الحوار والتعدد والمرجعيّة الدينيّة

السيّد هاني فحص

 

إنّ أهل الحوار، من رجال الدّين وغيرهم، مطالبون بتحديد المرجعيّة الدينيّة لخياراتهم؛ وهذا يقتضي الانكباب على النّص التأسيسيّ ونصوص علماء الأديان، لفرز المُساعد عن المعاند، وقراءة النّصوص التي تزكّي التعدّد قراءةً مطلقةً، والاتفاق على مرجعيّتها النّهائيّة، من دون قمع المختلف أو اقفال باب السّؤال والمراجعة.

وقراءة النّصوص التي تفرّق بين المؤمنين بالأديان، وتترتب عليها أحكامٌ ومسلكيّاتٌ إقصائيّةٌ، قراءةً نسبيّةً، تحترم نصّيتها، لا تلتزم بإطلاقيّة وعموميّة مدلولها، أي أنّها نصوصٌ مطابقةٌ لموضوعاتٍ منقضيةٍ أو لخصوصيّاتٍ تاريخيّةٍ متغيّرةٍ...ما يجعل المستجدّ من موضوعات الحياة، والعلاقات بين البشر، والوقائع، والوعي الدينيّ بالفضاء الإنسانيّ الرّحب والجامع، وبالمتغيّر التّاريخيّ، معطياتٌ ملزمةٌ لا تقلّ قوّةً عن النّص، الذي يكتسب قدسيّته من مضمونه الإنسانيّ الخاضع لتبدّلات الزّمان والمكان والأحوال والمعارف والتغيّرات في العلاقات وضرورات العيش وما أفرزته الصّراعات والمصالحات العالميّة من مواثيق ملزمة.والقداسة لا تقع خارج التاريخ، الذي قد يُضفي قداسةً على أمرٍ ما، وإن كان لا يُسقط القداسة عن نصٍّ آخر، لكنّه يُجمّد مفعولها، ويحوّلها الى الذاكرة غير القابلة للتداول.هذا يُساعد على تفادي ما يلحّ عليه الفصاليون والمتطرّفون في كلّ المذاهب والأديان، من إخفاء أو تشويه الكلّيات الجامعة للتعدّد على الوحدة، واستحضار الجزئيّات المرهونة بزمانها، أو الضعيفة في سندها أو دلالتها، وفرز الفوارق، واستيلاد فوارق إضافيّة منها، وجعلها حاكمة على الكلّيات الجامعة.

هذا قد يعني أنّ الطّوائف أو رجالها ملزمون الآن بتحويل الحوار على قاعدة المزيد من تأصيل التعدّد والقبول به، إلى نشاطٍ معرفيٍّ مشتركٍ، حتّى لا تبقى المسألة مسألة خطابٍ يوميٍّ على قليلٍ أو كثيرٍ من المجاملة والعاطفة، ولا يبقى العامل السياسيّ مؤثّراً شبه وحيدٍ في حركة البُعد والقُرب بين أطراف المتعدّد الدينيّ، ولا تبقى متراكمات السّلب في الذاكرة المجرحة حاضرةً، ويُصبح التاريخ الحقيقيّ في الحياة نوعاً من النّسيان الإيجابيّ من أجل المستقبل.

هذا إلى ضرورة أن يترافق هذا النّشاط الجمعيّ الجامع مع حركةٍ تربويّةٍ تنشر مفاهيمه وقيمه، وحركة ميدانيّة تجمع الأجيال في «ورش»التّعرّف الى الآخر، كما هو، وتشجيعه على فرز السّالب عن الموجب في صورته عن نفسه وعن الآخر، تجديداً لإرادة الاندماج على مقتضى الأفكار والقيم والمصالح المشتركة.وهنا تدخل ذاكرة العيش المشترك أساساً في ثقافة المتعدّد، تذكّره بالوحدة، وتحثّه عليها بما هي ذاكرة سلامٍ صافيةٌ، تُساعد على تأهيل ذاكرة الحرب المنقاة، كي تفعل فعلها المحمود في تلقيح الوعي بالمضادات الحيويّة للانقسام من دون قمعٍ للاختلاف.

إنّ الحوار في فضاء التعدّد والوحدة، وعلى أساسٍ علميٍّ ويوميٍّ، هو الذي يدخل الآخر كشرطٍ، في معرفة الذات وتعريفها، وفي مستلزمات وجودها وديناميّتها، وإنْ لم يُبادر رجال الدّين إلى هذا الشّأن فهم خاسرون...وسوف يُمكّنون أهل التطرّف أنْ يُمارسوا دورهم الهادم للدّين والدولة، ويُمكّنون أهل السياسة الهدّامة من استخدام الدّين في اشتعال الحروب وإطالة أمدها وإبقاء تبعاتها على الدّين ورعاته.

إنّ تفكيك الصورة النّمطيّة ليس مسألةً علميّةً حصراً، لأنّها لم تأتِ من قراءةٍ تخصّصيّةٍ للنّص الدينيّ، بل من ذاكرةٍ مضطربةٍ، كان وراءها من تقتضي مصالحهم المحرّمة زعزعة القِيم.

من هنا أتى هذا الظلام المعرفيّ الذي تحوّل إلى التنميط الذي يثَبّت المتغيّر ليُبرّر القطيعة...

إنّ المؤسّسات الدينيّة لن تستطيع أن تحمي نفسها من عاديات العصف الفكريّ المتعاظم، إلّا بتجديد دورها، من خلال تجديد فهمها للدين والاجتماع، الذي هو سيرورةٌ جاريةٌ أكثر منه كينونةٌ ناجزةٌ.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=4728

الأكثر مشاركة في الفيس بوك