(نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني) في بيروت
بدعوة من مركز القدس للدراسات السياسية، التقت في بيروت خلال الفترة من 19– 21 تشرين أول/أكتوبر الجاري، ستون شخصية سياسية وفكرية، من بينها أربعين شخصية جاءت من اثنتي عشرة دولة عربية بالإضافة إلى تركيا، للمشاركة في أعمال المؤتمر الخامس الذي ينظمه المركز تحت عنوان "نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني"، والذي خصص هذه المرة، لتقديم قراءة ثانية للتجربة التركية (القراءة الأولى قُدّمت في مؤتمر عقد في أنقرة تحت نفس العنوان في نيسان أبريل من العام 2012"، فضلاً عن تقديم قراءات أولية في تجربة الإسلاميين حديثة العهد، بالحكم في كل من مصر والمغرب وتونس.
وعلى مدار جلسات، ناقش قادة حزبيون وبرلمانيون وأكاديميون، العديد من أوراق العمل والمداخلات التي عرضت في المؤتمر، والتي توزعت موضوعاتها حول أبرز عناوين وتحديات مرحلة الانتقال للديمقراطية، من نوع (نظام الحكم والتعددية وحرية الرأي والتعبير والاعتقاد، حقوق الأفراد والجماعات، سبل بناء توافقات وطنية حول مبادئ العقد الاجتماعي الجديد، التسامح والعيش المشتركة على قاعدة المواطنة المتساوية للجميع، بناء الشراكات والتحالفات الكفيلة بتخطي الفوضى والصراع الناجمين عن الإقصاء والتهميش)، حيث قدم المشاركون الأتراك من حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري، قراءات في السياق الخاص للتجربة التركية، وما يمكن أن توفره من دروس يمكن الاستفادة منها بأقدار متفاوتة من قبل "دول الربيع العربي"، كما قدم المشاركون من مصر وتونس والمغرب، قراءات لتجارب أحزابهم حديثة العهد في الحكم، كما عرض مشاركون من الجزائر والعراق وليبيا واليمن والبحرين وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين، لجوانب مختلفة من تجارب بلدانهم وأحزابهم السياسية، الإسلامية منها وغير الإسلامية.
وقد تميّز المؤتمر الخامس عن المؤتمرات الأربع الفائتة، بمشاركة مفكرين وممثلين لأحزاب علمانية، بهدف تيسير الحوار حول قضايا "الانتقال للديمقراطية"، والتي أثارت وتثير خلافات ونزاعات، بين القوى التي شاركت وتشارك في عملية الإصلاح والتغيير التي تشهدها المنطقة العربية، ومن أجل المساعدة في بناء فهم مشترك، أعمق وأدق لعناوين هذه المرحلة الأكثر حرجاً في تاريخ المنطقة.
وإذ تميزت النقاشات والحوارات، بالحيوية والمشاركة الكثيفة من قبل كافة المشاركين، وبروح تتسم بالحماسة والإيجابية البنّاءة، فقد خرج المؤتمر بعدد كبير من المقترحات والتوصيات، التي يمكن أن تشكل خريطة طريق للمرحلة المقبلة، وإذ نكتفي هنا بإيراد أبرز هذه التوصيات، فإنها جميعها سوف يجري تضمينها في التقرير والمطبوعات الختامية التي ستصدر عن أعمال المؤتمر لاحقا:
شدد المشاركون على الحاجة للجمع بين "أصالة" الإسلام و"تأصيل" القيم والمبادئ الديمقراطية الحديثة في خطاب المفكرين والحركات الإسلامية أو ذات المرجعية الإسلامية، مشددين على الحاجة لإجراء المراجعة و"التنظير" سياسياً وفكرياً للتحولات التي طرأت على خطاب كثيرٍ من هذه الحركات، والعمل على اكتشاف "مواطن القدرة" في الفكر الإسلامي، من دون إغفال حاجة التيارات "العلمانية"، متعددة المدارس، لإجراء مراجعات لتجربتها في الحكم والمعارضة، والتي أخفقت في تقديم "النموذج" وورثت العالم العربي، الكثير من المشاكل والتحديات الجسام.
وفي هذا السياق، أوصى المشاركون باعتماد الانسجام المنطقي والضروري، بين خطاب الحركات الإسلامية وممارستها، مشددين على ضرورة ردم الفجوة بين "الشعار" و"تطبيقاته"، وبذل جهد سياسي وفكري، لخلق هذا الانسجام والتجانس، وفي هذا السياق، أوصى المشاركون بضرورة الجمع بين "المفكرين" و"الفاعلين" الإسلاميين والتجسير بينهم، من أجل "تأصيل" الوعي المدني والديمقراطي في خطاب هذه الحركات من جهة، وإضاءة "المساحات الرمادية" في خطابها من جهة ثانية، وجسر الفجوة بين الخطاب والممارسة من جهة ثالثة.
حث المشاركون، نشطاء العمل الإسلامي ومفكريه، على ضرورة إجراء المراجعات والإصلاحات الضرورية للفكر الإسلامي، لتخليصه مما علق به من اجتهادات متطرفة، وقراءات محكومة بزمانها ومكانها، ودعوا لفتح الباب رحباً لـ"الاجتهاد" الذي أغلق بابه منذ قرون طويلة، لإضفاء "حيوية" للفكر الديني، وتمكينه من مواكبة العصر واستلهام روحه، وقد جرى التشديد على الحاجة للتميز بين "المقدس" بمساحته الضيقة في الفكر الإسلامي، و"الدنيوي" بمساحته الأرحب الناظمة لحياة الدولة والمجتمع، والذي يتعين إخضاعه باستمرار للمراجعة والتحديث.
توقف المشاركون مطولاً، أمام تفشي نزعات الانقسام المذهبي (وداخل المذهب الواحد) بين الحركات الإسلامية في العديد من الدول العربية، وشددوا على الحاجة لاعتماد خطاب جمعي وطني، يعظم المُشتركات، وتداولوا في الحاجة لاعتماد أنجع السبل، لتعميق البعد "الوطني" الجامع لأحزابهم وحركاتها، وهنا توقف المؤتمرون باهتمام، أمام واحدٍ من "دروس تجربة العدالة والتنمية" كما عرضه المشاركون الأتراك.
دعا المشاركون إلى "توطين" الخطاب الإسلامي، وتفادي "الفتاوى" و"النصوص" العابرة للأوطان والقارات، وعدم إضفاء طابع "القداسة" عليها، بالنظر لما تحدثه من تداعيات سلبية وأحياناً خطرة، على الحركات الإسلامية في دول أخرى، فظروف الدول والمجتمعات العربية والإسلامية، ليست واحدة على ما يجمعها من تشابه ومشتركات.
دعا المشاركون الحركات الإسلامية للتمييز بين ما هو "دعوي" في نشاطها، وما هو "سياسي"، باعتبارهما "فضائين" منفصلين، لكل منهما قواعده وأدواته وفئاته المُستهدفة، ونظروا إلى هذا التمييز الضروري بوصفه شرطاً مسبقاً لإدارة ناجحة للدولة والمجتمع الحديثين.
كما دعا المشاركون الحركات الإسلامية، خصوصاً تلك التي تسلمت مقاليد السلطة والحكم في دولها، للتمييز بين ما هو "حزبي" وما هو "دولتي"، فالدولة التي هي لجميع أبنائها، لا تُدار بأدوات الحزب ومنهجه وعقليته، وإن كان من حق الحزب الذي يصل للسلطة عبر صناديق الاقتراع، أن يتملّك الفرصة لاختبار تجربته وإنفاذ برنامجه ورؤاه.
وفي هذا السياق، شدد المشاركون، وبإجماع تام، على الحاجة للتعلم من تجربة نصف قرن من الفشل والركود والاستنقاع، وما تميزت به من تفشٍ لمظاهر الاستبداد والفساد والإقصاء و"التخوين" والتهميش، ودعوا إلى تجاوز هذ الإختلالات، والتأسيس لشراكة مع مختلف مكونات المجتمع وتياراته، بصرف النظر عن أوزانها وحجم مشاركتها في عملية التغيير، وبما يُسهم في إشاعة وتعميق ثقافة الحرية والتعددية القائمة على الحوار والتسامح والعيش المشترك والبحث عن المُشتركات بما يعزز الثقة المتبادلة، ويُعلي من شأن المصلحة العليا و"ما ينفع الناس".
دعا المشاركون الحركات الإسلامية وغيرها من تيارات الفكر والسياسة في العالم العربي، للتركيز على صياغة "الدساتير التوافقية" التي تعكس روح "العقد الاجتماعي" الجديد بين الدولة ومواطنيها، والمجتمع والجماعات والأفراد، تحفظ حقوق الجميع وتقرر واجباتهم وتصون كرامتهم، وتؤسس لنظم سياسية قائمة على العدالة والمساواة والشراكة والمشاركة والتداول السلمي للسلطة ومبادئ الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء والإعلام والمجتمع المدني.
وفي هذا السياق، طالب المشاركون الحركات الإسلامية، بالعمل الكثيف، لتقديم تصورات أكثر عمقاً ووضوحاً، لمفهوم "الدولة المدنية" الذي تتحدث عنه، والعلاقة بين الشرع والتشريع، وحقوق الأفراد والجماعات والحريات العامة والفردية، بما فيها الموقف من حقوق المرأة ومشاركتها، الموقف من الجماعات الدينية والقومية والعرقية، لكي يصبح بالإمكان، تبديد حالات الاحتقان واحتواء النزاعات التي تشهدها الكثير من الدول والمجتمعات العربية، على هذه الخلفية.
شدد المشاركون، ومن وحي "دروس التجربة التركية" على الحاجة لتبني برامج عملية، قابلة للتنفيذ والقياس، ومجدولة زمنياً، لتحقيق تطلعات الناس وانتظاراتهم، خصوصا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية، فإذا كان وصول هذه الحركات للسلطة أمراً صعباً، وتطلب كل هذه التضحيات، فإن بقاءها فيها سيكون أشد صعوبة، إن هي أخفقت في تلبية هذه الاحتياجات، وبصورة عملية وعاجلة.
وفي هذا السياق، أورد المشاركون العديد من التوصيات التفصيلة، التي تدعو لتبني مواقف أكثر "براغماتية" في التعامل الداخل والمحيط الإقليمي والدولي، والتخلي عن "خطاب المظلومية"، واعتماد مبادئ "العدالة الانتقالية" لإشاعة العدل والإنصاف، والانفتاح على مختلف الطاقات الإبداعية في دولهم لتعويض النقص في خبراتهم في مجال إدارة الدولة، بصرف النظر عن الخلفيات الاجتماعية والسياسية والثقافية لأصحابها، والتطلع للمستقبل بدل الانشداد للماضي، إلى ما هنالك من أفكار ومقترحات.
دعا المشاركون مختلف قوى العمل السياسي والفكري العربية، بمن فيها الإسلامية، للعمل من أحل استكمال مشروع الاستقلال والسيادة في كل دولة عربية، وتحرير القرار "الوطني" و"القومي" من قيود التبعية والاستتباع، وإيلاء قضية شعب فلسطين، الأهمية التي تستحق، بوصفها قضية مركزية للأمتين العربية والإسلامية.
توافق المشاركون على الحاجة لمتابعة توصيات المؤتمر وتعميمها، وأوصوا بالحاجة بتشكيل "فريق عمل" يتولى إدامة الاتصال فيها بينهم، يضم عدد من الخبراء والناشطين موضع الثقة والإجماع، يتوفر على النية الحسنة والإرادة الصلبة والإدراك العميق، للحاجة لتطوير الخطاب الإسلامي وتحديثه، وتجسير الفجوات بين مختلف تيارات العمل السياسي والفكري العربية.
وإذ ثمّن المشاركون، مبادرة مركز القدس للدراسات السياسية، تنظيم المؤتمر ودعوة هذه النخبة المتميزة سياسياً وفكرياً للمشاركة فيه، فقد أوصوا بالعمل على تنظيم عدداً من اللقاءات الإستكمالية، تبحث في عناوين محددة من عناوين "الانتقال للديمقراطية"، وفي هذا السياق تم التركيز والتوافق على عدة عناوين من أهمها: تنظيم مؤتمر إقليمي يبحث في المسألة الكردية من مختلف جوانبها، تنظيم مؤتمر إقليمي يبحث في كيفية احتواء الانقسام المذهبي العميق الذي يضرب المنطقة، تنظيم مؤتمر خاص يبحث في "المسيحيين وربيع العرب"، وتنظيم مؤتمر يُخصص لتناول "موقع المرأة في الثورات العربية وما بعدها".