الاستعمار الفكري وخطره على الشعوب
إن كل أمة من الأمم يرتكز وجودها بقاؤها على دعائم متينة تقف في وجه الأعاصير فلا تمليها وتجابه الأحداث الجسام فلا تزعزعها، تستمد منها عناصر بقائها ومكونات وجودها واستمرار بقائها وحياتها إن هي حافظت على روحها وجوهرها.
وهذه الأسس هي : الدين واللغة والتاريخ والحضارة والشخصية المميزة، ونحن أمة تتوفر فينا كل هذه المقومات وتلك الميزات، فديننا أسمى الأديان جاءنا بتعاليم وأنظمة مثالية بزت كل الآراء الأفلاطونية والنظرات السقراطية، كما فاقت كل النظم والشرائع الأرضية والمبادئ والدساتير الوضعية.
وإذا كان الدين الإسلامي من مقومات وجود أمتنا الفتية ومن مميزات وطننا الذاتية فإن لغة الضاد هي أيضا إحدى أسسه الفكرية والروحية ورابطته التاريخية والأدبية فهي مصدر تراثنا الفكري الخالد ومنبع إلهامنا ومجدنا التالد، بها سجل تاريخنا القومي والعلمي، ذلك التاريخ الحافل بالبطولة والمجد المليء بالعظمة والانتصار، ذلك التاريخ الذي أملى إرادته الجبارة على الحياة فاستجابت، وسير دفتها بمهارة فانقادت، ونشر لواءه الخفاق في المغربين ولمع نجمه الوضاء في الخافقين، حتى صار أغنية في فم الدهر وأنشودة في مسمع الكون تتحدث بخلوده الركبان على مر العصور والأزمان.
إن معرفة تاريخنا هو الذي يغذي في أبنائنا شعورهم بكيانهم، ويقوي تمسكهم بقوميتهم، ويجعلهم يذودون عن حوزة أمتهم، ويحافظون على تماسك الحلقات التي تربط ماضيها بحاضرها، كما تحفزهم على تقوية أواصرها، والتحام روابطها لصالح مستقبلها وتقدمها والاحتفاظ بمقوماتها، فالشعوب تموت إذا فقدت ذاكرتها، وما ذاكرتها إلا تاريخها القومي الحافل بالمكرمات المليء بالمناقب وأرقى الحضارات، تلك الحضارة التي هي جزء من كياننا وبعض تراثنا العقلي، لا يمكننا التخلي عنه أو الانتقاض من قيمته، لأنه يمثل ماضينا كأمة وعظمتنا كشعب.
وآثار هذه الحضارة لا تزال ماثلة للعيان تشهد بعبقريتنا، وتنطق بمجدنا، وتدل على ما كان لآبائنا من عقول مبتكرة وروح تقدمية وذوق رائع في الفن والجمال والرقي والإبداع.
وإذا كانت هذه الحضارة من مقوماتنا الوطنية والتي تمثل بعض مظاهر وأبرز خطوطها، فإن هذه الشخصية مما يجب المحافظة عليه لأنها تطبعنا بطابع خاص وتسمنا بميسم يميزنا عن الأمم والشعوب، وكل أمة من الأمم تحتفظ بشخصيتها الذاتية ولا تقبل أن تذوب في شخصية أمة أخرى كيفما كانت هذه الأمة، بل تعتز بها وترفع رأسها عاليا حين تنتسب إليها.
ولقد توج هذه المقومات ووقاها وأبرز هذه الخصائص ونماها وحافظ عليها وصقلها وأحاطها بهالة من القوة والمتعة –هذا العرش العلوي العتيد الذي حكم المغرب طيلة قرون وأجيال قام ملوكه- ولا زالوا- بأجل الخدمات حتى احتل المغرب مركزا ممتازا بين الأمم وصار له صيت ذائع بين الدول.
تلكم –فيما اعتقد- هي المقومات التي ترتكز عليها دعائم وجودنا كأمة وهذه هي العوامل التي خلقت منا دولة مغربية وجزءا من أمة عربية إسلامية قوية البنيان متينة الأركان.
وإذا كانت هذه هي مقوماتنا الوطنية فلنعمل على تقويتها وإبرازها ولنحذر من اضمحلالها أو ضعفها، فإن كل أمة اضمحلت مقوماتها الذاتية أو ضعفت روابطها الوطنية إلا وتنهار قوتها المعنوية وينفد رصيدها المدخر ويدب لها الانحلال والتواكل والخذلان وتفقد حلقة الاتصال الملتحمة بين ماضيها وحاضرها وبالتالي تفقد ذاكرتها وتتعرض لأخس أنواع الحكم في تاريخ البشرية : الاستعمار البغيض.
ولذا فإن الاستعمار الفرنسي حينما حاول أن يغزونا بشروره اتجه بمعوله توا إلى هذه المقومات ومعاقلها المنيعة حتى يتسنى له أن يستعمر بلادنا سياسيا واقتصاديا وعسكريا وثقافيا وفكريا.
وإنما توجه إليها بالذات لأنه يدرك أن هذه المقومات لها قوة ذاتية عميقة الجذور في صميم هذا الشعب الأبي وأنها تقف عقبة كأداء في طريق فرض سيطرته على بلادنا، فأعلنها حربا شعواء لا هوادة فيها ولا التواء على كل مقومات وجودنا من دين صحيح ولغة قومية وحضارة وطنية وتاريخ مجيد وعرش عتيد وشخصية مميزة حتى يسهل عليه فرنسة المغاربة بعد أن يكون قد قطع كل الصلات الروحية والروابط الأخوية والوشائج الدينية والأواصر اللغوية بينه وبين ماضيه وبينه وبين أشقائه العرب والمسلمين، ومن ثم لا يعود يفكر في وجوده أو يستمد قوة شخصيته من تاريخه أو يستوحي العزم والإيمان من تراثه القويم أو يجدد بناء هيكله على ضوء تعاليم دينه الكريم، أو يربط علاقاته الجنسية والدموية مع إخوانه في العروبة والإسلام، كل ذلك ضمن خطة مبيتة ومؤامرة مدبرة نسج خيوطها وحبك دسائسها أخصائيون في فن الاستعمار استغلوا ثقافتهم الواسعة واتجروا بأقلامهم الرخيصة وسخروها لخدمة اشر وباعوا أمانة العلم وحقائق التاريخ وشرف المهنة وكرامة الضمير واستهتروا بحقوق الإنسان في سبيل استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
ترى هل نجح الاستعمار في خطته التي سلكها للقضاء على مقومات وطننا ؟ كلا، لأن هذه المقومات منحدرة من أعماق تاريخنا ونابعة من صميم مقدساتنا وسارية في دماء أفراد شعبنا ومتغلغلة في شعوره وراسبة في شعوره، ولأن لها من القوة والحصانة ما يجعلها في حرز أمين.
وأكبر دليل على أن الاستعمار لم يوفق في خطته كل التوفيق أن الذين غزاهم بثقافته كانوا من الأعداء الألداء له أصلوه نارا حامية بلغته وخططه ونظمه وكانت لهم مواقف وطنية مشرفة سجلها لهم التاريخ بأحرف من نور، ولكن إحرازنا على هذا الانتصار يجب ألا يخدع أنفسنا ونعتقد أن الاستعمار لم يترك أي أثر من آثاره الفكرية المسمومة، فهناك طائفة تأثرت بدعاياته وأفكاره وأعجبت بها كل الإعجاب مع أن هذه الأفكار ليست متلائمة مع طبيعة شعبنا ولا مع عقائدنا وروحانيتنا كشعب له مميزاته وخصائصه ومقوماته وشخصيته.
وإذا كان الاستعمار السياسي أو الاقتصادي أو العسكري يشكل خطرا كبيرا على الأمة التي ترزح تحت نيره وتكتوي بناره فإن الاستعمار الفكري أبعد أثرا وأشد خطرا من ضروب الاستعمار الأخرى لأنه يتصل بالعقل وبالقلب وبالعاطفة وبالشعور وبالاتجاه في التفكير.
ولقد تجلى أثر الاستعمار الفكري في كثير من الميادين الحيوية وضد عدد من مقوماتنا الوطنية فمن ذلك القول «بأن تشبثنا بالقرآن هو سبب تأخرنا» فماذا يراد من نشر هذه الفكرة الغريبة عن ديننا ؟ يراد بها استعمار الأفكار والتشكيك في قيمة تراثنا الروحي الذي تقوم عليه أسس كياننا ووجودنا، حتى إذا تزعزع إيماننا بصلاحية القرآن ولم تعد نفحاته الروحانية تستولي على مشاعرنا وأنظمته تجد من قلوبنا وعقولنا آذانا صاغية غزينا بفكرة أخرى من نوع جديد أخطر من سابقتها وهيهات هيهات، أليس هذا أثرا من آثار الاستعمار العقلي ؟.
وفي مجال الحكم أصبحنا نسمع فكرة فصل الدين عن الدولة بمعنى «أن نبعد هذا الدين من حياتنا العملية ليبقى في عزلة لا يحكم الحياة ولا يصرف شؤونها ولا يعالج مشكلاتها. فالدين –كما يقال- صلة ما بين العبد وربه، أما صلات الناس وعلاقات المجتمع ومشاكل الحياة وسياسة المال... فلا دخل للدين فيها ولا دخل لها بالدين».
من أين جاءتنا هذه النظريات الغريبة على طبيعة الإسلام وعلى تاريخ الإسلام ؟ جاءتنا من أوربا نتيجة للاستعمار الفكري الذي غزا بعض العقول، إذن إن قصة الفصل بين الدين والدنيا لم تبث في الإسلام ولم يعرفها الإسلام ولم تكن يوما وليدة هذا الدين ولم تعرفها طبيعته ولكننا تلقفناها تلقفا كالببغاء وحاكيناها محاكاة كالقردة ولم نحاول أن نفتش عن أصلها ونشأتها ولا أن نعرف مصدرها وموردها.
أما في ميدان الثقافة فطالما رددت الألسنة : إن اللغة العربية عاجزة عن مسايرة العصر مع أنها كانت لغة العلم يوم كانت اللاتينية معدومة.
وفي ميدان السياسة كثيرا ما سمعنا أن المغرب بحكم وضعه الجغرافي يجب أن يتجه على الغرب وأنه لا فائدة في اتحادنا مع أشقائنا العرب والمسلمين.
هذه بعض مظاهر الاستعمار الفكري ولا شك أنها خطيرة على مستقبل وطننا يجب أن نحذر منها ومن آثارها، لأنه لا استقلال لأمة إلا إذا تحرر أبناؤها من بقايا الاستعمار كيفما كان لونه وإلا إذا طهروا عقولهم وأفكارهم من تلك الرواسب العميقة التي بث الاستعمار سمومها من طريق مباشر أو غير مباشر وأصبحنا –مع كل الأسف- نرى آثارها متجلية إلى اليوم.
إن استعمار العقول معناه خروج المحتل من البلاد وبقاء جيشه المختفي بين ظهرانينا ينخر هيكلها من حيث لا نشعر، ويسبب لحكوماتها المشاكل ويخلق لها العراقيل لاختلاف وجهات النظر بين أبناء الأمة الواحدة وقادة الشعب وأنصارهم، ولذا يجب توحيد الصفوف، توحيد الأفكار، توحيد الاتجاهات بين أبناء الأمة داخل المصلحة العليا للوطن، فليس هناك من تثقف ثقافة قومية وآخر درس لغة أجنبية، هذه تفرقة خلقها الاستعمار لتشتيت قوى الشعب، وإنما هناك شباب مغربي تجمعه رابطة الأخوة الدينية وآصرة المصلحة الوطنية ووشائج المبدأ، وعلاقات الأهداف المشتركة. ويجب أن نخلق بين جميع عناصر الشباب تجاوبا فكريا وروحيا وثقافيا ونكون من الجميع طاقات هائلة تنطلق إلى البناء والنهوض والإصلاح.
إن الاستعمار الفكري هو أخطر أنواع الاستعمار على الأمم والشعوب كما قلت آنفا ويتجلى مظهر هذا الخطر في احتقار الإنسان تراث بلاده القومي ورصيده الروحي والمعنوي وتشبثه بالإنتاج الأجنبي واستيراد المبادئ والنظريات وبالتالي فقدان الأواصر الروحية بينه وبين ماضيه وانعدام كل الروابط التي تجمعه مع إخوانه في الدين واللغة والتاريخ والآلام والآمال ويصبح عضوا منفصلا عن أعضاء أسرة الوطن الكبرى التي ينتسب إليها.
ونجاح هذه الأفكار التي عمل الاستعمار على نشرها بشتى الوسائل –تفقدنا مع توالي الأيام شخصيتنا كأمة لها مميزاتها الذاتية وخصائصها التاريخية ومقوماتها الأخلاقية العريقة عراقة هذه الأرض الطاهرة وأزلية هذا الأطلس الجبار، وإلى للاستعمار ومن تأثر بمظاهره المتقلبة وانخدع ببرقه الخلب أن يصل إلى ذلك، فمقوماتنا الذاتية ضاربة أطنابها في جذور التاريخ ومستمدة عوامل بقائها من تقاليد سليمة وعناصر صميمة صمدت لصرف الدهر وإحداث التاريخ فخرجت منها منتصرة مشمخرة الذرى قوية الجانب مهيبة الشوكة.