دار التقريب في القاهرة

الشيخ د. خالد عبد الوهاب الملا

رئيس جماعة علماء العراق

 

إن مهمة التقريب بين المذاهب الإسلامية يُعتبر الركيزة الأساسية لتعريف المسلمين بعضهم ببعض ومن ثم جمعهم على أساس الدين الحق الذي جاء به القران الكريم بقوله (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) وقول الرسول الأمين(صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته (لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) ‏ وهذا تحذير واضح إلى نبذ أسباب الخلاف الذي يؤدي إلى الاحتراب وهذا ما لم تقصده الشريعة السمحاء من وجود الخلاف بين الفقهاء حيث قال تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ...) وقال (وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ).

ومن الجدير بالذكر إن غاية التقريب لا تهدف إلى أن يترك أصحاب الفرق والمذاهب الإسلامية مذاهبهم وإنما الهدف الأسمى للتقريب هو أن يتحد الجميع حول الأصول المتفق عليها في كبرى المشتركات والوقوف أمام التحديات التي تواجه الأمة بصف واحد كما أنه ليس المراد من التقريب بين المذاهب الإسلامية هو إزالة اصل الخلاف  بين المسلمين  بل إن أقصى المراد من التقريب هو أن لا يكون الخلاف سببا للعداء والبغضاء ويُعتبر دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة هو واحد من تلك الصروح الفكرية التي ظهرت في وقت كانت الأمة فيه بأمس الحاجة إليها فبعد نصف قرن على تأسيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية 1947 مازالت الضرورات تقتضي إحياء رسالة التقريب في الأمة وتتأكد هذه الضرورات مع دخول العالم القرن الحادي والعشرين وما يشهده العصر من تحولات وتغيرات واسعة ومتسارعة في ظل تيار العولمة الكاسح الذي غير صورة العالم فلم تعد المشكلة في نقص المعلومات بل أصبحت المشكلة في ضبط حركتها هذا إذا ما عرفنا أن ثمة مشتركات تجمع بين الأزهر الشريف وقُم والنجف الأشراف وجبل عامل باعتبارها من المؤسسات العلمية والفكرية فيترشح من هذه المشتركات ما يلي:

أولا: الاهتمام بالدعوة الإسلامية وتربية الناس وتوجيههم حسب مقاصد الشريعة الإسلامية.

ثانيا: مقارعة الاستعمار والمحتلين ففي كثير من الأحيان تجتمع الآراء في التصدي للمستعمر الغازي وكلنا يذكر أن الشيخ جعفر كاشف الغطاء (رحمه الله) قاتل في الحرب الغجرية ضد الروس وهو عربي عراقي من مدينة الحلة وهناك من العلماء السنة كانوا يقاتلون بجانب إخوانهم المجاهدين في حزب الله لبنان وكذلك الحالة في العراق حينما وقف الشيعة مع أهل الفلوجة ووقف السنة مع أهل النجف للتصدي إلى القوات الأمريكية المحتلة.

ثالثا: مقارعة الاستبداد والحكومات الظالمة وهذا واضح من مواقف العلماء من كلا الجانبين والشواهد أكثر من أن تعد.

رابعا:  القضية الأم (فلسطين)

يذكر أن الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء سافر إلى باكستان والأزهر يحذر المسلمين وأحرار العالم من تشكيل دولة إسرائيل اللقيطة وضرورة التصدي لها من قبل جميع المسلمين باعتباره واجبا إسلاميا.. وللعودة إلى دار التقريب والأزهر الشريف فمن الضروري أن نقف على أسباب نشأة تلك الدار وكيف دعمت وبوركت من مشايخ الأزهر الكرام ولعل من أهم الأسباب:

1.اختلاق الصراع الطائفي بين أهل السنة والشيعة من قبل أعداء الإسلام وهذا أمر تنبه له علماء الأمة مبكرا كجمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده وسماحة العلامة البروجردي وغيرهم. 

2. محاولة إشاعة عدم انعدام الثقة والابتعاد عن التخاصم وإثارة الشبهات وللحق نقول إن أعداء الإسلام في كثير من الأحيان والحقب التاريخية ينجحون نسبيا في خلق هذه الحواجز الضخمة (الوهمية) بين أتباع المذاهب ولقد نضجت حينها فكرة التقريب وزاد عدد المؤيدين لها بين المؤمنين وقد كان الشيخ محمد مصطفى المُراغي يبذل جهودا لإنجاح مهمة الشيخ محمد تقي القُمي الذي جاء من مدينة قُم ثم إلى لبنان ثم إلى الأزهر ليؤسس دار التقريب فانضم إلى هذا الفريق الشيخ مصطفى عبد الرزاق والشيخ محمود شلتوت وعلماء يطول الحديث بذكرهم...

ومن هذا الجمع تشكلت النواة لجماعة التقريب واتخذت هذه المؤسسة المباركة من بيت الشيخ القمي مقرا لأعمالها وأسسوا مجلة رصينة عُرفت برسالة الإسلام والتي تميزت بكبار كتابها من كبار العلماء ثم تترجم إلى لغات أجنبية أخرى وقد برز من بينهم الشيخ عبد المجيد سليم الذي أصبح شيخا للأزهر فيما بعد والذي قال عنه الإمام محمد مصطفى المُراغي لو كان أبو حنيفة حيا لما استخلف على مدرسته الفقهية سوى الشيخ عبد المجيد سليم لإلمامه الكامل بالفقه الحنفي ولدقة وسعة علمه على أراء المذاهب الأخرى والشيخ عبد المجيد سليم رحمه الله أول من راسل الإمام البروجردي في قُم وهي مراسلة هامة بين شخصيتين كبيرتين سنية وشيعية وظلت هذه المراسلات تتوالى بين العالِمين ويُذكر أن الإمام البروجردي أرسل كتاب المبسوط للشيخ  الطوسي وهو فقه شيعي وقد أعجب به أيما اعجاب وبدا يستفيد منه من خلال الفقه المقارن مما دفعه أن يصدر فتوى بجواز التعبد بفقه الشيعة وطبعا هذه الفتوى سبقت فتوى الإمام الأكبر الشيخ شلتوت إلا أن ضغوطا سياسية مورست ضد هذه الفتوى لإيقافها وإبطالها وذُوبت الفكرة أمام تلك التحديات ومرت سنوات واخذ منصب الأزهر الشريف الشيخ شلتوت وكان عالما مفسرا أديبا بارعا بالعلوم الشرعية وهو تلميذ الشيخ عبد المجيد سليم ما دفعه أن يُصدر الفتوى الشهيرة بجواز التعبد على الفقه الجعفري.

وفي الختام لابد من الوقوف عند أهم العقبات التي تعترض النخب والمؤسسات والأفراد في طريق التقريب:

العقبة الأولى: تلك المخططات البائسة والمحاولات الفاشلة التي تُمزق الأمة أيما تمزيق فالعراق ولبنان والبحرين وسوريا نموذجا ... يقول الشيخ العلامة محمد سعيد البوطي وهو يتحدث عن التدخل الخارجي يقول ما نصه (وقد أصدر مجلس الأمن القومي الأمريكي تقريرا في نهاية عام 1991وهو يتحدث عن الإسلام وخطر عودة انبعاثه ثم يضع سبلا للقضاء على هذا الخطر بإثارة التناقضات الحادة بين المسلمين وتأليب المسلمين بعضهم على بعض).

العقبة الثانية: السياسة المفروضة على العالم العربي والإسلامي ويكفينا أن ننظر بنظرة ثاقبة إلى ما يحدث اليوم في الشرق الأوسط.

العقبة الثالثة: التطرف والتكفير وتناميهما في المجتمع.

العقبة الرابعة: الجهل والابتعاد عن صحبة العلماء والخلط بين المصالح السياسية والدينية كل ذلك عقبات تقف في طريق دعاة التقريب ومشروع التقريب.

ويقابل هذه العقبات الأسس التي بدورها تأخذ بزمام المبادرة فمنها:

1.التعاون في المتفق عليه (المشتركات).

 2.التسامح في المختلف فيه.

 3. الاعتدال وعدم المغالاة.

 4. الاعتراف بالآخر وتجاوز أحقاد التاريخ.

 5. دراسة المدارس الفقهية دراسة موضوعية.

 6. إشاعة ثقافة التعايش وروح التسامح والتوضيح بأن الخلاف بين المسلمين هو خلاف طبيعي لا حرمة فيه.

 

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=5562

الأكثر مشاركة في الفيس بوك