البلاغة العربية بين الفن والفلسفة

لعل من الخير لنا أن نسبق عصر السكاكي الذي طغى فيه منطق اليونان وفلسفتهم على أذواق الناس أو بعض الناس على الأقل، فكتبوا في البلاغة –حين أتيح لهم أن يكتبوا في موضوع يمت إلى الفنون بأوثق الصلات- بالأسلوب الميتافيزيقي الذي وصل إلينا، ولعل من الخير لنا أيضا أن نبدأ البحث من عصر الجاحظ بالذات، لنتبين النشأة الأولى لأدوار البلاغة العربية التي تمخضت عن فن البيان والبديع –وقد رسم خطوطهما هذان الرجلان- (255 هـ) ثم فن البديع على يد عبد الله بن المعتز الذي ستتمخض عنه بلاغة «المعاني» عندما تتعرض فنون البيان والبديع –وقد رسم خطوطها هذان الرجلان- لطغيان الفكر اليوناني الذي سيشيع في دراسات الإسلاميين لشتى الفنون والعلوم مذهبا عقليا ونزعة فلسفية كاسحة.
ولتوضيح «العقلية الوافدة» على البيان العربي على يد جماعة من المفكرين الإسلاميين الذين أتيح لهم أن يحدقوا ثقافات مختلفة نسوق بلاغة «الإنشاء» في قسم «المعاني» الذي أسبغ عليه هؤلاء المفكرون كلمة «علم» للمناقشة والتدليل على أن البيان تعرض للتقنين الفلسفي من حيث كان يجب أن يستمد طبيعته من صميم الفن.
نحن نعلم أن القرن الثالث الهجري هو البداية التاريخية لنشأة البلاغة فنا مستقلا عن بقية العلوم في أنشط عصور التدوين، مادتها القرآن وحديث الرسول وأروع فنون القول من الشعر والنثر، وأن الجاحظ هو أول من وضع نقطة البداية في موسوعته «البيان والتبيين» في فن البيان الذي سيكون له حظ وأي حظ في مجال العمل الأدبي عند مدرسة، وفي مجالات العقل والفكر عند مدرسة ثانية، فأوضح للبيان خطوطا ذوقية تأثر بها كثير من دارسي البلاغة، كما سيتأثر آخرون بالخطوط العقلية التي سيعيشها السكاكي من بعده؛ فكان الصراع بين الذوق والفهم، وكان الصراع أيضا بين البيان من حيث هو فن، وبين «المعاني» العقلية من حيث هي فلسفة؛ أو كان الصراع بين الفن والفلسفة على وجه من الحقيقة سافر. ونشأت من نتيجة ذلك مدرستان، مدرسة الجاحظ التي نصفق لها في حرارة المعجب والتي تتلمس البلاغة في النصوص ذات البيان والأصالة العربيين، ومدرسة السكاكي هذه التي تلتمس البلاغة في التراث اليوناني الكاسح.        
كان مفهوم البلاغة حتى نهاية القرن الثالث هو البيان الذي حاول درسه الجاحظ في شيء من الأصالة والعمق، وأن «المعاني» -غير التي ستتقمص كلمة العلم فيما بعد- لم تكن موضوعا للدراسة عند مدرسة الجاحظ إلا من حيث هي روح حي للألفاظ. أما علم المعاني أو قواعد الإنشاء فقد عني به المتكلمون من أهل البلاغة، فالجاحظ هو مؤسس هذا العلم –إن جاز أن نطلق لفظة العلم على فن البلاغة- وان الذين سيأتون من بعده إنما سيسلكون سبيله في فهم البلاغة على أسس ذوقية، ولذلك كانت دراستهم منصبة على البيان والخطابة والبديع والأصوات من حيث القبح والجمال كما فعل الجاحظ من قبل. فقد تأثر به ابن قتيبة وأبو هلال العسكري وابن سنان وابن رشيق، واتخذوا من آرائه في بلاغة البيان منهجا للبحث. والجاحظ أبو البلاغة العربية ينتقد في قسوة بلاغة اليونان، بل هو ينكر أن يكون لليونان بلاغة وأنهم لم يسهموا في إنشاء بلاغة كالذي عرفه هو، وإن أنتجوا إنتاجا ما ففي ضوء الفكر وفي حدود العقل. وهو حين يسلب اليونان مادة الذوق في تراثهم إنما ينصب نفسه رأسا لمدرسة ذوقية تعنى بالفن الباني.
أما الدكتور طه حسين، فيرى انه من الهين جدا أن نلتمس الصلة بين البيان العربي الذي يعجب له الجاحظ وهو هذا البيان الأصيل الذي يستمد حرارته من الأصول العربية، وبين البيان اليوناني الذي ينكره الجاحظ في شدة. ويرى أيضا أن الجاحظ يجهل أثر كتاب «الخطابة» لأرسطو في بلاغة العرب. فالبيان العربي عنده نسيج جمعت خيوطه من أصول مختلفة. فمادته عربية أصيلة وصورته فارسية، أما «الملائمة بين أجزاء العبارة» فيونانية بحتة. فالبيان العربي إلى القرن الثالث الهجري لم يكن عربيا خالصا ولا أعجميا خالصا، وغنما كان وسطا بين ذلك. فقد ترجم كتاب الخطابة على يد حنين بن إسحاق وكان معاصرا للجاحظ، فتدارسه المعتزلة وتأثروا به وخاصة قدامة بن جعفر.  
والجرجاني أحد أقطاب المدرسة الأدبية في البلاغة لم يسلم من تأثير الخطابة الأرسطوطاليسية في كتابه «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة».
البيان في رأي الجاحظ في العبارة لا في الفكرة، ولذلك فهو يتهم مذهب أرسطو في البلاغة، ويعلل منهجه بأنه يدرس البلاغة من نواحيها الفكرية ولا يتلمس الجمال والمتعة في موطن البيان، فهي فكر قبل أن تكون بيانا، وهي أيضا عقل قبل أن تكون ذوقا، وهذا ما ستعنى به مدارس الكلام والأصول. أما الجاحظ فقد رفضه واعتبره عدوانا على الفن البياني، بالرغم من أنه قرأ كتاب الخطابة وحاول الاستفادة منه، ولكنه انتقده بإسفاف، ووصفه بأنه قواعد عقلية راكدة. فهو الذي عرف البيان ودرسه على أساس الذوق، وهو أيضا أول من وضع للفن الثاني مصطلح البديع في صورته الأولى ولم يصطلح لعلم المعاني ولم يتخذه موضوعا لدرس البلاغة، ولذا كان حظ الإنشاء معدوما في دراسات الجاحظ لأنه ليس من البيان في شيء.
وفن البديع أقدم فنون البلاغة التي سيحددها التقسيم الكلامي على يد السكاكي. فقد ظهر كتاب عبد الله بن المعتز في «البديع» سنة 274 واستقى من صميم الفن البياني مادة البديع، وبنى دراسته على الخطوط التي رسمها الجاحظ أو أستاذ المدرسة إن أردنا الدقة في التعبير. فكلاهما يرى البلاغة أصيلة في أذواق العرب، وكلاهما حاول الإبداع في إطار هذه الصالة، ولم ينشأ جديد في مجال البلاغة سوى الصناعة والمصطلحات التعليمية، لأن أساس البلاغة ليس هو البيان والبديع، وإنما هو الذوق في أصوله العربية. فابن المعتز اتخذ الشعر والنثر موضوعا لبحث فن البديع أو للإبداع في الفن، واعتمد القرآن والحديث أيضا في أصول فنه الجديد، ولم يلتمس الأصول لهذا الفن في كتب اليونان. إذن فالجاحظ مؤسس البيان، وابن المعتز مؤسس البديع وهو ظل من ظلال الفن البياني. أما المعاني كما سيدرسها السكاكي فلم يكن أصلا من أصول البلاغة العربية ولا شيئا يمس الفن من قريب أو بعيد، وإنما يجب أن نتلمس الأصالة في البيان والبديع بعد أن نسلبها كلمة «العلم» ونرفض المعاني، بل وبعض قواعد البيان كالاستعارة التي عرفت في دراسات أرسطو وكان يسميها «نقل الصورة» Image Nêtaphor وتظل البلاغة عربية خالصة أو كالخالصة حتى بداية القرن الرابع الهجري حتى ظهرت محاولة قدامة بن جعفر المتوفى سنة 337 في البلاغة، ثم محاولة أبي هلال العسكري (395). ورغم ما عرف به قدامة من نزعة فلسفية فقد ظلت الأصول العربية المادة الخام لحياة البلاغة، وظل البيان العربي الروح والمادة والشواهد، لم تؤثر فيه محاولة قدامة في وضع كثير من قواعد البلاغة وضعا عقليا. وإذا كان قدامة لم يعرض لبلاغة الإنشاء فغن أبا هلال العسكري كان حريا به أن لا يعرض لها لأنه لم يكن يعنيه من البلاغة إلا البيان الذي رسمه الجاحظ، فهو لم يتعرض للإنشاء في كتابه «الصناعتين» ولا في «ديوان المعاني» الذي حاول أن يستخلص فيه فنون الشعر والنثر، بالنقد والموازنة وإظهار الروح الجمالي في الشكل والمضمون جميعا، وقضية الفن عنده في درس البلاغة ثانوية بالنسبة للإعجاز، فهو قد اتخذ الفن وسيلة إلى تذوق بلاغة القرآن ولمس إعجازه، وقد استخدم طرق النقد والموازنة ين البليغ والوحشي من الكلام وإعداد الأديب لإدراك الجمال الفني في القرآن المعجز.
فأنت ترى أنه يسلك مسلك الجاحظ في فهم البلاغة، وهو لم يعط للمعاني وزنا مهما في التقييم البلاغي «لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي» على حد قوله، أما لبلاغة فهي في «إجادة اللفظ وصفائه» (انظر الصناعتين ص 57). وأنت ترى أيضا انه لم يدرس المعاني إلا من حيث الجدة والإبداع والرداءة والتقليد والصحة والخطأ، وهو حين ينقد المعاني في الشعر والنثر –متناقضة أو مخطوءة أو كاذبة- متأثر بقدامة ابن جعفر في منهجه للنقد، فهو لاشك قد- تأثر برواد العقل، فوضع بعض قواعد المنهج الذي سيعتمده الجرجاني، ولكنه بحث البلاغة في ضوء الصناعة اللفظية، وأن عرض للمعاني فمن ناحية نفسية لا أثر للعقل فيها.
وفي منتصف القرن الخامس ظهر الجرجاني (471) وابن رشيق وابن سنان، فحاولوا درس البلاغة على أساس ذوقي، غير أن قضية الإعجاز لونت هذه الدراسات تلوينا عقليا عند الجرجاني خاصة، فجعل الفن أيضا وسيلة لا غاية، جعله وسيلة لفهم الإعجاز وجهادا أدبيا لإحباط خصوم القرآن، وعلى هذا الأساس وضع كتابه «دلائل الإعجاز» فهو قد أطلع على كتاب الخطابة أو اطلع على موضوع «العبارة» على الأقل فكان من نتيجة ذلك أن قسم المجاز إلى مجاز لغوي ومجاز عقلي؛ ومجاز أرسطو هو الذي يسميه الجرجاني : «بالمجاز المرسل» و«الصورة» عند أرسطو أيضا هي التي يسميها بالاستعارة، فالجرجاني لم يضع لكثير من قواعد المعاني وخاصة الإنشاء، ولكنه مهد له، فقد انحطت فنون البلاغة بل فقدت مادة الذوق في بداية القرن السابع الهجري بعد أن بلغت بعض درجات الكمال في نهاية القرن الخامس ثم تجمدت، ذلك أن الجرجاني نفسه عني بالاستفهام الذي سيكون أحد أنواع الإنشاء، وأسبغ عليه –وهو يدرس أثره في الجملة لونا أشد صلة إلى الفلسفة منه إلى الفن.
وفي أوائل القرن السابع يضع السكاكي المتوفى سنة (626) للبلاغة تقسيما عقليا سيكون منهجا تعليميا لها في مختلف أدوارها، فنحن نعلم أن السكاكي كان معتزليا اتخذ الفلسفة لتدعيم مذهب الاعتزال –كما فعل غيره من الذين نقرأ عنهم في تاريخ المذاهب- وحاول أن يلخصها في كتابه «مفتاح العلوم». كان المذهب المعتزلي دعوة جريئة وسافرة في نفس الوقت لاستخلاص الثقافة الإغريقية، والاستعانة بها في ذلك الجهاد المرير الذي دار بعنف حول قضية الإعجاز. ولم يكن من السهل أن يدعو شيوخ المعتزلة إلى لون من العقيدة جديد، فتستجيب لهم الجماهير قد رسخت في عقولها وعواطفها «المعجزة»بشكل يتطلب جهادا قاسيا من الخارج تكون الفلسفة اليونانية أمضى سلاح له.
ونحن لا نشجب المعتزلة لأنهم سلطوا الفلسفة على الفن انتصارا لمذهب ما، ولا نعتبره عدوانا مبيتا، بل نعد المعتزلة رواد الحرية الفكرية في العالم الإسلامي، وإنما نحاول أن نقلب صفحة من تاريخ البلاغة العربية لا أقل ولا أكثر.
ونحن نعلم أيضا أن صراعا جدليا نشب بين بلغاء العرب وبين الرسول عشية ظهور القرآن، فجادلوه في سذاجة وبراءة فنية، وأنكروا الإعجاز في التنزيل، وأنه ليس إلا سحرا وأساطير الأولين. فكان هذا الجهاد الفني بذرة أولى لنشأة البلاغة. ولكن أية بلاغة ؟ كان حماس المعتزلة –أو بعض شيوخ المعتزلة- حارا، فكان لابد لهم وهم يواجهون خصوما أشد عصبية وإيمانا برأيهم، أن يتصدوا للدفاع عن قضية هامة تمس عقيدتهم من قريب بعد أن هاجم خصوم القرآن روح الإعجاز، ولكن هذا الدفاع اصطنع الأسلوب الفلسفي فاتخذت البلاغة في ظلاله شكلا عقليا وتنكرت للمذهب الفني، وإذا صح أن أصحاب المدرسة الكلامية إنما جرهم إلى درس البلاغة موضوع الجمال، فإننا نعلم أن الفلاسفة عالجوا مشكلة الجمال قبلا، وإن اشتدت الصلة بين البلاغة والفلسفة من ناحية، فقد ابتعدت من عدة جهات.
السكاكي قد أحكم الصلة بين البلاغة والفلسفة، وهو والمتكلمون من بعده صبغوا أبحاثهم في علم المعاني خاصة، بروح المنطق ومادة الفلسفة، ولم يبحثوا قليلا عن الحرية في موضوع تبعده المسافات والأبعاد عن المنطق إلى مذهب العاطفة المتحررة على ألف جناح من ضياء القمر.
إذن لم يكن يعني بعلم المعاني وبالإنشاء الذي نعرضه مثالا على الخصوص سوى أبي يعقوب السكاكي، فهو الذي «محص زبدة البيان ورتب أبوابه» كما يقول ابن خلدون، ولم يكن بوسع الذين جاءوا من بعده إلا أن يلخصوا آراءه في بلاغة المعاني أو قواعد الإنشاء، لأن مشكلة الإعجاز تتطلب منهم أن يتدارسوا البلاغة على نحو عقلي لتأييد نحلهم، كما اتخذ الزمخشري –وهو رأس من رؤوس المذهب المعتزلي- بلاغة العقل طريقا إلى الفلسفة، ففي عصر السكاكي انتصرت الفلسفة على البلاغة بالرغم من أن مدرسة الجاحظ ما تزال يمثلها ابن الأثير (638) فوضع السكاكي «مفتاحه» في البيان والبديع والمعاني، ولم يعرف أهل البلاغة من قبله بلاغة الإنشاء على النحو الذي عرفوا به فنون البديع والبيان، فهو ثمرة من ثمار الفلسفة، أو هو ثمرة من جهاد المعتزلة، وسنعرض له كما يراه السكاكي أو كما تراه الفلسفة على يد السكاكي.
فهو قد قسم «علم المعاني» إلى قوانين ودعا الإنشاء «قانون الطلب» ولم يسمه إنشاء، ويظهر أن هذه التسمية متأخرة كما سنراها عند الذين تأثروا بمنهجه، وهو أيضا قد رتب القانون أبوابا خمسة واصطلح لها بما هو معروف في كتب البلاغة –والذي يثيرنا إلى المناقشة هو أن الرجل عالج الموضوع بأسلوب الفلاسفة أو المتأثرين بالمنطق والفلسفة على الأقل، الإنشاء عنده لا يصح إلا في نطاق التصور وهو يتطلب فكرة غير حاصلة وقت الطلب قد تكون مثبتة وقد تكون منفية، ولكن خواطر الفكرة تمر في أذهاننا فقط، وهو أيضا قي عمق المتفلسف يسلك تقسيمات عقلية معقدة، الطلب يكون حصولين اثنين في الذهن أو في الخارج، وهذا هو مذهب المناطقة الصوريين أعمله في رقاب الفن فماتت بعض فصول القصة من حياته، وأنت تستطيع أن ترجع إلى مفتاحه في البلاغة فتجد هذه الفتنة العقلية قد آثرها ويؤثرها التلامذة من بعده، خط عرض يسير عليه الجميع، حتى النحاة أنفسهم، لون من المناقشة واحد وأمثلة آثرها السكاكي وسيعطيها التفتازاني والخطيب القزويني وابن هشام النحوي(1). هذه الفتنة سيهيم بها النحاة فيدرسون النحو على ضوئها، أو تتقمص هي شخصية النحو فيصبح منطقا للنحاة أو نحوا للمناطقة كما يسميه النقاد المعاصرين.
هذا هو السبيل الذي سلكه السكاكي في بلاغة الإنشاء، وهو بهذا قد فتح مدرسة فلسفية جديدة سيتهالك عليها الدارسون حتى وقتنا الحاضر. سيتأثر به أحد رجالات القرن السابع الهجري وهو قريب منه في المذهب والفترة التاريخية وهو أيضا معتزلي صميم، انتهى من كتابه «الأقصى القريب» في حدود 692، ذلك هو التنوخي الذي زعم أن كتابه إنما يتناول علم البيان، وهو يكاد يكون منطقا بحتا أو يشبه المنطق، وهو نفسه يعترف أن النحاة قريبو الشبه بالمناطقة في الاتجاه العقلي، فهم لا يختلفون إلا في وضع المصطلحات أحيانا، الجملة عند النحاة هي «القضية» عند المناطقة، غير أن هؤلاء يبحثون الألفاظ تابعة للمعاني وأولئك يبحثون المعاني تابعة للألفاظ، ووضع الصدق والكذب في القضية المنطقية ذات الموضوع والمحمول هو الوضع نفسه في جملة المبتدأ والخبر في النحو.
فأنت ترى أن الفلسفة قد ابتلعت البلاغة والنحو أو ابتلعت البلغاء والنحويين جميعا حتى أصبحوا يقابلون ضمير الفصل عند البصريين والعماد عند أهل الكوفة في المثال الآتي ك أنت –هو- المغربي «بالرابطة المنطقية بين الموضوع والمحمول : أنت-تكون-مغربيا» التي تختص بها اللغات الهندية الأوربية: You (are) Moroccan وتشيع مدرسة السكاكي في المناهج التعليمية عند البلاغيين أو المتكلمين على الأصح، فيظهر شيخ آخر من شيوخ البلاغة أو شيخ من شيوخ المعتزلة وهو الخطيب القزويني، فهو قد لخص رأي السكاكي في البلاغة ولم يأت بجديد يذكر، ولم يضف على قواعد السكاكي أي فيض، بل هو لم يخط بالموضوع أية خطوة، فهو قد عني بتلك الاجتهادات المذهبية التي نفض الشيخ منها كلتا يديه، سالكا سبيلا سلكه أبو المدرسة قبلا، وسيكررها السعد التفتازاني (791) في مختصره، ونحن لا نتتبع بالتفصيل طريقة السعد لأنها مجهولة وغير مفضية إلى قاعدة وفيها كثير من اللغو وكثير من التعقيد وكثير أيضا من المنطق الصوري، وإنما نشير إلى أنه درس البلاغة على نحو منطقي تمشيا مع الوحدة العامة التي آثرها المعتزلة في العقيدة وجهود البحث، فهو يعالج موضوعا في البلاغة قد عرض له بالدرس منطق الإسلاميين القدامى، ويعتبر عصر التفتازاني فترة إرساء وتجميد لقواعد الإنشاء في علم المعاني التي تسلكها المدارس التعليمية في فن البلاغة ليومنا هذا.
كانت البلاغة على عهد الجاحظ (تقوم على الدراسات التحليلية للجمال الفني في نطاق مذهب يشبه مذهب النقد أو هو النقد نفسه، لاستخلاص اللذة الفنية من جيد النصوص من ذلك الكلام الوحشي البارد، ثم هي كانت من بعد وسيلة فنية لإدراك الإعجاز أولا، ثم وسيلة منطقية لفهم هذا الإعجاز على يد المعتزلة ثانيا، ووصلت بلاغة المعاني إلى الدارسين المعاصرين كما فصلها السكاكي، فلم يحيدوا عنها بل هم قد عكفوا على نسخها –عن جازت هذه العبارة- فكان إنشاؤهم امتدادا لذلك الإنشاء الذي أرست قواعده كما قلنا مدرسة السكاكي، فهم من غير شك تلامذة لهذه المدرسة، لأنهم نحوا في فهمه ودروه هذا النحو الفلسفي، ونحن نعطي كتابي «الخواطر الحسان» و«البلاغة الواضحة» مثلا لهذه التبعية الخالصة في درس الإنشاء.
جبر ضومط المتوفى سنة 1929 من كتاب البلاغة المعاصرين، يرى أن البلاغة كانت خالصة لإعجاز القرآن أكثر من خلوصها للدب والفن، وعلى الرغم من أن هذا الرجل حاول أن يدرس البلاغة من أن هذا الرجل حاول أن يدرس البلاغة مذهبا للبيان العربي فقد سار في درس الإنشاء مثلا على الأسلوب التعليمي في إطار المنهج الذي وضعه القدامي، فالكتاب إضافة للكتب الكلامية الماضية، ورأي الرجل امتداد لآراء المدرسة. فهو يربط الصلة بين النحو والبيان والمنطق، بل هو يعترف أن هذه العلوم الثلاثة أصول مشتركة وصلات وثيقة بعضها ببعض، لأنها امتداد للثقافة الإغريقية القديمة. بل هو أيضا يسمى علماء البلاغة بالفلاسفة، فهو لم يستطع أن يتحرر من قيود المدرسة في تعريف الجملة الإنشائية. يقول : «هي ما لا يتبادر معها إلى الذهن عند أول سماعها احتمال الصدق أو الكذب، نحو : من أين أتيت؟» أنواع الإنشاء خمسة تماما كالتقسيم المدرسي. وقد زعم أن محاولته خالصة للفن البلاغي، إلا أنه ذهب مع الريح، ريح المعتزلة، فلم يملك إلا أن يسمح جهوده بمسحة كلامية، هو لا يشترط إمكان المتمنى وهذا بالضبط تعريف التفتازاني الإنسان بطبعه يحب المحال أحيانا ويركض وراء المجهول. فقد يكون هذا المحال ممكنا في هذا المثال الذي يعطيه جبر ضومط :
ليتني في المؤذنين حياتـي
               إنهم يبصرون من في السطـوح

فيشيرون أو تشير إليهـم
               بالهـوى كـل ذات دل  مليـح
فأنت ترى أنه لا يبتعد عن قواعد المدرسة طويلا، فالتمني هو طلب المحال، والمتمني محال أو كالمحال، ولكن الذي يقوده إلى التقييم الفني هو هذه الشواهد التي تتناقض مع قاعدة المحال عند رواد المدرسة.
فالمدرسة أخذت على نفسها أن تجعل البيت المشهور :
ألا ليـت الشباب يعود يومـا
               فأخبـره بما فعـل المشيـب
مقياسا لاستحالة المتمنى وفلسفته على نحو مقنع، فهو قد ترك هذا المثال الذي تستحيل معه عودة الشباب إلى هذا الإنسان الطاعن إلى مثال من أمثلة الفن البلاغي، فالشاعر يتمنى لو وقف حياته على صومعة ليبصر من في السطوح فيشير أو تشير إليه حسناء تسحب في خيلاء ذيلها العطر، فيرضى الحب لقلبه والتنسك ليدنه، ولا ضير على قلبه أن يجتمع فيه الحب والدين. فأين هو هذا المحال عند صاحب الخواطر ؟ عن لم يكن في المتناول، فهو طيع الإمكان، وهذا بالطبع جهد مرتبط بالفن يجعل قضية المحال من خرافة الميتافيزقا، وحتى عدم الإمكان عنده موضوع لأسس نفسية ما كان ينبغي للعقل أن يجمد حيويتها وحرارتها، وبالرغم من هذه الطراوة التي يصبها في خواطره الحسان فلا يوجد حاجز بينه وبين السكاكي سوى الفروق التاريخية.
ويسير على الجارم في «البلاغة الواضحة» على النحو الذي سار عليه المحدثون والقدماء، وينهج منهج المعاصرين الذين درسوا البلاغة في دورها التعليمي الناضج على أساس النزعة السكاكية، فصاحبنا يدرس الإنشاء على النحو المعروف ولم يعنه من أمر البلاغة شيء جديد سوى هذا الاختصار الذي يتطلبه كتاب تعليمي كهذا، فالهمزة عنده للتصور، وهل للتصديق، كالمناطقة الإسلاميين والمدرسيين من أهل البلاغة تماما، ولكن الذي يمتاز به هذا الكتاب هو هذه الشواهد ذات الحرة والارتعاش، التي حاولت القضاء على رواسب الخريف في قواعد السكاكي تلك المتجمدة، وبشرت ببعث أدبي جديد بتلك الخصوبة وذلك الإثراء، وهو من غير شك قد آثر الوجهة الفنية ووفق إلى حد ما، ولكنه على أية حال إن كان عربي الشواهد والعرض والاختيار فهو أعجمي القواعد والمنهج.
وبعد، أي المدرستين أجدى على البلاغة ؟ وأيهما أميل إلى البلاغة ؟ هي هذه المدرسة التي أسميناها مدرسة الجاحظ والتي لم تعط لفن الإنشاء قيمة الدرس ولا أتيح لروادها أن عالجوه في نتاجهم خلال عصور البلاغة ؟ أم مدرسة السكاكي التي عنيت بهذا الموضوع عنايتها بمختلف القواعد البلاغية كما رتبها المنهج الكلامي ؟ وما هو الإنشاء ؟ أهو فيض من الفن يضفي على حس الدارس وعاطفته الرهافة والإيحاء فيما ينتجه ويستهلكه من قول جميل ؟ أم هو قواعد عقلية  جمد المعتزلة بها دم البلاغة وشباب الفن ؟ هل هو علم أم فن ؟ وأخيرا هل الإنشاء بلاغة أم فلسفة ؟. لا نجد خصومة ما حول هذا الموضوع بالذات بين نقاد المدرستين القدامى، لأن المدرسة الأدبية لم تدرسه، بل هي لم تعرفه البتة، فهو غريب عنها، وافد عليها من ثقافة اليونان وحضارتهم عن طريق المعتزلة، وهو لا يمت إلى البلاغة بصلة من الصلات.
والمدرسة الأدبية لم تدرس الإنشاء فعلا لأنه ليس ذوقا ولا يمس الذوق من قريب أو بعيد، وهو معنى من المعاني، والمعاني موضوعها العقل، أمما الذوق البلاغي فموضوعه «الذائقة الفنية» نحن نفسر قصور المدرسة الكلامية في إبراز الفن البلاغي إلى ظاهرة غريبة، غريبة بالفعل، ولكنها كانت واقعا من الواقع، هذه الظاهرة هي أن أصحابها أعجام وافدون، ينقصم الإحساس بالجمال والطاقة التاثرية لجرس الكلمة البليغة ووقعها في السمع والعاطفة والقلب، ولذا حاولوا درس البلاغة من ناحية عقلية، وعنوا بالإنشاء في علم المعاني حين لم يوفقوا لدرس البلاغة من نواحيها الذوقية. الإنشاء في إطار علم المعاني غير عربي في منهجه لأن دراسته غير عرب، وبيئتهم غير عربية، وتجاربهم الحسية لم تتعود خصائص العربية، ولذلك عالجوها بالروح الفلسفي.
يرى ابن خلدون أن الملكة التي تؤهل الإنسان لتذوق البلاغة إنما هي في اللسان من حيث هو موضوع للتعبير.
فالبلاغة عنده ذوق وإحساس. والإعجام من الفرس والروم والبربر قليلو الحظ من هذا الذوق وذلك الإحساس، في البلاغة من حيث هي صوت وجرس وموسيقى، يقول : « إنما لهم في ذلك ملكة أخرى، وليست هي ملكة اللسان المطلوبة، ومن عوف تلك الملكة –ولعله يقصد أصحاب المدرسة العقلية- في القوانين المسطرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شيء(2)».
وإذا كان الإنشاء كما قلنا معنى من المعاني فهي موجودة في كل وعاء فكري وهي : «واحدة في نفسها» وبلاغة اللغة إنما تكون في جودة الكلمة ذات الطاقة المتفجرة، واختلاف هذه الجودة قوة وضعفا وخصوبة وجدبا. ومدرسة الجاحظ لم تلتمس البلاغة في معاني الإنشاء قديما وحديثا، ولم تحاول أن تضع يدها على هذا اللون من الدراسة قديما وحديثا، لم يلتمسها الجاحظ وابن المعتز وأبو هلال العسكر قديما، ولم يلتمسها ابن الأثير في القرن السابع ولا أمين الخولي والزيات وطه حسين وابراهيم سلامة وغيرهم في العصر الحديث، وإنما التمسوها في الكلمة وبيانها وقدرتها على تصوير الأحاسيس الفتية من حيث هي إيقاعات صاخبة حينا ودافئة أحيانا، موضوعها الوجدان والعاطفة، وما دامت البلاغة فنا ذوقيا فيجب أن تستمد التغذية والحرارة من العاطفة والوجدان.
وهو ليس ببلاغة لأنه ثمرة العقل أو هو ثمرة العلم، ولأن المتكلمين والفقهاء والفلاسفة لم يتزودوا بالتغذية اللفظية أو المادة الخام، ذلك أن مصطلحات العلم والفقه والفلسفة أفقدت الباحث في موضوع البلاغة روح الإبداع، فالجرجاني لم يتعرض له في دراسة المعاني لأنه يرى البيان «أرسخ علما وأعذب وردا» وأن المذاهب الفلسفية هي التي حللت الذوق الفني في البيان العربي، وهو أيضا يتهم رواد المدرسة الكلامية يجهل خصائص البيان في الشعر حين ساء فهمهم للشعر (ديوان العرب ومورد الفصاحة).
والإنشاء في ضوء المعاني العقلية عند أبي هلال العسكري قواعد يعرفها الناس على اختلاف أجناسهم وحضارتهم فهو فوق القبح والجمال شيء يخضع للقوانين البديهية في التفكير العام. وموضوع القبح والجمال إنما يكون في الألفاظ، أما المعاني فمنسوجة وقديمة «الخلق» وإثمها على أصحاب المذهب الكلامي. (الصناعتين ص 57-69).
فالإنشاء أو علم المعاني على العبارة الصحيحة ليس من بلاغة العقل العربي، لأنه لم يدرسه الجاحظ وابن المعتز ولم يشمله منهج أبي هلال والجرجاني، ولم يكن له نصيب من جهود المعاصرين الذين يقدمون الذوق على القاعدة المقننة. هو ليس من بلاغة العرب، لأنه لا يمثل حضارتهم الفكرية، ولا يستمد أصالته من نتاجهم العربي، وإنما هو يمثل حضارة وافدة كاسحة، يمثل عقلا يونانيا ومزيجا من الفتنة، فاستنسخه الأصوليون وأهل الجدل والمناطقة، وجعلوه شيئا يشبه البلاغة.      
وعبارة «العقل» عند رواد مدرسة الجاحظ المعاصرين مبهمة غامضة الخطوط في فن البلاغة، فهي لا تفصل بن العقل والذوق، ولا بين الفكرة والكلمة، فالعرب واليونان وضعوا خطوطا فاصلة بين المنطق والفن، فجعلوا الفن من نصيب البلاغة، لأن موضوعها النفس الحساسة والقلب المتأثر المتكسر، وقد كان للبلاغة مذهبان، مذهب الفلاسفة، ومذهب البيانيين والخطباء، ولعل أول من درس البلاغة على نحو يشبه الفن –وهو غير عربي- هو عبد الله بن المقفع، فالتأثير في العقول من عمل الموهبة «المعلمة» والتأثير في القلوب من عمل الموهبة «المؤثرة» ووظيفة البلاغة هي الإقناع والمتعة من طريق الأثر النفسي ليس إلا.
فأنت ترى أن مدرسة البيان تنكر هذه الدراسة التقنينية في إطار علم المعاني الذي أشاعه السكاكي، ولم تتلمس البلاغة في الألفاظ وحدها لأنها داخلة في حيز الأصوات كما يقول ابن الأثير، فاحتجنا إلى درس اللفظية في انسياب الصوت، ونقدها في انسكاب الجرس، وربما كان الصوت فاصلا في حياة الكلمة –أي كلمة-. نحن نميل بإحساسنا ونطرب لصوت البلبل والشحرور، ونستهجن صوت اليوم والغراب، وهذا هو موضوع البلاغة بالذات، أما استخلاص المعاني فهو بالذكاء لا بتعلم العلم، فكلنا ندرس مادة ما في المدرسة ولكن واحدا ن زملائنا سيتيح له ذكاؤه الحاد في تحطيم الأرقام القياسية والتفوق علينا، ولابن الأثير رأي وجيه في هذا الموضوع(3) وكم كان بودنا أن نعرض له بالتفصيل، ولكن هذا اللون من المناقشة تضيق به حياة المقالة. إن البليغ تجيش في نفسه –لا في عقله- خواطره ومعانيه فيصبها في لفظ مطروز بالوحي، يعلم انه يرضي عاطفته وعواطف الناس حين ينقل إليهم تجربته الشعورية. والفصاحة هي المقياس الوحيد للجمال، وهي من اختصاص اللفظ المتفجر المشحون.
فطائفة الذوقين تتألف من الكتاب والشعراء والنقاد الموضوعيين، وبلاغتها هي ذلك الإنتاج العربي الخالص الذي لم يكن لدرس الإنشاء فيه أي نصيب. فهو من نصيب الأصوليين والكلاميين، والسيوطي يصف طريقتهم بأنها «طريقة العجم» أو هو تمرة للفلسفة اليونانية التي طغت على الفن، فقننته طائفة الكلام في منهجها العقلي الذي جعل البلاغة موضوعا للصحة والخطأ كالمنطق تماما. ونحن نعلم أن قواعد الصحة والخطأ من اختصاص المنطق.
وغريب منطق هذه المدرسة فأين أصالتها في منهج البحث أو أين أصالة الإنشاء في تقنيناتها المتحجرة؟ نحن ننكر أيضا أن يكون بلاغة من البلاغة أو فنا من الفن، لأنه أعجمي الأصول والمنهج، عني به أصحاب العقلية المتفلسفة في بحث المعاني على أساس المناسبة ومقتضى الحال، الذي كان شائعا عند أرسطو، منهج هؤلاء المتفلسفين في درس البلاغة لا يستمد أصوله من صميم الفن العربي. وإذا كان هذا هو موضوع البلاغة فأين هو عمل البليغ فكل جملة في هذا الوجود تفيد معنى وفائدة، وكل كلام يحمل فكرة ومعنى.
فالمنهج جامد وعتيق لا أثر للفن في بلاغته ولا أثر للبليغ من حيث هو فنان، والمنهج أيضا يقدم علم المعاني على البيان لأنه بمنزلة (المفرد من المركب) قد تكون المعاني ولا يكون البيان، والمطابقة ومقتضى الحال في خرافة هذا المنهج يقرها علم البيان. ونحن حين نقول علم المعاني أو علم البيان إنما نشوه صورة الفن في البلاغة.
وبلاغة «المعاني» لم تنشأ إلا في المناطق الشرقية للدولة الإسلامية التي تسودها العجمة. والزمخشري والسكاكي والتفتازاني أنشط أعلام هذه المدرسة وأقدرهم لإخضاع البلاغة إلى المنطق في هذه الناحية، فقد عالجوا المعاني وعالجوا البيان في نطاق الخبر والإنشاء فعقدوا أبوابا للخبر والإنشاء وجمدوهما في تقسيماتهم تلك التي قصمت ظهر الفن في البلاغة، وما زالت الطابع الوحيد لمدارسنا التعليمية حتى الآن.      

(1) انظر مفتاح العلوم 148 ط. الحلبي. وكتاب المغي ج 1 ص 16 ط الحجازي.
(2) المقدمة لابن خلدون ص 563 ط، بيروت.
(3) المثل السائر ص 45.

المصدر: http://www.habous.net/daouat-alhaq/item/530

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك