الرسالة الدينيّة: ما بين عظمة الوحيّ وقصور واقعها الإنسانيّ
طارق قبلان
إعلامي لبنانيّ
لا نغمط أحداً حقاً إنْ قلنا: إنّ التربية الدينيّة ليست في حالٍ تُحسد عليه، على الرّغم من سلطانها الماديّ؛ فيما تبليغ الرّسالة السماويّة لا يُحقّق حضوراً معرفيّاً وسيادةً علميّةً، لدى النّاشئة، بما يوازي السّلطان الماديّ للحالة الدينيّة، إذ لا تزال العقائد الأخرى تُمارس أدواراً، ظنّ كثيرٌ من الإسلاميين أنّها ستكون أدوارهم، وأنّ مسرحها مُلكهم المعاصر...فما الّذي يُعيق حضور الرسالة الإسلاميّة في أوساط المجتمع؟ وما الّذي يجعل سلطانها ماديّاً دون أن يكون معرفيّاً، أو أنْ يكون سطحيّاً يزول عند كلّ استحقاقٍ جدّيٍّ؟
إنّ الإجابة على الأسئلة المتقدّمة، وما يدخل في سياقها يتّجه إلى أسبابٍ عدّة، منها ما له علاقة بالحداثة والمُعاصرة، وآخر ينصبّ على الخطاب وأشكاله ومضامينه، وغير ذلك ممّا له علاقة بالأطر البشريّة والمؤسّساتيّة الناقلة للرّسالة الدينيّة، والتي تؤكّد خضوع الرسالة الدينيّة لمعايير الاتصال العامّة، ابتداءً من المرسل، وصولاً إلى المُرسل إليه.
إنّ الرسالة الدينيّة المبثوثة إلى الجماهير العريضة تكاد تكون هي نفسها الرّسالة التي مضت عليها القرون من الزّمن، فلم يلحظ المتلقّون لها فارقاً جوهريّاً بين نُسَخها المتعدّدة، عدديّاً لا مضموناً، لأنّ أصحابها يزعمون اكتمالها؛ فالمضمون عندهم مفارقٌ للزّمن؛ فالزّمن ـ بزعمهم ــ لا يفعل شيئاً في الوقائع الماديّة وتمثّلاتها الفكريّة، والمضامين تتكرّر بشكلٍ روتينيٍّ، دون اعتناءٍ بالتّفاعل مع الفكر الآخر المخالف، ودون النّظر إلى المتغيّرات بعينٍ ناقدةٍ...ودون التّفاعل مع المنجزات الماديّة والتقنيّة والفكريّة والمناهج العلميّة. ألم ترَ إلى الخطيب المرشد كيف لا يكلّ وهو يردّد معلوماته، لا سيّما التاريخيّة، دون التفاته إلى تجاوز الأبحاث العلميّة لتلك المعلومات، وغير ملتفتٍ إلى ما يُحيط به من حركة التّاريخ، فلا يلبّي خطابه حاجة أحدٍ من الناس، سوى أولئك الأميين، وأنصاف المتعلّمين، وسكّان الأرياف، وأهل البداوة، ممّن لا عهد لهم بالعصر وأهله، في وقتٍ يعجز ذلك المبلّغ عن ممارسة دورٍ رياديٍّ مطلوبٍ على مستوى المجتمع برمّته.
وإذا ما نظر النّاظر إلى مؤلّفات الحركة الإسلاميّة وأدبيّاتها، لا سيّما في المجال العقائديّ والتعبّديّ، لرأى جموداً مخيفاً على مستوى العناوين والموضوعات والأسماء والمراجع والمصادر، إلى درجةٍ لا يكاد المتابع يرى جديداً في كلّ ما يُنتج سوى الشكل الماديّ، فلا الموادّ ولا الأفكار ولا البنية الفكريّة ولا المنهج العلميّ...قد طرأ عليها أيّ تعديل يُذكر؛ حتّى على مستوى المعلومات التي ثبت خطأها العلميّ، فيما يدور الباحث على نفسه دوراناً، حين يتناول موضوعات العصر الإسلاميّ الأوّل ويغرق في خلافات الصّحابة، أو مشاحنات الكلاميين ومجادلاتهم، فلا يخرج منها بخيرٍ، ثمّ يسحب تلك اللحظة التاريخيّة إلى راهنه ويعيشها، ويُلبس الآخرين شخصيّات أبطالها، ويعود الحاضر مسرح الماضين، ويختلط الأمر على الحصيف.
إذاً، أين نحن من التاريخ وحركته؟ وما الجدوى التي تُضيفها الرسالة الإسلاميّة إلى حياتنا، إذا كانت ستعمل على تجميد حركة التاريخ في مجتمعاتنا، فتُبقينا أسرى التّاريخ وصراعاته؟
يُظهر جمود الرّسالة الدينيّة الإسلاميّة راهناً حاجتها الكبيرة إلى الوعيّ التاريخيّ والاجتماعيّ، من أجل مسايرة الوقائع الماديّة، والتطوّرات التقنيّة، والأفكار المستجدّة، وأثر ذلك كلّه وفاعليّته في المستوى البشريّ، بما يُجدّد حركة الرّسالة من خلال تجديد المضامين، ويجدّد علاقة النّاس بها، فضلاً عن تفاعلهم معها.
ومن الجدير بالملاحظة أنّ الرسالة الدينيّة المُعاصرة، غالباً ما أنتجت تشدّداً وتزمّتاً، تمثّل في أشكال العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة، على وجه الخصوص، بسبب الفهم القاصر عن مجاراة الوحي الخالد، من جهةٍ، وبسببٍ من قصورٍ معرفيٍّ في مجاراة العصر، من جهةٍ أخرى، ما انعكس على الدوام رفضاً للآخر، وخوفاً من التّساهل في الفهم الدينيّ والتّعبير عنه وتطوير ذلك؛ ولم ينجُ من التشدّد الفكريّ والسلوكيّ الإسلاميّ، إلّا أولئك الذين استطاعوا محاورة الحداثة ومجاراتها واستيعابها، أو أولئك الذين انفصلوا عمليّاً عن الرسالة الإسلاميّة، ودون وعيٍ لممارستهم الحداثيّة.
ثمّ إنّ الرسالة الدينية لا تسلم من أذًى نفسيٍّ يُسبّبه إرسالها غير المتوازن، حيث يغلب على خطاب أصحابها التّهديد دون التّرغيب، وغالباً ما يكون التهديد شديداً، ما يجعل المرء آيساً من رحمة الله، أو يجعله متزمّتاً في عباداته الدينيّة ومعاملاته، فلا يرتاح ولا يُريح النّاس، ويجعل دين السّلام وشريعته السّمحاء مورد نفور النّاس.
كذلك، لا تتمتّع الرسالة الدينيّة المبلّغة إلى النّاس بعالميّتها، حيث يقتصر تبليغها على المؤمنين بها، في مجالسهم المختلفة، المعمورة فرحأً أو حزناً، لقصورٍ علميٍّ ومعرفيٍّ لدى أهل التبليغ، إزاء المبشّرين الذين لا يألون جهداً في إعداد العدّة لنقل "البشارة" إلى النّاس أجمعين، في مشارق الأرض ومغاربها، وسهلها وجبلها، إذ يعكف هؤلاء على دراسة المجتمعات، وإتقان لغاتها ولهجاتها المحليّة المختلفة، واستلهام تاريخها، لإجادة التّعاطي مع كلّ عرقٍ، وقومٍ، وشعبٍ...فيما التبليغ الإسلاميّ لا زال ينحت الكلمات "التاريخيّة" ويستحضرها، ويصرّ على ربطها بزمنها، واجتماعها، وأجوائها النّفسيّة، رافضاً أن يُكلّم النّاس بلغتها ومعطياتها المختلفة، ومحمولاتها المعرفيّة، من معنى ودلالةٍ وثقافةٍ واجتماعٍ ونفسٍ...
فما السبب في اختلال الخطاب الإسلاميّ، وما هي السبيل للخروج من الواقع الصّعب؟
لا عجب أنّ السبب الأساس يكمن في منابت العلم الدينيّ، ومدارسه، ومناهج التعليم التي لا تزال قاصرةً عن استنطاق الوحي وتجديد مفاعيله في التاريخ والمجتمع، ولنا مع ذلك وقفةٌ.