذ اعتبرت أنّها ليست كذباً، نتيجة إعمال القواعد الآدابيّة في بعض الوضعيّات التّخاطبيّة الخاصّة، من قبيل رفع الحرج عن أحد المتخاطبين أو الاحتفاظ بمفاجآتٍ ما مثل مفاجأة حفلة عيد الميلاد أو غيرها.

إجمالاً، يُمكن القول بأنّ الكذب يُعتبر فعلاً لفظيّاً يستلزم تحفيزاً لا مشروعاً للمعرفة، والمعلومات في إطار التفاعل والتواصل بين أفراد المجتمع؛ إنّه ليس فعلاً كلاميّاً بالمعنى التقليديّ، ما دام أنّه لا يستجيب للشّروط المناسبة المألوفة، فليست هناك أيّة شروطٍ نسقيّة يجب أن تتوفّر من أجل الكذب بشكلٍ ملائمٍ.

 وعلى العكس من ذلك تماماً، يُشكّل فعل الكذب خرقاً جليّاً لنقطتين أساسيتين: أولاهما، خرق الشّروط التداوليّة النوعيّة، التي تعتمد أثناء الإثبات المناسب والملائم؛ وثانيهما، خرق المعايير الأخلاقيّة العامّة للصدق، التي هي أساس كلّ التفاعلات الإنسانيّة؛ غير أنّه في بعض الحالات يسمح بالكذب من الناحية الأخلاقيّة، خصوصاً في بعض الوضعيّات التواصليّة، التي يمثل فيها التكلّم بصدقٍ خرقاً لمعايير وقيم أخرى، من قبيل التأدّب والتحفّظ والتكتّم المشروع وغيرها، مثل الكذب على العدو أثناء الاستنطاق. وبهذا المعنى، لا يكون الكذب مشروعاً، إذا كان يُسيء لمصالح المتلقّي أو يضرّ بمصالح الآخرين؛ وبنفس المعنى الشّامل للشرعيّة الاجتماعيّة والسياسيّة، تنتفي مشروعيّة الكاذب – سواء كان شخصاً أو مؤسّسة – كلّما أكّد هيمنته عبر التعسّف وإساءة استعمال السّلطة مثلاً، من خلال مراقبة وسائط التواصل والخطاب العموميّ، وبالتالي الولوج العموميّ للمعرفة والمعلومات. ويتّضح، ها هنا، بأنّ مختلف هذه الوضعيّات يحتاج إلى تناولٍ دقيقٍ ومعالجةٍ تداوليّةٍ خاصّةٍ، وفقاً لطبيعة السياقات المؤطّرة لها، وهو الأمر الذي سنتوقّف عند بعض تفاصيله، بعد أنْ نبرز أهمّية صياغة البنيات اللغويّة في الإنجازات الكاذبة، باعتبارها بنياتٍ أساسيّةً، تتضمّن مجمل المؤشّرات السياقيّة، والإحالات المرجعيّة التواصليّة.

عن اللغة والكذب

إذا كان بالإمكان معرفة الشّيء الكثير عن الأفراد، وعن نمط تفكيرهم، وطبيعة أحاسيسهم، ومحفّزاتهم، من خلال النّظر في الكلمات، التي يوظّفونها أثناء إنجازاتهم التواصليّة، فإنّ تحليل الوحدات المعجميّة الواردة في تعابير الكذب يُمثّل مسلكاً مهمّاً يقود نحو التنبّؤ بالمخادعة وبطبيعتها ومقاصدها، ونحو كشف الدّلالات المخالفة للصدق. وينبني تحليل الكلمات الموظّفة في الكذب على نوعيّة الانتقاءات المعجميّة وكيفيّة تأليفها، ضمن بنيات تركيبيّة دلاليّة وطريقة تشكيلها للأسلوب اللسانيّ الذي يمنح، في نهاية المطاف، المؤشّرات المتّصلة بالمحصّلات السلوكيّة والعاطفيّة الكفيلة بالقبض على الأكاذيب. غير أنّ تحليل تجليّات الكذب لا يقتصر فقط على تجريد النّظر في بنيات الكلمات وحدها ولا يقف عند الحدود الجمليّة الضيّقة، بل يتجاوز ذلك لينظر بعمقٍ في بنيات الخطاب ومستويات تشييده،لأنّ الآراء والمواقف الكاذبة لا تنسج إلّا ضمن بنياتٍ لغويّة متسلسة ومسارٍ تواصليٍّ متطوّرٍ.

وبناء على ما سلف، نذهب إلى القول بأنّ الكذب ليس مجرّد كلمة أو كلمات غير صادقة، بل إنّه نظامٌ تعبيريٌّ يأخذ شكل خطابٍ لغويٍّ تواصليٍّ يرتبط بمجريات التّخاطب، وتفاعلات تعيين المقاصد، وإبداء المواقف الفرديّة والجماعيّة. وعلى هذا المستوى، يكتسب خطاب الكذب أبعاداً تداوليّة، لا تتأسس فقط على البناء اللسانيّ، الذي يتشكّل عبر التأليف اللفظيّ، وإنّما ترتكز أيضاً على التّعابير اللسانيّة الموازية، التي تفيد الأشكال التواصليّة غير اللفظية، من قبيل قسمات الوجه، ونبرات الصوت، وحركات الجسد، وغيرها. ويكفي أن نُشير، في هذا المقام، إلى أنّ جملةً من المؤشّرات السيميائيّة المتنوّعة يُمكنها أنْ تدعم الصيغة اللسانيّة الكاذبة بطريقةٍ معبّرةٍ وبليغةٍ، مثل شكل الابتسامة، التي ترتسم أثناء لحظات الكذب.

من جهةٍ أخرى، وفي إطار وجهة النّظر المعرفيّة المقاربة للكذب، حاولت الأبحاث والدراسات المنجزة إيجاز مختلف الأبعاد التي تلتصق باللغة المقترنة بالمخادعة عموماً، فخلصت إلى تركيزها في ثلاثةٍ على الأقلّ: أوّلها، قلّة الإحالات الذاتيّة، وثانيها كثرة الكلمات العاطفيّة السلبيّة، وثالثها قلّة الواسمات ذات التعقّد المعرفيّ. ومن ثمة، يتبيّن أنّ إنجازات الكذب لا تتحقّق عبر تعبيرٍ لسانيٍّ اعتباطيٍّ، لأنّ المخادعة في أبعادها اللغويّة المذكورة تقتضي إقامة علاقات تفاعليّة بين الإدراك الذاتيّ للوقائع والاستجابة لمستلزمات التّخاطب، أي بين أسلوب اللغة المستعملة ومضمون التواصل. وفي هذا الإطار، لا يتعلّق قول الكذب بمخالفة الصّدق وتزييف الحقائق والوقائع، كما هي في العالم الواقعي، بل يستلزم أساساً بعداً سرديّاً، يتمثّل دائماً في خلق قصّةٍ تتمحور حول تجربةٍ شخصيّةٍ، أو أحداثٍ لم تقع، أو موقفٍ غير موجودٍ أصلاً. واعتماداً عليه، يسعى الكاذب دائماً إلى خلق قصّةٍ قابلةٍ للتصديق، فيُحاول بذلك أن يكون واقعيّاً، وأنْ يبتعد عن التجرّد والصيغ التخييليّة، على الرّغم من الحضور القويّ للمُعطيات الوجدانيّة.

وعلى العموم، يُمكن اعتبار الاعتناء بتجليّات الكذب اعتناءً جوهريّاً بالصيغ النوعيّة للكلمات واللغة، من حيث مساهمتها الفاعلة في توليد الآراء وتشكيل المواقف، إنْ على مستوى تشييد الخطاب، أو على مستوى إنجازات التواصل. وإذا ربطنا ذلك بأحد أهمّ الأنساق المجتمعيّة متمثّلاً في نسق التواصل السياسيّ، فإنّنا نذهب إلى أنّ التوظيف المُخادع للّغة في المناورات التعبيريّة، واستثمارها في بعض الاستراتيجيّات التّخاطبيّة، قد يتّجه نحو خرق الشّروط التداوليّة والمعايير الأخلاقيّة للصدق، ليؤدّي بذلك إلى ما يُمكن أن نسميه "الكذب السياسيّ". إنّه كذبٌ ينزل منزلة الفعل اللغويّ والخطابيّ القائم على التّحفيز اللامشروع للمواقف السياسيّة والمعرفة المجتمعيّة، أثناء التفاعل مع المكوّنات السياسيّة والتواصل مع مختلف فئات المجتمع. وقد شكّل هذا النّمط الخاصّ من الكذب حقلاً إنسانيّاً خصباً لإجراء مقارباتٍ جدّيّةٍ وعميقةٍ، تتقاطع ضمنها معطيات العلوم المعرفيّة وعلم الاجتماع واللسانيّات وتحليل الخطاب وأخرى غيرها كثير. فتحليل الكذب ضمن السياقات السياسيّة يستدعي زوايا نظرٍ متعدّدةً، تُسعف في فحص المسارات التواصليّة المقترنة بالقصد السياسيّ ومدى ارتباط لغة الخطاب السياسيّ باستراتيجيّة الخداع المتعمد.

الكذب والسياق السياسيّ

يحتلّ الكذب السياسيّ موقعاً نوعيّاً في الممارسة السياسيّة، إذ يتّخذ أشكالاً تداوليّة عديدة، تتراوح بين التجلّي عبر اللغة والتّخفّي في ثنايا الصيغ التواصليّة؛ فتارةً تبرز الأكاذيب السياسيّة دفعةً واحدةً، قصد التهرّب من تحمّل المسؤوليّة السياسيّة، اتجاه قضيّةٍ شائكةٍ، أو نتيجة تسرّع الفاعل السياسيّ وتراجعه في الآن نفسه، وأحياناً تظهر بشكلٍ زمنيٍّ تدريجيٍّ، عبر الانفعالات السياسيّة اللفظيّة، إذ تأتي في مراحل متأخّرة بعد عدم تمكّن الفاعل السياسيّ من الحفاظ على انسجام لغته السياسيّة وتماسك موقفه وخطابه. ويتمثّل العنصر الحاسم لإظهار الأكاذيب السياسيّة أو إضمارها في مدى تمكّن السياسيّ، أثناء استعمال اللغة المخادعة من امتلاك تقنيّاتٍ تعبيريّةٍ مراوغةٍ، نصفها تجاوزاً بمهارات الكذب. فكلّما كانت مهارات الفاعل السياسيّ قويّة، كانت الأكاذيب السياسيّة خفيّة وغير معلنة على مستوى الموقف والخطاب؛ وكلّما كانت المهارات ضعيفة، تطفو الأكاذيب السياسيّة على السّطح، ولا تجد سبيلاً إلى التستّر في ثنايا اللغة التواصليّة السياسيّة. وتحدّد قوّة هذ المهارات أو ضعفها في قدرة الفاعل السياسيّ على التّفاعل مع الملابسات والتحوّلات، التي يشهدها حدثٌ سياسيٌّ معيّنٌ، ممّا يجعلها مقترنة بالسياق السياسيّ ومؤشّراته الخطابيّة والتواصليّة.

ها هنا وبصفةٍ عامّةٍ، نذهب إلى أنّ بلورة نظرية للخطاب السياسي ذات كفاية وصفيّة وتحليليّة متقدّمة تستلزم استحضار المكوّن السياقيّ، الذي يضمن المعالجة السليمة والشّاملة لمختلف مستويات التّفاعل الاجتماعيّ والتواصل السياسيّ؛ على أنّ الكشف عن أهمّية السياق السياسيّ يقتضي إدراك الخلفيّات المنهجيّة الكامنة خلف "تبئير" مفهوم السياق عموماً؛ كما أنّه متى علمنا أنّ السياق السياسيّ فرعٌ عن السياق الإنسانيّ، وأنّ الأصل أسبق عن الفرع، علمنا معه ضرورة بسط الحديث أوّلاً عن مقولة السياق بشكلٍ عامٍّ.

 وبناء عليه، نقول بأنّ الاهتمام المتزايد بتحليل السياق شكّل استجابةً علميّةً لضرورة توسيع دائرة الدراسات الخطابيّة، ونتيجةً حتميّةً للتطوّرات الجديدة في مجال دراسة الخطاب كمواجهةٍ للخلفيّة الثاوية وراء المقاربة المتعدّدة الاختصاصات المتعلقة بتحليل النّص والكلام في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة. فقد اتّضح عدم كفاية المعالجة المنحصرة في البنيات اللسانيّة للخطاب والبنيات التفاعليّة للتّخاطب، ليتّجه الاهتمام صوب استحضار وتحليل المحيط المعرفيّ والسياسيّ والثقافيّ والاجتماعيّ ومختلف المعطيات المتّصلة بالكون الخطابيّ. وهكذا، قامت اللسانيّات النّسقيّة بتقديم مقاربةٍ خاصّةٍ بتحليل السياق، ونهض التحليل التخاطبيّ بتوسيع مجاله، عبر دراسة الإطار المؤسّساتيّ والتنظيميّ للكلام في مختلف مجالات، بينما تكفّلت اللسانيّات الأنتربولوجيّة بدراسة المظاهر الثقافيّة للكلام والمظاهر الوضعيّة، للتفاعل وجهاً لوجهٍ، واعتنت اللسانيّات الاجتماعيّة التفاعليّة بأبعاد الخطاب السياقيّة. كما اهتمّت دراسات الخطاب النقديّ بمقاربة الكلام والنّص، داخل السياق المجتمعيّ المرتبط بالسّلطة والهيمنة واللامساواة الاجتماعيّة، وركّزت دراسات الخطاب النسائيّ على التحليل النقديّ للهيمنة النوعيّة وكيفيّة إعادة إنتاجها خطابيّاً. وعلاوةً على ذلك، اعترفت المقاربات الشكليّة في مجال دراسة الخطاب، وخاصّةً مقاربة الذّكاء الاصطناعيّ، بأنّ إنتاج  فهم اللغة الآليّة لا يستقيم إلّا بوجود نمذجةٍ سياقيّةٍ للتواصل. غير أنّ النّظر إلى السياق، باعتباره محيطاً مفسّراً للخطاب السياسيّ، قد يؤدّي إلى المجازفة في محاولة وضع نظريّة عن كلّ شيءٍ، ما دامت البنية الخطابيّة مرتبطة بالأطر الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والمؤسساتيّة والثقافيّة.

أما على المستوى التصوّريّ، فإنّ السياقات لا تُصاغ تصوّريّاً على شكل وضعيّاتٍ اجتماعيّةٍ، وإنّما على شكل تحديداتٍ ذاتيّةٍ من وجهة نظر المتواصلين للخصائص الملائمة للوضعيّات الاجتماعيّة. فالسياقات، بهذا المعنى، نماذج ذهنيّة تمتلك فاعلية قصوى في مراقبة الخطاب، إنْ على صعيد إنتاجه أو على صعيد تلقيه، وتشكّل من الناحية المعرفيّة جهازاً متضمّناً لمجموع المعتقدات المشتركة المقبولة.

 

وإذا كانت إشكاليّة الكذب ظاهرةً معقّدةً تسترعي الاهتمام من وجهة النّظر الفلسفيّة الأخلاقيّة والدلاليّة التداوليّة والنفسيّة الاجتماعيّة والسياسيّة الثقافيّة، فإنّ "فان ديك" أفرد لها باباً خاصّاً في إطار التداوليّات المؤسّسة سياقيّاً، من خلال البحث عن تحديد المعيار الأصليّ للمشروعيّة. وقد شدّد على أنّ الصدق خاصّيّة للخطاب عن العالم وليس خاصيّة للمعتقدات، وأنّ المعرفة لا تتمثّل في المعتقدات الصادقة والصحيحة المؤسّسة على تبريرات معينة، لأنّ شرطها الرئيسيّ لا يُكمن في مدى المُطابقة المجرّدة القائمة بين المعتقدات وبعض حالات الأوضاع في بعض العوالم، بل في مدى ترسيخ المعرفة الجماعيّة، التي تفيد تقاسم المعتقدات بين أعضاء جماعةٍ ما. وبهذا المعنى، يغدو الكذب فعلاً تواصليّاً خاضعاً لمراقبة وسيطرة نموذجٍ سياقيٍّ محدّدٍ، حيث يعرف الفاعل السياسيّ أنّ تعبيره لا يعكس الحدث، ومع ذلك تحصل له الرّغبة في جعل المتلقّي يعتقد أنّ تعبيره مطابق تماماً للحدث. بتعبيرٍ آخر، يتحقّق الكذب السياسيّ كلّما امتلك السياسيّ نموذجاً ذهنيّاً مختلفاً عن نموذج المتلقّي حول نفس الحدث المحال إليه في الوضعيّات التواصليّة. ومن هذا المنطلق، يتعيّن بالضرورة في وصف الكذب السياسيّ التوسّل بالنماذج السياقيّة القادرة على تمثيل المتواصلين السياسيين وتمثيل معرفتهم وأهدافهم المختلفة.

وتجدر الإشارة إلى أنّ "فان ديك" قام بتحليل النقاش البرلمانيّ، الذي جرى في 18 مارس 2003م، داخل البرلمان الإسباني حول التدخل العسكريّ في العراق، والذي دار آنذاك بين الوزير الأوّل خوسي ماريا أثنارJosé María Aznar   وزعيم المعارضة خوسي لويس رودريغيز ثاباتيرو  José Luís Rodríguez Zapatero ، وأكّد أنّ النّماذج السياقيّة عموماً، والجهاز المعرفيّ خصوصاً، شكّلت عنصراً أساسيّاً في مراقبة مجريات النّقاش، مشدّداً على البُعد التداوليّ للأكاذيب، حيث يبرز بأنّ اتّهام "أثنار" بالكذب – كما الرئيس الأميركيّ جورج بوش Bush  George  في سياقاتٍ أخرى – تأسّس على معيار المعرفة المشتركة. وقد مكّنت هذه المقاربة التداوليّة لظاهرة الكذب من تجاوز المقاربات الاصطلاحيّة، التي وقفت عند إجراء معالجةٍ دلاليّة قائمة فقط على إنتاج المعتقدات الخاطئة. وبالإضافة إلى ذلك، بلور "فان ديك" أيضاً مقاربة سياقيّة، تناولت بالوصف والتحليل الخطاب، الذي ألقاه رئيس الوزراء البريطانيّ توني بلير Tony Blair حول العراق في مجلس العموم، بتاريخ 18 مارس 2003، وذلك من أجل إبراز أهمّيّة النماذج السياقيّة في مراقبة وتفسير عددٍ من الجوانب السياسيّة للتفاعل والتواصل، التي تظلّ مغيّبة في دراسات اللغة والكلام.

ففي الحالة الإسبانية، لا يعتبر أثنار Aznar القضية الدوليّة المثارة آنذاك تدخّلاً عسكريّاً، وإنّما محاولة لتجريد النّظام العراقيّ من السّلاح، إذ يُحاول إضفاء المشروعيّة على المشاركة الإسبانيّة في التدخل الأميركي في العراق؛ كما نستشف ذلك من الاستلزامات السياسيّة المؤسّسة على السياق السياسيّ، والتي تُعدّ بمثابة استدلالاتٍ سياسيّةٍ تنهض على التقديم الإيجابيّ للذات، أي الحزب الحاكم والتقديم السلبيّ للآخر، أي أحزاب المعارضة، بينما يوجّه ثاباتيرو Zapatero التّهمة إلى رئيس الوزراء بأنّه يخفي موقفه السياسيّ الحقيقيّ من التدخّل العسكريّ في العراق، ليكون في كلّ مرّةٍ أقلّ مصداقيّةٍ. وإذا كان رئيس الوزراء متّهماً بالكذب، فمعناه أنّه متّهمٌ بكونه كذب على الأمّة، خصوصاً في حالة التدخّل العسكريّ، ممّا يُعتبر خرقاً للمعايير الأساسيّة للدولة الديموقراطيّة. وبعبارةٍ أخرى، من خلال اتّهامه غير المباشر لأثنار Aznar بالكذب السياسيّ، فإنّ زاباتيرو Zapatero يوجّه إليه في نفس الوقت تهمة قيامه بالتّضليل المتعمّد واعتماده في الحكم على سوء التدبير السياسيّ. وهذه المقتضيات السياسيّة ليست مشتقة من معنى كلام زعيم المعارضة ولا من معنى التفاعل المتمثل في فعل الاتهام، ولكنّها مستنبطة من بنيات النماذج السياقيّة للمشاركين السياسيين، الذين يؤوّلون هذا التّخاطب السياسيّ بوصفه تفاعلاً بين رئيس الوزراء وزعيم المعارضة. ولذلك، فالنماذج السياقيّة، بوصفها نماذج ذهنيّة يشيّدها المتواصلون عن الوضعيّات التواصليّة، تَسِم المكوّن المعرفيّ، الذي يراقب استراتيجيّات الكذب والاتّهام بالكذب والدفاع عن النّفس ضد هذا الاتهام ضمن مجال التّفاعل السياسيّ. وهو ما يعني أنّ الكذب السياسيّ يُصبح جزءاً من العناصر المشكّلة لبنيات الخطاب السياسيّ واستراتيجيّاته.

 إجمالاً، نستطيع القول بأنّ الكذب السياسيّ، بما هو إخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، تعبيرٌ يهدف إلى التّضليل السياسيّ، حيث يعتمد التّحفيز اللامشروع للمعرفة السياسيّة، في إطار التّفاعل والتواصل المجتمعيين. إنّه نظامٌ خطابيٌّ تواصليٌّ، يتأسّس على تفاعلات التّخاطب السياسيّ وارتباطها بمواقف السياسيين ومقاصدهم الفرديّة والجماعيّة. ومن ثمّة، يكون الكذب السياسيّ فعلاً تواصليّاً يخضع بامتيازٍ لمراقبة النّماذج السياقيّة، التي يُشيّدها الفاعلون السياسيّون عن الأحداث المجتمعيّة ضمن وضعيّاتٍ سياسيّةٍ تواصليّةٍ محدّدةٍ.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=5101

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك