الاسترشاد بروح النصوص قديماً وحديثاً

يحبب إلي دائما أن أثير موضوعا كهذا في هذه الظروف بالذات إذ إني أعتبر أن في ترويج مثل هذا الحديث قطعا للطريق على هؤلاء الذين يدسون للإسلام ويحاولون رميه بالرجعية والتحجر، وهو إلى جانب هذا ينير الطريق أمام هؤلاء الشباب المتحير الذي فتح عينيه على أجواء سامة تستهتر بتعاليم الإسلام وتستهدف إلى الإلحاد والمروق ...
والحقيقة أن شبابنا ليس من البساطة بحيث تنطلي عليه حيل هؤلاء وأولئك، كما وليس من السذاجة بحيث يرمي وراء ظهره ما ورثه عن جدوده منذ مئات السنين ... ولكنه مع حذره ومع تبصره يقف في بعض الأحيان موقف المتشكك من بعض التعاليم التي يتلقاها؛ هل أن ما صلح للناس منذ أربعة عشر قرنا صالح لنا ونحن في هذه الحقبة من التاريخ؟ وكيف؟ ولم نقتدي بهؤلاء "المتحررين" ممن كانوا يعتنقون الديانات الأخرى؟ أو لم يدركوا هم بأن التغني بالدين تماد في الباطل وإصرار على الانتحار؟ كنت أشعر بهذه الأسئلة وهي ترتسم سرمدا على وجوه هؤلاء الذين ستناط بهم غدا شؤون الإدارة بالمغرب، وكأن هناك شيء واحد يبعث في روح الأمل ويعزز نصيبي في التفاؤل، ذلك أنهم كانوا على كل حال يتوقون إلى معرفة "المدى" الذي يمكن للإسلام أن يصل إليه في وقت "السبوتنيك" و"مونيك" أيضا...
هل الإسلام يعتمد على النصوص أو العكس من ذلك يعتمد على روح تلك النصوص؟ ولإيضاح ما أقصد بهذا السؤال سأسوغ لنفسي -إيثارا لتعميم الفائدة- أن أذكر أن النصوص يقصد بها العبارات التي ثبت بمقتضاها حكم من الأحكام ... ويقصد بروحها تلك الأهداف القريبة أو البعيدة التي دعت إلى إصدار تلك الأحكام ... فمثلا يوجد نص في الإسلام يثبت أنه من غير الممنوع أن يتزوج المسلم من مسيحية مثلا ويعرف العلماء -نظرا للظروف والملابسات التي حفت بزمن صدور هذا الحكم- أن ذلك التدبير يرمي إلى إعطاء البرهان للذين لم يقتنعوا بالإسلام بعد أو بالأحرى للذين يتهمونه بأنه يحمل الحقد والضغينة للآخرين، أعطاهم البرهان على أنه سمح كريم .. هذا روح النص ومن أجلها كان فيما يظهر، قد تكون هناك أسرار أخرى وهذا شيء لا يهمني أن أستوعبه، ولكني فقط أريد أن أذكر أن هناك دائما نصوصا وإلى جانبها توجد "روح" بمقتضاها نفذت تلك النصوص، فما موقف الإسلام من تلك وهذه؟ وهل يجبر معتنقيه على أن يجعلوا العصابات على أعينهم ويقتفوا بالحرف ما تقتضيه تلك النصوص دائما أم أنه يترك لهم الحرية سرمدا في أن يستعملوا مواهبهم..؟
لو أنك استعرضت أمامك كثيرا من الآيات القرآنية .. وطائفة كذلك من الأحاديث النبوية لوجدت نفسك أمام جملة وافرة من النصوص التي تشيد باستخدام الفكر في تصرف الإنسان .. وكان القرآن والسنة -وهما يفعلان- يتحديان ذلك البشر الذي أضله التقليد وصرفته "الإمعية" عن اتخاذ الطريق السوي .. ذلك البشر الذي كان يتبع لأن أباه اتبع، وكان يقول لأنه سمع الناس يقولون .. فكأن تعاليم الإسلام ترى أن في الاستلهام بالفكر حلا لكل تلك العقد، ولهذا توجه إلى "أولي الألباب" و"الأبصار" والقوم الذين "يعقلون" و"يعلمون"، وشيء آخر أرى فيه إشادة علمية -من لدن القرآن الكريم - بالالتجاء إلى النظر .. تلك هي الإطراءات التي وردت فيه عن طريق موافقة بعض الصحابة فيما ذهبوا إليه مستقلين بأفكارهم غير منفعلين بتأثير خارجي .. فنحن على علم من أن هناك كثيرا من الجزئيات كان الرأي فيها أن يتخذ حلا ما من الحلول بينما كان هناك رأي آخر أعمق نظرا من الأول، فكأن القرآن يؤيد - دون أن ينظر إلى الأشخاص الذين تمسكوا بهذا أو ذاك- يؤيد الفكر المتقعر، وهذا بالذات استرعاء نظر إلى أن العقل يجب أن يظل حليفا لكل سلوك نختاره، فعمر مثلا عندما اقترح عدم مجاملة الناس متى استحق ذووهم المقاطعة كان ينظر بعيدا إذ أنه يرى أن في تلك "اللياقات" مظهرا من مظاهر الضعف يجب على الإسلام أن لا يقبله، ولذلك فقد نزل القرآن يحبذ عمر مخاطبا الرسول الأعظم الذي حدت به بعض الاعتبارات إلى إيثار جانب اللين - خاطبه يقول: ?وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ? [التوبة: 84].
أريد فقط أن أتصور أهمية اعتماد الإسلام على تشجيع الفكر الصائب، وبعد هذا حق لنا أن نعبر - في اختصار وعلى ضوء هذا - تلك المراحل التي مر بها الإسلام .. فانتم ترون - والنبي ما يزال على قيد الحياة - ترون الصحابة ينتفضون ويقابل النبي انتفاضتهم في كثير من الأحيان بما يقابل به الرئيس ظهور مخايل العبقرية في مرؤوسيه .. وكان هذا دون شك باعثا للصحابة بعده على أن يسلكوا، في غير ما تتضح فيه الطريق أمامهم أو ما لم تساعد عليه الظروف .. مسلك البحث والتعمق .. وهكذا نراهم يعمدون إلى النصوص الإسلامية نفسها فيزنونها بميزان العقل والمصلحة ويسترشدون بروحها وأهدافها ليجدوا أحكاما أخرى تلوح للرجل العادي البسيط أنها تحطيم للأسس التي عرفت على عهد الرسول، ولكنها عند الذين يغارون على وجود الإسلام تعتبر من التصرفات التي من شأنها أن تكثر من سواد الإسلام وتشجع العاطفين عليه، لقد منعنا الإسلام بادئ الأمر من أن نحجر على المرأة دخول المسجد إذ أنها والرجل سواء كما هي في تقاليد الإسلام "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، بيد أن عائشة زوج الرسول رأت أن بعض النساء استغللن هذه الحرية استغلالا مشينا، فلقد فاجأتهن في المسجد وهن منصرفات عن النسك يتطلعن لرؤية الرجال.. لهذا نراها تحاول التصرف في الحكم، فإن النص الذي كان بالأمس كان بدافع أن على المرأة أن تلتمس رضا الله في المساجد شأن أخيها الرجل، فلما انعكست هذه الروح، فجعلت من بعضهن متحملات للوزر في المسجد، ساغ لعائشة أن تمنعهن من جديد أو على الأصح أن تتمنى ذلك. ترى كيف أن عائشة لم تتهيب النص الأصلي ولكنها على العكس من ذلك استرشدت بروحه لتجعل منه مادة طيعة للمصالح، وكما فعلت عائشة فعل عمر في نازلة أخرى: فلقد عرضت عليه قضية سرقة، وكان النص الصريح فيها أن ينفذ الحكم بقطع يد المتهم، لكنه وقف قليلا ليدرس "الظروف" التي حفت بالقضية .. ووجد أن أولئك الذين عهد إليهم بضمان العيش لذلك "السارق" هم أولى بالعقاب منه، إذ كانوا غير مكترثين به في وقت عصيب؛ فليحول العقاب إذن عن هذا النص "الرسمي" إلى ذلك النص "غير الرسمي". وهل عمر بعد هذا وذاك مسيء إلى النصوص الإسلامية؟
بالرغم من أن أعداء الإسلام - بدافع من محاولة إقصائنا عن روح المرونة التي اتسم بها الدين الحنيف - بالرغم من أنهم يتحدثون عن عمر على أنه كان يلاحظ "عقما" فيما انفصل عليه الأمر أيام الرسول، بالرغم من ذلك نرى أن في سلوك عمر تمسكا قويا بما تم عليه ذلك الانفصال ولكنه فقط عوض أن يتحجر أمام النص كان - خضوعا للآثار التي تدعو للنظر- كان يقتفي تلك النصوص عن طريق الاسترشاد بروحها، فإنه ما حدا لتلك إلا هذه .. ولن تكون لهيكل الأفاظ قيمة إلا عن طريق مغزاها .. وبهذا فقط يضمن لها الخلود والبقاء .. وتمضي أيام الصحابة والتابعين لتستقبل قادة الفكر وأعلام الإسلام أمثال أبي حنيفة  ومالك وابن حنبل ولا أستثني الشافعي هو الآخر .. لقد أخذوا جميعا وتحت عبارات مختلفة بمذهب الفكر ودرسوا بمقتضى ما يجد فيها ولكن من غير أن يحيدوا عن تلك "الروح" التي طبعت الإسلام .. روح المماشاة والمسايرة ... ولم يكن "الاستحسان الذي اشتهر به أبو حنيفة، ولا كذلك "الاستصلاح" الذي أثر عن مالك ابن أنس إلا مظهرا من مظاهر الاسترشاد بروح النصوص، غير أن الاستحسان كان - إلى حد ما - استثناء وعدولا عما تقتضيه المقاييس والنصوص، بينما كان الاستصلاح - إلى حد ما كذلك - فصلا في قضايا يرتكز على الإنشاء والخلق، وذلك فيما لم يؤثر فيه من المشرع موقف صريح لا ضد ولا وفاق ..
أقول سواء أسمينا تلك العمليات "اجتهادات" أو "استحسانات" أو "استصلاحا" .. فهي استرشادات بالنصوص نفسها .. واستمر الإسلام عبر التاريخ في هذا الطريق: طريق التطور فكان ذلك الثراء المدهش الذي أثار انتباه كبار المستشرقين خاصة منهم الذين يعنون بدراسة الفقه الإسلامي أمثال كولد زيهر .. ذلك الثراء الذي نلمسه سواء في تلك المجلدات الضخام أو هذه الآراء المتحررة النيرة التي تضمها رفوف الخزانة الفقهية سواء في الشرق أو الغرب ..
نحن اليوم - وغدا أكثر - نصطدم بقضايا وسيكون علينا إما أن نجمد فندعي أن الإسلام يضيق صدره لتلك القضايا، وهنا تكون الكارثة وتكون الجناية التي سيحكم علينا بمقتضاها الجيل القابل .. وإما أن نكون على العكس من ذلك واقعيين متفتحين كذلك فنبحث بين ثنايا النصوص عما قصرت عنه الأنظار .. أعتقد أن الضرورات التي حفت بعمر بن الخطاب عندما استرشد، وحفت بأبي حنيفة عندما استحسن، وبمالك عندما استصلح كانت تماما تحاكي نفس الظروف التي نجد عليها أنفسنا اليوم عندما تطالعنا الأيام بهذه الأشياء الجديدة .. ولن يكون من العدل أن نبرر موقف المتقدمين ونجرد أنفسنا من الكفاءات التي اختص بها العلماء .. إنما بقي أن نتساءل إلى أي مدى سنجاري الظروف .. وإلى أي حد سيماشي هذا الإسلام مواكب الزمن؟ هل سنصل إلى وقت نقول فيه إن رمضان سن في ظروف غير الظروف الحالية؟ أو إننا سنصل إلى أن نوزع الشهر على أيام السنة فنصوم يوما على رأس كل اثنى عشر يوما كما سمعت ذلك؟ وبالتالي فهل سنتوسل لتحطيم تلك الأسس عن طريق هذا الاسترشاد أم أننا على العكس من ذلك سنتصرف حسب الحكمة وحسب المصلحة الشرعية؟
يخيل إلي دائما أننا - ونحن نستلهم الرأي - أمام "طاقة ذرية"، فإما إن نستعملها لأغراض تحطيمية تخريبية، وهذا ظلم وجور وخروج عن الطريق، وإما أن نستعملها في أغراض سلمية إنشائية، وهذا هو العدل الذي ننشده والطريق التي نقتفي .. وبهذا سيكون من المتحتم علينا أن لا نمس أبدا بالتشريعات التي ترجع لصلة المرء بخالقة، أي العبادات التي من شأنها أن تربي النفس وتسمو بالروح، فهي - مهما بذلنا من جهة للوصول إلى أسرارها -  فوق أن تتناولها التكهنات، بل إن عدم التفكير في "ترييضها" قد يكون هو السر نفسه الذي يهدف إليه الإسلام من تقنينها، فإن الإنسان بحاجة أحيانا إلى أن يمتثل دون أن يسأل لماذا هذا الامتثال، شأن الظروف الخاصة التي تفرض على الجندي مثلا أن يسلك سلوكا من غير أن يسوغ له بحال أن "يراجع" في دواعي هذا السلوك بروح فلسفية خاطئة قد تقود بك إلى العبث والإسفاف ..
وبقي شيء ثان .. فإنه ليس من الإنصاف في شيء أن نعمد إلى النصوص التي بلغت من القوة مبلغا أضحت معه في رتبة بحيث لا يتطرق إليها التوجيه والاحتمال، وهكذا نوفر على أنفسنا ذلك "الفراغ" الذي شعر به أنصار سليمان الطوفي عندما آثروا اعتبار المصالح الظاهرة على النصوص القطعية .. فإنه من غير المعقول أن تتجرد تلك "القطعيات" عن مصالح هي وإن خفيت على بعض العقول لكنها بالنسبة لآخرين حقيقة ملموسة.
فنحن إذن لسنا من دعاة "الطوفية"، إذ أننا نعتبرها سلوكا لا تدعمه القوانين ولا تستسيغه الأذواق ..
علينا أن نواجه واقعنا ونوازلنا بروح فقهية رياضية ولكن من غير أن نمس بجوهر الإسلام أو نقصد الإجهاز عليه ...

المصدر: http://www.habous.net/daouat-alhaq/item/398

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك