نحو بناء مجتمع إسلامي

في منعرج التاريخ الذي وصل إليه العالم تظهر الأمم الإسلامية في صورة قطع سحاب ثقال لا تنتظر إلا وميض برق ليتصل بعضها ببعض فينهمر ماؤها على بلدان طال تلهفها إلى ما يطفئ ظمأها ويقنع غلتها، ومما يزيد في الإيمان أن الأقطار الإسلامية امتازت بوضعية جغرافية تلاحمت فيها أجزاؤها على شكل خط استواء من نوع جديد كان فيه تلميحا لقوله تعالى : «وكذلك جعلناكم أمة وسط». (أليس بالجدير بعالم اتحدت فيه أقطاره اتحادا صيره كالجسم الواحد أن تتحقق فيه أيضا الوحدة الروحية التي طالما بذلت جهود وتضاعفت مساع جماعية وفردية في سبيل تحقيق هذه الوحدة الروحية بشهادة ما نقرأه في جريدة أم القرى لعبد الرحمن الكواكبي، وفيما خلفه حكيم الشرق جمال الدين الأفغاني والمصلح الكبير محمد عبده وغيرهم من زعماء النهضة. وسيرا في ضوء هؤلاء العظماء، وعملا بقول الأستاذ جمال الدين الأفغاني : «ما من أحد بأصغر من أن يعين ولا بأكبر من أن يعان» أتقدم إلى المفكرين من رجال الأمة باقتراح أرى فيه الضالة المنشودة والوسيلة الوحيدة لتحقيق الوحدة الروحية تحقيقا تتجاوب فيه مع الوحدة الترابية فأقول : «أمام ما عثرت عليه من التهافت والاستهتار في تراجم القرآن على يد العجم أمثال كازمرسكي ومونتي وسافاري دفعتني غيرة الذب عن القرآن إلى تلافي هذا الخلل فأخرجت للناس ترجمة جاءتهم على يد مسلم عربي من حملة الكتاب، ومن الطبيعي أن تلجئ مهمة بهذه المنابة إلى مراجعة التفاسير : ابن جرير الطبري فمن دونه أمثال ابن كثير والقرطبي والألوسي والرازي «وروح البيان» فاستخلصت من روح المراجعات أن القرآن أشبه شيء بدائرة معارف تكلم عن العقائد وما هو من حسابها من علوم النفس والأخلاق والآداب الفردية والجماعية. وتكلم عن الأحكام مدينة وجنائية وعلى العبادات والتاريخ وألم بالطب والفلك الأمر الذي جعله أعظم وأوسع من أن ينهض بمهمة تفسيره عالم واحد علا كعبه في العلم ما علا فكان من البديهي أن يعهد أمر تفسيره إلى لجنة من علماء اختصاصيين يتولى كل واحد منهم الكلام في الفن الذي عرف به ضرورة، أن قلم المؤرخ في التاريخ أسلس قيادا من قلم الفقيه والألفاظ اللائقة أسرع إليه استجابة زيادة على ما يكسبه صاحب التخصص من الملكة التي تهدي صاحبها إلى وجه ربط المسببات بأسبابها واستخلاص العبرة من الحوادث. هذا جار الله الزمخشري على بعد صيته في العلم وغزارة مادته في العربية نراه تسرقه بنيات الطريق وتخرج به إلى ما لا تتسع له حتى عقول البسطاء كما هي الحال عند تفسير قوله تعالى : «ثم اتبع سببا حتى إذا بلغ مطلع الشمس» بعد أن فسر ظاهر الآية استطرد إلى حكايات كلها كلام وهراء وتهافت في تهافت كان المأمول أن تنزه عنها كتب التفسير.
نعم يشترط في اللجنة التي نصبو إليها ويتطلبها الزمان الحاضر بمزيد الإلحاح أن يكون أعضاؤها مستظهرين للقرآن استظهارا يسهل عليهم استحضار الأشباه والنظائر والمحكمات والمتشابهات المبثوثة في مختلف السور وذلك جريا على قاعدة القرآن يفسر بعضه بعضا. يجري على الألسنة الاستشهاد بقوله تعالى : «ما فرطنا في الكتب من شيء» على أن المراد بالكتاب في الآية هو القرآن فإذا استحضرت الأشباه والنظائر أمثال قوله تعالى في المائدة «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير» وقوله تعالى في سورة النمل «إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل الذي هم أكثر فيه يختلفون» فإن الآيتين صريحتان في أن القرآن لم يقصص على القوم جميع الذي فيه يختلفون، وعليه فيتعين حمل آية سورة الأنعام «ما فرطنا في الكتاب من شيء» على أن المراد بها اللوح المحفوظ المذكور في يس «وكل شيء أحصيناه في إمام مبين». خلاصة القول في هذا الباب أن روح الزمان أصبحت تدعو إلى تعميم التعارف بين الدول والأمم يشهد لهذا كثرة المنظمات الأممية والمؤسسات التعاونية في شتى الميادين فلا يبعد والحالة هذه أن تدعو ضرورة من الضرورات في يوم من الأيام إلى عقد مؤتمر ينظر في أمر الديانات والمقابلة بينها فلا يجمل بالمسلمين أن يتقدموا بالأكداس المكدسة من التفاسير المشتبكة الطرق والمسالك إنما الرشاد كل الرشاد أن نتقدم بكتاب يغربل ما هنالك ويمحصه على ضوء مقتضيات العصر.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى أن مصر توفقت لتطهير قناة السويس مما تراكم فيه من أنقاض، وأن الإسلام في أمس الحاجة إلى من يطهر قناته مما يسد مسيله ويخنق مصبه من كثرة الأسانيد ومتضارب الأقوال والروايات الأمر الذي ليس على المسلمين هداية الإسلام ونقض غزل تعاليمه إلى حد صح فيه كثير من أهل الوعي والتفكير أن يعتقدوا بأن الإسلام أصبح في عدوة وأن المسلمين في عدوة أخرى. والخلاص من هذا هو في إعلان شبه الأحكام العرفية لا بالمعنى العسكري ولكن بالمعنى المدني، وذلك بأن تبنى التربية القومية على أمهات تعاليم القرآن، وإلى جانبها النزر القليل من السنة عملا بما قاله المصلح الكبير محمد عبده : «إن صلاح الإسلام في بناء التربية على تعاليم القرآن وشيء قليل من الحديث» إلى أن قال : في تفسير آخر سورة البقرة : «فلو انتقدت الأحاديث من جهة متنها كما انتقدت من جهة سندها لقضت المنون على كثير من الأسانيد بالنقص».
إن شباب اليوم يتخرج من الكليات والجامعات فلم يبق في عقله متسع لقبول أمثال : «خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا أبالي». وكم وكم من أشباه ونظائر ترمي كلها إلى التزهد في العمل.
إن الذي يمليه القرآن على أتباعه في هذا الباب  هو : «إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويوت من لدنه أجرا عظيما». «ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين». «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا». «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره». يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها».  
والقرآن طافح بما يدل على أن العمل يترتب عليه جزاؤه، والكلام في هذا الباب أوسع من أن يتسع له مقال.

المصدر: http://www.habous.net/daouat-alhaq/item/529

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك