الدور الحضاري للتقريب في تحقيق السلم الاجتماعي

 

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(سورة الحجرات:13).

نحو التعايش والسلام دعانا القرآن الكريم حيث الرحمة التي بها أرسل الله نبينا الاكرم محمد (ص)، فقال(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(سورة الانبياء: 107)، من غير استثناء مسلماً كان أو غير مسلم، وجعل الله الناس شعوباً وقبائل لكي يتعارفوا لا أن يتخاصموا أو يتنازعوا حتى لا تذهب قوتهم ويفشلوا، فقال(وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(الانفال:46)، ومن أجل  أن يتعاون المؤمنون وهم معتصمون بحبل الله، قال سبحانه (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)(سورة آل عمران: 103)، ومن أجل أن يتعاون الانسان مع أخيه الانسان قال تعالى(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(سورة المائدة: 2)، فهذه وغيرها مقومات للحياة الهادئة التي تنعم فيها الانسانية وتنشد أهدافاً وقيماً تتجاوز بها محنها وعقدها الحياتية، حيث ان هذه المباديء تؤسس لحياة طيبة وتحقق بذلك سلماً اجتماعياً بين الناس رغم تعدد الافكار والافهام والاذواق وتنوّعها، فالتنوع مصدر إلهام وابداع وليس عائقاً في طريق تنمية الأمة لقدراتها وحين لا تفلح الأمة في توظيف هذا التنوع في خدمة التنمية والتطوير الحياتي والقيمي تطفو حينها مشاكل وعقد تفتت إرادة التغيير فيها، وحين يكون التنوع ملهماً للقدرات ودافعاً للابداع تتطلع الأمة لمواقف مشتركة مستلهمة قيم التعايش المبني على احترام الآخر وحفظ حقوقه وبذلك تعيش الأمة واقعاً جديداً تتحقق فيه حياة اجتماعية متناغمة تختفي فيها جزئيات العقد الحياتية وتبرز فيه مهام جديدة تدفع في طريق بناء الحياة الحرة الكريمة المبنية على السلم الاجتماعي الذي تنشده الانسانية في كل مراحلها وبهذا السلم تتفجر طاقات الأمـة وتستفيد من قدراتها الذاتية ليعم خيرها الدنيا جميعاً (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)(سورة الاعراف: 96).

انّ التقريب بين المذاهب الاسلامية من شأنه ان يفتت هذه العقد ويفتح آفاقاً للحوار يقضي فيها على الحواجز ويدفع الاوهام التي تعترض الفهم المتقارب والمواقف المشتركة، بينما الأمة في ظل التناحر والتضاد وتناقض الآراء واغفال قيم التقريب تفقد لا محالة قيم التعايش ومباديء السلم الاجتماعي وقد اكدت المؤتمرات الخمسة السابقة للتقريب بين المذاهب على ايجاد مثل هذه الفرص الكريمة للتلاقي وفهم الآخر والنأي عن نقاط الخلاف الذي يسد على الاطراف أبواب العمل المشترك والحياة السعيدة، ولأهمية السلم الاجتماعي ودوره في تنمية الانسان والمجتمع معاً انعقد المؤتمر الدولي السادس للتقريب بين المذاهب الاسلامية ليناقش (دور التقريب الحضاري في تحقيق السلم الاجتماعي) بحضور العلماء والمفكرين والنخب العلمية، ومن خلال الابحاث والأوراق والمداخلات والملاحظات التي قدمت في المؤتمر ثبّت المجتمعون عدداً من القرارات والتوصيات والمقترحات:

1- التقريب مشروع حضاري وسبب كبير من أسباب تحقيق الوحدة الإسلامية، فالتوافق الفكري مقدمة للانسجام العملي، وان تطوير آليات التقريب وتفعيل حراكه المؤثر في الأمة كلاهما سيجعل من هذا المشروع حاضنة كبيرة لتطلعات الوحدة داخل كيان الأمة الإسلامية الواحدة، لتسود ثقافة الوحدة والتقريب بين المسلمين. ومن يعيب على التقريبيين ويلمز جهودهم وأعمالهم سيلوذ بالهزيمة ويصطدم بجدار هذه الوحدة ولا يحصد سوى المزيد من الفشل والخسران ومخالفة النداءات القرآنية وسنة النبي الأكرم محمد (ص) في تعزيز وبناء التآخي والوحدة بين المسلمين.

2-لا بد من التمييز بين الصحوة الاسلامية بما تحمله من عفوية وقيم اسلامية ومطالب جماهيرية محقّة، وبين (الربيع العربي) الذي دخلت عليه يد الاستكبار والهيمنة لتفتيته والسيطرة عليه، ثم ان الصحوة الاسلامية تعني الرجوع إلى قيادة النبي محمد (ص) وهي بالتالي تعني ولادة الأمة الاسلامية الواحدة من جديد والتي سوف تشكّل القوة العظمى التي تقود الانسانية، وهذا ما جعل اعداء الانسانية يصبّون جام غضبهم على شخصية نبينا قائد الأمة الاسلامية المرشحة لقيادة العالم الجديد.

3-إنّ الإساءة للرموز والمقدسات الدينية انما هي عبث في السلم الاجتماعي لهذه الانسانية، ولا تمت تلك الإساءات من قريب أو بعيد الى حرية الرأي والفكر فأن الحرية انما تنتهي عند حقوق الآخرين، ومن هنا يطالب المؤتمرون كل المنظمات والهيئات الانسانية والدينية لا سيما منظمة التعاون الاسلامي ودول عدم الانحياز والجامعة العربية للسعي من أجل تجريم مسببي ومثيري هذه الاساءة الأخيرة وأمثالها ومن ثم السعي لاستصدار قانون دولي يجرم مثيري هذه الاساءات وصانعيها ومروجيها، حيث لا ينفع مع هؤلاء الادانات أو الشجب أو الاستنكار بالمرّة.

4-ان بلادنا الاسلامية اليوم تخضع لأشد وأعنف المؤامرات والاعمال التي تستهدف تمزيق وحدتها بسلاح الطائفية وفتاوى التكفير نيابة عن دول الهيمنة والتسلط. ان المسلمين كافة مسؤولون عن مواجهة هذه التحديات وتداعياتها، وللعلماء دور مبرّز في درء الفتنة واحلال السلم والتعايش المشترك وبدون ذلك الحزم سوف نسمح لهذه الأخطار ان تأتي على كل ما نمتلكه نحن المسلمين من مصادر القوة والوجود، انهم لا يريدون تنمية بلداننا ولا رفاه شعوبنا ولا يسمحون لأي تطور في عالم الأبداع الذي به تبنى المجتمعات، فليكن المسلمون يداً بيد لتحقيق تلك الأماني التي بها سعادة شعوبنا بعيداً عن أية تبعية أو استغلال لثرواتنا أو مساسٍ لسيادة بلداننا. اننا خير أمة أخرجت للناس إن أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر وآمنا بالله الواحد الأحد.

5-السلم الاجتماعي: اذا كان السلم هو غياب العنف والارهاب والنـزعات القومية والعرقية والطائفية وغيرها فهذا هو هدف السماء ورسالة الانبياء ونظم القرآن وسيرة النبي الاكرم محمد (ص)، فلا حضارة ولا رخاء لهذه الانسانية جمعاء إلا بإحلال السلم الاجتماعي بين الناس عموماً وبين المسلمين أنفسهم بشكل خاص ولو بمراتب مختلفة، وهذا لا يتحقق إلا من خلال السير في طريق الوحدة وبناء المواقف المشتركة وهذا بدوره لا يتم إلا من خلال إيجاد أجواء هادئة ومستقرة يحقق التقريب فيها مساحة كبيرة من الانسجام والتناغم والحوار. وبغير السلم الاجتماعي الذي تحيط به التحديات من كل مكان سوف ينتظر الانسانية والمسلمين بشكل خاصٍ خراب عظيم ودمار لكل ما حققته الاديان والمذاهب في طريق التعايش وفهم الآخر في ضوء التنوع والتعددية الفكرية.

6-ضرورة البحث عن آليات جديدة تدعم التقريب الى جانب الآليات الفاعلة فيه فالتحديات أمام التقريبيين تتعقد مع تجدد واصرار التقريبيين ولعلّ تشكيل الورش الفكرية في مختلف المناطق والحوار القريب والخطاب الهاديء وإشاعة قيم التقريب وسيادة ثقافته بين المسلمين، يسهم ذلك كله في ايجاد مناخات تقريبية جديدة لدرء التحديات والوقوف بوجهها لصناعة رأي مشترك وموقف مشترك في مختلف المسائل التي تواجهنا اليوم كتقريبيين وروّاد وحدة دعا اليها اسلامنا الحنيف ونبينا العظيم (ص).

7-لهذه الأمة الاسلامية قضايا كبرى تجهد في الدفاع عنها وفي طليعتها القضية الفلسطينية التي تدعونا جميعاً للوقوف الى جانبها والدفاع عن حقوقها وعن أبنائها، في وقت يحاول البعض إلهاء الأمة عنها وعن مجمل قضايانا الأساسية ليَضيع المسلمون في الخلافات والفتن. ونحيي من هنا كل صوت مقاوم يأبى الذل والهوان لا سيما في فلسطين ولبنان، وان طريق الوحدة والتقريب يحقّق الكثير من هذه الآمال التي يتطلع لها المظلومون في كل مكان فالله سبحانه لا يريد لعباده ان يظلموا أو يُظلموا فبالعدل يسود السلم والامان وهو الهدف الأسمى للتقريبيين ومن يسعى في طريق بناء أواصر الوحدة الاسلامية.

8-ان النـزاعات اليوم التي تشهدها سائر بلادنا الاسلامية تدعونا للمبادرة لوضع حلول عاجلة لوقف نزيف الدم والعنف من خلال تشكيل مرجعية علمائية تقوم على حلّ هذه النـزاعات على أساس من المعايير الاسلامية، وبدونها سوف نـترك المجال للمتربصين بهذه الأمة الذين يسعون لتمزيقها والهيمنة على ثرواتها وحقوق أبنائها وسيادة بلدانها.

9-وفي سياق الفقرة الثامنة من هذا البيان فأن جميع المسلمين مطالبون بالتصدي لتقديم الحلول الاسلامية الناجعة للأزمة الدامية في سوريا، ويؤكد المؤتمر على تشكيل (لجنة اتصال) على المستوى الذي يليق للتحرك على قضية بحجم سوريا (الحكومة، والمعارضة معاً) لايجاد فرص وخيارات مناسبة لقبول الحل الإسلامي. ويبارك المؤتمرون الجهود المبذولة لعقد مؤتمر الحل الاسلامي للأزمة السورية المزمع عقده في طهران في غضون الشهرين القادمين إيماناً منا جميعاً بحفظ دماء المسلمين واحترامها، مناشدين الجميع بدعم هذا الاتجاه ليكونوا جزءاً من الحل لا جزءاً من المشكلة، ولعل اللجنة الرباعية القائمة حالياً تكون جزءاً من هذا التحرك الجديد الواسع.

10-قادة البلدان الاسلامية أمامهم مسؤولية دعم الجهود التقريبية التي تهيء لمقدمات العمل المشترك وصناعة المواقف المشتركة. اما ان يبقوا يتفرجون على هذا الحراك الذي يسعى لوحدة المسلمين فان الشعوب تحمّلهم مسؤولية ذلك، وان علماء الأمة والسائرين في طريق الوحدة وكذلك روّاد التقريب ينتظرون من قادة هذه البلدان الموقف الداعم والمؤيد لهذا الحراك التقريبي الذي فيه خير الأمة ومستقبلها لا سيما بعد ان اخذت تحديات التقريب أبعاداً دولية في مقدمتها الاستقواء بالخارج والفتن الطائفية التي تدار من دول الهيمنة والتسلط. فالمسؤولية مشتركة من أجل أمان هذه الأمة وسعادتها وبناء مستقبلها المستقل. وما طرح في مؤتمر قمة (التضامن الاسلامي) الأخير من الدعوة الى تأسيس مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية ينبغي ان تكون خطوة فاعلة لتصحيح المسار الدعوي لينأى عن منطق الاقصاء والتكفير الى منهج الاخاء والتسامح والتفكير.

11-قبل أربعين سنة اعتمدت دول العالم اتفاقية التراث العالمي بناءً على فكرة مفادها أننا نتقاسم تراثاً عالمياً يحقق الترابط بين جميع الثقافات وهي فكرة تحاول الجماعات المتعصبة في بقاع العالم كافة محاربتها، كما في الاعتداءات التي حصلت على المقامات الصوفية والاسلامية والدينية بشكل عام وليست الاسلامية فقط لما تتضمنه من اعتداء موجّه ضد هذا التاريخ وضد قيم التسامح والتبادل والعيش المشترك التي تحملها هذه المواقع التاريخية، وهذا يدعوننا الى حركة تضامن عالمية جديدة لشجبه والحيلولة دون تناميه وهي في صلب أهداف التقريب من أجل تحقيق السلم الاجتماعي العالمي.

12-هناك جملة من التوصيات والمقترحات أكد عليها المؤتمرون في طليعتها:

أ‌-أن يعرَّف هذا المؤتمر ككيان اسلامي مستقل له رسالة وأهداف وأمانة ولجان عمل تفعّل التوصيات التي تنبثق عن المؤتمر في بياناته الختامية.

ب- تصميم موقع الكتروني خاص للمؤتمر يوثق كافة الأوراق والرسائل والبحوث والدراسات والتوصيات التي طرحت في المؤتمرات السابقة والتي ستطرح في اللاحقة ليكون ذلك مرجعاً حقيقياً للدارسين والباحثين في مجال التقريب.

ج- اصدار كتاب سنوي عن المؤتمر يحمل اسم المؤتمر والدورة السنوية ويتضمن جميع المشاركات من أوراق بحثية وكلمات وبرامج واسماء المشاركين.

د- تخصيص صندوق (دعم مالي) لتنفيذ مشاريع وبرامج التقريب.

13-للمرأة دورها المؤثر في تفعيل مشروع التقريب، لذا ينظر المؤتمرون الى ضرورة تعزيز دور المرأة المسلمة واتاحة مساحة كبيرة لها في هذه المؤتمرات لتمارس دورها في التأثير في أوساطها لا سيما في المجال الاكاديمي والجامعي ومختلف المجالات الفكرية.

14-كلمة شكر وثناء لكل الجهود التي شارك فيها المؤتمرون ومن تجشم عناء السفر والحضور وللقائمين على هذا المؤتمر في سبيل توحيد الكلمة بأعلاء كلمة التوحيد، وكلمة ودّ وثناء للاعلاميين الذين لازمونا فترة انعقاد المؤتمر ونحمّلهم أداء رسالة التقريب في وسائلهم الاعلامية المرئية منها والمقروءة والمسموعة فالاعلام بات سلطة مؤثرة في صياغة الرأي العام  لذا ندعوهم شاكرين لتنظيم برامج خاصة في التقريب والوحدة لاشاعة هذه الثقافة والقيم التقريبية في مجتمعاتنا وخارجها، ومن جهة أخرى العمل على نشر فكرة الحل الاسلامي لأزمات العالم الاسلامي عموماً. والله هو المسدد والمستعان.

والحمد لله رب العالمين.

المؤتمر الدولي السادس للتقريب بين المذاهب الاسلامية-لندن

29/9/2012م الموافق 12 ذي القعدة 1433هـ

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=7862

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك