الحوار الإنساني: نظرة قرآنيّة

طارق قبلان/إعلامي لبنانيّ

 

 

يطرح القرآن الكريم في الآية الثالثة عشرة من سورة الحجرات تصوّراً للحوار بين النّاس، دون الوقوف عند المحدّدات المختلفة للاجتماع الإنسانيّ في الدنيا، إذ يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"؛ فلم يجعل القرآن للاجتماع البشريّ هدفاً، في الآية المُشار إليها، سوى التعارف، الذي يظهر بكونه غاية الخلق. إنّ التّعارف والحوار السّابق عليه، على ما يظهر من الآية الكريمة، ذو أهمّية كبيرة لدى المؤمن بالوحي الإلهيّ، وإنْ كان الامتثال البشريّ للوحيّ لا يُظهر حقيقة الغاية العظيمة للتّعارف، ومحوريّـتها في حياة البشر؛ بذلك، تعيش البشريّة انفصاماً بين الوحي والمرتجى، وبين الواقع والممارسة.
 

 

ومن أسفٍ أنّ البشر ـ على امتداد تاريخهم ـ لم يلتزموا القاعدة الإلهيّة المبثوثة في التكوين البشريّ، والمنصوص عليها في الكتاب الكريم؛ إذ بدّلوا الاجتماع الحواريّ، والتعاون على الخير، بالميل إلى التّحاور العنيف، القائم على موازين القوى وإكراهاتها، فكانت قواعد الظالمين هي الحاكمة، وميزاتها جور الأحكام، وتجاوزات السّلطة، والاستئثار بمنافع الحياة الدنيا، ما أفقد النّاس خير الدعوة الإلهيّة، وكان لهم معيشةً ضنكاً ...

ولقد شهد التاريخ الإنسانيّ الطويل، في غالب مسيرته حوارات من النّوع العنيف، حيث لم يستجب خلالها أطراف الحوار إلى العقل ومنطق التعارف، وإنّما كان الهدف السيطرة، وابتغاء الملك الدائم، وفق القاعدة الشيطانيّة، التي حدّثنا عنها الله سبحانه وتعالى، في ذكره آدم عليه السّلام، إذ قال: "فوسوس إليه الشّيطان قال يا آدم هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى"[طه:120]. وقد استجاب الإنسان لتلك الوسوسة المستمرّة منذ بدء الخليقة، ولم يذقْ حلاوة الحوار ونتائجه الربّانيّة، بل انغمس في الصّراع القاتل، الذي لن ينتهي، كما قرّر الله تعالى: "... وقلنا اهبطوا، بعضكم لبعضٍ عدوّ، ولكم في الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حينٍ" [البقرة:36].

واليوم تنتشر ثقافة الحوار على مساحاتٍ واسعةٍ من وسائل النّشر وفي المنتديات المختلفة، لكنّها لا تُنتج كثيراً، كما هو المتوقّع منها، بعد سنواتٍ طويلةٍ من الدّعوة والتبشير إليها كخيارٍ راقٍ، إذ ترتدّ النّاس عند كلّ منعطفٍ تاريخيٍّ إلى عصبيّاتٍ قاتلةٍ مدمّرةٍ، فيما يبقى صوت العقل الربّانيّ في أغوار النّفس، ضعيفاً أمام هول المادة والشّهوات والعصبيّات، في ظلّ انفصامٍ حاصلٍ بين القناعة والقول، وبين التّنظير والمُمارسة.

والحوار السائد اليوم المنشعب إلى مجالاتٍ ومستوياتٍ واتّجاهاتٍ متعدّدةٍ، لا يُنتج، بسبب الخلفيّات المتشنّجة، والاصرار المتبادل على قهر الخصم، لا على تقبّله، كواقعٍ مختلفٍ مؤتلفٍ مع الذات، أراده الله، ولذلك خلقه، ولتتمّ الحجّة على النّاس. فحتّى يُدرك الحوار والمتحاورون غايتهم، لا بدّ من الخروج إلى رحابة الفكر، والتعامل بصدقٍ مع نتائج الحوار، القائم على المعرفة والإخلاص.

وعلى الرّغم من اكتساب الحوار الإنسانيّ شهرته من المؤسّسات التي تروّج له من الناحية النظريّة وتموّله، فإنّ النّاس في وادٍ آخر، بعيدٍ نسبيّاً عن كثيرٍ من التنظيرات، تحيا ببساطتها المتناهية، ولا تتذكّر هويّاتها فتصطدم بالآخر إلّا عند المنعطفات، بسبب توظيفات القيادات عذابات النّاس وآلامهم في مشاريع السّلطة، التي سرعان ما تجتذب الشباب وحماسهم، وتستغلّ خوف العامّة على حياتها ومصالحها، فيرتدّ النّاس إلى الحال الأولى.

الحوار اليوم، على كثرة المشتغلين فيه، لا يتمتّع بالصدقيّة الضروريّة أمام عتاة العصبيّات المختلفة، ويواجه كمّاً من الأخطاء التاريخيّة والإساءات، التي تقف سدّاً أمام التلاقي والتعارف، تعضدها المخيالات الاجتماعيّة، ليبقى اللقاء والحوار والتعارف حلماً يُتعب الشّوق في النّظر إليه.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=5653

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك