متى ربيع الفكر الدينيّ؟
جورج مسّوح
لن تصحّ تسمية ما يجري من تغيّرات في العالم العربي بـ"الربيع العربيّ" إنْ لم تتواكب مع التجديد في الفكر الديني. فالعامل الديني ذو تأثير كبير وفاعل في المجتمعات العربية، وقد بدا ذلك جلياً في النتائج التي أفرزتها صناديق الاقتراع في أكثر من دولة، ولا سيّما في مصر.
والمواطنون، بسبب ممارسات الأنظمة القامعة التي سادتهم خلال عقود، كفروا بالإيديولوجيات ذات الطابع العلماني من قوميّة واشتراكيّة وجماهيرية... فكان من الطبيعي اللجوء إلى الخيار "الديني" عندما سنحت لهم الفرصة للتعبير عن آرائهم بحرية.
غير أنّ الخطاب الديني الراهن، أو غالبيته، يثير القلق والإحباط لدى شرائح عديدة من المجتمع تتوق إلى التغيير الفعلي نحو المزيد من الحقوق الأساسية التي حُرمت منها لزمن غير يسير.
وهذا القلق والإحباط لا يقتصران على أبناء "الأقليات الدينية"، بل يطاولان المنتمين إلى "الأكثريات الدينية" ممّن لا يروقهم الحكم الدينيّ، والوصاية الدينيّة على الدولة والدستور والحريات العامّة. وهؤلاء يجزمون بأنهم تحرّروا من استبداد طاغٍ ليقعوا تحت استبداد جديد لا يقلّ طغياناً عمّا سبقه.
لسنا في حاجة إلى إجراء بحث مضنٍ عن أدلة وبراهين تؤكّد تخلّف الخطاب الديني في البلاد العربية. فوسائل الإعلام تزخر يومياً بفتاوى وآراء وتصرّفات تتجاوز في غرابتها ما يمكن أن يتصوّره ذوو الخيال الجامح، أو أن يعقله ذوو العقل الراجح. وهذا لا يعني البتّة غياب بعض الأصوات المعتدلة، لكن غير المؤثرة في الجماهير والمنبوذة لديها. ما نشهده هو طغيان الخطاب الدينيّ اللاعقلانيّ على ما عداه.
يقول المفكّر الإسلامي الكبير الشيخ محمّد عبده (1905): "الاجتهاد ليس جائزاً فحسب، بل هو ضرورة جوهريّة أيضًا"، والمسلم الحقيقيّ، بالنسبة إليه، هو مَن يستعمل عقله في شؤون العالم والدين. لقد كان هاجس محمد عبده أن يظهر إمكان التوفيق ما بين الإسلام والفكر الحديث والعالم المعاصر، وأن يبيّن كيفية تحقيق ذلك. وانتقد عبده "التطرّف في التمسّك بمظاهر الشريعة"، والذين لا يميّزون ما بين الجوهريّ والثابت في الدين وما بين غير الجوهريّ والمتغيّر فيه، وانتقد أيضاً "التقليد الأعمى"، ما أدّى إلى الانحطاط، وفق كلامه، في المجتمعات الإسلاميّة.
ما انتقده الشيخ محمّد عبده منذ أكثر من قرن ما زال هو السائد في مجتمعاتنا الدينيّة. فتاوى مستنسخة عن القدماء من دون جهد لتأوينها، تقليد أعمى يأخذ بالمظاهر أكثر ممّا يبحث عن المعنى، آراء تليق بأبناء القرون الغابرة ولا صلة لها البتّة بعصرنا الحاضر، الخلط ما بين الجوهريّ والحادث، وصولاً إلى تكفير مَن لا يقتدي بأدقّ التفاصيل الفقهيّة.
وإن كنّا نتوق إلى دولة مدنيّة يتمّ فيها الفصل ما بين السلطتين الزمنيّة والدينيّة، إلاّ أنّنا نرجو، إذا ما أفرزت صناديق الاقتراع غالبيّة ذات طابع دينيّ سياسيّ، خطاباً من هذه الغالبيّة يتماشى وروح العصر. فالغالبيّة مسؤولة عن طمأنة الأقلية، وليس العكس. لذلك، لا بدّ لهذه الغالبيّة من أن تسعى إلى الاجتهاد في سبيل خطاب يأخذ في الاعتبار ما توصّل إليه الفكر الإنساني، ولا سيّما في موضوع الحقوق الأساسيّة كالحرية والمساواة في المواطنة وفي الكرامة الإنسانيّة. عدا ذلك سنظل ننتظر تباشير الربيع الحقيقيّة.