الحرب على الطائفية...عمق التقوى!

غريبي مراد

 

لا يزال الحراك العربي الراهن محل تساؤلات جوهرية ومحاولات تحليلية عويصة، تكاد تقارب النفاق أحيانا والموضوعية أخرى، لأن المعطيات اليومية للسياسة العربية عامة، أصبحت محل يقين بأنها تسبح ضد التيار العربي الحر، بل باتت قاب قوسين أو أدنى من الوقوع في شرك الارتهان للمشاريع الصهيونية العالمية، التي انتهجت ما بعد اتفاقية كامب ديفيد أسلوب المراوغة والتمويه والتجميل السياسي للأنظمة العربية وتفويض الشخصيات الفنية السياسية لتحطيم المشروع التحرري للشعوب وانهاكها بجرعات المهرجانات الطائفية سواءا منها الدينية او المذهبية او العرقية.

وفي الوقت نفسه هناك اشتغال متعاظم لمخابر الاستكبار العالمي لإبقاء الساحة العربية و الاسلامية مرتعا لشياطين الطائفية والألعاب التدميرية للشخصية العربية والاسلامية، حيث يبرز ارتفاع وتيرة العنصرية ضد كل ما هو عربي واسلامي في الغرب وتحديدا في فرنسا وبريطانيا وهولندا وألمانيا والنرويج، مما يؤشر لحملة صهيونية جديدة ضد الاسلام الحركي المنفتح على الانسانية والمتطلع لبناء الحضارة العالمية القائمة على العدالة والحرية والعلم والمعرفة، متوسلة هذه المخابر بطبخ مشاريع طائفية مقيتة وتسريبها للعمق الاستراتيجي العربي والاسلامي عبر العقول التائهة والنفوس المرتهنة للتعصب الطائفي، حيث هذا الواقع  نلحظه يوميا في البيانات السياسية والبرامج الفضائية والأقلام المأجورة في صحف وفضائيات السلاطين والملوك، والمؤسف في الراهن العربي والاسلامي أن ترضى العديد من الأقطاب السياسية والثقافية والدينية أن تكون في خدمة الاستراتيجيات الاستكبارية في المنطقة العربية والاسلامية وعلى الخصوص الشرق الاوسط، بينما العمق الاستراتيجي الضروري راهنا للأمة العربية والاسلامية هو تصفير المشاكل الداخلية لتعزيز السياسة الخارجية للمسلمين أمام التغطرس الصهيوني وليس افتعالها لأجل تمكين الأجندات الفاشلة للاستدمار الصهيوني من العبور عبر بوابات النجدة الطائفية.

وفي ذات السياق نؤكد أن الخطابات التعبوية الفارغة من الأدب السياسي الاسلامي بالنسبة للزعماء الاسلاميين، لا تعالج المشاكل المذهبية والطائفية، بل على العكس من ذلك، فإنها تؤجج الوضع وتخدم مصالح رواد سياسة فرق تسد التي جعلت الأمة رهينة التخلف والتبعية طيلة قرون من الزمن، وما نراه اليوم من قلاقل منتشرة على طول خط طنجة- جاكرتا، هو بالفعل أعظم دليل على الطفولة السياسية التي يعيشها السواد الاعظم من زعماء المسلمين، وممن يحاولون صناعة المجد والبطولة عبر مسلسل الدراما الطائفي، الذي يسعى عبر حلقاته المتناقضة لغسل الدماغ المسلم من الوعي الاسلامي العادل.

ولعل كل الأوضاع الراهنة هي في الحقيقة سيناريوهات هوليودية، يشارك فيها بعض القراصنة العرب والعجم، إما عن الوعي أو في غمرة سكرة البطولة يبدعون في توسيع الجرح العربي والاسلامي، متناسين مآسي الشعوب ومستميتين في زراعة بذور التعصب والطائفية المذهبية و العرقية، وهناك في عواصم الغرب المريض بعقدة اسمها الاسلام الحضاري، تبتهج أجواء العنصرية السامية لحماقة العرب والعجم مذهبيا وتعصبهم لرذائل الأخلاق.

إن المهزلات السياسية التي يتفرج عليها عالم الأغبياء هناك بجزر المكر والفساد وجبال النفاق والدجل، تمثل أفظع الجرائم التاريخية بحق مستقبل هذه الأمة، فتارة يخرج ناعق بإسم حماية الدين وأهل المذهب الفلاني أو الطائفة الفلانية لينشر أوساخ نفسه وأمراض جنونه في ربوع الأمة الاسلامية، وتارة يأتيك من أقصى الشرق سياسي لبس الاسلام لبس الفرو مقلوبا، ليزيد الطينة بلى، والعجب العجاب ادعاء الجميع الاصلاح والعدالة والتنمية وما هنالك من عناوين أصبحنا اليوم نتحير في فقه معناها الصحيح، هل كما يراه هؤولاء الأبطال والزعماء والمصلحين في زمن التيه والطائفية أم أنها مفاهيم تستخدم كالتوابل في الطبخات السياسية (الشعارات والخطابات والبيانات والمواثيق)!

أما بعد: دعونا نتساءل، إلى متى سنتفنن في ملاحقة بعضنا البعض وتتبع عثراتنا؟ وما مستوى هذا الحمق بأن أتعامل مع ذلك الأخ في الدين والوطن والإنسانية وفق معايير تجزيئية لا تحترم إنسانيته ولا تنطلق من صميم الشريعة الاسلامية السمحاء؟ من المعيب أن نبقى في هذا القرن وما يحمله من اكتشافات علمية ومعرفية عظيمة، نتواصل بثقافة الطائفية، ومن كنا نظنهم لزمن ليس ببعيد أنهم عقلاء في السياسة والدين، حملتهم رياح التاريخ واستراتيجيات الهيمنة على بساط التعصب لتنزل بهم وعاظا للسلاطين همهم الوحيد، أوهامهم الطائفية والعرقية والسياسية.

الجواب الوحيد: لكل من سولت له نفسه ممن نزل بقصر الوجاهة الدينية أو القومية أو السياسية أو الثقافية:إن الصدق صلاح كل شيء، بينما الصدق في السياسة الممزوجة بالدين الموهوم هو في العمق كذب على الذات والناس وافتراء على التاريخ الذي لا يرحم، لأن الصدق الصحيح اسلاميا أن لا تخرج نفسك من حد التقصير ولا تقرأ التاريخ و الأحداث بعين واحدة (مذهبية أو عرقية أو حزبية)، الاسلام لم يأت للعرب دون الفرس أو الاتراك والعكس كذلك، والاسلام ليس دينا توقيفيا للسنة دون الشيعة أو العكس، والاسلام لم يفوض أمره للوهابية أو السنة أو الشيعة لحمايته، الاسلام جاء للإنسانية و محمد رسول الله (ص) رحمة للعالمين، ولا قيمة لهذه الطوارئ  الفكرية والمذهبية و القومية في مقياس الاسلام سوى بالتقوى، لأن المصير النهائي متوقف على قاعدة (يومئذ لا أنساب بينهم) فمهما حاول المرجفون والمتنطعين وتجار الفتن وعباد المال والجاه و قادة الطائفية أن يوهموا الامة برمزيات ورثتها كنتوناتها من التراث الاسلامي على أنها من الدين، لكن هيهات أن يصبح النحاس ذهبا.. فالتراث فيه الغث والسمين أما الدين الاسلامي الحنيف هو عنوان الحقيقة المطلقة  التي تستدعي منا التواضع لله والجد والاجتهاد في تحصيل الطهارة المعنوية لتحمل تبعات المعرفة الدينية، لأن القضية الاسلامية قائمة على حقيقة لا لبس فيها:"اعدلوا هو أقرب للتقوى" فكلما ابتعدنا في تفاعلنا اسلاميا عن العدالة ابتعدنا عن التقوى وظلمنا أنفسنا وأهلينا، بل حتى الآخرين ممن أصبح فريق منهم يستلهم أن النجاة والخلاص هي في صميم الوعي الاسلامي الذي يرشد للعدالة الحقيقية وللعزة و الكرامة في رحاب الطهارة الروحية  والرحابة الفكرية للظفر بالطمأنينة النفسية القائدة نحو رضا الله خالق الوجود ورازقه.

كفى استحمارا للأجيال الاسلامية وتبذيرا لمقومات القوة في تدمير وحدتنا وبث سموم الفرقة بيننا، وكفانا تشويها لصورة الاسلام أمام عالم أصبح لا يحترمنا ليس لأنه فقط يعادينا ولكن الحقيقة أننا لا نحترم أنفسنا كأتباع لمحمد (ص) الرحمة المهداة، فمتى ما عملنا على نظْم أمورنا بتصفير مشاكلنا الداخلية لغرض تقوية وحدتنا لا للإستقواء على بعضنا البعض، حينها سنكون أقرب للتقوى الذي من مصاديقه الأمة الواحدة الشاهدة  بالعلم والقوة والإنسانية والعدالة و الكرامة والحضارة التوحيدية الذي تعبد الله لا تشرك به شيئا، أما دون ذلك فإن الله سيأتي بقوم غيرنا رحماء بينهم أعزة على الكافرين أذلة على المؤمنين، يجاهدون في سبيل الله من أجل وحدة الأمة، ولا يخافون لومة أبواق الطائفية ولا يكون بأسهم بينهم شديد.

الطائفية والعصبية لغير مكارم الأخلاق هي دليل على الضلال والتيه وسوء المصير، وحتى تستكمل القراءة للواقع:حيثما وجدت الصهيونية متمثلة في زعمائها التاريخيين في العصر الحديث (السرطان الشيطاني وأمه الكبرى وأباطرة اوروبا وعرابي الفتن والحروب بالعالم العربي)، فإعلم أن مصلحة الاسلام في خطر، فما شهدته العراق منذ 2003 إلى يومنا هذا و لبنان واليوم سوريا والبحرين والتهويد المبرمج لعاصمة الاديان وفتنة مصر وليبيا والسودان و باكستان وأفغانستان والتطهير الديني للمسلمين في شمال الصين وجنوب شرق آسيا ووسط افريقيا والحرب الخفية ضد المسلمين بالغرب كل ذلك دليل الخدعة الرهيبة التي يهدف أصحابها من خلالها إلى غسل الدماغ العربي والمسلم عامة، حتى يستعبد لعقود أخرى من الزمن وحتى يستغرق في التفاصيل الوهمية والصراعات الطفولية التاريخية ولا ينتبه للتجديد الخرائطي لأمته الإسلامية.

المرحلة القادمة بحسب كواليس الشيطان الأكبر، هي تأجيج الحرائق الطائفية عبر العالم الاسلامي كله، وتحديدا استثمار كل التراث الخرافي والتخلفي لاشغال الأجيال المسلمة بالصراعات الطائفية ودفع البنوك الفتنوية لتمويل الاعلام الشيطاني بالشرق الاوسط  لتعطيل الوعي وبرمجة الطوائف لصراع جديد مع ايجاد أمراء جدد ألهتهم أهواؤهم لقيادة مواكب الظلم والبهتان والجهاد  في سبيل الشيطان الأكبر.

وعليه أصبح من الواجب المقدس على المخلصين في هذه الأمة من عرب وأتراك وايرانيين وغيرهم من المسلمين، تنبيه الأمة عبر كل المنابر الاعلامية والمواقع القيادية والبرامج التثقيفية لصد هذا المد الطائفي البغيض و تفعيل سبل اللقاء وتشكيل الهيئات الاسلامية المنفتحة على قضايا الأمة بعيدا عن مخلفات الجهل المذهبي، والاجتهاد في تنقية التراث وما يفرزه من مشاكل عقائدية وفقهية وأخلاقية، ناهيك عن دعم حركات التحرر والاصلاح والتغيير عبر العالم و ترشيدها بثقافة الوحدة والتسامح والتعايش وعدم الارتهان لوعود شياطين العالم و أذنابه في المنطقة الاسلامية.

بكلمة:ما هكذا تساق الابل، فالحكمة تقتضي الوسطية والقاضي يسمع للخصمين، حيث الظالم بائع غشاش، يبيع للناس الخوف ويشتري منهم الأحقاد، أما العمق الاستراتيجي، أصبح محل إشكال  لدى أصحابه أصلا، لأن اعتماد الطائفية في العمق الاستراتيجي يعني السقوط في مستنقع الرذائل. وفصل الخطاب الحقيقة الاسلامية هي ثمرة شجرة التقوى..

الأكثر مشاركة في الفيس بوك