نهضة الفكر كفاح متواصل
ترتفـع الأصوات من حين لآخر متنكرة هذا الجمود الفكري الذي نحياه ونعيشه، وتعترض أسباب هذا الجمود ودواعيه في شيء من الإفاضة حينا وفي شيء من الإيجاز في أحايين أخرى، وتتعرض الحلول التي من شأنها أن تخرجنا من هذا الجمود وتجعلنا نعيش في حياة فكرية مشرقة، ومهما اختلفت العروض وتباينت الحلول فإن الشيء الذي ينفق عليه الجميع وتأخذه على أنفسنا بل ونواخذ نفوسنا به هو أننا نعيش في جمود فكري، وأن عزائمنا في هذا الباب لو تتجدد وحتى أنها لتكاد تكون عزائم فاترة لا يزيدها مرور الأيام إلا فتورا على فتورها.
الحقيقة أننا نعيش في جمود فكري، والحقيقة أن لهذا الجمود الفكري عوامل وأسبابا، ولعل من أهم هذه الأسباب هو أن روح الكفاح التي كانت تحدوها فيما قبل لأن نبدد ذلك الجمود الذي كان إعداد الحرية الفكرية في بلدنا يرفضنه فرضا علينا- هي التي خفتت في نفوسنا، ومهما يكن للأسباب الأخرى من تأثير في الروح هو السبب الأصيل، فالنهضات الفكرية لم تقم دعائمها في شعوب فتية بما يمكن للدولة أن تقدمه إليها من تشجيع ومساعدات، وإنما قامت النهضات الأدبية مثلها تقوم كل رسالة من رسالات الحق والخير والفضيلة التي بذلها المفكرون المكافحون الذين ناضلوا طويلا وما هالوا وما استكانوا وما ضعفوا في أداء هذه الرسالة، ويحدثنا التاريخ في كثير من فصوله وفي شيء غير قليل من الإسهاب عن هذا الكفاح ويقدم لنا صورا من النضال المرير الذي خاضه المفكرون لأداء هذه الرسالة إسهاما منهم في رفع مستوى شعوبهم، وتعترضها من حين لآخر عند قارئتنا، لهذه الفصول صور من هذه العوائق لتي كان أعداد حرية الفكر ونهضته يضعونها في طريق المفكرين عسى أن ييأسوا وعسى أن ينصب معين قرائحهم فيكون مثل هذا الجمود الفكري الذي تعيشه وتشتكي منه ونظهر أننا متبرمون منه غير راضين عنه ويحدثنا التاريخ كذلك أن جهود المفكرين كانت تصاب أحيانا بخيبة وتمنى بما يشبه الفشل، ولكن المفكرين الذين كانت روح الكفاح يشبه الفشل، ولكن المفكرين الذين كانت روح الكفاح قوية في نفوسهم لم يساموا ولم يستسلموا أو لم يكونوا ليياسوا ويستسلموا. فكتبوا بنات أفكارهم في مسودات ورقعات رديئة ونشروا أفكارهم بكل وسيلة ممكنة، فكانوا يلقنوها للرواة ليذيعوها ويروجوها. وكانوا ينجحون كل النجاح أو بعض النجاح في جعل الناس يشتغلون بشؤون الفكر والثقافة وكانت النوادي الفكرية تعقد في المنازل وفي المتاجر وكانت النشرات تصدر عنها في غير زخرفة وبدون إخراج فكان مما لا بد منه أن يشغل الناس بأمر الفكر، وكان مما لابد منه أن يصبح النشاط الفكري جزءا لا يتجزأ خصوم الفكر للأمر الواقع، حتى أصبح للفكر تأثيره الذي لا يمكن التغاضي عنه لأنه أصبح حقيقة واقعية في حياة الناس، ويحدثنا التاريخ الفكري عن عصر النهضة الفكرية في إيطاليا- مثلا- فيذكر لنا كيف كان دكان الحلاق" بوتشيني "في مدينة البندقية منتدى الأدباء والشعراء، وكيف كان بعض الأدباء يتبادلون فيه الآراء الفكرية فيحملها الزبناء إلى الشارع لترى وتذاع.
ويحدثنا تاريخ الفكر في فرنسا كيف كان دكان الإسكافي "يورمان" يكون ندوات فكرية، تنتشر منه الأفكار الحية الواعية في مختلف شؤون الفكر والثقافة حتى أن الإسكافي"بورمان" نفسه قداسهم في هذا الكفاح الفكري وكان لهذا النادي أثره في الحركة الفكرية وفي توسيع نطاقها.
لقد استطاع المفكرون غربا وشرقا في أيام خلت أن يكافحوا وأن يواصلوا الكفاح في غير توان، ولقد كان ممكنا يوم أن كانت وسائل النشر والإذاعة ويوم أن كانت الإمكانيات محدودة وفي غاية ما يمكن أن يكون عليها الضيق. وسيظل التاريخ البعيد والقريب يقدم لنا دروسا في كثير من المشاكل التي تعترضنا، فالمسألة إذن بالنسبة بهذا الجمود الفكري إنما هي مسألة بعث روح الكفاح في نفوسنا، خصوصا وقد أثبت التجربة في تاريخنا القريب إننا قادرون على خلق نهضة فكرية، ذلك لأننا كنا ونحن في ظروف عسيرة استطعنا أن نضع نواة لنهضة فكرية ما تزال بعض صورها شهد في تاريخنا القريب بأننا قادرون على الخروج من هذا الجمود الذي ربما تكون قد اخترناه لحياتنا الفكرية، ولكن كان النشاط الفكري في عهد الاستقلال قد اعتراه ضعف ثم توالى هذا الضعف حتى أصبح جمودا فإن مرد ذلك أولا وبالذات إلى أننا فقدنا روح الكفاح التي كنا نواصل الاستعمار ونتحداه بها، فكنا نصدر المجلة الأدبية برأس مال مضحك بسيط وكنا نطبع في مطابع تكاد تكون بداية. وكنا نكتب ونقدم ما نكتبه للرقابة الفرنسية وكانت هذه الرقابة لا توافق في كثير من الأحيان على نشر ما نكتبه وكنا نتحداه ونعيد الكرة فنكتب ونقدم ما نكتبه لها، وكان هدف الرقابة الفرنسية أن تجعلها نستسلم ونيأس ليخيم على حياتنا الفكرية جمود تام، وبعبارة أخرى أوجز كنا في صراع مع العوائق والمنيطات فانتصرنا عليها حتى يئست هي فرضخت للأمر الواقع.
قد يقول البعض أن ما كان يكتب في تلك الفترة لم يكن في كميته ولا في كيفيته شيئا يذكر بالنسبة لما تتطلبه حيانا الفكرية اليوم، وذلك باعتبار مظاهر الطور التي أصبحت عليها شؤون الفكر الثقافية. وهذا صحيح، ولكن المؤسف هو أننا لم نستطع في عهد الاستقلال أن نجاري مظاهر هذا الطور فظلت شؤوننا الفكرية حيث هي، بل أن البعض من الناس يقولون أنها ربما تكون قد تأخرت قليلا عن المكان الذي كانت قف فيه، وأيا ما يكون التعليل الذي نعلل به هذا الجمود الفكري فإننا نرجع في خاتمة المطاف إلى العلة الأصلية إلى هي ضعف روح الكفاح في نفوس بعض الأدباء المتقين، وعدم وجودها بتاتا عند البعض منهم.
لقد أصبحت اجتماعانا الدولية عبارة عن صرف الوقت في أشياء تافهة، وأحيانا تكون سخيفة وأصبحت أحاديث السمر في بيوتنا مملة لأنها تدور حول أشياء تافهة، وانصرف الذين كانوا يقرؤون عن القراءة انصرافا مزعجا، بينما لم يقيل المتفقون المحدثون عليها. ويضاف إلى كل ذلك عامل آخر ألا وهو خلو حياتنا العامة من روح الحياة الاجتماعية التي تجعل أفراد الشعب يكيفون حياتهم بأشكال مختلفة تجعل هذه الحياة تتسم بشيء من التنوع وذلك مثلما تتسم الحديقة الغناء بأشكال وأنواع من الأزهار، ومن مظاهر الجمود في حياتنا الاجتماعية أن الأغلبية هنا تنصرف بأجمعها إلى نوع واحد، فالهواية الوحيدة التي يتجه إليها البعض تنساق إليها الأغلبية دون رؤية أو تفكير، فالنوادي إلى وجدت عندنا تكاد تكون كلها على شاكلة واحدة، ولذلك يلاحظ أنها من القلة حتى أنها لا تكاد تذكر ودوائر التوجيه في أجهزة الدولة لا تقوم بأي نشاط فكري سواء أكان ذلك من اختصاصها أم لا، وهذا بعض ما ساعدا على استمرار هذا الجمود الفكري، على أن من رسالة المتقين أن يكافحوا لإزالة هذا الجمود وأن يحاربوه في جميع الواجهات وأن يكون كفاحهم يتم بالاستمرار والمثابرة.
ويقول البعض من أدبائنا ومفكرينا أنهم لا يكتبون لأنهم لا يجدون من يقرأ ما يكتبونه، وفي رأيي أن الأمر يختلف باختلاف صور الإنتاج، فإذا قدمنا للقراء المقاربة إنتاجا يوافق ميولهم ويراعي مستواهم فإننا ولا شك نجد من يقرأ وما الأحجام عند المحاولات الأولى في هذا الباب سوى أحد الأدلة على ضعف روح الكفاح عند المفكرين في بلدنا.
فلنكتب مثنى وثلاث ورباع ولنواصل الإنتاج مع مراعاة مستوى المستهلك- كما يقال بلفة الاقتصاد- وأعتقد اعتقادا يكاد يكون جازما بأننا سنجد هذا المستهلك وسيجدنا هو، لأننا في هذه الحالة سنظل نبحث عنه وسنظل ننتج له ما يناسب مع قدرته الاستهلاكية حتى نتمكن من ابتلائه بالقراءة، أما الذين يكتبون وينحتون دون الأخذ بهذا الاعتبار فهم الذين قد لا يصادفون المستهلك رغم تعدد المحاولات، ويجب كذلك أن نتردد إلى الحلاقين والإسكافيين مثلها كان يفعل الأدباء المكافحون الذين استطاعوا أن يقاموا الظروف وينشروا نور الثقافة لتنتج أدبا يعيش عن إحساس الجمهور القارئ، أن أصول الثقافة والفكر هي بدون شك لا تكاد تختلف عند كثير من الأمم والشعوب، ولكن رسالة الأديب أو كفاحه بأصح تعبير ينحصران في تكييفها وصياغتها في قالب يمكن القارئ من اكتساب القدرة على استيعابها والاستفادة منها، وهذه هي رسالة الأدباء والمفكرون في هذا البلد، إنها رسالة تحتم عليهم كذلك أن يكونوا مكافحين، والكفاح لا يمكن الحصول منه على مكاسب إيجابية في جولة أو جولتين، بل لا بد فيه من تعدد المحاولات ومواصلة الجولات، ولا بد فيه كذلك من اعتبار الجماهير إلى يرمي الفكر إلى خلق وهي صحيح بين مختلف طبقاتها، ولئن أشرت إلى بعض صور من تاريخ الفكر القديم في مطلع هذا المقال لا دلل على صدق هذه النظرية فإنه من تمام الفائدة أن أشير إلى بعض الصور من تاريخ أدبنا المعاصر وليكن هذا المثال من قطر عربي، ولا ضرب لذلك مثلا بإنتاج الكاتب نجيب محفوظ أنه إنتاج يتلقاه المستهلكون سواء في الإقليم الجنوبي أو في الإقليم الشمالي وفي أقطار عربية أخرى بشيء غير قليل من الشرق، ويلاقي إنتاج الكاتب إحسان عبد القدوس مثل هذا الإقبال، ذلك لأن إنتاج هذين الكاتبين يجاوب تجاوبا عميقا مع نفسية القراء ولئن كنت شخصيا لا أقر بعض آراء السيد إحسان عبد القدوس فإنني أقدر فيه الكاتب المتشبع بروح المجتمع الذي يعيش فيه، وأقدر فيه كذلك عظمة روح الكفاح التي تتجلى في آرائه واستنتاجاته، وأتمنى أن نتمتع جميعا بشيء من روح هذا الكفاح الذي يكلل دائما بالنجاح التام، ذلك مثال واحد من تاريخ الفكر الحديث يضاف إلى المثال الذي قدمناه من تاريخ الفكر الحديث يضاف إلى المثال الذي قدمناه من تاريخ الفكر القديم، ومن خلالها تجلى الحقيقة التي لا بد من الاعتراف بها والإيمان بها إيمانا قويا والعمل بمقياسها حتى نستطيع تبديد هذا الجمود الذي نعترف بوجوده جميعا ولا نرضاه لأن يكون صورة من صور حياتنا العامة في عهد الاستقلال.
أما دور الدولة في مقدمة هذا الكفاح فهو يحتاج إلى مهمة أخرى تعزز هذا الكفاح حتى يسود الوعي الثقافي في هذا البلاد.