فيصل مولوي فقيه الدعوة وحكيم الدعاة

السيد علي محمد حسين فضل الله

 

أن تكون إسلامياً، أن يكون الإسلام حاضراً معك دائماً تستهديه، تستنطقه في حركتك ومنطلقاتك وأهدافك، فلا تقدّم مصالحك الذاتية على مصلحة الإسلام الذي هو خير كله للإنسان وللحياة، أن تكون إسلاميّاً، يعني أن تكون وحدويّاً، تعمل دائماً على مدّ الجسور المفتوحة مع الآخرين، وعلى تأكيد مواقع اللّقاء، سواء كان ذلك في داخل البيت الإسلامي الواحد، أو في الدّائرة الإيمانيّة الأوسع مع أهل الكتاب وأهل الوطن، وفي العلاقة مع الّذين لا يؤمنون بالدين أو القيم التي تؤمن بها، أمّا الذين ينسفون الجسور، والّذين يفضّلون أن يغلقوا الأبواب على أنفسهم، أن يعيشوا في كهوفهم ومغاورهم، فلا يمكن أن يكونوا إسلاميّين..

أن تكون إسلامياً، أن تنفتح على كلّ قضايا الحقّ والعدل، أن تكون مع العدل حتى لو كان العدل عند أعدائك، وأن تقف في وجه الظّلم والظالمين والطغاة، إلى أيّ دين أو مذهب انتموا، لأنّ الدّيانات لم تأتِ إلا لإقامة العدل {ولقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب ليقوم النّاس بالقسط}.. {ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتّقوى}، أن تكون إسلاميّاً، أن تكون حرّاً في فكرك وارادتك ومواقفك أن لا تكون صدى للذين يملون عليك قرارهم ان ترفض الخضوع لارادة اي مستكبر أو طاغية او أن تكون تبعا لسياسة محور دولي هنا او أقليمي هناك  او أن يقودك أيّ ظالم، لتكون عبداً فقط لله وحده الذي تنحني له وتخضع لارادته. أن تكون إسلاميّاً أن تكون قويّاً، لأنّ الله قويّ يحبّ الأقوياء والمؤمن القوي احب الى الله من المؤمن الضعيف، ولكن لا تجعلك قوّتك تطغى وتتجبّر تستعلي بها على الاخرين

أيّها الأعزّاء.. هذا العنوان هو الّذي حمله الشّيخ فيصل وكان منطلقه في كلّ حركته.. لقد كان إسلاميّاً، عاش الإسلام بكلّ عمقه وأصالته وانفتاحه وحيويّته وحركيّته وأخلاقيّته، فلم يشعر كلّ الّذين عاشوا معه بأنّه أسير أيّة خصوصيّة قد تقيّده. كان يفكّر، ومن موقعه، في الفضاء الرّحب، في فضاء الإسلام الواسع الّذي هو فضاء الإنسانيّة الرحبة.

لقد حرص الشّيخ فيصل المولوي على أن يملأ كلّ السّاحات الّتي كان قادراً على الوصول إليها، ولا سيّما في اللّحظات المصيريّة الحاسمة، وفي المواقع المتقدّمة والقضايا الكبيرة، في ساعات المحنة العصيبة الّتي كانت تضرب لبنان، والفتن السياسيّة والطائفيّة والمذهبيّة الّتي توالت عليه كقطع اللّيل المظلم، لذلك نراه متحرّقاً لأجل تأكيد الوحدة الإسلاميّة عندما كانت تتعرض للاهتزاز والتّعايش الإسلامي المسيحي عندما كان يراد التلاعب به، وبناء القواسم المشتركة داخل الوطن وفي كلّ السّاحات عتندما كان يسعى الساعون لزيادة منسوب التوتر السياسي او الطائفي او المذهبي.

وهنا لا بدّ من أن ألفت، وللتّاريخ، إلى التعاون الفكريّ والحركيّ والعلميّ الّذي كان يجري في هذا المجال بين سماحته وسماحة السيّد الوالد(رض)، كانا يعملان معاً، ويندفعان سويّةً لحماية الساحة الإسلاميّة في لبنان، ولتطويق المشاكل الّتي كانت تثقل كاهلها، ولا سيّما في المراحل الأخيرة، والعمل على رسم خريطة خلاص إسلاميّة، وبلورة الخطوط العريضة للمشروع الإسلامي الوحدوي، ومنع المصطادين في الماء العكِر من إلباس الخلافات السياسيّة لبوساً مذهبيّاً.

ولأنّه كان كبيراً متعالياً وإسلاميّاً، كان موقفه الحاسم في الدّفاع عن المقاومة وحمل لوائها وحماية ساحتها في كل المراحل، ولا ننسى ذلك الموقف الجريء في حرب تموز العام 2006، عندما اندفع بكلّ عفويّة إسلاميّة وإخلاص إسلاميّ قلّ نظيرهما متجاوزرا كل الحسابات الخاصة، للردّ على أولئك الذين حرّموا مساعدة المقاومة ورفدها بالدّعم والتّأييد، وحتّى بالدّعاء لها بالنّصر، تحت عناوين مذهبيّة معيّنة، ليطلق فتواه الشّهيرة بالوقوف وراء هذه المقاومة ودعمها في تلك المرحلة، حيث قال: إنّ المعركة ضدّ العدوّ الصهيوني هي معركة الإسلام كلّه، ومعركة الأمّة كلّها، بمسلميها ومسيحيّيها.. ونحن نطالب الشّيعة بدخولها امتثالاً لأمر الله، حتّى إذا دخلوها تخلّينا عنهم؟! لا يمكن أن يكون هذا الموقف مقبولاً في العقل ولا في الشّرع ولا في ميزان المروءة والخلق"..

إنّ هذا الموقف من سماحته يمثّل نهجاً ونموذجاً ينبغي لكلّ العاملين في الوسط الإسلاميّ وكلّ الدّعاة، أن يتلمّسوه قدوةً، أن يعيشوا هذا الأفق الواسع، وأن يتساموا فوق كلّ نقاط الخلاف، وأن يركّزوا على قوّة الأمّة ومنعتها ووحدتها عندما يكون التحدي هو تحد للقضايا الكبرى، بحيث يسلمون عندما تسلم أمور المسلمين كما قال الامام علي(ع): لأسلمنّ ما سَلُمَتْ أمور المسلمين ولم يكن بها جورا إلا علي خاصة.

لقد كان الشّيخ فيصل حاضراً في التّجديد الفكريّ والفقهيّ، كان يرى ضرورة هذا التجديد المنطلق من فهم جديد للنّص، حتّى نجعل الإسلام قادراً على أن يواكب حركة العصر. كان يرى أنّ المشكلة ليست في النّصّ، بل في الّذين لا يحملون الفهم الواسع والعميق للنّصّ، أو الّذين يأخذون النصّ إلى حيث هم لا حيث هو، وقد تمثّل ذلك في محاضراته وخطبه وكتبه ومقالاته، وفي حضوره الفاعل في مجلس الإفتاء الأوروبيّ، الّذي سعى لتقديم حلول شرعيّة للجاليات الإسلاميّة، مقدّماً الصّورة المشرقة لهذا الدّين، فاتحاً باب الحوار مع الغرب على مصراعيه طارحا العودة الى الدين كحل لمشاكل الغرب.

وهكذا كان على المستوى العلمائيّ، من خلال موقعه، أو من خلال مساهمته في تأسيس الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين، فكان حريصاً على أهميّة دور العلماء الّذين إن صلحوا صلحت الأمّة، وإن فسدوا فسدت الأمّة.

كان يريد للعلماء أن يقوموا بدورهم الكبير المطلوب منهم في مواجهة الانحراف الفكريّ والثقافيّ، والاجتماعيّ والسياسيّ، وأن يقفوا مع القضايا الكبيرة للأمّة، وأن لا يستغرقوا في الهوامش، أن يؤكّدوا الوحدة لا التفرقة، والانفتاح لا العصبيّة، والسعي لإعلان كلمة الله، لا لأيّة حسابات ذاتيّة، وأن يكون موقفهم واحداً من القضايا الإسلاميّة بعيدا عن اية حسابات سوى المصلحة الاسلامية العليا.

لقد كان الشّيخ فيصل داعيةً إلى الله، يصدع بالحقّ الممزوج بالحبّ للآخر، فكانت كلماته المحبّبة، تستقطب العقول الشابّة الباحثة عن الحقيقة، وكنت تجده في مسجده في المصيطبة منذ البدايات، وفي كلّ المواقع الّتي تحرك فيها في لبنان وخارجه، حاضناً الجميع مع تنوّع المذاهب والطّوائف.

لقد عمل بحرص شديد على أن تكون الجماعة الإسلاميّة موقعا للتربية والتوجيه والبناء و معلماً للانفتاح على الآخر الطائفي والمذهبي والسياسي، مع حفظ خصوصياتها، وهذا ما نريد للجماعة الإسلاميّة أن تحفظه في مسيرتها في الدّاخل اللّبنانيّ، وعلى مستوى الخارج، لكي تبقى وفيّة لنهج الشيخ الجليل، فلا تفرّط به أبداً.

أيّها الأخوة إنّنا في هذه الذكرى وانطلاقا من روح التغيير التي كانت هم الشيخ فيصل  إذ ننظر بصورة إيجابيّة إلى المشهد العربي بعد الثّورات، نشعر بقلقٍ من المسار الّذي قد يسلكه تطوّر هذا المشهد، وخصوصاً على صعيد إمكانيّة حرف مسار هذا التحوّل عن سياقه الوحدويّ والوطنيّ والتغييريّ، إلى سياقاتٍ أخرى تسقط الأمّة في جحيم التناقضات المذهبيّة والطائفيّة والعرقيّة والفوضى، وذلك في ظلّ استفحال صراع المحاور في المنطقة.
إنّ هذا الواقع يحمل القيادات الإسلاميّة مسؤولية كبيرة جدّاً، ففي هذه الظّروف المعقّدة، لا بدَّ من رؤية شموليّة للمشهد السياسيّ والاستراتيجيّ للمنطقة، لكي يكون التحرّك في كلّ الأقطار العربيّة مستهدياً بهذه الرّؤية الّتي تحسب بدقّة كلّ خطواتها، وتتلمّس ببصيرة كلّ الآفاق، لتدور الحركة مدار مصلحة الأمّة العليا وقضاياها الكبرى، وفي مقدّمها قضيّة فلسطين، في مواجهة العدوّ الصّهيونيّ والمخططات الاستكبارية العالم، وذلك حتّى لا نستبدل طغياناً بطغيان قد يكون أقسى على الأمّة من السّابق، أو نجعل ساحتنا ساحة تجارب وتجاذب للآخرين او نقع في مطب الفوضى التي وعدنا بها.

إنّ علينا في هذه المحطّة الفاصلة من تاريخنا، تحديد الأولويّات بدقّة، وخصوصاً فلسطين، ودراسة طبيعة المرحلة وآفاقها، وذلك بكلّ مسؤوليّة، فلا تحرّكنا الانفعالات أو الأمزجة أو الإغراءات، والحذر الحذر من المذهبيّات والطائفيّات والمناطقيّات، وحذار حذار من التقوقع والانعزال.

إنّ المستقبل العربي والإسلامي بحاجةٍ إلى كلّ العقول وكلّ الأيدي، ومسؤوليّة الإسلاميّين هي أكبر، ليستوعبوا في حركتهم نحو بناء الوطن كلّ الشّركاء في التحرّك، وكل التيارات في الوطن والأمّة. وحذار حذار من أن يتحوّل ثوّار الأمس إلى مصدر خوف وقلق وإقصاء لمن يختلفون معهم في هذه القضيّة أو تلك، لأنّ الحساسيّات سرعان ما تفجّر الفتنة الّتي يهيّئ شروطها كثيرون من أعداء الوطن والأمّة.

إنّ الوحدة هي الّتي ينبغي أن تكون شعار المرحلة داخل التيّار الإسلاميّ، أو بين الإسلاميّين والقوميّين والعلمانيّين والوطنيّين، ومع كلّ الحريصين على استقلال الأمّة ونهضتها.

إنّ المهمّات كبيرة، والمسؤوليّات جمّة، والتحدّيات قويّة، لكنّ الفرص أيضاً متاحة للانطلاق وللبناء والتّغيير، فهل نكون على مستوى المرحلة؟! إنّ السّاحة تنتظر أبطالها الكبار، أبطال الفكر، وأبطال البناء والتّغيير، وأبطال المقاومة، وأبطال الوحدة والنّهضة.

لقد كان الشّيخ فيصل المولوي، كما كان السيّد محمد حسين فضل الله، وغيرهما من العلماء الكبار، من أبطال المرحلة السّابقة.

الوفاء كلّ الوفاء أن نستهدي بكلماتهم ومواقفهم الّتي كانت تنبع من حسّ إسلاميّ أصيل، وتطلّع إنساني عميق، واستشراف للمستقبل العزيز، وانفتاح على العصر في معالجة القضايا الكبرى للمسلمين.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=6391

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك