اصطدام الحياة بنفسها

أما خطر ببالكم في يوم من الأيام الصديقة إليكم أن تفكروا فيما أنتم فيه؟
 ألا تحسون بالضجر، والملل، والسآمة كلما أنعمتم النظر في أنفسكم، وحواسكم، وأعضائكم، وفيما تقوم به من أعمال، وحركات، وإشارات، وإيماءات، تعيدها وتكررها؟
 ألا تشعرون بالوحشة والشوق كلما فكر كل واحد منكم بأنه هو هو، هو في الصباح وفي المساء، هو في الليل وفي الفجر، هو نفسه في هذا اليوم وفي الغد، هو ذاته في هذا الشهر، وفي هذه السنة، وفي السنوات التي تليها. يلتقي بذاته حينما يلقي بنفسه على السرير فيصطدم بها في أحلامه، فتتهشم غفوته، وتدمي نشوته ويعثر بها في طريقه . . . وفي طريق خياله الذي يسلك به إلى العوالم المبثوثة في طيات الغيب السحيق، فيهوي كبرياء إحساسه شظايا نبضات ونجوم.
   لقد خطر هذا في بالي صباح اليوم، عندما استيقظت من نومي فوجدتني مهشما، مكسرا، محطما، لا أقوى على النهوض على أثر اصطدامي بذاتي في غابات، وجبال، وسهول، وسماوات، وربوات أحلام ليلتي الماضية. ألقيت نظرتي على يميني فانتصب لي بأصابعه الخمسة الدائمة وهي مخضلة بالرماد . . . وحسبت أيام الأسبوع فوجدتها سبعة، وبصوت مرتفع كنت أكررها هكذا:
 أحد، اثنين، ثلاثاء، أربعاء، خميس، جمعة، سبت. . .
 وكان حسابي دائما وأبدا يبتدئ بيوم أحد، وينتهي بيوم سبت. وإن كنت في ريب مما أقول، فأرجوكم أن تحسبوا معي فصول السنة بصوت جهير مرة ومرات هكذا:
 ربيع، صيف، خريف، شتاء . . .
 ألا تحسون من تكراركم لأسماء فصول السنة باصطدام الحياة بذاتها، وباصطدام كل ما فيها وما عليها بنفسها؟
  فالشمس تصطدم بذاتها كلما أتمت دورة من دوراتها، وكذلك الشأن في القمر وفي الأرض والأفلاك الأخرى. وما هذا الغليان والفوران، وما هذه الثورات التي نشاهدها في الطبيعةــ من بحار تزمجر، وعواصف تعوي وتعصف، وبراكين تثور وتندلع، وبروق ورعود تصفر وتلعلع، وأراض ترتفع وأخرى تنخفض ـــ سوى اصطدام الحياة بذاتها في المدى الخفي عنا، وعن أبصارنا الكليلة.
  وهذا الربيع، وهو أحب الفصول إلي وإليكم، نراه يتم رحلته السنوية، فيسرع ليلحق ذاته التي نفرت منه زهاء تسعة أشهر، وما يكاد يلحقها حتى يصطدم بها، فيسقط على الأرض أشلاء بوح، وفوح، وزهر، ونغم، وإذا بهذه الأشلاء تلتئم، وتندمل، وتجمع قوتها ومناعتها، حتى إذا ما بلغت أشدها راحت تفتش عن ذاتها فتصطدم بها، فتجري أودية في الروابي، وخضرة في ذوائب العشب والدوالي، وزقزقة في حناجر الأعشاش والسواقي، وعبيرا في جيد الأصائل، وخصر الأسحار. 
 هي الحياة تبحث عن ذاتها في كل مظهر من مظاهرها، وحلقة من حلقاتها الخفية عنا وغير الخفية، حتى ما إذا عثرت على ذاتها تكسرت عليها، فتمتلئ الأرحام بالأجنحة، والأخصاص بالزغاليل، والأغصان والأكمام بالثمار والأريج، والبخار بالحيتان وفواكه الماء وعبير الأمواج. وتنفلق من كل قطرة ماء قطرة أخرى أو قطرات، وتفور من كل ذرة أخرى أو ذرات، ويجنح من كل حمامة سرب حمام أو أسراب، وتنقسم كل حطبة عن حطبات تكتسي بها ألف غابة وغابة.
  أولا تنظرون إلى هذا الكون وقد اتخذ بكل ما فيه وما عليه أشكالا مستديرة يدور فيها وعليها دورات لا نهاية لها ولا قرار. وما نراه بأعيننا المجردة في بعض الأحيان من أشكال مسطحة، أو مثلثة، أو مربعة، أو ما إلى ذلك من الأشكال اللامستديرة فما هو إلا من خداع العين فحسب.
 هذا الشعاع الذي ينطلق من الشمس فيكسو الأرض، نراه ملاءة شقراء تترجرج فوق الجبال، والبحار، والخلجان، وتتمايل وتهتز بين أغصان الأشجار والأزهار وذؤبات النسيم، نراه على هذه الأشكال التي يتقمصها فيتخذ من كل شكل شكلا له، ومن كل جسم جسما له، فهو على سلسلة الجبال تضاريس من نور، وفوق البحار مويجات ذهبية، وهو في الندى حبات قمح رشت من سنابل الصبح. نرى الشعاع يكسو الأرض على هذه الأشكال التي يصعب حصرها، وفي الحقيقة ما هو إلا دوائر عديدة تركب على ذاتها فتجري وتدور بسرعة تتجاوز حدود الظن، والحدس، والاحتمال لتلحق ذاتها في أمها الشمس وتتكسر عليها.
 فما أنت وأنا، وهذا، وذاك، وتلك الجماعة، وهذه الشجرة، وذلك القصر، وما يحويه من حجر. وما في هذه الحجر من أثاث وملابس، وثياب سوى دوائر تدور على نفسها وعلى محيطها دورات سريعة.
 أن وأنت دائرتان تدوران في محيط الزمان والمكان الذين يدوران بدورهما معنا دون أن تشعر بهما وفي كل دورة من دوراتنا نصطدم بذواتنا فنودع دنيا قديمة، ونستقبل أخرى جديدة.
 وكما أن كل موجة من أمواج البحر تدفع أختها وتجد نفسها فيها كذلك هي حياتنا بأطوارها، وأدوارها، وحلقاتها المتسلسلة في بحر الحياة.
 أما وقد وصلنا إلى هذه النتيجة فلا يتملكني الاستغراب عندما أمعن النظر في حواسي وأعضائي وفيما تقوم به من أعمال وحركات أحسبها هي هي.
 إذ لا غرابة في أن احسب أصابع يدي فاحسب معها جميع أيدي الناس الذين ولدوا وماتوا، والذين سيولدون ويموتون، كما لا غرابة في أن أرى ذاتي فأراها تشتمل على ذات العالم وما يحويه من بشر، وحيوان، وجماد، ونبات، ومما نراه منه، وما لا نراه، وما نلمسه، وما لا نلمسه.

 

المصدر: http://www.habous.net/daouat-alhaq/item/421

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك