التعددية وضرورة الحوار في الأمة
حسين زين الدين
تمرّ الأمة الإسلامية في عصرنا الراهن بمرحلة خطرة وحرجة، أكثر مما كانت عليه في العصور السابقة، ذلك من جراء تزايد حالات الاحتقان الطائفيّ والمذهبيّ، وتصاعد حدّة الاقتتال والصراع، خصوصًا بين مكونات المجتمعات ذات التعدّد الفكريّ والتنوع المذهبيّ ضمن النسيج الوطنيّ الواحد، مما أدّى إلى إعاقة إرادة التنمية والتقدم، واستنزاف طاقاتها وإمكاناتها الإنسانية، وإشاعة حالة الفوضى وعدم الاستقرار المجتمعيّ والأمنيّ، مما انتهى إلى شروع الأبواب أمام الأعداء للهيمنة والتسلّط والتحكم في مقدّرات وممتلكات الأمة والوطن.
ولا يزال في مجتمعاتنا الكثير ممن يحسبون على الفكر والثقافة والدين والاجتماع، المهووسون بالعقد التاريخية والإيديولوجية، يجتهدون في إذكاء الصراع، وإشعال الفتن الطائفية بين مكونات الأمة، على الرغم من أننا في عصر التمدّن والانفتاح والتكتلات الإستراتيجية على جميع الصُّعد، لكن هناك من يحبّذ البقاء في أوحال التاريخ، مستغرقًا في أوهامه.
ومما لا ريب فيه أن لثقافة التعبئة التي ينتهجها دعاة الطائفية ضدّ الآخر ككل عبر مناهج التحريض على الكراهية وتوكيد الأحقاد ونشرها بين الناس من خلال تأجيج مشاعر العداء المذهبيّ والدينيّ والسّياسيّ بين أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة، هذه الثقافة لها الأثر الكبير في ترسيم نوعية العلاقة الاجتماعية بين المكونات، والركون إلى الفكر الأحاديّ الذي أفضى إلى تعميق حال القطيعة بين تلك المكونات، ومنح الفرصة لانتشار التصورات الخاطئة، والانطباعات السلبية، حتى امتدّ ذلك التأثير إلى ميادين أخرى، كالسّياسة والإعلام والمؤسّسات التعليمية ومناهج التدريس، فبدلاً من أن تكون داعمة للوحدة والتسامح والتعايش أصبحت هذه المؤسّسات تغذّي ثقافة الكراهية والقطيعة.
والأكيد أن ظاهرة التنوع والتعدّد (المذهبيّ/ السّياسيّ/ الفكريّ) في مجتمعاتنا لا تشرع لممارسة الطائفية أو التمييز ضدّ بعضنا بعضًا، ولا يمكن اعتبارها حالة طارئة وجديدة على مجتمعاتنا؛ بيد أن الغالبية المجتمعية أصبحت تنظر إلى هذا التنوع أو التعدّد، كأنه حالة غير صحية، لا بُدّ من رفضه، وعدم الاعتراف به، في حين أن المطلوب هو قبول هذا التنوع على أنه وسيلة من وسائل التعارف المبنية على أساس الوعي الذي يؤسّس لحالة حضارية من التفاهم والحوار والتعايش، لا طريقًا إلى التناحر والتباعد والتشظّي.
إن العمل على إلغاء خصوصية أيّ طرف لا يمثل نهجًا صحيحًا وسليمًا في التعاطي مع الحقيقة الوجودية في الواقع؛ إذ إنه لا يمكن تحقيق الوحدة بالقوة والفرض، كما أن مبدأ الوحدة لا يعني إلغاء الطرف الآخر، ولا يعني إرغامه على التنازل عن معتقداته وآرائه ليتحقق الاعتراف به، وإنما دعوة لتحقيق التعايش السّلميّ بين جميع الفرقاء، وتوفير أجواء الاحترام المتبادل، والسعي في خدمة المصالح المشتركة.
ومن أجل استعادة توازن الشخصية الإسلامية، وتسهيل التقريب بين المتباعدين، وإزالة الخلافات المتجذِّرة في العقلية البشرية بشكل عام، وتجاوز حالة القطيعة والتباعد، والانفتاح على الأطراف الأخرى مع عدم المساس بخصوصية كلّ طرف، كان من الإيمان تعزيز فكرة الحوار الإسلاميّ- الإسلاميّ، وأصوله الدينية والحضارية في وقتنا الراهن باعتباره وسيلة للتعايش السلميّ بين مكونات الأمة.
ومما لا يخفى على نبيه أن الحوار الإسلاميّ- الإسلاميّ من القضايا الإستراتيجية التي لا زالت بحاجة إلى إضافات نوعية على مستوى الفكر والممارسة، وليس هناك أيّ مبرّر من عدم الانفتاح على المفاهيم الأصيلة المغيبة في فكرنا الإسلاميّ المعاصر، كالتعدّدية، والتعايش، والتسامح، والوحدة، وترسيخ مبدأ الشراكة والتفاهم.
وحقيقة الإيمان بمطلب الحوار بين مكونات الحالة الإسلامية، أنه ليس مسألة ظرفية فقط تحركها التحدّيات والأزمات كما يعتقده البعض، بل كان وسيبقى الحوار جزءًا من منظومة قيمية إسلامية تدفع باتجاه مأسسة مجتمع متقارب دعمًا لأسس الاستقرار العام (السّياسيّ/ الاجتماعيّ/ الاقتصاديّ/ الأمنيّ) وحالة التسامح والتعارف والتعايش والوحدة، عبر الانفتاح على حقائق الاختلاف في الرؤى بين مكونات الأمة والوطن الواحد؛ لأن ذلك هو الطريق لحلحلة ومعالجة الكثير من الإشكالات الشائكة في تاريخنا الإسلاميّ، عبر تحرير أفكارنا وقناعاتنا عن حالات العصمة والتقديس للمسلّمات والمغالطات الدينية والفكرية وادعاءات ملكية الحقيقة المطلقة، وبالتالي نتمكن من السماح لعقولنا أن تلتقي وتتشاور حتى وإن لم تتفق على الآراء كلها، والسبيل الأمثل كخطوة أساس في ذلك كلّه، يتمثّل في أن تأخذ النخب السّياسية والفكرية موقعيتها الحقيقية في ترشيد وتقويم مسيرة الأمة عبر مشروع موحّد في ظلّ الحفاظ على خصوصيات وثوابت مكونات الحالة الإسلامية التي تشكّل فسيفساء الثقافة المعاصرة.