الفكر الاجتماعي في العصور الإسلامية

كانت المبادئ التي نادى بها الإسلام والتي وردت على الخصوص في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة مسهمة في الفكر الاجتماعي بقسط كبير.
فالقصص التي يذكرها القرآن، والتي وردت في الأحاديث، والاستنتاجات التي كانت تبنى عليها، تمثل جزءا هاما من علم الاجتماع الوصفي بالنسبة للمجتمعات والعصور التي ذكرت بشأنها.
كما كان لربط القرآن الكريم في معظم القصص والحكم التي ذكرها بين فساد الحال وسوء الخلق أو معصية الأنبياء والرسل، تأكيد للربط في الظواهر الاجتماعية بين السبب والنتيجة أو العلة والمعلول، وبالتالي تأكيد بأن الظواهر الاجتماعية لا تسير فوضى وبدون نظام بل تسير وفق قواعد معينة... ومن ذلك قوله تعالى: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» وأمثلة عديدة وردت في قصص آدم ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى وغيرهم.
وشملت الآيات القرآنية تنظيما اجتماعيا شاملا في نواحي الأسرة والاقتصاد والدين والسياسة والقانون ... بل والنواحي الأخلاقية والنفسية والعلمية والفنية. وكانت بهذا سببا في إثارة عدد لا يحصى من الدراسات الاجتماعية التي تناولت هذه النواحي المختلفة وحكمة تنظيمها سواء في العصر الإسلامي الأول أو في العصور اللاحقة.
وكان مبدأ الزكاة الذي يعتبر من المبادئ الرئيسية الخمسة للدين الإسلامي إلى جانب بعض القواعد الاجتماعية والقضائية الأخرى مؤديا إلى ظهور ما نسميه اليوم باسم «البحث الاجتماعي»، فلم تكن الزكاة تعطى بنص الحديث «لكل مدع لفاقه» بل كان ثمة بحوث اجتماعية يقوم بها المعنيون بالأمور للتأكد من أن الشخص الذي يطلب الزكاة يندرج تحت إحدى الطوائف الثمانية التي تنطبق عليها الزكاة، كما كان ثمة كشوف أو بيانات يدون فيها أسماء المستحقين وعددهم.
ولا شك أن الإسلام قد أسس القاعدة الأساسية الأولى في الفكر الاجتماعي الديني بفكرته عن وحدة الإله وهي الوحدانية التي صورها الإسلام في صورة قد لا نجد لها مثيلا بين الفلسفات الدينية المختلفة، فأدى هذا إلى نشأة علوم كثيرة فيما بعد هي من صميم الثقافة الإسلامية، مثل علم التوحيد الذي يسمى علم الكلام أيضا وغيره من العلوم التي خدمت كثيرا من الأفكار الدينية والفلسفية والاجتماعية مثل فكرة العدل الإلهي والعدل الإنساني وفكرة الخير والعلاقة بين الإنسان وربه وبين الإنسان وأخيه الإنسان.
وكان الإسلام عاملا قويا على بعث مبدأ الصيرورة والتغير، فلقد أشار القرآن والحديث في أكثر من موضع إلى الاختلافات بين المجتمعات المختلفة، في اللغات أو الألسنة والألوان والعادات والقوانين... والإسلام بهذا إنما كان  يقضي على النزعات الدقماطية التوكيدية التي لم يكن أصحابها يتصورون وجود نظم تخالف النظم التي عهدوها، ولا شك أن فكرة التغير هذه سيكون لها أثرها في العهد الحديث.
وهناك كثير من المفكرين يعتقدون أن الإسلام قد أتى بروح وضعية علمية، وهذه الروح تتجلى في كثير من مظاهر الإسلام كقوله بالسببية التي أشرنا إليها، وكاستخدامه للاستدلال والاستقراء وقواعد المنطق والعقل عامة التي تتضح في كثير من آيات القرآن مثل قوله تعالى: «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين» أو «هل عندكم من علم فتخرجوه لنا». هذا إلى جانب الدلائل أو الآيات التي كان يأتي بها للتدليل على صدق الدعوة التي يدعو إليها.
وتبدو هذه النزعة الوضعية العلمية فيما أورده الإسلام خاصة بالقضاء والقدر، فالقضاء والقدر في الإسلام ليس يعني –كما ظن كثير من الناس والدهماء خطأ- أن الإنسان يتواكل ويترك كل شيء لله، ولكنه يعني «أن كل شيء يسير حسب قضاء وقدر خاصين» أي أن الأمور تسير في المجتمع الإنساني والعالم الطبيعي الفيزيقي وفق قواعد ومقاييس دقيقة وتقديرات معينة لا تتعداها، ولا بد لمن يريد الوصول إلى غاية معينة من أن يسلك سبيلها لكي يصل إليها –وهذا هو الأساس الأول الذي تقوم عليه الدراسات الاجتماعية الحديثة من دراسة للواقع الاجتماعي بقصد اكتشاف القواعد والقوانين التي يخضع لها، كما هي الحال في الدراسات الفزيقية والعلمية كالطبيعة والكيمياء.
وغني عن البيان أن الإسلام أيضا قد أتى بهذه الروح في مجال البحوث العلمية الخاصة بالطبيعيات في مواضع وآيات متعددة كما يتضح مثلا من قوله تعالى: «والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون».
وفي مجال الفكر السياسي أخذ الإسلام بالنظام الديموقراطي(1) بما نادى به من ضرورة (الشورى) والنزول عند رأي الأغلبية، والحرية بجميع  أنواعها، ضمن قوانينه المحكمة، كما نادى بمبدأ المساواة السياسية بين الأفراد وإن كان قد سمح بنظام الرق كضرورة اجتماعية بعد أن أوصد معظم مصادره وفتح أبوابا كثيرة للعتق والتحرير، وسوى بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات وإن كان قد خص الرجل برئاسة الأسرة ولم يكن ذلك تفضيلا للذكر على الأنثى بل كان لأن الإسلام يسير على نظام الأسرة الأبوية لا الأمية، فلم يكن إذن ثمة تفضيل بدليل أن المرأة تحل محل الرجل في الرئاسة في بعض الظروف التي تحول بينه وبين ممارسة سلطاته. ولعل المسؤولية الكبيرة التي وضعها على كاهل الرجل كرئيس للأسرة هي التي حدت بالمشرع الإسلامي إلى منح الرجل نصيبا أوفر في الميراث في معظم الأحيان.
وفيما يتعلق بالملكية الفردية، فلقد نادى بها الإسلام بصفتها ملكية ذات وظيفة اجتماعية، اذ شرط التمتع بها أن يقوم صاحبها بما تفرضه عليه وتقترن به من أعباء اجتماعية كتأدية الزكاة مثلا وهذا النوع من الملكية هو ما سينادى به كثير من المفكرين الاشتراكيين في العصور الحديثة ولا سيما في القرنين التاسع عشر والعشرين من ضرورة تطبيق الملكية المقيدة أو العدل الاجتماعي أو غيرهما من المسميات المختلفة الدالة على نفس المعنى.
وهكذا نرى أن الإسلام بصفته دينا ودولة، نزل لهداية الناس في دنياهم وآخرتهم قد أتى بنظام شامل لمختلف نواحي الحياة الاجتماعية وكل ما يمت إليها بصلة، ومما لا مجال للجدال فيه أن هذا الدين العظيم قد كان بمثابة مصدر لأفكار اجتماعية رائعة استقاها منه كثير من العلماء والمفكرين في مختلف العصور، كل حسب طاقته وإلى المدى الذي اسعفه عقله لبلوغه.
وتعتبر الحقبة ما بين منتصف القرن السابع حتى أوائل القرن الخامس عشر فترة ازدهار الفكر الاجتماعي الإسلامي وبلوغ هذا الفكر درجة عالية لا تقل عن التي وصل إليها المفكرون الاجتماعيون في العصور الحديثة.
وكان الفتح الأول في هذا الميدان على يد الخلفاء الراشدين، وذلك ببيانهم لموقف الشريعة الإسلامية من النظم الاجتماعية التي كان يجدها المسلمون في البلاد التي ينتشر فيها الإسلام، ومحاولة التوفيق بينها وبين النظم الإسلامية أو بإبدالها بنظم إسلامية سواء دفعة واحدة أو على مراحل، كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مثلا في النظم الإدارية والمالية وفي تحليله لفكرة العدل... وبذلك فتحوا مجالا للاجتهاد أو الفقه، وهو الذي سيلعب أكبر دور –فيما بعد- في محاولة التوفيق بين القواعد العامة والخاصة في التشريع الإسلامي وبين مقتضيات المجتمعات التي ينتشر فيها مع ما يكتنفها من ظروف اجتماعية وطبيعية متباينة. ولا شك أن الفقه الإسلامي يحمل في طياته دلالات كبرى بالنسبة للدراسات الاجتماعية، فهو يدل على أن النظام الاجتماعي لا يجب أن يفهم على أنه شيء جامد لا يتحرك، وليس معنى هذا أن الفقه يقول بتغير النظام الديني من مجتمع لآخر بل معناه أننا نستطيع تطبيق النظام الديني الإسلامي مع مراعاة الظروف الاجتماعية الخاصة لكل مجتمع. لأن العبرة في الإسلام بالغاية، وغاية كل تشريع إسلامي هي مصلحة الأفراد والمجتمع «فما شرع الله حكما في الإسلام إلا لكفالة أمر للناس أو لرفع الحرج عنهم أو لتكميلهم وتجميل حياتهم». بل خرج بعض الفقهاء من ذلك إلى «أن كل تقنين يحقق مصالح الناس أو يقيم العدل بينهم هو تقنين مشروع وهو من شرع الله من وجهة نظر الشريعة الإسلامية». فالشريعة الإسلامية بمشرعيها وفقهائها قد قضت على الفكرة القائلة بجمود النظم الاجتماعية الدينية، وتلك فكرة جديدة ما نحسب أن دينا آخر قد تعرض لها بنفس العمق، ولقد لجأ إلى هذه الفكرة المفكرون المحدثون وسادت بينهم فلسفة المصالح، ولكن بعد جهود مضنية وبعد أن بليت أوربا بكوارث تأثر لها العالم كله وذلك نتيجة لتعلقها بالأفكار الدينية وأخذها على علاتها دون تمحيصها ومحاولة التوفيق بينها وبين الواقع الاجتماعي المطبقة فيـــه(2). وكانت نقطة انطلاق أوربا حين ثارت على هذا التفكير العقيم.
وكما أبرز المشرعون والفقهاء الإسلاميون فكرة التطور والصيرورة واختلاف الظروف الاجتماعية.. وما يصحب ذلك من ضرورة مرونة الدين ليلائم مقتضيات المكان والزمان وهو الشيء الذي يتوفر عليه دين الإسلام السمح مراعاة لمصالح الفرد والجماعة كذلك أسهم المؤرخون الإسلاميون والرحالة والجغرافيون من أمثال الطبري والمسعودي وابن خلدون من المؤرخين وابن جبير والاصطخري وابن بطوطة المغربي من الرحالة والجغرافيين في إبراز فكرة تباين النظم الاجتماعية في المجتمعات المختلفة والبحث في أسباب هذا الاختلاف ... فاسهموا في ذلك في الدراسات الانتروبولوجية ودراسة الأجناس والدراسات كلها كانت ممهدة لظهور علم الاجتماع من حيث أنها قادت الفكرة إلى البحث في الظواهر الاجتماعية وعللها واستنباط القوانين الخاصة بها ويقول في هذا أبو الحسن المسعودي: «وكان ما دعاني إلى تأليف كتابي هذا في التاريخ.. احتذاء الشاكلة التي قصدها العلماء.. ولكل إقليم عجائب يقتصر على علمها أهله، وليس من لزم جهة وطنه وقنع بما نمى إليه من الأخبار عن اقليمه كمن قسم عمره على قطع الأقطار ووزع أيامه بين تقاذف الأسفار، واستخراج كل دقيق من معدنه وإثارة كل نفيس من مكمنه» (مروج الذهب للمسعودي).
ويعتبر كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة» لأبي نصر الفارابي مثالا طيبا لازدهار الفكر الاجتماعي الإسلامي، أن هذا الكتاب يحتوي على فكرة ضخمة وهي المناداة بتكوين المجتمع العالمي، تلك الفكرة التي لم تبعث إلى الوجود إلى منذ زمن قريب جدا. ويخلص من درس هذا الكتاب إلى أن الفارابي قد فكر في «أمم متحدة» قبل ساسة القرن العشرين بقرون.

 وهو الذي يشمل أمة، ثم المجتمع الأصغر أو المدينة. ويلاحظ هنا أن الفارابي متأثر بالفكرة الإسلامية وهي فكرة العالمية، فالإسلام خاصة والأديان عامة تدعو دائما إلى تحقيق فكرة العالمية وتمقت فكرة القوميات وتجزئة العالم إلى دول متطاحنة، فالفارابي إذن قد تنبأ باجتماع الأمم كلها واتصالها بعضها ببعض واتحادها فكأنه رجل من رجال القرن العشرين يؤمن بالسلام ويثق برسالة منظمة الأمم المتحدة(3)... فلم يقتصر على تنظيم مدينة ضيقة كأفلاطون وغيره بل فكر في اتحاد الأمم كلها(4).
إن الفارابي يرى أن السعادة ممكنة على وجه الأرض «إذا تعاون المجتمع على نيلها بالأعمال الفاضلة... إن كل مدينة يمكن أن تنال بها السعادة، ولكن اكمل اجتماع إنساني هو الاجتماع الذي يشتمل على جميع أمم الأرض، وأحسن دولة تنال بها السعادة هي الدولة الكبرى».
ويرتفع الفكر الاجتماعي الإسلامي إلى الذروة على يد العالم العظيم عبد الرحمن ابن خلدون، وكفى ابن خلدون فخرا أن يكون أول من قام بإنشاء علم الاجتماع على أسس وضعية سليمة، لا تكاد تختلف عن الأسس التي قام عليها في العصور الحديثة، كما يعتبر ابن خلدون أول مؤسس حقيقي لفلسفة التاريخ. لذلك كان هذا العالم المغربي الكبير أحق منا بالوقوف على جهوده الجبارة في ميدان العلوم الاجتماعية وان كان هذا البحث لا يتسع طبعا لذكر فضله كله على تلك العلوم، وهو الأمر نفسه الذي حدا بنا أيضا إلى عدم الإشارة إلى تلك الأعمال الرائعة التي قام بها عدد من العلماء المسلمين مثل: ابن مسكويه وابن باجة وابن طفيل الأندلسي صاحب رواية «حي بن يقظان».
تعتبر مقدمة ابن خلدون في التاريخ أهم مؤلفاته التي كان لها صدى عميق وتأثير علمي ضخم. وفي هذا الكتاب القيم يبسط ابن خلدون فكره الأصيل في إنشاء علم الاجتماع ونظريته في فلسفة التاريخ، وهذه الدراسة هي التي اسهمت فيما بعد على ما يبدو في تشكيل كثير من النظريات لعلماء الاجتماع في أوروبا.
وتمخض فكر ابن خلدون عن هذه الأفكار الطريفة عند دراساته لمؤلفات التاريخ للعلماء السابقين عليه مثل ابن اسحاق والطبري والمسعودي وغيرهم، ووجد من دراساته هذه أن كتب التاريخ مليئة بالأخطاء التي لا يستطيع مفكر أن يكابر فيها(5) .
ودعا ذلك الرجل إلى البحث عن الأسباب التي تقود المؤرخين إلى الوقوع في الخطأ في كتاباتهم، وقد هداه فكره الجبار إلى أهم تلك الأسباب ألا وهو «الجهل بطبائع الأحوال والعمران، فإن كل حادث من الحوادث ذاتا كان أو فعلا لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته، وفيما يعرض له من أحواله، فإذا كان السامع عارفا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تميز الصدق من الكذب، وهذا ابلغ في التمحيص من كل وجه يعرض» فالسبب الأكبر إذن في أخطاء التاريخ أن المؤرخ يجهل طبيعة النظم الاجتماعية، والقواعد التي تخضع لها هذه النظم، ومن هنا كان لا بد من تخصيص علم لدراسة العمران أو الاجتماع يدرسه المؤرخ قبل أن يبدأ عمله حتى يتنكب الوقوف في الأخطاء. وهكذا نجد ابن خلدون قد توصل إلى إنشاء علم الاجتماع وهو بصدد البحث عن علاج لمشكلة الخطأ في التاريخ وهو هنا يشبه أوكوست كونت مؤسس علم الاجتماع عند الأوروبيين الذي توصل إلى إنشاء هذا العلم وهو يحاول الوصول إلى حلول للمشكلات السياسية والاجتماعية التي أحاطت بأوروبا في عصره.
ويحدد ابن بخلدون موضوع علمه الجديد بقوله: «ان ننظر في الاجتماع وهو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضا لا يعتد به وما يمكن أن يعرض له.. وكأن هذا علم مستقل بنفسه فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى وهذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أو عقليا» ثم يرسم ابن خلدون المنهج الذي يتبع في هذا العلم وهو استخدام القواعد المنطقية «وقياس الغائب بالشاهد والحاضر بالذاهب»(6)، والاستقراء، مع الإفادة من الرحلات وما يراه الباحث فيها رؤية العين، ومن المؤلفات التي تعالج الموضوع المدروس، وهذه القواعد بالذات هي التي يتبعها اليوم الباحث الاجتماعي.
ويفرد ابن خلدون جزءا كبيرا من مقدمته لدراسة فروع العلم الجديد فيقول في مستهل هذه الدراسة: «ونحن الآن نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال للعمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع، بوجوه برهانية يتضح بها التحقيق في معارفه الخاصة والعامة ويندفع بها الأوهام وترفع الشكوك...» واستوعبت فصول هذه الدراسة كل فروع علم الاجتماع المعروفة عند الاجتماعيين المحدثين وهي على التوالي في العمران البشري وأصنافه، وفي العمران البدوي والأمم الوحشية وفي الدول والخلافة والملك، وفي العمران الحضري والبلاد والأمصار، وفي الصنائع والمعاش والكسب، وفي العلوم واكتسابها وتعلمها، وهي تقابل عند المحدثين علم الاجتماع العام والنفسي، والاجتماع البشري وعلم الانثروبولوجيا والاجتماع الثقافي والاجتماع السياسي، والاجتماع الحضري والريفي والاجتماع الاقتصادي، وأخيرا الاجتماع اللغوي والديني والتربوي على الترتيب.
والمجتمع الإنساني –فيما يرى ابن خلدون- ضروري للإنسان لأن الإنسان مدني بالطبع(7) والنظم الاجتماعية تتغير من مجتمع لآخر، وفي نفس المجتمع تختلف من فترة لأخرى وفق ما يكتنف المجتمع من عوامل تضارسية ومناخية وثقافية، ويسهب ابن خلدون في بيان تأثير هذه العوامل على المجتمع والفرد سواء في النواحي الجسمية والعقلية. ثم يبرز بعد ذلك فكرة التطور الاجتماعي مستخرجا من دراساته للمجتمعات(8) قانون الهام عن التطور الاجتماعي الذي يعتبر فيما يرى معظم العلماء أول بحث جدي في فلسفة التاريخ.
يقول ابن خلدون أن المجتمع البشري شأنه شأن الفرد الذي يمر بمراحل منذ ولادته حتى وفاته، وأن للدول أعمارا كالأشخاص سواء بسواء...
تلك هي بعض النماذج الهامة التي أسهم بها ابن خلدون في الفكر الاجتماعي ولذلك يعتبر أبا علم الاجتماع وأول من صاغ فلسفة التاريخ، ذلك أن ابن خلدون يعرض كل هذه النظريات مع التدليل بأدلة تاريخية واجتماعية ونفسية من جميع المجتمعات التي كانت معروفة في عصره سواء في ذلك المجتمعات القديمة أو المعاصرة له... وكان المفكر العظيم يلجأ إلى ضرب الأمثلة لتقريب نظرياته الجديدة إلى الافهام.
تلك هي خلاصة ما قدمه أجدادنا للعالم ولأوروبا بالذات من معارف ونظريات عن المجتمع والحياة الاجتماعية هادفين من ذلك أخيرا إلى إسعاد البشر، وتكفينا هذه الخلافة لنتيقن من أن علماء القرنين السابع عشر والثامن عشر من أمثال روسو ومنتسكيو وفولتير قد تأثروا بأفكار آبائنا واستعانوا بها في نهضتهم الاجتماعية... وإلا فكيف يمكن تفسير هذا التشابه الداعي إلى الدهشة بين أفكار أولائك وهؤلاء.
إن الموازنة بين آراء ابن خلدون وآراء متنسكيو وفولتير وأمثالهما تجعلنا نتساءل عما إذا كان هؤلاء العلماء قد تأثروا بابن خلدون، إن ذلك ليس بمستبعد لاسيما وقد انتقل أثر الفلسفة والفكر العربيين إلى العالم الأوروبي عن طريق المغرب وبلاد الأندلس وهي البقاع التي ألف فيها ابن خلدون مقدمته وإذا كانت البحوث التاريخية لم تصل بعد إلى اكتشاف ترجمة للمقدمة تسمح لنا بالتأكد من تأثر منتسكيو وأمثاله بابن خلدون فإن الصلات بين أوروبا والعالم العربي عن طريق المغرب والأندلس كانت وثيقة في عصر ابن خلدون والعصور اللاحقة عليه مباشرة وهي صلات سياسية وأدبية وثقافية ودينية، بحيث لا يستبعد أن يكون التأثير قد انتقل عن طريق أشخاص أو سفراء أو رجال دين انتقلوا من الأندلس إلى أوروبا أو قد تكون بعض ترجمات المقدمة في هذا العصر قد فقدت ولم تصل إلينا، على كل حال إذا ثبت وجود مثل هذه الترجمات فإن ابن خلدون على الخصوص يكون قد أثر في الفكر الاجتماعي الأوروبي كله.

(1) الديمقراطية ننظر إليها بمعنى أوسع مع كونها مجرد شكل سياسي أو أنها طريق للحكم وسن القوانين وتنفيذ أعمال الحكومة بشكل يقوم به أعضاء منتخبون، فهي وإن كانت حقا كذلك إلا أنها أوسع من مجرد ذلك. ولقد قسرها المربي الفيلسوف ديوي بقوله: «الديموقراطية طريقة للحياة اجتماعية وفردية –فالديموقراطية كطريقة للحياة، يمكن أن يعبر عنها في نظري بأنها الحاجة لمشاركة كل كائن بشري ناضج في تكوين القيم التي تنظم حياة الأفراد بعضهم مع بعض والتي هي ضرورية لسعادة المجتمع عامة ولرقي الكائنات البشرية إلى مواطنين اجتماعيين» (نقلا عن الدكتور على أحمد فؤاد، محاضرات في النهوض بالمجتمع المحلي سنة 1957 ص 31).
(2) يقول الدكتور أحمد محمد خليفة مدير المعهد القومي للبحوث الجنائية بالقاهرة في هذا الصدد: «.. ونحن نرى أن الشرائع المنسوبة للوحي الإلهي يغلب عليها الجمود عادة اذ لا تتسع لكل التفصيلات التي يستلزمها  التطبيق والتغير الاجتماعي، ولكن  الشريعة الإسلامية تمتاز بالمرونة التي أدت إلى ظهور ثروة فقهية هائلة تسمح برعاية ما يخلقه التطور الاجتماعي من اعتبارات».
(3) في رأيي أن رسالة هيأة الأمم المتحدة هي (تمدين) العلاقات بين الدول، تلك العلاقات التي تقوم الآن على أساس قانون الغاب ويسودها مبدأ التقابل والمعاملة بالمثل والأخذ بالثأر. فالواقع أن الثأر الذي ما تزال تدين به بعض الجماعات هو ما تأخذ به الجماعات الدولية الآن إلى حد كبير، وعلى القانون الدولي أن يصل إلى جعل العقاب والجزاء في يد طرف ثالث قادر أعني هيئة الأمم المتحدة.
(4) ندري حافظ طوقان، الفارابي، مجلة العربي، العدد الثالث ص 62.
(5) للاطلاع على أمثلة ونماذج لهذه الأخطاء انظر مقدمة ابن خلدون صفحات 5 و 6 و 7 و 8 و 9.
(6) قرأ ابن خلدون في أحد المؤلفات التاريخية أنه عند بناء الاسكندر للاسكندرية كانت الجنيات تطلع من البحر ليلا لتهدم ما بني من المدينة بالنهار على حين غفلة من أهلها، فما كان من الاسكندر إلا أن ينزل إلى البحر في تابوت من الزجاج لعدة أيام ليرى كيف يكون شكل هذه الجنيات، لم يرض ابن خلدون بالثقل والرواية عند التأليف كما كان يفعل القريزي بل نزل بفكره إلى الواقع وتشكك وأخذ يمحص مثل هذا الخبر بالرجوع إلى طبائع العمران والبشر ودراستها بشكل موضوعي علمي بعيد عن الخيال وينطبق على ما نراه في واقعنا الاجتماعي.
(7) إن شريعة الحياة في الكائنات كما أوضح داروين في مذهبه عن التطور هي التنازع على البقاء وبقاء الأصلح. ينسب الماديون أفعال الخالق إلى الطبيعة تضليلا لاتباعهم فإن كانت هذه الطبيعة خالقة مدبرة حكيمة فهذا صنع الله والواجب أن يسمى بأسمائه الحسنى وفي نفس مقال الأستاذ بيير بوتي في هذا الصدد ما يرد هذا الخطأ على قائله. وقد سجلت الطبيعة كل كائن من مخلوقاتها بسلاح يخوض به معركة الحياة، من قوة بدنية خارقة أو سرعة فائقة أو أنياب حادة أو أظلاف جارحة أو قدرة على التلون أو التخفي إلى غير ذلك. أما الإنسان فلم يزود بشيء من هذا القبيل من القوى المادية ولكن وجد قوته وملاذه في العيش مع بني نوعه في جماعة، إلا أن الإنسان يسمو سموا بينا على غيره من أنواع الحيوان الذي يعيش في قطيع ولو اقتصرت الطبيعة على ذلك ما قدر للإنسان الوجود ولكنها منحته الاستعداد الفطري للاندماج في الجماعة لا مجرد الدخول في إطارها هذا الاستعداد للاندماج في الجماعة هو الغريزة الاجتماعية.
(8) وهنا تمكن الروح العلمية التي تميز ابن خلدون فهو قد استخلص قانونه التطوري من الوقائع الاجتماعية في المجتمعات المختلفة وفي ذلك يقول «واعتبر ذلك في الدول التي أخبارها في الصحف لديك، تجد ما قلته لك من ذلك صحيحا من غير ريبة» المقدمة ص 82.

المصدر: http://www.habous.net/daouat-alhaq/item/613

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك